مقاربة في فهم دورة الحضارة “1”

عدد القراءات :5889

الأستاذ مالك بن نبي

كلمة الشيخ بيوض:
هذا السيد الذي أمامكم الآن بجانبي، الأستاذ مالك بن نبي. من هو؟ لا بد من تقديمه قبل أن تستمتعوا له. فبأي كيفية و بأي عبارة أقدم الأستاذ مالك بن نبي؟
يبدو لي أن أقدمه لكم بكلمات قليلة متواضعة بسيطة، لكن على قِلتها و تواضعها و بساطتها، فهي تحمل معاني كثيرة، و فيها أبعاد قد لا تدركون حدودها. وهاته الكلمات له و ليست لي، هو الذي عبر بها و خطها بقلمه، و مهرها بإمضائه. إنه يقدم نفسه، إيه و الله؛ فما هي هاته الكلمات؟
هي الكلمات التي أهدى بها كتابة العظيم “الظاهرة القرآنية”، أنتم تعرفون أن كل مؤلف في هذه العهود الأخيرة لما يؤلف كتابا، يكتب فيه إهداء لشخص يرى له من الفضل عليه ما يستحق به أن يهدى إليه، و ترون هذا في كل كتاب.
كتاب “الظاهرة القرآنية” من أعظم ما ألف الأستاذ مالك بن نبي، و سأتعرض له بشيء من التقديم.
قال في الإهداء:
“إلى روح أمي، وإلى أبي؛ الوالدين اللذين قدما لي أثمن الهدايا… هدية الإيمان”.
الإمضاء: مالك.
تدركون بقوله:
“إلى روح أمي” أن والدته قد توفيت رحمها الله قبل تأليف الكتاب، فأهداه إلى روحها، و أن والده لا يزال حيا إلى اليوم، و لذلك قال”: إلى روح أمي و إلى أبي اللذين قدما لي في المعهد أثمن الهدايا… هدية الإيمان”. لله درّ هذا البدل؛ إنه يبدأ بوصف هاته الهدية بأنها أثمن الهدايا، ثم يأتي بهذه الكلمة البدل “هدية الإيمان”. من ذا الذي يكتب مثل هذا؟ الهدية الثمينة، فعبر عنها بأنها “أثمن الهدايا”.
لقد أشرب قلبه الإيمان الذي قدمه له والده، زيادة عن الفطرة الصحيحة التي فطر الله تبارك و تعالى الناس عليها، أشرب قلبه هذا الإيمان، و من غير شك، أن هذا الإيمان ملك عليه مشاعره و حسه، فتمسك به، و نماه بدراسته و تربيته و تعلمه.
و لا نقول هذا بغير بيان، بل بالدليل؛ الإهداء وقع في المهد، يعني إهداء الوالدين لهدية الإيمان، و لكن إهداء الأستاذ لروح والديه كان بعد أن بلغ أشده واستوى، بعد أن تعلم و تثقف وبلغ من العلم درجة عالية، حيث تعلم الإسلام و الإيمان و القرآن، حتى ألف هذا الكتاب العظيم الذي سأتحدث عنه فيما بعد.. ثم رأى أن أفضل ما يجازي به والديه، و قد بلغ أشده واستوى، أن يهدي إليهما مكافأة، مثلما قدما له من قبل هدية في المعهد. أهديا له الإيمان، فأهدى لهما كتاب الإيمان.
إذن، فكتاب الظاهرة القرآنية -إن صح التعبير- هو “كتاب الإيمان الصحيح”، و قديما قالوا:” الجزاء من جنس العمل”، و قد قال النبي صلى الله عليه وسلم:” مَنْ أَهْدَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوه”، و من الغريب أن يكون في الأول إهداؤه الإيمان، و في الأخير إهداؤه كتاب الإيمان. ترى بعد هذا العمر الطويل الذي قد يتجاوز الثلاثين عاما على ما أقدر تقريبا! تُرى ما هذا التبادل؟
لقد أهدى إلي أبويّ الإيمان و أنا في المعهد، و الآن أهدي إليهما كتاب الإيمان و أنا على كرسي التدريس و التعليم، بعد أن نلت منهما مبتغاي من الدراسة و التعليم. ترى ما هذا التقابل و التكافؤ بين الإهداء الأول و الثاني؟ ما قام به الأستاذ هو دقة في الملاحظة، و عمق في التفكير… قولوا ما شئتم في هذا. وهو إن وفق إلى هذا التوفيق، كما يوفق بعض الناس إلى عمل أو قول، بغير كثير من التفكير، فهي بالطبع إشراقة سماوية وفق إليها.
ولقد أثرت هذه الملاحظة،و أطلت فيها لأنها تبين لنا حالة الرجل و تاريخه، من المعهد الذي تقبل فيه أثمن هدية من والديه و هي الإيمان، إلى اليوم الذي استطاع أن يكتب فيه هذا الكتاب، دفاعا عن الإسلام و الإيمان، و يرد فيه الفضل لأبويه. و لا يصدر هذا إلا ممن استمسك و تمكن بهذا الإيمان المهدى من والديه، ثم لم يكتف بهذا الإيمان التقليدي، هذه الهدية المهداة إليه جائزة، حتى يدرس الإسلام و الإيمان و إعجاز القرآن، و يدرس أصل النبوة و الرسالة، من حيث ابتدأت إلى حيث انتهت بخاتم الأنبياء و المرسلين.
ورغم أن الإيمان أكثر المسلمين تقليدي، إلا أن الأستاذ لم يقتنع بما قدم إليه جاهزا على طبق -وإن كان راسخا-، و أبى إلا أن يؤيده بالبحث و التنقيب و الدراسة التخليلية، وبالطريقة المنهجية، طريقة النقد و التحليل، هذا هو المنهج كما يعبر عنه.
سلك الأستاذ هذا الطريق، فألف كتابه “الظاهرة القرآنية”، ليبين فيه هو الآية الأولى و الوحيدة لصحة نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما نعلم، وكما سمعتم مرارا عن إعجاز القرآن.
قد لا يتفكر المؤمن الذي قدم له الإيمان من والدية هدية، فتقبله وعض عليه بنواجذه أنه مؤمن حقا، ولكنه أيضا لا يفكر في الآية الحقيقية الوحيدة التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم. فنحن نؤمن بأن القرآن من عند الله، وبأن الذي جاء به الرسول الله صلى الله عليه وسلم حق من عند الله، و كأننا جعلنا الأول آخرا و الآخر أولا، فآمنا بأن ما جاء به حق من عند الله، كما تدل عليه الشهادة التي ننطق بها دائما:” أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا عبده و رسوله، و أن ما جاء به حق من عند ربه، بينما النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه الوحي أول مرة، سأله قومه: ما آيتك؟ فقال: آيتي هل تراكم تستطيعون الآيتان بمثله؟ أمن الممكن أن آتي به من عند نفسي؟ أم هل يمكن لكم أن تأتوا بمثله؟
إذن فلإيمان بالنبوَّة في الحقيقة تابعٌ للإيمان بالإعجاز، و القرآن شاهد على ذلك، و لم يأت النبي صلى الله عليه وسلم بآية غير القرآن، و حجّة ذلك قوله جلا جلاله في سورة العنكبوت: [وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَات مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَماَ أَنَا نَذِيرٌ* أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ فيِ ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمَ يُؤْمٍنُونَ] (العنكبوت: 50-51) [أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ]؟ أيْ السور الأولى القصيرة التي ليست فيها أخبار غيري، و ليس فيها قصص الأمم الماضية و أخبارها، و ليس شيءٌ من التشريع و لا النظام.
إنّه و الله مُعجزٌ حقا، و لكن بلاغة القرآن و إعجازه في نَظمه، و في أسلوبه، و في سحر بيانه. و نحن نكتفي، لأن الأذواق حطت الآن العربة، و أُلزِم العربُ الحجة، و عجزوا أن يأتوا بمثله.
إنّ الموضوع الذي بحث فيه الأستاذ واسعٌ، و أشار إليه في كتاب “الظاهرة القرآنية”، و بحث في النبوة و الرسالات، و درس حتى رسالة الأنبياء من بني إسرائيل، و خاصة البعض منهم حتى يُتم المقارنة. و إن الكتاب مهم، و ربما أبخسه حقّه إذا حاولت أن ألخصه. و قد أراد الأستاذ مالك أن يفتح به طريقا لشباب المسلمين المثقفين بالثقافة الأجنبّية؛ و الذين أضلتهم الشبهات التي تلقوها عن أساتذتهم، في مدارسهم و جامعاتهم في بلاد أوروبا المختلفة، حيث مزجوا لهم الدسم بالسم.
