المسألة الاقتصادية في فكر مالك بن نبي(1)

عدد القراءات :5900

أولا : يمكن إدراج تحاليل مالك بن نبي رحمه الله للموضع الاقتصادي ضمن دائرة الاقتصاد الإسلامي لأته يرجع جميع مراحل بحوثه إلى الشريعة الإسلامية ويقيد تقريراته واستنتاجاته بالضوابط الشرعية إما ضمنا أو تصريحا : «وإنني مع الحرص ككل مسلم على مراعاة شروط الفقه الإسلامي لا أرى لتدخل مذهبي في قضية ذات طابع تقني بحت»(2).
ثانيا : اعتناؤه بالفكر في حد ذاته أكسبه ميزة تقليص «تدنية» تكلفة التعبير المتمثل في عدد الكلمات المستعملة في التحليل وبالتالي ميزة التركيز حيث أننا لا نكاد نقرأ سطرا وحدا حتى تعرض أمامنا كمية هائلة من الأفكار وقد ساعده أسلوبه الرياضي في ذلك كثرا .
ثالثا : على الرغم من الموجة التغريبية التي كانت سائدة إبان الفترة التي عاش فيها مالك بن نبي تجده يحافظ على التفكير الأخلاقي الإنساني وقد أسقط ذلك على المجال الاقتصادي أين يعرض بوضوح ملامح الاقتصاد أخلاقي آو الاقتصاد الديني أو القيمي كما يسميه الأستاذ عبد الحميد الغزالي : «والمجتمع الإسلامي أجدر من يحقق له وللإنسانية التجربة التي تعيد إلى عالم الاقتصاد أخلاقياته»(3).
رابعا : لا يكفي الأستاذ مالك بن نبي بالنظرة الساكنة بل نجد الحركية ذاتها تطبع تحليله لجوهر الأزمة الاقتصادية للعالم الإسلامي، هذه الحركية نصطلح عليها بـ (المقاربة التاريخية) أين نجد الدعوة واضحة إلى إعادة قراءة التاريخ لاكتشاف أسباب لانحطاط وحجم هذا الانحطاط. وعليه فإن موضوع تحليلاته هو عملية إعادة بناء تعمير العالم الإسلامي. «لا يمكن أن نتصور نجاح إنجازها آخذا في الاعتبار قيمة الإنسان على شرط أن تكون إرادته شرارة مقتبسة من إرادة حضارية»(4).
وأخيرا : نجد المقاربة التكاملية بين أقطار العالم الإسلامي تطبع التفكير الاقتصادي عند مالك بن نبي . فلأمة الإسلامية بتعدد أنماطها الاقتصادية تملك في إطار التكامل الاقتصادية المقدرة على إحداث علاقات اقتصادية دولية جديدة وأشكال تبادل أخرى «الأوطان التي لا تستطيع مواجهة الظروف الاقتصادية العالمية بمفردها تستطيع الصمود لها والنمو إذا تكاثفت عقولها وأيديها وأموالها في ورشة عمل مشترك»(5).

