مكانة الاقتصاد في الفكر الحضاري لمالك بن نبي

عدد القراءات :2987

يقول الله سبحانه وتعالى: ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.
مقدمـة
لطالما اعتمد مالك بن نبي هذه الآية الكريمة في تحليلاته ملفتا النظر و منبها كون التغيير بالمجتمعات، يجب أن يحدث من داخلها وليس جراء عوامل خارجية.
وإذا حدث ذلك لدى الأمة الإسلامية، فإن تحولاتها من الأسوء إلى الأحسن، تكون وفق التعاليم الإسلامية السمحة ومن ثم تتحقق إرادة الله سبحانه وتعالى.
وسيتم التعرض للموضوع وفق تقسيمه إلى جزأين:
الأول: ربط الاقتصاد بالحضارة والعامل الاجتماعي مع نقد الحلول المستوردة،
الثاني: محاولة لحصر عناصر بناء الحضارة أو القيام بالنهضة.
أولا: علاقة الاقتصاد بالحضارة والظاهرة الاجتماعية على ضوء تفنيد النماذج المستوردة:
لقد ربط المفكر الإسلامي مالك بن نبي بين النشاطات الحضارية ومنها البعد الاقتصادي وذلك دون التخلي عن الظاهرة الاجتماعية التي تعد بمثابة المحور الأساسي لتكوين الحضارة وتطورها، الكل في ظل الثقافة الإسلامية و من ثم عمد إلى نبذ الحلول أو النماذج المستوردة.
1- العلاقة بين الحضارة والاقتصاد:
لقد تم تعريف الحضارة في لسان العرب بأنها العملية التي تمكن من الإقامة بالأحياء والمدن. ويرى الكتامي بأن الحضارة تغير من حياة البدو.
وفي هذا المضمار، كتب ابن خلدون في ” المقدمة” بأن ” حضارة البدو” هي التي تؤدي إلى نشأة حضارة المدن …. فالحياة تتطور تدريجيا جاعلة العادات وحالات الثراء تتعمم أيضا. وهو ما يعطي للحضر وخاصة السلطان والحاشية الفرص للتمتع بالنعم من حيث التفاخر بالأكلات الشهية والأواني والألبسة الفاخرة و الأثاث والمفروشات الرفيعة، مع القدرة على تطوير التطبيقات التقنية. وهكذا تصبح الحضارة متمدنة لتبلغ ذروتها.
أما د. يوسف القرضاوي فلقد أثار مسألة الحضارة وعلاقتها بالإسلام، حيث استنتج بأن المفهوم يغطي مظاهر التطور المادي والعلمي والفني والأدبي والاجتماعي لأمة متكاملة، مع احترام الهوية أو الذات.
كما أنه استنتج اعتماد التصور الاسلامي للحضارة على ثلاثة مستويات وهي:
العقيدة أو المذهب،
التطبيقات الحضارية،
والبناء الحضاري.
وتجدر الإشارة إلى كون المفكرين المسلمين في العصر الحديث، قد عمدوا إلى تشخيص مشاكل الأمة الإسلامية ربطا بالعقيدة وبتعدد الأبعاد الحضارية. وهو ما ذهب إليه المفكر الإسلامي والجزائري مالك بن نبي.
ومن ثم، تتمثل المراحل الحضارية فيما يلي:
المرحلة الأولى التي تشمل المكونات التالية:
بزوغ فكرة دينية التي من شأنها تركيب عناصر الطاقة الحيوية للأفراد، يصبح هؤلاء يتمتعون بالحركة والنشاط بحيث يتحررون من هيمنة الغريزة.
لقد ربط المفكر الإسلامي مالك بن نبي بين النشاطات الحضارية ومنها البعد الاقتصادي وذلك دون التخلي عن الظاهرة الاجتماعية التي تعد بمثابة المحور الأساسي لتكوين الحضارة وتطورها، الكل في ظل الثقافة الإسلامية
ثم تنقل هذه الحرية على مستوى المجتمع لتبني وتكثف من العلاقات الاجتماعية. وهو ما عبرت عنه مرحلة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكذا للخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم، حيث أصبح المجتمع اللإسلامي ” كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا”.
أما المرحلة الثانية فهي تتمحور حول المكونات الآتية:
تفاقم المشاكل المادية للأفراد والمجتمع بتقلص قدرات السيطرة الروحية على الغرائز،ومن ثم توسعت دائرة التحكم العقلي في الإلمام بالمشاكل الاجتماعية.