إن الآلاف المؤلفة من الشباب المسلم في هذين القرنين الأخيرين التاسع عشر و العشرين تدخل البلاد الأوروبية لتلقي العلم عن أهلها، إنهم يتلقون كل أنواع العلوم، حتى علوم العربية و علوم الإسلام التي تدخل في الاستشراق، لأن الأوروبيين بعد نهضتهم الأخيرة اعتنوا بدراسة الشعوب الشرقية و لغاتهم و تقاليدهم، بما في ذلك الإسلام، بل إن اعتناءهم بالإسلام كان أكثر و أشد من غيره؛ درسوا القرآن و السنة، و الشخصيات الإسلامية، و طبائع المسلمين و تقاليدهم في مشارق الأرض و مغاربهم، و برزوا في ذلك.
و مما يُؤْسَفُ له أن المسلمين يأخذون ما يخصهم من علوم دينهم و لغتهم من ألسنة هؤلاء المستشرقين، و لسنا نجد لهذا مسوِغاً؛ فرغم أن المستشرقين أدوا واجبهم و قاموا بعمل عظيم، و بلغ الاستشراق أعلى الذُرى، خاصة لِما سلكوا في طرق بحثهم المسلك المعروف ب “المنهج العلمي”، بالرغم من هذا فإن هؤلاء لم يسلموا من العقد و الرواسب، التي تسكن قلوبهم من الحقد على الإسلام.
إن الإسلام منذ انبثق نوره إلى الأرض و انقبس، وهو في حروب مع خصومه. إلا أن تلك الحروب كلها مادية بالسيف تارة و بالمدفع و الرشاش تارة أخرى، و وقعت هذه الحروب في فترات زمنية مختلفة، و في أماكن متعددة، و من أشهرها الحروب الصلبية التي وقعت في الأندلس، حتى أفقدتنا فردوسنا هناك، و كذا حروب الغزو الاستعماري الأخيرة، و التي قصد بها الأوروبيون امتلاك البلاد و رقاب العباد…
هذه كُلها حروب مضت و انتقضت، لكن هنالك غزو متصل و مستمر، يُقصد به هدم روح الدين من أساسه. هاته هي الحروب المستمرة التي كثيرا ما تندسّ أو تتسرب بأساليب مختلفة في جميع العلوم؛ حيث تجد الأستاذ يُدرس اللغة و ليس العقيدة أو فلسفة اللاهوت، و لكنه يستطيع أن يبث سموما يريد بها هدم الإسلام بطريقة أو بأخرى، و سرى ذلك حتى في العلوم المادية. وهذا الأمر تفطن له المسلمون و عرفوه.
و الخطر الكبير أن هؤلاء الذين يتلقون العلوم من المستشرفين شباب ليسوا من ذوي الخبرة و التجربة. و الشباب في طبيعته غض طري، مثله كمثل الشمعة، قابل لكل صورة و لكل نقش.
و الشباب الذين يذهبون لطلب العلم في أوروبا لم يحصنوا التحصين الكافي، و المصبوغ بصبغة الله التي لا تزول، و نعني بها الصبغة الدينية الحقيقية، و فيهم الاستعداد لقبول كل ما يلقى عليهم، خاصة و أن الطالب يرى في أستاذه المثل الأعلى. إذن فما في الطالب الاستعداد للقبول، و في المدرس الاستعداد لإلقاء البذور، فقد تهيأت الأجواء لبثِ سموم الشبهات، لأن المدرس يعرف المداخل و المسارب التي تعينه على ولوج أعماق الإنسان، لينتزع منه العقيدة التي أهداها إليه أبوه و هو في المعهد -كما قال الأستاذ مالك-، فهم عفاريت في هذا الباب.
لقد أدخلوا السموم بطرق لا ينتبه إليها للأسف؛ لأن الشباب الذي تلقى عنهم كان في استعداد كبير للتلقي، و من جهة أخرى ليست لديهم الحصانة الكافية، فكأنما قلوب بعضهم اسفنجة – كما قال الإمام مالك رحمه الله -:” لا يَكن قلبك مثل الاسفنجة تشرب الشبهات”.
و القلوب اليوم في الغالب تتشرب الشبهات، من دون حصانة أو قوة تكون دافعة للشبهات التي تتعرض لها، سواء أُريد بها الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم أو في القرآن الكريم أو في الإسلام.
لقد تأثر الكثير من شباب المسلمين، فَضَلُوا و انحرفوا، و كانوا عونًا لهؤلاء الأوروبيين المستشرفين، إلا القليل النادر مثل الأستاذ مالك بن نبي، رغم أن ثقافته أجنبية فرنسية، و درس بلغة أجنبية. ومن الغريب أن الرسالة و النبوة و القرآن و إعجازه، و الفرق بين تفسيره القديم و تفسيره الجديد، هذا كله يكتب باللغة الفرنسية، ثم يترجم إلى اللغة العربية.
إذن جاء الكتاب ليدفع هاته الشبهات، و يفتح الباب للشباب المسلم حتى لا يغير بما يتلقاه في معاهد أوروبا و مدارسها، على ألسنة هؤلاء الطاعنين في الإسلام، رغم أن قلة منهم يتحلون بالنزاهة العلمية.
و قد ظهر هذا الاغترار في كثير من الشباب المسلم، الذين يتقدمون لنيل شهادة الماجستير أو الدكتوراه في جامعة من الجامعات، و الغالب أن يكون الموجهون الذين يختارون المواضيع من أساتذة الجامعات نفسها، و لذلك ظهرت بوادر هذا الانحراف و الطعن في الدين، حتى من بعض الكتاب المسلمين. هذا هو الواقع للأسف.
و سأسوق مثالين لهؤلاء المستشرقين، واحد يتعلق بالقرآن، و الثاني يتعلق بالسنة، كي نعرف قيمة ما كتبه هذا الرجل الذي أمامكم [مالك بن نبي]. وكما قلنا لا يخلو هؤلاء المستشرقون من رواسب و عقد نفسية، تدل على بغضهم الحقيقي و حقدهم الدفين ضد الإسلام، و الذي ورثوه عن آبائهم و أجدادهم. وحتى لو برز منهم ملحد يطعن في جميع الديانات، فإن جل ما اعتنوا به هدم الإسلام، أكثر من اعتنائهم بهدم بقية الديانات.
و لسنا ننكر أن فيهم بحّاثة نزهاء، كتبوا مؤلفات أنصفوا بها الإسلام، و لكنهم قلة، إذا قارنهم بأولئك المتطرفين الذين غلب عليهم حقدهم، فأظهروا خبثهم، و حاربوا الإسلام جهازا. وفيهم من سلك طرقا خفية ومناهج ملتوية، و أدخل على الإسلام شبهات كأنها ظلمات، غطى بها كل العالم الإسلامي.
أُعطي مثالا: ذكرت آنفا مثالا لغويا، و قد أشار إليه الأستاذ مالك في كتابه “الظاهرة القرآنية”، و عرفناه منه و جربناه و عشنا وقتها كل تفاصيله. هذا المستشرق العظيم في الحقيقة علامة من كبار العلماء. إنه “مارجيليوث”.
خاض هذا المستشرق في بحث لغوي، ليلقي من خلاله شبهة انتشرت و تركت أثرا كبيرا، و كان الهدف منه التشكيك في صحة الشعر الجاهلي، هذا من جهة، و من جهة أخرى أريد بهذا البحث الطعن في بلاغة اللغة العربية. وكما تعلمون فإن الشعر الجاهلي يعتبر ديوان العرب، الذي يعتمد عليه و يرجع إليه في تحقيق الألفاظ و الجمل و الأساليب في اللغة العربية.
نشر هذا البحث سنة 1925، و لو أن الفكرة بقيت منشورة في نطاقها الذي ظهرت فيه لكان خطبها أهون، و لكن تلقّفها يومئذ الأستاذ الدكتور “طه حسين”، و بنى عليها كتابة المشهور “في الشعر الجاهلي” عام21925، واتبع أستاذه “مارجيليوث” في هذا الباب. وقد ثارت فتنةٌ شعواء بسببه. لقد عشنا تلك المعركة، وعرفناها بكل تفاصيلها، و نشرنا مقالا يومئذ للتصدي لما كتبه “طه حسين”، كما ورد عليه طائفة من كبار العلماء و اللغوين في الشرق و في الغرب.