عناصر الحركة الاقتصادية عند مالك بن نبي :
السؤال المطروح علينا هو كيف يعيد المجتمع المسلم تحقيق توازنه الاقتصادي ؟ وما هي الشروط التي توفر له صبغة الفاعلية وإمكانية الخروج من دائرة النظرية إلى دائرة الخطة ؟ أي ما هي شروط تحقيق الحركة الاقتصادية المعبر عنها بالتفاعل بين قطبي الإنتاج والاستهلاك.
يمكننا أيها الإخوة إحداث تقسمين منهجين يخصان فهم آليات تحقيق التوازن المذكور. هناك تقسيم مرحلي يعني المجال الزمني لتحديد الخلل وممارسة العلاج . وهناك تقسيم ثاني يخص طبيعة الأدوات المستعملة في العلاج ومجالات ممارستها وتقسيم كهذا من شأنه أن يسهل لنا مهمة تحديد طرق تنفيذ مشروع إعادة التوازن وشروطه الذاتية والموضوعية وهي طرق النوعية التي نعتبرها صلب مسألة الحركية الاقتصادية طالما استوفت شروطها.
تقسم مرحلي : تشكل مرحلة الانطلاق أو الإقلاع جوهر التحليل ويبقى علينا تشخيص وضعية ما قبل الانطلاق ورسم شروط ضمان استمرارية النهوض الاقتصادي بعد نقطة الإقلاع.
إن المرحلة الأولى التي يجب أن نوفر لها قدرا مناسبا من تفكيرنا تستدعي ترتيبا في الأوليات تتحقق من خلال معالجة عملية دقيقة لمرحلة (الانحطاط) أو ما قبل الإقلاع.
مرحلة الانحطاط تتسم بتوفر جملة من الاختلالات (سلوكية، سياسية، فنية، استراتيجية) نعبر عنها بـ (المظلم) التي أدت إلى فقدان سنة التقدم على الصعيد الاقتصادي ولو كان المجتمع قد حقق توازنه السياسي في صورة «الاستقلال الوطني» فإن من خصائص المظالم الاقتصادية أنها قد تستمر وربما تتفاقم مع تحقيق الاستقلال السياسي كما هو الشأن بالنسبة للعديد من الدول الإسلامية . وفي مرحلة الاختلالات الاقتصادية يكون الشعور والوعي الاجتماعي بها ثم اتساع دائرة هذا الشعور على المستوى الشعبي عاملا مساعدا للاقتراب من مرحلة الإقلاع لأن ذلك يهيء جانبا من شروط «الثورة» الاقتصادية بإيقاظ الإحساس بفساد نظريات الغرب المطبقة في مجال التنمية والتي جربت في بلاد المسلمين.
ومن جهة أخرى فان الشعور المذكور يسمح لنا بطرح السؤال الباحث عن البديل على أوسع نطاق بين أفراد الأمة الإسلامية وفي هذه المرحلة أيضا يتم تحديد مواطن الخلل التي تقوم بمعالجتها في إطار مرحلة الإقلاع .
أما الإقلاع فهو الصورة المنطقية الطبيعية لنضح أدورات وآليات الحركية الاقتصادية القائمة على المستوى مترابط هي المستوليات المختلة في المرحلة السابقة :
– المستوى العقائدي (الإيديولوجي).
– المستوى النفسي.
– المستوى الاجتماعي.
– المستوى الفكري والتصوري.
– المستوى التربوي.
– المستوى التطبيقي.
– المستوى السياسي.
– المستوى المعيشي.
– المستوى الفني والتنظيمي.
– المستوى التخطيطي.
– المستوى التكاملي.
وكل مستوى من هذه المستويات يقتضي قدرا مناسب من الأعداد نعبر عنه (بشحذ الطاقة) الكامنة في ذلك المستوى بغية تجديد الحركة في هذا المجتمع الكبير.

عناصر الحركية الكامنة وطرق شحذها
1- المستوى العقائدي
لا يمكننا أن نتصور حركة دون دافع عقائدي في النظام الإسلامي أو إيديولوجي في النظم الوضعية لاسيما في مجال حركة الإعمار أو التنمية التي تستدعي طاقة دافعة قوية تناسب حجم العجز في التنمية حيث لابد من عقيدة متينة ترعى مكاسب الإعمار، من أجل شروط الإقلاع ينبغي أن تكون هيمنة الجانب العقائدي واضحة في المخطط أو البرنامج أو السياسي بالنسبة للمجتمع المسلم ويبدو أنها قاعدة عامة أن يهمين البعد الأيديولوجي على الخطط الاقتصادية للمجتمعات كما هو الشأن بالنسبة للمجتمع «السوفيتي» في «مرحلة التشييد» أو المجتمع «الصيني» الذي يعتقد أن جده الأكبر «يوكنغ» بإمكانه هز الجبال. ولا ينسى مالك بن نبي بالمجتمع الإسلامي الأول في محاضراته له ألقاها على طلبة الدفعة الثامنة من ضباط الاحتياط بالأكاديمية العسكرية بشرشال يوم 23 يناير 1973 حيث يقول : «عند بناء مسجد رسول الله في المدينة كان الصحابة يحملون الحجرة حجرة وكان عمار بن ياسر يحمل على كتفيه حجرتين مرة واحدة فرآه صلى الله عليه وسلم فقال له لكل هؤلاء نصيب في الجنة وأنت لك نصيبان». إن الذي كان يدفع بالصحابي الجليل عمار بن ياسر إلى تحقيق هذا الإمكان في الحمل هو الحافز العقائدي الذي يعبر عنه مالك بن نبي بـ (الوعد الأعلى) . إن هذا الوعد هو أعلى وعد يمكن أن يتصوره البشر لارتباطه بالحياة الأخروية فضلا عن الحياة الدنيوية مما يجعل من العقيدة الإسلامية أقوى حافز على الإطلاق بين مجموعة الحوافز الإيديولوجية الأخرى.