وتتجسد هذه المرحلة في العهد الأموي الذي أظهر ” منعطف العقل” على الروح.
كما عبر ذلك عن حدوث تناقض بين الفكرة الدينية والغرائز حتى ولو أن العلوم والفنون شهدت ازدهارا والحضارة بلغت أوجها. وهو ما يفسر المواكبة مع فترة الحكم العباسي.
ثم تأتي المرحلة الثالثة التي تتلخص في تفاقم الفجوة بين القيم الروحية والعناصر المادية، بحيث أن الغرائز والعقل تواصل هيمنتها على التوجه الحضاري آخذا ” منعطف الانحطاط”، الذي من خصوصياته انحلال المجتمع وتفكك ” شبكة العلاقات الاجتماعية”. وهكذا تكتمل ” الدورة الحضارية”.
من جهة أخرى، ينظر مالك بن نبي إلى الحضارة كونها حدث معقد يتأسس من ثلاثة عوامل، أي الإنسان والأرض والزمن. حيث أن الإنسان يمثل الكائن الاجتماعي، وحيث أن الأرض محددة بشروط عدة، ثم إن الزمن قابل للتكامل مع المعاملات الاقتصادية ومنها الصناعية، ثم الاجتماعية.
فهذه المكونات هي التي تساهم في إقامة الحضارة وهي بمثابة ” ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت”.
فالعناصر المذكورة هي التي تمكن وتساهم في بناء أو إقامة الحضارة مع العمل على تطويرها إذا ما اقترنت وتفاعلت وانسجمت مع الدين أو القيم الروحية.
ولكن الأمة الإسلامية أو ” العالم الإسلامي” بعد الخضوع للانحطاط والاستعمار، اتضح بأنه ” يعمل على جمع أكوام من منتجات الحضارة” الغربية، أكثر ما تنتجه وتساهم في توفير شروط النهضة. ويصبو مالك بن نبي إلى إعادة بناء الحضارة الإسلامية على أساس التخطيط لها والاقتصاد في الزمن، مع ضرورة توفير العناصر الأساسية لها، وخاصة الدين الذي يلعب الدور الأساسي والمهم والمحرك للحضارة، لأنه يعمل على تركيب عواملها.
من جهة أخرى، لقد تطرق المفكر الإسلامي مالك بن نبي للاقتصاد كعنصر من عناصر الحضارة عامة والإسلامية على وجه الخصوص. حيث أن هذا النشاط يمثل جزءا مهما من العمارة وهي رؤية كلية. كما أنه عامل أساسي يؤثر على حياة المسلم لتكوين معادلته الشخصية ومصير الأمة الإسلامية الباحثة عن المعادلة الاجتماعية.
يصبو مالك بن نبي إلى إعادة بناء الحضارة الإسلامية على أساس التخطيط لها والاقتصاد في الزمن، مع ضرورة توفير العناصر الأساسية لها، وخاصة الدين الذي يلعب الدور الأساسي والمهم والمحرك للحضارة
أكما يمكن ملاحظة المنهج المتبع والذي تركز على استقراء الوقائع الاقتصادية التي أدت إلى وضع تصور حضاري يشمل الاقتصاد بحيث أن النموذج الحضاري أصبح متداخلا فيما بين أوجه الحضارة المتنوعة ومنها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية إلخ… وبما أن الحضارة عند مالك بن نبي أخلاقية وإسلامية بالخصوص، تجدر الإشارة إلى ما يلي:
أن الدين هو الأساس والمحرك للتنمية الشاملة بحيث أن باقي النشاطات ما هي إلا تابعة وخادمة أو تدخل في دائرة الإسلام.
ثم أن الاقتصاد ما هو إلا عنصر مكمل رغم أهميته المعاصرة.
فكأن الأبعاد الحضارية مصممة ومرتبة وفق منظومة ” مقاصد الشريعة” التي تضع الأولويات الحضارية بأنها تحفظ كليات الدين والعرض ( أو النسل) والحياة ( أو النفس) والعقل والمال، وذلك ضروريا وحاجيا وتحسينيا أو تكميليا.