أما “مارجيليوث” فقد تصدى له بعض المستشرفين، و أشبعوه ما يستحق من النقد، وخطؤوه في كل ما قاله. ولكن “طه حسين” زلّ في هذه الباب في كتابه عن الشعر الجاهلي، و قامت عليه القيامة من طرف النقاد، وكنا نتتبع مجريات تفاصيلها في الصحف المصرية التي كانت تصلنا تباعا، و من خلال الكتب و المجلات التي نشرت يومئذ3.
إلى أن وصلنا كتاب “النقد التحليليّ” للأستاذ “محمد أحمد الغمراوي”، الذي كان دقيقا في ردّه الذي قرأناه كلّه حين صدوره. و ما زلت أذكر كلمة قالها أستاذ مصريّ عندما صدر الكتاب. قال و هو يدخل فصل التدريس في الصباح، بعد أن قرأ ما نشره الأستاذ الغمراوي: و الله “قتلُهُ… والله قتلُهُ!” قال التلاميذ: من القاتل و من المقتول؟ فقال:” الأستاذ محمد أحمد الغمراوي قتل طه حسين”. فظنّ التلاميذ أنّه يقصد بكلامه القتل المادّيّ، ولكنّه قصد القتل الأدبيّ. و كانت الحقيقة كما قال، لقد قتله.
هذه المعركة عشناها و رأينا من خلالها المكر بعينه ؛ فماذا كان يقصد بحقيقة الشعر الجاهليّ غير الطعن في البلاغة العربيَّة، وهذا حتما سيوصل إلى الطعن في القرآن و إعجازه و بلاغته، و لكن بطريقة خفيَّة مسرّبة.
و أسوق مثالا آخر عن الطعن في السنّة النبويَّة -ولا أطيل عليكم- . لقد قام مستشرق آخر هو “بروي” 4 بالطعنّ في السنة، ليسقط حُجيتها. و الغريب في الأمر أنّ هذا المستشرق روى رواية صحيحة، و لكنّه حرفها بحذف حرف واحد من إحدى الألفاظ، و بَدل أن يروي اللفظة ب “الـ” العهدية التي تفيد التعريف، حذفها و نكّر اللفظة، فانقلب المعنى رأسا على عقب. و سأذكر التفاصيل، ليتبين لكم وجه الطعن في السنة.
روى الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الحديث، احتراما للقرآن، لذلك كانوا لا يتحرجون من ذلك، و لا يحبون أن يكون هناك صحف تكتب و يحفظها الناس إلى جانب كتاب الله علا وجلا، و هذا ورعاً و احتياطاً و احتراماً للقرآن و تقديساً له. و لكن هذا لم يمنعهم رضي الله عنهم من أن يحدثوا بما سمعوه من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، مع النهي عن كتابتها، وكان جل الاعتماد على الحفظ.
وكان أول من دعا دعوة عامة لكتابة الأحاديث النبوية الخليفة الأموي “عمر بن عبد العزيز” رضي الله عنه، وهو من نِسل “عمر بن الخطاب” رضي الله عنه حيث كان جده لأمه. كتب لأمراء الأمصار و أمرهم بتدوين الأحاديث عن كل من كان له سند متصل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكان من أئمة الحديث في ذلك العهد العلامة المحدث “محمد بن مسلم” و المعروف بـ “ابن شهاب الزهري”.
وكان الزهري يتورع عن كتابة الحديث، رغم علو سنده و اتصاله. ومما يدل على ورعه و تقواه أن هشامًا بن عبد الملك – الخليفة الأموي- دعاه عنده و أمره بأن يروي الأحاديث على ولده، و أصر عليه، يريد بذلك أن يميز أبناءه على بقية أولاد المسلمين. فنزل الزهري عند طلب الخليفة، و أمْلى على ولده أربعمائة حديث في مجلس أو في عدة مجالس. ثم خرج الزهري من الدار التي كان يُمْلي فيها الأحاديث على ابن هشام بن عبد الملك، وصاح في الناس:” أيها الناس، إنا منعناكم امرا قد بدلناه اليوم الي هؤلاء . ان هؤلاء الامراء اكرهونا على كتابة لأحاديث، فتعالوا حتى أحدثكم”. ثم حدث الناس بأربعمائة حديث التي حدث بها ابن هشام بن عبد الملك.
فيا ترى على ماذا يدل هذا؟
إنه يدل على ورع ابن شهاب الزهري؛ إذ أنه لم يرد أن يجعل العلم امتيازا يخصص به أولاد الأمراء دون غيرهم. و هنا النكتة؛ فمما زعمه هذا المفترس أن عبد المالك بن مروان بنى قبة صخرة بين المقدس، و ليصرف الناس عن الحج إلى الكعبة، فقد كانت مكة و المدينة تحت ولاية عبد الله بن الزبير رضي الله عنه –أيام تمرده على الأمويين-. ثم استدعى عبد الملك ابن شهاب الزهري ليضع له أحاديث، تدعو الناس للحج إلى بيت المقدس، فوضع له حديث “لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد..”، و حديث “الصلاة في المسجد الأقصى بألف صلاة فيما سواه”.
و قد تصدى لهذه الافتراءات جمعٌ من المؤرخين، معتمدين روايات ثابتة ساقها ابن خلدون و ابن عساكر، من أن الذي بنى قُبة الصخرة هو الوليد بن عبد الملك و ليس عبد الملك، و أن اتصال ابن شهاب الزهري بعبد الملك إنما كان بعد مقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، و زوال ولايته على الحَرمين. هذا من جهة، و من جهة أخرى، فإن هذا الفعل لو صدر حقيقة من عبد الملك ابن مروان فان من الكفر الصريح ، ما لا بمكن أن يسكت عنه علماء الإسلام في ذلك العصر، و لم نجد أحدا من أهل العلم ذكر ذلك من جملة المطاعن و المآخذ على بني أُمية، بل و لا من خصوصهم _وهو العباسيون_ الذين كانوا لهم بالمرصاد.
واعتمد هذا المستشرق في زعمه على أن معمرًا روى عن الزهري أنه قال:” إن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة أحاديث”، و أسقط “ألـ” التعريفية من كلمة “أحاديث”. و أصل الرواية: “إن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة الأحاديث”. لقد حرف هذا الحاقد الرواية، و بنى على هذا القصور. و لم يكتف بهذا، بل ساق عبارات مختلفة تدعم الشبهة التي جاء لها، وكان قصده من وراء ذلك التشكيك في رواية الزهري… و إذا كان الزهري يضع الحديث فعلى الدنيا العفاء.
هذه السموم التي يبثها هؤلاء هي التي أفسدت قلوب المسلمين، و غمرتهم، حتى لم يعودوا يهتدون السبيل. يقول الله تبارك و تعالى:[الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُلُمَاتِ إِلَى النورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاِؤُهُمْ الطاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النورِ إِلَى الظلُمَاتِ] (البقرة: 257). هؤلاء يحاولون إخراجنا من النور إلى الظلمات، ظلمات الحيرة و الشك… و لا ظلمة أكثر من الشك و الريبة و الحيرة، التي لا يجد فيها الإنسان مستقرا في قلبه، و لا طمأنينة، و لا سكونا في نفسه.
و العالم أكثره اليوم يعيش هذه الفترة في الظلمات، و قد وصفها الله تعالى بقوله:[أَوْ كَظُلُمَاتِ فِي بَحْرٍ لُجِّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنَ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا مِنْ نُورِ] (النور: 40). و يقصد بالظلمات في هذه الآية الشبه و الحيرة، و الدليل على هذا الآية التي سبقت : [وَاللّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابِ بِقيعَةٍ يَحْسَبُها لظمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِنْدَهُ فَوَفَاّهُ حِسَابُهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ] (النور :39).