2- المستوى النفسي
لا شك أن الخلل الذي حدث على صعيد علاقة المسلم بدينه فيما بمقتضيات الإسلام قد أثر سلبا على نوعية النفسية التي تتطلبها عملية التقدم الاقتصادي. ذلك أن العملية التنموية تتطلب شروطا نفسية خاصة فضلا عن الشروط المادية والفنية المعرفة ولأجل ذلك يستدعي الاقتراب المنهجي من فك رموز المعضلة الاقتصادية إعادة الاعتبار للعناصر النفسية للإنسان المسلم شعبا وقيادة عن طريق إعادة الثقة بالنفس وإعادة صياغة التكوين الشخصي للفرد بداء من العادات ونسق النشاط والمواقف تجاه المشكلات الاقتصادية .

3- المستوى الروحي
هذا المستوى يتحدث مالك بن نبي عن ضرورة تجاوز الاختلال الحاصل في معادلة التوازن الروحي-المادي وضرورة استغلال العناصر الروحية في تكوين الإنسان المسلم لتحقيق الفاعلية المطلوبة.
لاشك أن طاقة روحية هائلة تكمن داخل الفرد المسلم إلا أن خمول هذه الطاقة من جهة واتجاهات تحركها المعروفة تاريخيا من جهة ثانيا هو الذي حال دون استمرار البناء الاقتصادي للأمة والأمر يستدعي برنامجا جادا لتكيف هذه الطاقة بما يخدم المشروع الاقتصادي للأمة وقب البرنامج يستدعي الأمر إيجاد نوعية خاصة من المصلحين «القدوة» مهمتهم عرض نموذج الإنسان المتوازن روحيا.

4- المستوى الاجتماعي
وعلى المستوى الاجتماعي يعني التحريك إعادة التوازن بين الحقوق والواجبات. وإذا كان حق الطعام «أي الحق في نوعية جيدة للغذاء أو كمية الوحدات الحرورية» واللباس والعيش الكريم اختيار المخطط الإسلامي فإن ذلك يقتضي القيام بواجب العمل بالنسبة لكل ساعد قادر على العمل للمحافظة على الاتجاه الذي يعتبره الأستاذ مالك بن نبي شرطا من شروط الإقلاع الاقتصادي. وتخطيط قيمته العمل كما ونوعا يحتاج منا إلى خطة تحريكية على المستويين التخطيطي والتنظيمي.
وعلى المستوى الاجتماعي أيضا تقتضي الحركة إشراك كافة فئات المجتمع في ممارسة الخطة صياغة وإعلاما وتنفيذ أو ما عبر عنه الأستاذ مالك بن نبي بـ (النشر الاجتماعي للخطة) مما يسهل عملية تكييف يعني باختصار إعادة الوظيفة الاستهلاكية وكذا الوظيفة الاستثمارية للمجتمع المسلم إلى مجراها الطبيعي بسلم الأوليات «الضرورة ثم الحاجة ثم التحسين».