فبالنسبة للمشكلة الاقتصادية المثارة من قبل المفكر، فهي منبثقة من كتابه ” فكرة الإفريقية – الآسيوية” ثم تواصلت وهي مدونة أيضا في كتابه ” المسلم في عالم الاقتصاد. ففي الكتاب الأول يؤكد مالك بن نبي على ” مبادئ اقتصاد أفروآسيوي فعال”، حيث يستعرض مقولة ” لكياونين وزير صناعة بورما : ” إن هدفنا الأول هو أن نوفر لشعبنا الغذاء و الكساء”. وهي مقولة تواكب المجهودات الفكرية لعلماء الاقتصاد المعاصرين مثل ” فرانسو بيرو” الفرنسي الذي عرف الاقتصاد الإنساني بأنه يوفر للإنسان الغذاء واللباس والصحة والتعليم وصولا إلى التنمية الشاملة.
2- المشكلة الإنسانية على ضوء العلاقة بين الظاهرة الاجتماعية والاقتصاد:
في إطار نقده للماركسية، تعرض مالك بن نبي إلى ما تقوله المدرسة والنموذج الماركسيين إلى كون المشكلة الإنسانية مرتبطة بالعوامل الاقتصادية وتتأثر بها. أيضا، فإن تفسير الظاهرة الاجتماعية قد خضع للرؤية الاقتصادية البحتة، إن لم تكن مادية صرفا.
ومن ثم، فإن هيمنة الاقتصاد على دراسة المشكلة الإنسانية نتج عنها عدم الاكتراث بمكونات الإنسان الأخرى الاجتماعية والثقافية والروحية، الخ …..وبالتالي يصعب الإلمام بالتحديات التي يتعرض لها و المشكلات التي يجب حلها وفق المقومات الحضارية للمجتمع أو الأمة الإسلامية.
وعليه، فإن هذه الأمة من طنجة إلى جاكرتا، قد تبدو بمثابة ” شاشة من المباني والتكوينات الاقتصادية”، حيث انحصرت اهتماماتها بمحاولات شتى للبناء الاقتصادي مع غياب أو إهمال الأهداف الحضارية الأخرى. وهو ما يؤدي إلى تكوين فجوة حضارية مقارنة بمتطلبات الإسلام.
ثم أن هذه الفجوة قد ظهرت وتمخضت أيضا في الإختلالات داخل الاقتصاد في حد ذاته، بحيث كرست بلدان إسلامية التبيعية للنماذج الأجنبية بإهمال الفلاحة وجعلها ثانوية وتابعة للصناعة التي تحمل في طياتها التبعية التكنولوجية المستمرة.
ولهذا فإن النتائج المرتقبة من النموذج المستورد قد أخفقت حتى في تحقيق الأهداف المثيلة أو على غرار ما حققه الغرب خاصة أو البلاد الرأسمالية مقارنة بالاشتراكية لكونها اضمحلت وباءت بالفشل. ولذا يلاحظ أن ” الرجل الأفروسيوي” أو الإنسان المسلم قد ” أصبح العميل المستعبد المستغل لاقتصاد الحديث”، أي الرأسمالية المعولمة تدريجيا والمهيمنة على مختلف جوانب الحضارة وحتى الدينية منها.
ويرجع السبب الاقتصادي الرئيسي للتأخر أو التخلف إلى كون شعوب الشرق ومنها الأمة الإسلامية، قد كانت اقتصادياتها تأخذ أشكالا طبيعية أو حرفية و تقليدية وغير منظمة، لأنها عانت من آثار الانحطاط التي أفلح في تشخيصها مليا العلامة ابن خلدون.
ويتأسف مالك بن نبي لكون هذا الأخير قد أنتج للأمة الإسلامية ” النظرية الوحيدة التي تناولت تأثير العوامل الاقتصادية في التاريخ….، وهي نظرية قد ظلت حروفا ميتة في الثقافة الإسلامية، حتى نهاية القرن الأخير ( التاسع عشر)”. حيث أن الأمة الإسلامية قد ركدت في الانحطاط وبمجرد بدء التساؤلات والطروحات حول أسبابه والنظر في كيفية الخروج منهأ أتت الحقبة الاستعمارية لترسم معالم الطريق للإقلاع بالشعوب الإسلامية المفككة، والتي صارت تعاني من تحديات طويلة الأمد مثل إزالة الخلافة وتقسيمات ” سايس بيكو” واغتصاب فلسطين لاستبدالها بالكيان الصهيوني كخنجر في قلب الأمة أو ورم سرطاني يصعب انتزاعه أو عدم التورط في معايشته المريرة.