و ليس المراد هنا بـ”الأعمال” الأعمال اليدوية كالشكر و الفسق و غيرهما… ربما المراد بها قسم من الناس يرجون من أعمالهم نتيجة، و لكنهم يجدونها كالسْرَاب، و يقول بعد ذلك: [أَوْ كَظُلُمَاتِ فِي بَحْرٍ لُجّيّ]، يقصد بها أعمالهم و أفكارهم و عقائدهم و سمومهم التي يزرعونها في الناس، و الحيرة التي هم واقعون فيها.
ونحن اليوم في هذه الظلمات بحاجة إلى علماء مؤمنين حقا، أهدى إليهم آبائهم الإيمان في المهد، ثم نمّوه و قووّه، و غذَّوه بدراستهم و تعليمهم، ثم ألفوا كتبا، ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور.
هذه هو عمل الأستاذ مالك، ولست اُكبره أمامه، بل هو الحق. و أنا معجب بالكتاب إلى أقصى حدٍّ، و إعجابي بالموضوع في الحقيقة كبير و كبير، و كل من قرأه يعرف الجهود و المشاق التي بذلت في سبيله، و يحس بها، رغم أنكم ترون الكتاب صغيرا في حجمه.
نحن محتاجون اليوم إلى مثل هذا الصوت من العلماء الذين لهم جذور في العِلم، و في الليلة الظلماء يفتقد البدر كما يقال. و نحن في ظلمات بعضها فوق بعض، و نفتقر أشد الافتقار إلى من يجلو هذه الظلمة عنّا، فيخرجنا إلى النور بإذن الله.
و قد لا نحس نحن بهذا، نحن الذين سبق الإيمان إلى قلوبنا، و تمكن و تمسك، رغم أن 98% أو 99% أو حتى 99.9% من عامة المسلمين يؤمنون إيمانا تقليديا، إيمان العجائز. و لكن هذا الإيمان ليس ضعيفا، إنه إيمان قوي متين، مادام الإنسان متمسكا به، عاضا عليه بالنواجذ، لا يزلزله في قلبه و لا يزيله عنه أو يزيحه شيء ما. نحن قانعون بأنّ هذا الإيمان سبق في قلوبنا إيمان العلماء، ولكنّ المصيبة في الأجيال التي تتلقى مثل هذه الشبهات، و تَتَشرَّبُها قلُوبهم، و تتسرب إليهم، ثم يكونون غدًا قادة العالم الإسلامي أو رؤساء روحيّين و دينيّين، و رؤساء دنيويين زمانيّين.
قد لا نشعر نحن بهذه المصيبة، لأننا قد نكون بعيدين نوعا ما عنها، فنقول: مالنا و لهذا؟
نحن في نعمة من اليقين بالله، و نحمد الله أن سبق الإيمان إلى قبولنا – رغم أنّ البعض يقول إنّه إيمانّ مقلَّد ضعيفٌ -. و هذا الكلام صحيح، إذا كان يمكن زلزلة هذا الإيمان أو زعزعته، أما و نحن مستمسكون به، فلو جاء أهل السموات و الأرض بكل شُبهة ليردّوا المؤمن عن إيمانه، فإنه يقول لهم: لا، و يبقى متمسكا بإيمانه بالله و أنه واحد لا شريك له، و أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسوله، و أن القرآن حق من عنده، و يؤمن بالبعث وما بعده إيمانا صحيحا.
وقد قال صحابي للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إننا نجد في أنفسنا أشياء، لو يَخرُّ أحدنا من السماء فتخطفُهُ الطير أو… خيرٌ من أن يلقي… فقال النبي صلى الله عليه وسلم :”ذلك صريح الإيمان”. قال له هذه لأن في نفوس الصحابة حصانة تدفع عنهم هذه الشبّه.
ولكن هل نكتفي و نهمل الشباب المسلم في كل جهة من العالم؟ إنّ القَدَر جاء بالأستاذ مالك، و هداه ليكتب و يسجِّل، و يدعو إلى الحقّ.
أخيرا أقول: إنّ المقام يقتضي أكثر من هذا للتّعريف بالأستاذ مالك، ونحن نُقدِّس الإيمان و العلم و ماذا ينفع العلم الغزير مع فقد الإيمان؟ ليت الله يجمع بينهما: العلم و الإيمان، هذا هو الكمال. و إن كان و لا بدّ من أحدهما فلإيمان أولى، فهو رأس المال، رغم أن البعض يرفض ذلك. و لكن مهما تقدم العلم، ومهما حاول الناس أن يخضعوا الدين و الأمور الغيّْبة لفهمهم التحليليّ و لمناهجهم التجريبية، فلن يستطيعوا الوصول إلى الغيب، و لن يستطيعوا العمل البشري مهما بلغ أن [ يدركه] و إذا كان هناك شيء يجب على الإنسان الإيمان به، من غير أن يفهمه فهو “الغيب”. ألم يقل الله تعالى في أوّل البقرة [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيِهِ هُدَى للْمُتَّقِينَ- الَّذِين يُؤْمِنُونُ بِالْغَيْبِ] (البقرة: 2-3). فهل بعد هذا يمكن للإنسان أن يُخضِع الغيب للقانون التجريبيّ و المنهج التحليليّ، الذي أخضع له المادة؟ لا، ذلك ما اختصّ به الله تبارك و تعالى، عالم الغيب و الشهادة.
لقد أخذت من وقتكم الكثير، و أستسمحكم عذرا في ذلك، و أحيل الكلمة الآن للأستاذ مالك، و الحمد لله ربِّ العالمين

كلمة مالك بن نبي
شَكَرَ الله لكُم
بسم الله الرحمن الرحيم: و الصلاة و السلام على خير المرسلين. إخواني الأعزاء، أبنائي الكرام، إنني عاجز عن شكر العبارات الجميلة التي استمتعت إليها ترحابا منكم، و لا أستطيع أن أصوّر لكم المأخذ الذي أخذَتْه من نفسي هاته العبارات التي تستقبلون بها إخوانكم الزائرين بعد هذا.
في الحقيقة قد وصلت إلى هذه المنصّة و ليس في ذهني موضوع محدّد لحديثي معكم، ولكن في الخطوات الاخيرة التي كانت لي في صحبة فضيلة الشيخ بيوض، و هو يحدّثني عن معهدكم هذا قبل دخولنا. عندكم، كان يقول لي جزاه الله خيرا :” إننا أردنا أن يكون هذا المعهد بجانب المسجد”. و قد أهمتني هذه الملاحظة من طرف فضيلته، و بدأت تلفت ذهني في اتجاه معين للحديث معكم، أي لتحديد موضوع الحديث معكم.
ثم دخلت هنا، و استمعت مثلكم لما كنتم تستمعون إليه. وهنا أودّ أن أؤدِّي واجب الشكر لفضيلة الشيخ أوّلاً على الأمور الأخويّة التي ذكرها من أجلي، و كان موضوع حديثه أكثر فائدة و أعمّ بكثير. و فيما يخصني أفادني بشيء، فتحدد في ذهني أكثر فأكثر موضوع الحديث معكم، ألا و هو :الدين.
الإنسان هو سيّد التاريخ، سواء كنّا نحن معشر المسلمين نراجع تاريخنا الخاصّ كمسلمين، أو كنّا نحن معشر الآدمّيين نراجع تاريخ بني آدم في شتّى مراحله، منذ بدايته؛ حيث نرى أنّ الإنسان هو سيّد التاريخ، و ما شيّده و ما صنعه في العقود و العهود المزدهرة بإنتاجه العبقريّ، أو في حالات الإشراق التي كان يمرُّ بها في الظروف التي تشرق فيها أضواء الحضارات.
نرى أنّ هذه المجهودات و الابتكارات و الأفكار العالية التي تتمثّل في إنتاج صناعيّ أو إنتاج فكريٍّ معيّن، أو في تكوين مذهب دينيّ أو فلسفيّ منهجيّ في التاريخ، هذا كلّه في الحقيقة يَنْصَبُّ عند نهاية التحليل في مجال التاريخ الإنساني، و لكن منبعه الوحيد –إذا ذهبنا إلى المراجعين للتّاريخ في عصوره المختلفة –هو “الدين”5 .