5- المستوى التصوري والفكري
في هذا المستوى نشعر بالحاجة إلى وعي اقتصادي لتعمير البلاد الإسلامية وعي بالقوانين والمفاهيم وآليات التغيير الاقتصادي في إطار المذهبية الإسلامية من أجل إعادة صياغة النماذج الإنتاجية والاستهلاكية والتبادلية والتوزيعية وتحسن المواقف تجاه ركائز الاقتصاد وعلى رأسها المال الذي يعتبره الإسلام أحد كليات الشريعة ومن مقاصدها.
ونلاحظ تاريخيا أن غياب هذه النوع من الوعي هو الذي مهد للاستعمار الاقتصادي الجديد على الصعيد الإنتاجي أين فرضت على الأمة أنماطا ووظائف إنتاجية غربية «إنتاج العنب الموجه لصناعة الخمور في بعض البلاد الإسلامية» أو إنتاج سلع كمالية موجهة للسوق الرأسمالي ومن أجل تلبية نمط استهلاك رأسمالي ومن أجل تلبية نمط استهلاك رأسمالي، وعلى الصعيد التبادلي أين فرضت على الأمة أنماط تبادل «مجحفة مادة أولية مقابل عملة الصعبة» وأنماط تثمين غير عادلة تجعل سعر المادة الأولية أقل بكثير من سعر المادة المصنعة.
وعلى الصعيد الاستثماري أين فرض علينا التصور الرأسمالي لماهية رأس المال وحصر هذا الأخير في المجال النقدي ليتحول اقتصاد نقدي بحت ولتتعطل بذلك الصور الممكنة الأخرى للاستثمار وعلى رأسها الاستثمار الاجتماعي وهذه الحالة الأخيرة هي التي صنعت العلاقة القائمة مع البنوك والمؤسسات النقدية الدولية وما تمخض عن هذه العلاقة من إخلالات واضحة على مستوى الموازين المالية لدولنا الإسلامية.
إن إعادة بناء الوعي التنموي للأمة يعني :
– التثمين الحقيقي لدور الكميات النفسية في تحديد مجال التنمية مقابل الطاقات النفسية والاجتماعية الكامنة والتي تظل في المرحلة الانحطاط حبيسة الاحتمال في حين تصير عند الإقلاع من عناصر الإمكان الاقتصادي.
1- إعادة الاعتبار للاستثمار الاجتماعي مقابل الاستثمار المالي أو المادي.
2- إعادة الاعتبار لوظيفة الادخار مقابل وظيفة الاستهلاك أي الوعي بأثر السلوك ألإنفاقي للدولة وللفئات على المقدرة الاقتصادية للبلاد . ذلك الوعي الذي من شأنه إحداث حركية دافعة في المجال الإنفاق الاستثماري إذ ما توفرت الشروط المؤسسية المصارف لتوجيه الاستثمار بالأدوات المشروعة «عقود المصاريف والشركات الإسلامية وفي الأبواب المشروعة إنتاج الطيبات مع السلع والخدمات».
3- الوعي بعدم عدالة أنماط التبادل القائمة مما يستدعي أنماطا جديدة أو على الأقل التفكير في أنماطا جديدة نابعة عن التصور السليم للقيمة مادامت المذاهب الاقتصادية هي التي تصنع أنماط تبادليها وفي مرحلة الإقلاع حيث يغلب على العالقات الدولية طابع التبادل الرأسمالي «نمط تبادل المذهب الغالب» يكون من الانجح تبني علاقات تجارية دولية جديدة كتلك التي تربط بين البلدان ذات الأنماط الإنتاجية المتماثلة أو المتقاربة وهو جوهر فكرة الإفريقية-آسيوية تلك الفكرة التي تستبدل معادلة «مادة أولية مقابل مادة أولية» بمعادلة «مادة أولية مقابل عملة صعبة».

6- المستوى التربوي
لا يمكن تصور حركية اقتصادية دون أدوات تصورية وتطبيقية . ولا يمكن فهم هذه الأدوات بغير خطة تربوية مدروسة وبغير إطار ثقافي واضح يعيد للإنسان قيمته ودوره الطبيعي في الحياة ويزوده بالأفكار الحية . إن الإنسان الذي هو أساس كل إقلاع اقتصادي سيظل مخلوقا خاملا ما لم تزوده بمجموعة من الأفكار في إطار من الثقافة وستظل كل برامج التنمية مجرد نظرية يتوفر لدينا ذلك الصنف من الإنسان إنسان التنمية المعد لكسب المعركة الاقتصادية. ويظل الأمل معقودا على المربين وعلى سياسات التوجيه والتربية في العالم الإسلامي لإخراج جيل التعمير المنشود، فالتنمية لن تكون كطريق تكديس السلع والآلات لن تكون بقدر ما تكون بترتيب الأفكار وتحسين السلوك.

