د. رحمة مالك بن نبي : تحققت نبوءة أبي رحمه الله: سأعود بعد ثلاثين سنة
… إن والدي رحمة الله عليه لم يكن ممن يحب الحديث عن شخصه و عن حياته… ولكن نحن نعلم أنه كتب و ترك مذكرات أصدرها تحت عنوان مذكرات شاهد القرن، … و كان والدي رحمة الله عليه يرصد من خلال تلك المذكرات الأفكار التي كان يحملها المحيط الجزائري و الفرد الجزائري، مما جعله قابلا للاستعمار. إن قضية المذكرات ذات بعد اجتماعي أكثر من كونها ذات بعد شخصي.
إن الحديث عن شخص مالك بن نبي أو عن حياته هو عبارة عن الحديث عن أفكاره. فهو لم يكن ممن يجزئ بين الفكر و الحياة… إنه كان يعيش الأفكار قبل أن يلقي بها إلى الآخر أو قبل أن يكتبها في الورق كان يعيشها و يطلبها و يمارسها شخصيا في حياته ثم يدلي بها إلى الآخر.
فاليوم وقد مضت 30 سنة أو ما يزيد عن وفاته و نحن نتذكره، كما يقول البعض بسبب المائوية ولكن أكثر من ذلك أظن و أنا على يقين أن هناك أسبابا أخرى موضوعية تاريخية تجعلنا اليوم نتذكر مالك بن نبي ونتدارس ونحاول أن نحلل أفكاره ونحاول أن ننظر إلى إمكانية استخلاص رؤية متكاملة أو منظومة فكرية متكاملة للبعث الحضاري للأمة الإسلامية.
فمالك بن نبي نتذكره اليوم كما قلت لأسباب تاريخية، وأسباب أخرى منها: إخفاق البدائل التي طرحت في الساحة الإسلامية، فالإخفاق جعلنا ربما نتذكر مالك بن نبي ونبحث في قراءة جديدة لفكر مالك بن نبي. وكان مالك بن نبي من خلال كتاباته قد أنذر وأعلن إفلاس تلك الإيديولوجيات التي تحمل تناقضا يجعلها غير منسجمة مع الواقع الاجتماعي والثقافي في المجتمع الإسلامي و في الساحة الإسلامية العربية أو غير العربية فكان فشلها حتميا. فكان مالك بن نبي قد رصد تلك الحقيقة قبل أن تقع في الواقع وأطلق على تلك الأفكار مصطلح الأفكار المميتة أو الأفكار القاتلة، و هنا ربما يتبادر سؤال إلى الأذهان عن الخصوصيات التي جعلت مالك بن نبي يتمكن من رصد بعض الأمور ومآلاتها في المستقبل في اعتقادي أن ما مكنه أو الخصوصيات التي مكنته أنه كان مبدعا: بمعنى أنه كان يستطيع أن يرى الأمور العادية برؤية جديدة، أو الأمور المحيطة التي يراها الناس الآخرون وكان يراها برؤية خاصة به و رؤية جديدة، في فضاء الحرية المبدعة وهي التي لا يمتلكها إلا من اتصل اتصالا وثيقا بالله سبحانه و تعالى، فذلك الاتصال هو الذي يمكن الفرد من التخلص من الخضوع للهوى و من الفكر النمطي الذي كان في تلك الحقبة. وحسب ما أذكر و أنا طفلة كان رحمة الله عليه من أولئك الذين يقومون الليل صلاة وتضرعا إلى الله سبحانه و تعالى و يناجيه، فكان ذا صلة وثيقة بالله سبحانه و تعالى أورثته صفاء روحيا وضبطا للنفس و عقلا مميزا جعله قادرا على ربط الأحداث بالأسباب الحقيقية مهما كانت مستبعدة في الظاهر… وأذكر أنه قال قبيل وفاته إن فكره سوف يعود بعد 30 سنة، فقد كان يدرك أن فاعلية الأفكار مرتبطة بالمحيط الذي تولد فيه و تنتج فيه… كان يدرك أن التاريخ قد عرف من قبل تأجيلا لتفعيل الأفكار، و أن أفكاره سَتُفَعَّلُ في يوم ما. قلت: لم نتذكره عبثا بل تذكرناه لأنه قد حان الوقت للتذكر. يعرف عن فيكتور هوجو أنه قال: قد تهزم جيوش و لكن لا تهزم فكرة، وقد حان وقتها ، وقت فكر مالك بن نبي ربما قد حان، فقد ينسى الإنسان أو ينسى المجتمع أفكارا صدفة أو عبثا و لكن لا يتذكرها عبثا.