و الدين بمعناه العامّ ذلك الدافع الذي يجعل الإنسان يسيطر على كل شهواته، و كلّ ما قد يكون دافعا له إلى التنازل عن غايات قد أقرَّها له ضميره وواجبه. و نرى أنّ هذا الدافع كان دائما حاضرا في مختلف الحقب التاريخيّة، سواء عندنا نحن المسلمين أو عند الآخرين. وهو أيضا الوازع الدينيّ بالمعنى العامّ، أو لنقتبس الكلمة المستحدثة “الوازع العقائديّ”، لأّنني لا أرى ازدهار المجتمع الملحد في ميادين العلم اليوم من الصناعة، و السيطرة على قوانين المادّة، و الصعود إلى الفضاء إلى ما وراء الجوّ، و ربّما قريبا ما يكون نزولا في أقرب الكواكب منّا، لا أعتقد أنّ هذه الأعمال تصدر من مجتمع ملحد، يقول: لا أشهد أنّ هناك حقّ.
رغم هذه، نرى نحن عند دراسة أعماله، و تحليل جزئيّاتها، من حيث اعتبارها ناتجة من نفسه، قبل أن تنبع من علمه، عندما نراجع هذه الأعمال في ضوء انبثاقها من نفسه، نرى أنّها صادرة عن إيمانه العميق الغريب الشديد المتعمِّق، الذي يدفعه إلى التضحية الجسمية، و يدفعه إلى الاقتحامات في ميادين العلم، و يدفعه أحيانا إلى الذهاب مثلا إلى الاستشهاد في الميدان، مثل غزو الفضاء مثل “يوري غاغارين”.
هذا كُلُّه ناتج في أصله عن قوّة تجعل الإنسان في تلك اللّحظات، و في تلك الظروف يواجه تحدّيات ما، ونرى الأعمال إذ ذاك صادرة عن حالات نفسيَّة معيّنة، تجعلنا نراها ممتازة و تتّصف بالصفة الدينيّة، مثل المجتمع الإسلاميّ أو المسيحيّ.
إنّنا عندما نراجع تاريخنا الإسلاميَّ، و نرى كيف خرجت الحضارة الإسلامية من لا شيء، من العدم، و الحقيقة أنّ هذا التعبير غير حقيقيّ؛ لأنّها لم تخرج من العدم، بل خرجت من معجزة القرآن التي أشار إليها فضيلة الشيخ ، و خرجت من النفس المسلمة الجديدة، من هذه البوتقة التي كوّنت الإنسان المسلم الجديد، الإنسان المسلم المطبوع بالطابع القرآنيّ.
إذن القضيَّة دائما في أيِّ مجتمع، سواء في ظروف نجاحه، أو في ظروف انحرافه و خيبته و فشله هي في أعماقها تتَّصل بقضيَّة دينيَّة.
وقد يتساءل أيّ شخص: كيف يُصيب في الدنيا من اخطأ في دين أو في عقيدة لا صلة لها بالآخرة؟ و يخطئ في الدنيا من أتته حقيقة من السماء، مُنزلة على خاتم الرسل، و منزلة أيضا على سلسلة معيّنة من الأنبياء عن عهد سيِّدِنا إبراهيم عليهم جميعا أفضل الصلاة و السلام كيف يخطئ؟
و هنا جوهر التساؤل: هذا الذي أتته الحقيقة المنزلة في دُنياه، و نراه اليوم في ظروف يعبَّر عنها بمصطلح معيّن كـ”التخَلُّف”، بينما نرى مَنْ عقيدته أضعف من خيط العنكبوت، مَنْ حقيقة دينه ليست منبثقة من عقيدته، [نراه أقوى حضاريَّا]. ربّما كانت عقيدته قويّة، أمّا الحقيقة التي يتمسك بها، و يعتقد أنّها هي الحقيقة التي ينقاد إليها بكلّ محتواه النفسيّ روحه و عقه و قلبه و جسمه فهي واهنة.
إنّنا نرى أثر الحقيقة التي نزلت إلينا من السماء حتى في صور بسيطة، وقد أكّد الأستاذ أنّ هذه الصور ذات قيمة لا يستهزئ بها؛ لأنّه مهما كان عليها من غلاف و غشاوة ناتجين من بساطة الذي يحملها، فهناك جوهرها المكنون، يتساوى في ذلك الساعي و الراعي و العامل البسيط و العجوز المسلمة. إنّه جوهر الحقيقة الإسلامية و بالبحث و التحليل نخلص إلى أنّ الحقيقة التي نزلت من السماء هي نفسها الحقيقة التي كان يستنير بها عمر و أمثال عمر رضي الله عنه، و لكن مرَّ الدهر، و تغيرت الظروف، فصار على هاته الحقيقة المنزلة من السماء غلافٌ و غشاوةٌ، و أشياء جرفها التاريخ، كما يحدث أحيانا لبعض الجواهر و الأحجار الكريمة، مثل حجر الماس، يظنُّه الناس حجرا عاديّ[وهو غير ذلك].
ولكن تساؤلنا هو: لماذا من نزلت إليه الحقيقة من السماء قد يكون في الأرض فاشلا، ومن لم تنزل إليه حقيقة من السماء قد يكون ناجحاً في الأرض؟
هنا يجب أن نقف عند جوهر الحقيقة، نقف موقف اعتبار عند كلمة “حقيقة”:
هل الحقيقة ذات جانب واحد نظريّ مجرَّد،ـ فهي حقيقة مطلقة؟ يعني يمتدّ إشعاعها من الأخرى 6 إلى الدنيا، أم أن هناك جوانب في الحقيقة تتعلّق بالدين، و غالبا بالحقيقة الأخرى، حتّى فيما يتعلّق ببعض الحقائق العلمية؟ يجب أن ننتبه إلى أنّ في المسألة جانبين: جانب صحّتها، و جانب صلاحيتها7. جانب الصحّة هو الذي يتعلَّق بسؤالنا هل هاته الحقيقة صحيحة أم غير صحيحة من الناحية النظريَّة؟ فمثلا اثنان و اثنان أربعة، هذه حقيقة مطلقة صحيحة، يؤكِّدها النظر المجرّد، و تؤكِّدها قواعد الحساب، فلذلك هي صحيحة.
يبقى الجانب الآخر: ماذا نستطيع أن نعمل نحن في ظروف تطبيق هذه الحقيقة و العمل بعد أن تأكّدت عندنا صحّتها من الجانب النظريّ؟
للأسف هنا تتداخل ميزات الحقيقة مع ميزات المطبّق لها، وهنا يبتدئ شيءٌ جديدٌ، هو أنّ الحقيقة تُضفى عليها ميزات جديدةٌ ليست من جوهرها ، وليست من مكنونها ، بل هي نابعة من ذات الذي يعمل بها ويطبقها ، بحيث نجد احيانا ذاك الذي بيده الحقيقة يعبث بها ، والذي بيده الخطأ يصيب به ، او يصيب بعض الاصابة ، فينجح على الاقل في الدنيا .
فلا تبهرنا سيطرة المذهب المسمى بالمذهب المادي على المادة ، وارتفاعهم في السماوات بوصولهم الى الكواكب الاخرى ، حيث ان مذهبهم قائم على نكران الخالق ، كل هذا لا يبهرنا ، لأننا اذا قابلنا امرهم بأمرنا ، ومستواهم بمستوانا ، واعمالهم بأعمالنا في الدنيا نجد اننا لسنا معهم في مرحلة تاريخية واحدة ، نحن في مرحلة تاريخية يجب ان نعرفها .
إنَّ من يسيطر اليوم على الحياة المادَّية قد يبهرنا، و يبهر شبابنا و يغزوه بعلومه و إنجازاته العلميَّة و الصناعيةَّ و السياسيَّة. و هنا يجب أن نتحفَّظ كثيرا في أوجه المقارنة، فهذا بابٌ من أبواب الخطأ، يُفتَح في وجه شبابنا.
كان فضيلة الشيخ يلفت نظرنا إلى دور المستشرفين، و كيف يبثُّون السموم في عقول من يتتلمذون لديهم، و الذي زاد الطين بلّة أن صار تلامذتهم اليوم مَنارات سوء و إضرار و تغليط في بلادنا، و لا حاجة إلى أن أذكر اسم المستشرق الذي أعينه و أشرت إليه في مقدّمتي.
نشرت مؤخّرا في الجزائر كتاب “إنتاج المستشرفين و أثره في الفكر الإسلامي المعاصر”، و أشرت فيه إلى مستشرق، و لا بأس أن أذكر اسمه “مكسيم رودنسون”.