7- المستوى السياسي
لقد أساءت بعض الحكومات في البلاد الإسلامية فهم الحرية السياسية في المجال الاقتصادي عندما طبقت منهج التنمية الرأسمالي الذي يقيد حرية الفرد في المعتقد وأسلوب الحياة بما يمليه عليه من أدوات وآليات واختيارات لا يملك الإنسان دونها إلا آن يكون سلعة في النظام الرأسمالي. ولقد أساءت حكومات أخرى فهم هذه الحرية عندما ما تبنت المنهج المركزي الذي يقايض الحرية الرأي والمواقف بضمان لقمة العيش في حين تقتضي عملية الإعمار الاقتصادي فهما معياريا للحرية السياسية التي يجب أن تتحدد بضوابط الفقه الإسلامي. وعلى الحكومات في البلاد الإسلامية أن تكون راعية للحرية ضامنة لها كحد أدنى لتحقيق المناخ السياسي المؤيد الإقلاع لا يمكننا أن نتصور في إطار تجربة اقتصادية ناجحة مساومة بين العامل السياسي والعامل المعيشي وقد عبر مالك بن نبي عن العيش الكريم بـ حرية الرأي والتأمين الاجتماعي إذ هما جزءان لا ينفصلان من مكونات الحق في الحرية السياسية المقيدة بمقاصد الشريعة الإسلامية والحق في التأمين الاجتماعي الذي يقوم على حد أدنى هو الحق في القوت أي الغذاء.

8- المستوى المعيشي
والحديث عن الحق في التأمين الاجتماعي الذي يصور قوله تعالى : (و في أموالهم حق للسائل و المحروم) [الذاريات:19]، يجرنا إلى عنصر آخر من عناصر شحذ الحركية الاقتصادية للأمة متمثلا في تامين حد الكفاف من العيش، فإن توفير لقمة الغذاء أي الحاجة البيولوجية لحفظ النوع يعد طرفا حاسما فيما يسميه مالك بن نبي بـ «تحقيق الديناميكا الاقتصادية» إذ «لا يمكن تصور اقتصاد تنمية بطريقة مستقلة عن اقتصاد متين لتحقيق القوت»(6).
وإن شعبا لا يتحكم في توفير الحد الأدنى من حجم غذائه لانتظر منه ممارسة آليات الإعمار بالفعالية المرجوة. فالغذاء ليس اختيارا التذكير بقيمة النوعية للغذاء وبطريقة الحصول عليه التي ينبغي أن تساير الإطار الثقافي للمجتمع المسلم.

9- المستوى التنظيمي والمستوى التخطيطي
عملية الإقلاع الاقتصادية لا تتم بالتصور الفكري وحده أي بإحصاء الشروط النظرية وإن كان الوعي بوظيفة الإعمار مستوى أساسيا من مستويات الحركية الاقتصادية فإن ذلك المستوى لن يكون كافيا ما لم نضع الشروط النظرية في إطار تنظمي تخطيطي يسمح بتطبيقها وعلى الصورة المطلوبة. وفي هذا الاتجاه يستدعي المستوى المعيشي المذكور خطة لإنعاش الزراعة والموازنة بما يناسب إمكانيات العالم الإسلامي وبما يقتضيه سلم الأوليات في التنمية. وفي هذا المستوى يتحدث مالك بن نبي عن تخطيط التنمية بتحديد الأهداف النهائية والمرحلية وإحصاء الإمكانيات المتوفر واللازمة بالطرق العلمية لا التخمينية، ووضع حسابات دقيقة للمراحل التي يجب أن تجتازها المرحلة، وتكييف ظروف الإسكان والمواصلات والتموين لمتطلبات التنمية.
ولا يمكن القيام بعمل كهذا إلا بتوفر إرادة واعية بسنة التعمير حيث آن العديد من دولنا الإسلامية لا تولي كبير عناية لهذا الجانب ويكفي أن نعلم جسامة التكاليف التي ندفعها من جراء سوء توزيع السكان بين القطاعات السكنية المختلفة «المدينة والريف مثلا» وضعف شبكة المواصلات التي غالبا ما تركز على مؤشرات النوعية «توزيع العمال بين مواطن عملهم ومواطن سكنهم» مما يؤثر سلبا على حساب التكلفة من الوقت في صورة ساعات ضائعة في المرحلة تتطلب سرعة نوعية في وتيرة الإعمار.