ومن ثم فإن الوازع أو العامل الديني لم يكن الأمة الإسلامية، إضافة إلى التقاليد والعادات، من التصدي ” كوسيلة كافية” ليتفادى ويتخلص من التورط في التبعية التي تمثلت بدايتها في ” عصر الحتمية الاقتصادية مع بدء العصر الاستعماري” أو” الاستدماري” حسب عبارة المفكر الإسلامي والجزائري مولود قاسم نايت بلقاسم.
كما أن العامل السياسي المتمثل في التحرر من هذه الحقبة الاستعمارية قد وجد نفسه عاجزا على التحرر ومواصلة درب الاستقلال الحضاري بكل جوانبه وليس خروج العنصر البشري المستعمر فقط. وهو ما أبرزه القبلية للاستعمار التي واصلت مهمة حقبة الاحتلال لتراب.
من جملة ما تضمنه البديل الإسلامي للتنمية، يمكن ذكر ما تقدم به مالك بن نبي حول ” النمو عن طريق الإمكان الاجتماعي”. وقد دعم هذا الطرح بدراسة نماذج تنموية مغايرة للاشتراكية والرأسمالية، أي التجربتان اليابانية والصينية. حيث أظهرتا الوفرة الكبيرة للبشر أو العمل مقارنة بالندرة النسبية لرأس المال.
وعلى سبيل الذكر، تجدر الإشارة إلى كون الباحث والمفكر الإسلامي قد استنتج أن ” النموذج الاجتماعي” – الجائع العري –” قد نتج وهو حصيلة حاصل لتطبيق النموذج المادي أو الاقتصادي الذي يبدو بأنه فرض على الأمة الإسلامية والشعوب المستوردة له.
3- نقد للنماذج التنموية المستوردة للبلاد الإسلامية:
على الرغم من أن الفكر الإسلامي جعل من عمارة البلاد الإسلامية التزاما وليس اختيارا، إلا أن أصحاب القرار السياسي والاقتصادي تبنوا نماذج تنموية مستوردة من الشرق والغرب، أو تجارب اشتراكية ورأسمالية أو مزدوجة. فلقد تبنت الرأسمالية فكرة المنفعة للمستهلك … وللمنتج…، الخ … ومن ثم ” لكل حسب قدرته أو طاقته ثم لكل حسب حاجته”.
مقارنة بالاشتراكية التي تأسست على فكرة الحاجة ومن ثم تبني قاعدة ” لكل حسب حاجته ولكل حسب طاقته” لقد أسس المفكر رؤيته على أساس المقارنة بين متطلبات ” المجتمع الشرقي “، خاصة الأمة الإسلامية، التي لها ” نفسية خاصة منعقدة على الزهد”. ومن ثم يجب أن تتبنى فقها اقتصاديا متميزا من حيث الخطة والمفاهيم. ولقد استنتج بأن القاعدة هي ” لكل حسب حاجته تلبية لمتطلبات ذوي الحاجة ثم لكل حسب طاقته”.
ولكن لا يمكن جمع حقائق ( المنفعة الرأسمالية والحاجة الاشتراكية مع الزهد في الإسلام)، أي أن الأمة الإسلامية إن اعتمدت الزهد فيجب عليها توفير الشروط المعنوية والمادية لذلك كما سيطرح كبديل لاحقا. فالبيئة يجب أن تتصف بالانسجام الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والديني، تتويجا لكل الحضاري.
مقارنة أخرى مع النماذج المستوردة وهي اعتبار الزمن وفق مقولة ” الوقت عمله” والذي هو أساس تنظيم وتقسيم العمل في الرأسمالية. ” فجميع ألوان النشاط في المجتمع الصناعي الحديث تنمو في حدود الزمن المادي، و تتقوم بساعات عمل … بهدف تشييد صرح القوة.”
وهو ما يخالف ذلك لدى الأمة الإسلامية التي توظف ” الزمن الميتافيزيقي أي في نطاق الأبدية”. ولذا نلاحظ بأن هذا العامل هو مقياس الصلوات الخمس المفروضة لأن الصلاة كتبت كتابا موقوتا. ومن ثم يوظف الوقت لإنتاج الثروة وتنميتها بغية استهلاك ما هو ضروري وحاجي وتكميلي.