“عبد الله العلويّ” الذي ألّف كتابا قيّما في حجمه، و محتوياته، و دقة دراسته –إذا اعتبرنا من الناحية الشكليَّة-. و بني هذا الكتاب على أساس القاعدة المنطقيَّة الأولى في علم المنطق، و التي تتضمن ثلاثة أجزاء: مقدّمة أولى و مقدّمة ثانية، ثمّ نتيجة لازمة من هاتين المقدّمتين، ليغالط بها الشابّ المسلم الذي سيقرأ الكتاب.
و المثير في الأمر أنّ هذا الأستاذ “رودنسن” لم يكتب هذا الكتاب، بل كلّف بذلك مسلما، حتّى يكون غبارا على عيون المسلمين؛ فإذا قال قائل: من صاحب الكتاب؟ كان جوابا يسيرا: هو من الكتّاب المسلمين، كما فعل “طه حسين” الذي يعتبر من أساتذة المسلمين. وهذا الكتاب قائم على المقدمات الآتية:
 المسلم يعتقد أنّ دينه أشمل الأديان.
 المسلم يرى أنّ مجتمعه مختلِّف.
أراد أن يربط ذهن القارئ بهذا الأسلوب المنطقّي، و أراد أن يجرّه ضمنا إلى نتيجة محتّمة، فإذا قرأتُ الجملة الأولى :”أنا أي المسلم أعتقد أنّ الإسلام أشمل الأديان”، ثمّ قرأت الجملة الثّانية :” أَرى المجتمع الإسلاميّ أحطّ المجتمعات” مثلا، فمُحتّم عليّ أن أستنتج شيئا، وحتى إذا سكتُّ على هذا فعقلي لا يهدأ. هذه هي الدقة في الخُبث، و هذه هي الدقة الشيطانيَّة في التغليف و المغالطات.
و لهذا يجب علينا أن نتحفّظ في أوجه المقارنات؛ لأنّه ضمنيّا ماذا سأقول و أنا أرى أنّ المجتمع الماركسي المتقدِّم أو المجتمع الغربيّ المتقدم؟ أقول: لماذا أنا في سنة 1968 متخلّف؟ و الملحد “يوري غاغارين” متقدّم و يصعد إلى السماء؟
علينا التحرِّي أثناء المقارنة، فهذا خطأ من ناحية التاريخ؛ لأنّه لا يصحُّ أن يقابل شيء إلّا بمثله، و لا تقابله الأشياء التي ليست من مثله، فهذا مخالف لقواعد المنطق. و كأنَّك تقابل جسما حيَّا بجسم ميّت، أو جسما سليما بجسم مشلول، و الجسم المشلول يستحيل أن يؤدِّي وظيفة الجسم السليم.
نحن في غنى عن مثل هذه الدراسة؛ لأنّنا نعرفها، و لكن علينا التحرّي من مثل هذه المشكلات، حتّى بالنسبة لأنفسنا، كي نتفهّم قضيّتنا بوريَّة و إمعان و تبصُّر.
إنَّنا إذا حدَّدنا مراحل الإنسان في التاريخ، و بمصطلح خاصِّ سنتَّفق عليه فيما بعد، نجد ثلاث مراحل:
 مرحلة ما قبل الحضارة.
 مرحلة الحضارة.
 مرحلة ما بعد الحضارة.
هذه المراحل الثلاثة يوجد فيها البشر اليوم، أعتقد أنَّ هناك ثلاثة ملايير من البشر تقريبا، و من غير الممكن أن لا يُوجد في فرد من العالم إحدى هاته المراحل الثّلاثة، لا بدّ أنّه في إحدى هاته المراحل مثلا في أوروبا في مرحلة الحضارة، و غالب شعوب إفريقيا الوسطى في مرحلة ما قبل الحضارة، فيا ترى أين نحن؟
نحن في شوط يجعلنا في مخطّط تاريخيٍّ، فنقول إنّنا في مرحلة ما بعد الحضارة. إذن تجري علينا أحكام خاصَّة، و لا يمكن و لا يسوغ علينا المنطق العلميُّ، سواء منطق ’’ماكسيم رودنسون‘‘ أو ’’عبد الله العلوي‘‘، و لا يمكن أن يُقارَن إنسان ما بعد الحضارة بإنسان الحضارة، فالوظيفة و الاستطاعات و الإمكانيات ليست واحدة، و لا يمكن أيضا أن نقارن بينهما رغم وجود وجوه تشابه بينهما، سيكون حينئذ خطأ كبيرا من الوجه العلميَّة و التطبيقيَّة أيضا.
هذا و إنَّنا قد نعمل عمليَّة صهر للإنسان من النوعين: نوع ’’ما بعد الحضارة‘‘ و نوع ’’ما قبل الحضارة‘‘ في ’’دورة حضارة‘‘.
فهل يا ترى يمكن ان ينصهر انسان ’’ما بعد الحضارة‘‘ في الحضارة ويعود اليها ؟ او انسان ’’ما قبل الحضارة‘‘ ؟؟
والله غالبا ما يُقدِّر الإنسان في النظرة الأولى أنَّ إنسان ’’ما بعد الحضارة‘‘ قد يعود إلى ’’الحضارة ‘‘ بسهولة، و لكنّ الحقيقة تخالف هذا كثيرًا؛ إنَّه لمن الصعب جدَّا أن تعيد إنسانا خرج من الحضارة إلى الحضارة، بينما من المتيسر صهر إنسان ’’ما قبل الحضارة‘‘ في بوتقة الحضارة. لماذا؟
إنَّ الذي خرج من الحضارة من الصعب إعادته إليها؛ لأنَّه حمل معه أسباب خروجه، أي كلَّ الرواسب التي حلّت حضارته، فهو في هذه الحالة السيِّئة يشبه الثريّ الذي صار فقيرا، و حمل معه كلَّ أسباب إفلاسه؛ بينما الفقير بسيط، ينتظر فقط ساعته و حظه إذا أتى، لعلّه يصيب.
إذا نحن نتكلّم عن ذلك الرجل المتمسّك بالعقيدة، و التي تبقى في معناها حقيقة مطلقة، و يقول صاحبها بأنّه لا يَدِينُ بشيء، بينما أنا متمسِّك بدين أنزله الله تعالى على خير رسله [لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ] (النساء: 166) الذي لا يشوبه شيء.
لمَّا وقف الفيلسوف الإنجليزي ” كارلايل ” 8 أمام هذا المنظر القرآنِّي الهائل، رأى في صورته التاريخيَّة صورة حضارة إسلامية بارزة في أمجادها، لمَّا كانت ترفرف في هذا العالم، ثمّ رآه في آياته و في حياة هذا الرسول، الرجل البسيط، هذا الرجل الأمّي صلى الله عليه وسلم الذي تتجلّى فيه هاته الحقائق. و هذا هو الترجمة الحرفيَّة لما يسمُّونه ’’فكرًا حرًّا‘‘ ماذا قال في حكمه عن القرآن؟
قال: “هذا الصدى صعد عن أعماق الطبيعة ذاتها.”9
وهذا في الحقيقة يعني أنّ إحساسا غريبا هزّه هزَّا، إنّه اعتراف من إنسان لا يُنتَظَر منه هذا؛ لأنَّه لا يؤمن و لا يدين بدين. إذن نحن لم نذكر في المقارنات أنَّنا لا نملك الصواريخ و غيرها… هذا لأسباب تاريخية اجتماعيَّة معيَّنة، و ليس هذا مجال حديثنا، و لا ينبغي أن نقارن أنفسنا بالمرحلة التي نحن فيها، و إنَّما الشيء الواجب علينا قوله هو: كيف خرجنا من الحضارة ؟
ما هي الأسباب التي حلّت بمجتمعنا حتّى وضعته في قالب يرثى له، و صار يُشاَر إليه بالبَنان، و يُقال إنّه مجتمعٌ متخلّف في نظر “العلويّ” و “رودنسون” و نظري أنا أيضا و نظركم أنتم؟
هذا بحكم واقع الحال و الحقيقة.
إذن نحن لا نربط الفكرة الذهنيَّة بسلوك المتدِّين، فالدين شيء و المتديِّن شيءٌ آخر؛ فإذا فرّط المتديِّن في دينه فحُكمُنا خاصٌّ بالمتديّْن، أو إذا رفعنا القضيَّة إلى مستوى المنطق، نقول حقيقة لا يضرّها من أخطأ فيها: إذا قال الإنسان اثنان و اثنان ثلاثة و نصف و لم يقل أربعة، ففي الحقيقة أضرَّ بنفسه، و لا نعتبر أنّ عمله شهادة على الحقيقة.