10- المستوى التكاملي
هل يمكننا تصور تنمية اقتصادية في العالم الإسلامي على أساس اقتصاد محلي ؟
– إن شروط التبادل في العلاقات الدولية «التثمين بالعملة الصعبة».
– والمناخ الاستراتيجي السائد «التكتلات الاقتصادية الشركات المتعدد الجنسية».
– والتجربة التاريخية للعالم الإسلامي «كأمة تجمعها عوامل الوحدة».
– والخصائص الاقتصادية للبلاد الإسلامية «تنوع الإمكانيات مع تفاوت من دولة لا أخرى».
– والمناخ الاقتصادية العالمي «شروط المنافسة».
كلها عوامل تقف ضد تصور التنمية على أساس محلي. وعليه فإن اتجاه التكامل بين أرجاء بلادنا الإسلامية لإرساء ما يسميه مالك بن نبي «الاقتصاد المشترك أو الموحد» صار ضرورة إستراتيجية لتحقيق الحركية الاقتصادية المطلوبة «وعلى المسلمين أن يتخلصوا منها – أي من مرحلة ضعف الفعالية في الحقل الاقتصادي، أن يوحدوا إمكانياتهم وحاجاتهم حتى يحققوا في أسرع ما يمكن شروط الاكتفاء الذاتي، أي الحلقة الاقتصادية التي تستطيع الانغلاق على نفسها إذا اقتضت الضرورة الداخلية ذلك»(7).

11- المستوى التطبيقي
وهنا ينبغي علينا أن نحدد موقفنا من التكنولوجية الحديثة حتى لا نتورط في عملية تكديس الآلات على حساب أنماط وأوقات استعمال تلك والمعدات. ويفرق بن نبي بين الأجهزة الميكانيكية والأجهزة النفسية ممهدا لفكرة الإحلال بين هذين الصنفين من الأجهزة «إن الحياة الاقتصادية لا ترتبط فقط بأجهزة ذات طابع فني ومالي وتنظيمي فقط بل هي قبل ذلك مرتبط بأجهزة نفسية»(8).
فخطة الإقلاع إذن ينبغي ألا تكتفي بمجرد الأرقام والمعلومات حول الجانب الميكانيكي الذي قد لا يتوفر غالبا بل يغير من التطبيق العملي استغلال الإرادة في البناء كعنصر يضم إلى عناصر الإمكان المتوفرة. وفي هذا المستوى يستشهد بن نبي بذلك الفلاح الصيني الذي دخل ميدان التطبيق لا من طريق الأجهزة المعقدة بل من طريق المحراث الخشبي.
والفكرة ليست في اتجاه التقليل من أهمية العلم التكنولوجي بل هي وضع المشكلة الاقتصادي وفي حدودها الواقعية.

الخاتمة
إلى هنا نكون قد حددنا الخطوط العريضة التي يتطلبها الإقلاع الاقتصادي في تصور الأستاذ مالك بن نبي على المستوى الفكري الحضاري لا الفني لأن الأمر يقتضي تفصيلات تطبيقية ليس هذا مجالها، وبشكل عام يمكننا إدراك صبغة الشمولية الرائعة التي أحاط بها مفكرنا المسألة الاقتصادية، بأنها ليست مجرد أرقام وكميات بل هي دوائر، عقيدية وسياسية وروحية ونفسية واجتماعية وتربوية وأخلاقية وفنية تتداخل فيما بينها في تناسق سنني يستجيب للفطرة، ويبدو أن كل تخطيط لا يخضع لتلك الشمولية التي تنطلق من وحدة الأساس «الإنسان» لا تتجاوز حدود النظرية ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد:11]، فهل ترانا لحد اليوم ومنذ الاستقلال السياسي لبلادنا الإسلامية قد تفطنا لهذا الجانب الغائب في تفكيرنا التنموي ؟

الهوامش

(1)أصل هذا المقال هو محاضرة ألقيت في الملتقى الثالث والعشرين للفكر الإسلامي بمدينة تبسة 29 أوت- 5 سبتمبر 1989.
(2) (3) المسلم في عالم الاقتصاد ص 84، 85.
(4) المسلم في عالم الاقتصاد ص 66، 106.
(5) المسلم في عالم الاقتصاد ص 66، 106.
(6) بين التيه والرشاد ص 161.
(7) المسلم في عالم الاقتصاد ص 107.
(8) بين التيه والرشاد ص137.

المصدر: مجلة الموافقات (المعهد الوطني العالي لأصول الدين – الجزائر) العدد 3 جوان 1994.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.