كما أن النموذجين تبنيا رؤية اقتصادية تؤمن بأن رأس المال هو المنطلق والمحور لأي نشاط اقتصادي. ومن ثم فإن ملكية رأس المال قد هيمنت على توظيف عنصر العمل الذي أصبح مرتبطا بالتركيبة العضوية لرأس المال الذي صار له الدور الأساسي في تعريف وتشخيص التخلف وتحديد التنمية بمختلف مشتقاتها الفلاحية والصناعية والتكنولوجية، الخ….لأنه بدلا من إعطاء الفرص للإمكانيات المحلية وأنماط التنمية الذاتية، أصبح استيراد رؤوس الأموال الخاصة ” الربوية” وما تبعها من تكنولوجيا و ” مساعدة” أو ارتباط تكنولوجي يشكل العامل المهيمن والموجه للسياسات والتطبيقات الاقتصادية.وقد أدت أنماط الاستيراد إلى هدر الموارد المحلية بكثافة واستمرار.
وهو ما جعل الحلم التنموي بين الحلم والواقع، أو بين الممكن والمتاح، يتباعد كلما تبيانت الحلول التنموية مع الرؤية الإسلامية.فهذا الابتعاد عن الأصل أدى إلى حدوث العديد من التحديات الجزئية أو الفرعية مثل: التحديات المادية والاجتماعية والثقافية وحتى أخلاقيا أو روحيا إن لم تكن دينية.
وقد أفرز ذلك تناقضات عدة على مستوى المجتمعات الإسلامية خاصة منها الفئات المدينة أي المطبق للشريعة الإسلامية فعلا. والنتيجة المستقاة المنبثقة عن هذه التجارب، أن مشاعر المسلمين التي تذبذبت معتقداتها ومعاملاتها، أصابها الإحباط والإحساس بعدم القدرة على تحقيق الأهداف التنموية كونها استثمارية أو إنتاجية أو معيشية.
ولقد لوحظ اتساع الفجوة المذكورة آنفا والإخفاقات الذاتية للبلاد الإسلامية، وهو ما أدى إلى فتح العديد من أشكال التبعية للخارج وخاصة الرأسمالية. بل أن هذه الأخيرة أصبحت الآن مهيمنة على الطاقات الفكرية، إن لم تكن أيضا عقائدية، وقدرات الإدارة أو التسيير، كليا وجزئيا، وتجلى ذلك في انفتاح اقتصاديات البلاد الإسلامية على الاستيراد.
يقول مالك بن نبي إن أول عمل يبدأ به المجتمع عند ولادته هو بناء شبكة العلاقات الاجتماعية، ويضرب لذلك مثلا بميلاد المجتمع الإسلامي في المدينة حيث آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار.
كما أدى إلى حدوث تباينات وصراعات بين متطلبات النماذج المستوردة وما تحمل في طياتها من سلبيات ثقافية وفلسفية واقتصادية واجتماعية إلى آخر ذلك من أبعادها الحضارية مقارنة أو مقابل العقيدة الإسلامية وما انبثق عنها من أحكام للعبادات والمعاملات والتي تكمن عند المسلمين ولو نسبيا أحيانا ومدى إيمانهم بها لأنه على غرار تبني مكونات الاشتراكية سابقا والرأسمالية حاليا، فإن عددا من المسلمين على مختلف مستوياتهم وتطلعاتهم قد تم إغراؤهم لاتباع والتغلغل والتبعية لهذه النماذج.
ثانيا: المكونات الأساسية للبناء النهضوي أو الحضارة:
يمكن فيما يلي التعرض ولو بإيجاز لمكونات البديل الإسلامي للتنمية الشاملة أو العمران: انسجام المبادئ الاقتصادية مع ظروف التجربة الاجتماعية….. والحضارية الملائمة. تماشي النظرية الاقتصادية والسياسية مع البيئة الاجتماعية. تحول المبدأ أو الفكرة إلى عمل ودافع عمل وطاقة عملية وإمكانية عمل. ضرورة التوفيق بين العلم والعمل وضمير ووعي المجتمع. أسبقية ” عالم الحياة الاجتماعي” على ” المهندس الاجتماعي”. في بداية أي تجربة اجتماعية، ضرورة تكييف حل أي معادلة اقتصادية مع أو طبقا لمعادلة شخصية معينة. الشروط الفنية لتوفيق بين المعادلتين الإنسانية والاقتصادية. ومن جملة ما تضمنه البديل الإسلامي للتنمية، يمكن ذكر ما تقدم به مالك بن نبي حول ” النمو عن طريق الإمكان الاجتماعي”. وقد دعم هذا الطرح بدراسة نماذج تنموية مغايرة للاشتراكية والرأسمالية، أي التجربتان اليابانية والصينية. حيث أظهرتا الوفرة الكبيرة للبشر أو العمل مقارنة بالندرة النسبية لرأس المال. ففي مثل هذه الماذج، تستبدل القيادة والريادة للمال لتعويضه بالموارد البشرية.