طبعا يؤسفنا أن يستغلّ غيرنا هذا الخطأ، مثل الخطأ الذي قاله السيِّد “العلوي”: إنّ المسلم يقول إنّ الإسلام هو أسمى الأديان، المجتمع الإسلاميَّ أحطُّ المجتمعات، ثمَّ يتركنا في هذه الحال، نكمل الطريق وحدنا إلى الهاوية، بل لنقل إنه دفعنا فعلا إلى الهاوية.
إذن نحن نميّز جانبين في الحقيقة:
 جانب الصحّة.
 وجانب الصلاحيّة.
فالصحة منوطةٌ بجوهر الحقيقة، فإمّا أنّها حقيقة أو ليست حقيقة، هذه مسألة أخرى.
أمّا الصلاحية فمنوطةٌ بالإنسان العامل بهذه الحقيقة؛ فإذا عمل بها نجح، و أحيانا يعمل بنصف الحقيقة و ينجح، و أحيانا يعبث بحقيقة كاملة فلا ينجح طبعاً. وهذه المشاهدات اليوميَّة، فنحن لا نزهد في جانب من الجانبين، حتّى في صحّة الإسلام الذي يهمُّنا كقضيّة نظريَّة طبعا.
فالحقيقة ليست لتزويد أنفسنا بالإيمان، لأنّنا و الحمد لله تلقيناه من آبائنا، و هذا من فضل الله علينا، تلقيناه مجَّانا و لا ندفع عليه ضريبة، و لكن علينا تحصين أنفسنا من ذبذبة المذبذِبين، و من تشريد المشرِّدين للعقول و النفوس و الأرواح، فلا بأس أن ندرس صحَّة الحقيقة الإسلاميَّة.
و مرّة أخرى أشكر فضيلة الشيخ لمَّا ألمح إلى كتاب “الظاهرة القرآنيَّة”؛ كان موضوعا أساسا لدراسة هذا الجانب؛ أي صحّة الدين :هل القرآن صحيحٌ؟ هل هو مُنزل من عند الله؟ و ليس لصلاحيَّة الدين، لا. و ليس هذا المجال للكلام في هذا الموضوع، و إنّما نلخِّصه، لأّنِي أرى و الحمد لله هذا الشباب المتشبِّع بالعلم، و سيكون في قيادة هاته الأمّة القيادة العلميَّة، بل القيادة الروحيَّة قبل كلّ شيء، و القيادة الإخلاصيةَّ. فلا بأس أن نلخِّص هذا في جملتين:
ما هو المنهج الذي اتّبعتُهُ في هذا الكتاب، ليبيِّن بقدر الإمكان صحّة القرآن و صحّة الإسلام، من جانب صحّة الحقيقة؟
القرآن أتى و نزل على رسول من أنفسكم، بشرٌ معروفٌ باسمه و باسم والديه، و لم يأتِ من الفضاء. يأكل و يمشي في الأسواق. هذا الرجل الذي عرفه مجتمعه صبيَّا طفلاً، مثل الأطفال الذين رأيناهم هناك في المدرسة. كان يُلفت النظر لاستقامة أخلاقه و سلوكه و هدوئه. حتّى إذا بلغ عنفوان الشباب، سُمِّي “الأمين”، و استحق هذا الاسم شهادةً من أهل عصره و بيئته عليه فقط ولم يدّعِ أنّه نبيٌّ، و لا يمكن أن يقول هذا أحد .
فإذا به في يوم من الأيّام، في نهاية عقد عمره الرابع، يأتي عشيرته و يقول :إنِّي أتيتُكُم رسولا من عند الله هو مجرّد إنسان، يجب أن نتصوّر الصدمة النفسيَّة التي يُحدِثُها مثل هذا التصريح. مثلا تصوّروا أن يأتي إنسانٌ، و يدّعي أنّه كان عند ’’الملكة إليزابيث‘‘، لا بدّ أنّه يهزأ بنا.
فكان هناك من اهتدى بهداية الله، و كان هناك من تجبَّر، و ذهب بتجبُّرِهِ تجاه أبي لهب. و ممّن اهتدى مثل عكرمة بن أبي جهل؛ فبعد هروبه من الجزيرة العربيَّة، أراد أن يذهب إلى الحبشة، فرجع و فكّر، ثمّ صار من أبطال الإسلام.
في ذلك العصر، قد يكون ظهور النبي أمرا غريبا في نظر الناس أنفسهم، بسبب معايشتهم له و معايشته لهم، ممّا ييسِّر فهم هذه الصدمة، و التغُّلب عليها. و لكن تعاقبت الأجيال، و اتّسعت الحقبة بين زمان البعث و الجيل الحاضر من المسلمين، و بالأخصِّ من ليس له صلةٌ أو عرقٌ بالإسلام؛ لأنّ القرآن لم يأتِ للعرب أو الجزائريّيِن أو المراكشيّيِن فقط، بل للبشر قاطبةً. إذن فالصدمة مفعولها شديد، و يجب أن نتصوّرها ليس فقط بالنسبة للعرب أو بالنسبة لجيلنا اليوم، بل الآخرين مثل ’’كارليل‘‘.
تصوّروا أن يأتي شاهدٌ، فيقول: رأيت أو فعلت… من هو هذا الشاهد؟ لأنّه في مستوانا البشري البسيط نحكم على الظاهرة التي تجلّت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في غار حراء من خلال شاهد، و في حال النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان هو الشاهد الوحيد عليها. وطبعا نحن سندركها من خلال شهادته و سلوكه و عمله. هذه المرحلة الأولى في تقديري الأوّل، و الحكم على الشاهد معروفٌ، وبما أنّ الأمر عظيمٌ، فعلينا أن نتحرّى كثيرا، من حيث سلامةُ عقله أوّلاً، و سلوكه وأخلاقه، حتّى لا نقع في شهادة كاذب، يريد بنا كيدًا. وعندما نُتِمّ هذا الجانب بالدراسة التي تفي به بقدر الإمكان، في نهاية دراسة الشاهد، نُقرُّ له بالاستقامة، و أنّه فاضلٌ كريمٌ، لا يتعمّد الشرّ و لا الكذب أبدًا.
و قد يخطئ الإنسان الكامل من الناحية الأخلاقيَّة، و قد يخطئ في شهادته عن حسن نيَّة، و عليه، يجب التحقُّق من الجانب العقليِّ للشَّاهد، حتّى نتجنَّب أيضا الأخطاء المنطقيَّة و العقليَّة، فربّما كان هذا الشاهد مستقيما، و لكن له ميولٌ نفسيٌّ أو استعداداتٌ نفسيَّة، تجعله يعتقد أنّه يرى كذا أو يسمع كذا.
مثلا الجانب الأوّل كيف نستشهد عليه؟
طبعا هناك حججٌ كثيرةٌ، و مثال إحداها أنّه لمَّا مات أحد أبنائه، و هو ’’إبراهيم‘‘، و عند وضعه في القبر، قال الّاس: يا تُرى هذه الطبيعة تحزن على فقدان ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال لهم :”إنَّ الشمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَياَتِهِ”. هنا يتبيّن أنّ هذا الإنسان لم يأتِ ليبيع بضاعة، و لو كان كذلك لاستغلَّ هذه الحالة.
نأتي الآن من الجوانب الأخرى لهذا النبيِّ: الجانب العقليُّ مثلاَ، يعني شخصيَّة هذا النبي، فقد أدهشت العلماء الكبار، و لهذا اضطرَّ الكثير من مترجمي القرآن في أوروبا أن يكتبوا اسم “مُحمَّد” من الأسفل، فكانوا يكتبون “قرآن مُحمَّد”. طبعا لأنّه أبهرهم بعبقريته نعم عبقريَّة عملاقةٌ، و كلَّما ندرسه من إبراهيم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم تتمثل فيه الإنسانية العقليَّة و الأخلاقيَّة في أجمل و أكمل صورها؛ لأنّه صُنِع من قِبل خبير عظيم هو الله، و أراد به خيرا للإنسانيَّة.