… سمعنا مدرسة بأكملها تفتح باسم مالك بن نبي في فرنسا، فلا عجب أن ذلك يفسر كانتصار لفكر أو لشخص مالك بن نبي، و لكن إذا ما أردنا أن نفسر هذا الحدث وفق رؤية مالك بن نبي أي وفق رؤية الإسلام كدور إنساني أو اجتماعي فإننا نرى أن افتتاح هذه المدرسة هو عبارة عن رمز لعصر الحضارة الإنسانية التي كان قد رصد معالمها وجعلها خطوة في ذلك الاتجاه… فمالك بن نبي كان يرى منذ بداية إنتاجه الفكري أن العالم يتجه نحو التكتل وأن على الإسلام أن يوجد أو يعيد دوره الحقيقي ألا و هو الدور الاجتماعي الإنساني، فليست القضية كما كان يقول أن نقاطع الحضارة الغربية التي تمثل إرثا إنسانيا هائلا و إنما القضية هي قضية تحديد و تنظيم هاته العلاقة مع تلك الحضارة…
فنحن نأمل أن تكون هاته الندوة خطوة في تحديد طريق هاته الوجهة وفي تحديد وسائل التغيير، و أكثر من ذلك لا بد أن نبعث في الشباب روح إرادة التغيير، ولن يكون ذلك ممكنا إلا إذا ما بعثنا فيه روح التفاؤل. فالتغيير ممكن و التغيير حاصل كما قال مالك ابن نبي في كتبه إن التغيير واقع لا بد منه، فإن لم يأت من الداخل فسوف يفرض من الخارج. فلا بد أن نجعل هاته الكلمة شعارا لنا نفهمه ونعمل به و ليس شعارا نردده فقط حتى نستطيع فعليا أن ننهض و حتى تصبح قضية النهضة هي الهاجس الذي يشغلنا. فقضية النهضة – و مالك بن نبي كان قد خصص كتابا كاملا تحدث فيه عن شروط النهضة- حسب ما قرأته من كتب مالك بن نبي و غيره هي عبارة عن تراكم لأعمال عادية من أناس عاديين يقومون بأعمال مثل الأم في بيتها و المزارع في مزرعته و الصيدلي في صيدليته والطبيب في المستشفى و المدرس في المدرسة وغيرهم، أي هي عبارة عن هذه الأعمال العادية على شرط أن تكون هذه الأعمال ذات قيمة متجانسة مع باقي القيم الاجتماعية والثقافية السائدة في المجتمع.
أرجو أن أكون قد ركزت على النقطة الأساسية التي أردت أن أسلط الضوء عليها وهي إمكانية صياغة خطاب إسلامي إنساني اجتماعي يستطيع أن يتواصل معه المسلم و غير المسلم و ذلك عن طريق قراءة جديدة للواقع و قراءة جديدة لما لدينا من نصوص..
وختاما نأمل أن تكون هذه المداخلة موضوعية قدر المستطاع فأنا كلي أمل أن لا أظلم مالك بن نبي إذا ما اتهمت بغير الموضوعية في الحديث عن شخصه أو فكره بسبب الرابطة العاطفية الطبيعية التي تربط الابنة بوالدها.
ـــــــــــــــــــــــــــ
* توصلت الجمعية بهذه الكلمة مسجلة على قرص مدمج CD بعد تعذر حضور الدكتورة رحمة مالك بن نبي لظروف قاهرة.
المصدر: الملتقى الدولي: مالك بن نبي : مفكر شاهد ومشروع متجدد من تنظيم جمعية النبراس الثقافية المغرب 2005م