1- دور النخبة في تأطير التنمية النهضوية:
إن إعادة بعث الحضارة الإسلامية متمثلة في نهضة الأمة في شتى الميادين، ومنها النشاطات الإقتصادية.
وتتمحور هذه النهضة في قدرة الأمة على اكتساب قدرات وفعالية لإعادة الانطلاق الحضاري الذي يجب أن يكون متفوقا حضاريا على النموذج الرأسمالي ومنه نموذج “روستو” لإعادة انطلاق الاقتصاد الرأسمالي” مثلا.
وإذا تحققت هذه الشروط النهضوية، تتمكن الأمة الإسلامية من تفادي ازدواجية المنهج التنموي.
ولقد سبق القول حول هذه الازدواجية بعد خروج هذه الأخيرة من الاستعمار أو الاستدمار. فالتغيير ما بالأنفس واتخاذ منحى يتلاءم مع دين ومصير الأمة الإسلامية، هو الذي سيوفقها بإرادة الله عز وجل على التفطن إلى كون الإلمام بمفهوم الحضارة هو الذي سيؤدي بها إلى القيام بالنهضة أو بناء الحضارة.
وعليه فإن هناك ثمة مسؤولية جوهرية وحساسة لرواد يضطلعون بمهمة التفكير والتشخيص والدراسة وطرح التصورات أو نماذج النهضة المرجوة. فهؤلاء يكونون النخبة النهضوية أو لبناء الحضارة.
ولقد سبق القول بأن المجتمعات الإسلامية قد قادتها نخبها المحلية أو القطرية للخروج من نير الاستعمار. ولكن اتضح لاحقا بأنه وقع انحراف في وضع الاستراتيجية السليمة وانحازت البلدان الإسلامية إلى الحلول المستوردة.
اعتمد مالك ابن نبي على تجربة الخبير الألماني شاخت الذي خطط للنهوض بالاقتصاد الألماني بين عامي 1933 و1936م. حيث أن المجتمع الألماني يتكون من أفراد لهم معادلة بيولوجية أو شخصية تنسجم مع البيئة الألمانية: موارد سكانية واقتصادية تسيرها أفكار أو ” رأس مال فكري” ما زال قائما وذا فعالية تنموية.
فالحتمية تستدعي الرجوع إلى مرجعيات الأمة من قرآن كريم وسنة نبوية شريفة واجتهادات العلماء أو الفقهاء ثم المفكرين حسب التخصصات النهضوية المتنوعة، دون إهمال ما توصلت إليه العلوم المعاصرة بما فيها الاقتصادية الأساسية والفرعية أو المتخصصة. وتجدر الإشارة إلى الاستلهام بما أنجزه الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضي الله تعالى عنهم، أخذا بالاعتبار المشاكل المطروحة على الأمة والتحديات المعاصرة وكذا المرتبطة بالمجتمعات الإسلامية خصوصيا وعموما. وللتذكير فقد اشتملت مقدمة البحث على أهمية ودور ” مقاصد الشريعة” في صقل وتصميم وصيانة أو حفظ كليات الدين والنسل أو العرض والنفس أو الحياة والعقل، حيث توجه أساس للاعتناء بالعنصر البشري أو الإنسان، مقابل كلية المال التي تحفظ مختلف الموارد والعوامل المادية ومن ضمنها الأموال.
2- شبكة العلاقات الاجتماعية:
المعادلة بين الحقوق والواجبات: إذا كانت فئة ذوي الحاجة أو العاهات قد يتحملهم المجتمع الإسلامي من حيث إعالتهم كواجب شرعي، فإن باقي الفئات عليها تبني حياتها وحياة الأمة على أساس تحقيق “المعادلة بين الحقوق والواجبات”. وهو تفسير للقاعدة المعتمدة من قبل مالك بن نبي: ” لكل وفق حاجته ولكل حسب طاقته”. وهي معادلة تقرن بين الحقوق والواجبات، وذلك محاربة لروح الاتكال. وإن طبقت هذه القاعدة فهي ستمكن المجتمعات الإسلامية من القيام بالنهضة وتقليص التبعية وحتى مجابهة العولمة الرأسمالية، ومن ثم تقليص ظاهرة ” القبلية للاستعمار”. يقول مالك بن نبي إن أول عمل يبدأ به المجتمع عند ولادته هو بناء شبكة العلاقات الاجتماعية، ويضرب لذلك مثلا بميلاد المجتمع الإسلامي في المدينة حيث آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار. ويرى مالك بن نبي بأن المجتمع له ثلاثة عناصر وهي: الأشخاص أو الموارد البشرية وهي جزء من الموارد الاقتصادية. الأفكار أو المعتقدات التي تربط مكونات المجتمع وتحركها. ثم الأشياء أو الموارد المادية التي تعد موضوع نشاطات الإنسان من حيث الاستثمار فيها وإنتاجها وتنميتها والانتفاع بها. كل هذه العناصر لها بيئة تجمعها. كما أن للدين دور مهم وفعال في التحام المجتمع وتماسكه واكتسابه الفعالية التي تجعله يتطور. فالفعالية الاجتماعية هي جوهر النهضة وضرورية لإزالة القابلية للاستعمار حتى يتسنى للمجتمع الصالح أن يعيد بناء الحضارة، من سماتها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الإرادة الحضارية. المعادلة البيولوجية. اعتمد مالك ابن نبي على تجربة الخبير الألماني شاخت الذي خطط للنهوض بالاقتصاد الألماني بين عامي 1933 و1936م. حيث أن المجتمع الألماني يتكون من أفراد لهم معادلة بيولوجية أو شخصية تنسجم مع البيئة الألمانية: موارد سكانية واقتصادية تسيرها أفكار أو ” رأس مال فكري” ما زال قائما وذا فعالية تنموية. لكن هذه التجربة لم يتمكن الخبير الألماني من إعادة توضيفها بفعالية لتخطيط الاقتصاد الأندوسي مع وجود الموارد البشرية والمادية، وذلك نتيجة اختلاف البيئة ومجتمع مسلم له معتقداته لا تتماشى مع حيثيات نموذج التخطيط الألماني. المعادلة الاجتماعية: إذا كانت المعادلة البيولوجية منحة من الله سبحانه وتعالى لجميع الناس وهي فطرية، فإن المعادلة الاجتماعية تعد نتاج المجتمع حيث أنها بمثابة القاسم المشترك الذي يطبع سلوكياتهم. كما أنه يحدد درجة المشكلات التي تميز الأفراد وفيما بين المجتمعات ومدى فعالية التطور الذي يطرأ عليها بين زمن وآخر. ويحدث ذلك تلقائيا أو إراديا بغية تلبية ضرورات تمليها الظروف التي تمر بها الأمة التي تعمد إلى صهر مقوماتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. ولذلك فعليها أفرادا ومجتمعا أن تحسن الاستفادة من الوقت أو الزمن وكيفية توظيف العلم أو المعرفة وتخصيص ما لديها من أموال إلى جانب فعالية تعبئة واستعمال الموارد البشرية، كل ذلك لتحقيق أهداف النهضة.
3- استراتيجية التوجيه:
يطرح مالك بن نبي فكرة ” توجيه” الحضارة وذلك لتحقيق الفعالية النهضوية المنشودة. وكما سبق أن قيل، فإن ذلك يخص العناصر الحضارية الثلاثة أي الإنسان والتراب والوقت. يتمثل التوجيه عنده في ” قوة في الأساس وتوافق في السير ووحدة في الهدف”. فالإنسان يؤثر في المجتمع من حيث توجيه الثقافة والعمل ورأس المال.
أ?- توجيه الثقافة:
إن عامل الثقافة مرتبط بالدين وفهمه الصحيح والقويم. ومن ثم على المجتمع الإسلامي أن يصحح من مفاهيمه وتقاليده حتى يتسنى له التخطيط للمستقبل وتحقيق أهدافه الحضارية. ويستشهد لذلك بما قام به كل من الشيخين محمد عبده وعبد الحميد بن باديس من مجهودات معتبرة لإصلاح الأمة. ويتمحور التمفصل بين الثقافة والدين في وضع عناصر جوهرية للتفكير وهي: الدستور الخلقي. والتوجيه أو الذوق الجمالي إذ الجمال يمثل الإطار لتكوين الحضارة. والفن التطبيقي مثال الصناعة بمفهومها القديم و الحديث. والمنطق العملي.
ب?- توجيه العمل:
يرى مالك بن نبي أن العمل هو النشاط الذي يقوم به الإنسان المسلم ويلتقي مع الرؤية اللإسلامية للشغل. ومن ثم يمكن تصنيف ذلك كما يلي: توفير شروط التحول من “العطالة” أو البطالة إلى ” حالة العمل الموجه”، حيث أن الجهود الاجتماعية تصبح تسير في اتجاه واحد: العمل التربوي. محو الأمية. إزالة أو إماطة الأذى عن الطريق. النصح بالنظافة والجمال، مساعدة الآخرين، غرس الأشجار. استغلال أوقات الفراغ. فالعمل معناه أننا ” نعمل ما دمنا نعطي أو نأخذ بصورة تؤثر في التاريخ”. فتوجيه العمل المرتبط بتأليف أو توليف هذه الجهود لتغيير خلق ووضع وبيئة الإنسان لتتوفر لديه شروط جديدة. إن توجيه العمل يتولد أو هو مشروط بتوجيه الثقافة، حيث يتوحد معها.كما أن ” التوجيه المنهجي للعمل” يجب أن يكون شرطا عاما ثم يكون خاصة بكسب الحياة.ويتم فتح مجالات جديدة للعمل نتيجة توجيه رأس المال.
ج- توجيه رأس المال:
يفرق مالك بن نبي بين الثروة ورأس المال.فالثروة ” شيء شخصي” مرتبطة بالحاجات ” لمالكها”. أما رأس المال فهو عامل متحرك ” يخلق حركة ونشاطا” بدون الارتباط بصاحبه. تتخصص حركية رأس المال في جعل العمل نهضويا وذلك من خلال توظيف العقول والأيدي.أيضا، تحويل الثروة إلى رأس مال هو عمل نهضوي. كما يعد تحويل ” كل قطعة نقدية إلى كيان متحرك” عامل ” يخلق معه والنشاط”. ولذا إن “تحويل أموال الأمة البسيطة” بتوجيهها من ” أموال كاسدة إلى رأس مال متحرك ينشط الفكر والعمل والحياة” يعد عمل نهضوي. ” إن تكوين رأس المال ممكن حتى في وطن فقير إذا ما اتحدت الجهود” كتوجيهها للصالح العام. كل هذه الجهود وفرص ” التوجيه” يجب أن تكون مخططة من قبل هيئة تعمل على دراسة وتحديد الأهداف ثم تعبئة الموارد لتحقيق النهضة.
خاتمة:
يمكن تلخيص الفكر الاقتصادي خاصة ومنظومة أفكار عامة مالك بن نبي كما يلي: أولا: لقد أكد المفكر على ضرورة الرجوع إلى المرجعية العقائدية الإسلامية لإعادة بناء الحضارة، ثانيا: قام المفكر بإعادة نظام الأولويات إلى نصابه وذلك بإبراز دور “الاستخلاف” للمسلم كفرد وكمجتمع، ثالثا: وقع توافق بين فكر مالك بن نبي ومنظومة مقاصد الشريعة التي تولي إلى ضبط الموارد البشرية أولوية مقارنة بضبط الموارد الأخرى خاصة المادية.

قائمة المراجع:
1- مالك بن نبي ( 1382هـ -1961م) الظاهرة القرآنية، الطبعة الثانية، دار الفكر، القاهرة، مصر.
2- مالك بن نبي ( 1357هـ – 1957م) فكرة الإفريقية الآسياوية ( في ضوء مؤتمر باندونغ)، الطبعة الأولى، دار الفكر، القاهرة، مصر.
3- مالك بن نبي (1389هـ – 1969 م) مشكلة الثقافة، دار الفكر، بيروت، لبنان.
4- مالك بن نبي ( 1394هـ – 1974 م) المسلم في عالم الاقتصاد، دار الشروق، القاهرة، مصر.
5- حاتم القرنشاوي ( 1409 هـ 1989م) تمويل التنمية في إطار اقتصادي إسلامي، موارد الدولة المالية في المجتمع الحديث من وجهة النظر الإسلامية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، البنك الإسلامي للتنمية، جدة، المملكة العربية السعوية.
6- محمد أحمد نصار، الفكر الاقتصادي عند مالك بن نبي، Islamic educational, scientific and cultural organization Avenue Attine – Hay Ryad – Rabat-10104- Maroc-

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.