ولو لم نتَصوَّر فيه فضيلة الإنسانيَّة في اعلى نسبتها او سموها فلا يمكن ان يؤدي لهذه الانسانية الخدمات التي تُنْتظر منه. و التبليغ لا يكون إلَّا عن شروط ، تخصُّ قيمة الشيء المبلِّغ به، و المبلِّغ لا بدّ أن يكون مختارا في كلِّ أجزائه و كلِّ جوانبه.
طيِّب، إذن بعد أن صحَّ عندنا أنّه مستقيمٌ، و أنّه لا يتعمّد أبدا شهادة الزور، فهذا صحَّحناه في المرّة الأولى، و أنّه عاقل، وأنّ نسبة خطئِه قليلة جدَّا؛ لأنّ شحنة العقل التي فيه شحنةٌ كبيرةٌ. هل يكفي هذا؟ نقول: لا؛ لأنَّ الأمر عظيمٌ، و ليس بحكم هيِّن، كأنّنا نحكم في شاةٍ ضاعت، و يأتي شاهد و…و… هذا لا يستلزم منّا وقتا طويلا. لكن هذا إنسانٌ قال: أتيتُكُم بدِينٍ من عند الله… هذه ليست مسألةً هيِّنةً… هذا دينٌ، و علينا ان نتحرّى أكثر.
و الآن، هذه الشهادة نفسها ماذا تحمل؟ ما هو محتواها؟
إذا وجدتُّ أنّ محتوى الشهادة يُوجِدُ بينه و بين شخصيَّة هذا الشاهد صلةً سببيَّة، و الله ينتابني الشكّ، فأقول: هذا إنسانٌ صادقٌ، وقد فاته شيء؛ لأنّه بشرٌ، و هذا الأمر من عنده، و هو يعتقد أنّه من الغيبيَّات.
طبعا إذا وجدتُّ صلةً سببيَّة بين شخصية النبي صلى الله عليه وسلم و بين مُدِّعاه أشكّ.
كيف نعبِّر عن هذه الصلة السببيَّة؟
علمنا أنّ هذا النبي قال إنّ القرآن ليس من عنده، فلو كانت عندنا سورةٌ فيها “قيمة قرآنية” تعادل “قيمةً محمَّديَّة”، أو إذا وجدنا قيمةً قرآنية في آية من الآيات، تعادل قيمة محمّديَّة أنهينا البحث، و قلنا: إنّ مُحمَّدَّا بن عبد الله إنسانٌ ورعٌ مؤمنٌ مخلصٌ أمينٌ و عاقلٌ، و لكن هذا المفهوم من عنده. أمّا إذا وجدنا أنّه لا تجانس بن القيمة القرآنيَّة و القيمة المحمَّديَّة، فهنا انتهى الأمر، و تبيَّن أنّه ليست بضاعة نبيّ، بل من كلام خبيرٍ عليمٍ.
لقد حُرِمتُ من فضل فاتني، و هو أنّني لم أحفظ القرآن في نشأتي، لمَّا كنت صبيَّا، و إنَّما كنتُ أتلوه من المصحف. و كثيرا ما مررت بآيات لا تلفت نظري، ممّا كنتُ أرى فيها من البساطة، فلا أقف عندها. لكن بعد عشرات المرّات، جلبت انتباهي في يوم من الأيّام آية من الآيات في بساطتها :[إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَ اللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ] (المنافقون:2-1).
ربّما ليس في الآية ما يلفت النظر، و قد ذكرتُ لكم أنّي قرأتُها عشرات المرّات، و لكن فيها ترتيبٌ غريبٌ… لمَّا نحلِّل الآية نجد أنّ فيها أربعة أجزاء مرتّبة حسب النصّ القرآني، ثمّ نرى في الجزء الأول أنّ الآية تبتدِئُ بتحديد زمان و مكان :[إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُون]، فيه تعيين مكان و زمان قدوم المنافين. و في الجزء الثّاني موضوع الحديث في هذا الزمن، ألا و هو شهادة المنافقين برسالة مُحمَّد، [قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ الله]، هذه شهادة المنافقين. و ما هو مغزى الآية؟ هو تكذيب المنافقين في نفاقهم، هذا هو موضوع الآية. ولكن بأسلوب لا يخرج من قلم، و لا يُكتَبُ في قرطاسِ، فهل مَنْ طبيعتُهُ الارتجال يمكنُهُ أن ينظِّم الأشياء تنظيما طبيعيَّا؟
التنظيم الطبيعيّ هو أن تذهب من المهمِّ إلى الأهمِّ، و لا تحول بين المهمِّ و الأهمِّ بدقائق لا تدركها الشفتان، فأنت مسترسلٌ في التلاوة، و ليس لديك وقت.
إذن التكذيب هنا أصاب المنافقين أم أصاب الرسالة؟ و هنا يأتي الجزء الثّالث، فتصير شهادتُنَا على رسالة محمد عليه السلام.
هذه إذن أبسط آية، و كلُّهُ من عند الله، و إنّما في نظرنا نحن نقول بسيطة، و لكنّها لم تعد كذلك بعد أن لفتت نظرنا، بل صرنا نراها عظيمةً جليلةً، و في ترتيبها نفسه معجزة. إذن إنّه كتابٌ من عند الله ليس من عند محمد صلى الله عليه وسلم [قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآَنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَو كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] (الإسراء:88)، و محمد عليه الصلاة و السلام من الإنس، لو اجتمع مع الجنِّ ما أتى بآية من مثله. و لو أنّ إنسانًا قال: جئتكم من عند الملكة إليزابيث، فلن نؤمن به، ولكن محمد عليه السلام قال جئتكم من عند الله فنضطر لنؤمن بهذا ، ونقر به ، و نقول: هذه حقيقةٌ، نقول هذا بصدق و عنف، و جدّتي تؤمن كما آمنت خديجة بلا شكّ.
و لكن إذا التفتنا ّإلى الجانب الآخر، ماذا نصنع بهذا الإيمان الآن في الحياة؟ هنا تبتدئ الكارثة، و لكنّنا نعرف أنّ هذه الكارثة لا تمسّ بجوهر القرآن و لا بجوهر الحقيقة، و إنّما تمسّ بكيفيَّة تطبيق الحقيقة. فعندما نصيب في كيفيَّة تطبيقها نسمو إلى السماء و إلى الحظّ، و عندما نسيئ إليها ننزل إلى الحضيض.
إذن يتطلّب الأمر منّا وقفةً عند هذا الجانب الإنسانيّ، أمّا الجانب الأوّل –أي الإيمان بالصحة- فيأتينا بالتعريض به في كلِّ مناسبة؛ لأنّنا نملك من الزاد ما يكفينا لأُخرّانا، أمّا في الدنيا فلا.
و هنا استطرادٌ أجعله بين قوسين؛ يقول الله تبارك و تعالى :[وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبُورِ مِن بَعْدِ الذكْرِ أنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالِحُونَ] (الأنبياء: 105). هنا الصلاحيَّة تصف التطبيق، و الإنسان سواءً أكان في “ما قبل الحضارة” أو “في الحضارة” أو “ما بعد الحضارة”، فإن صحَّ إسلامه بقدر ما يكون على صراط مستقيم، من حيث السيرة بالنسبة لأعماله الأخرويَّة، فهو صالحٌ، و لا بدّ أن يكون مع الصالحين في الآخرة. أمّا في الدنيا، فالمسلم يُقدِّر بعمله و بصلاحيّة الدنيويَّة؛ فإن كانت أعماله منسجمة مع قوانين الدنيا، فيصلُحُ عمله، و إن لم تنسجم أعماله مع القوانين التي رسمها الله للدّنيا، و التي سطّرها الله لعباده كافّة –و ليس المؤمنين فقط- فلا غرابة أن يكون أمرنا ممّا كان يراه الصحابة موقفة التخلُّف.
هذا وأرجو لكم وللمسلمين ما يلزمنا من حقيقة إدراك الإسلام من جهتين: جانب الصحّة و جانب الصلاحية؛ حتى لا يبقى في نفوسنا وهنٌ، من مثل المثل السيِّئ الذي استطردناه في الأوّل، و لا يبقى في أعمالنا وهن، حيث يكون مآل أعمالنا الفشل… و السلام عليكم.

الهـــوامش:
1- قاعة معهد الحياة وهو يحوي ملتقى الشيخ بيوض و الأستاذة و المعملين و كافة الطلبة، مع الضيف مالك بن نبي، وذلك لما زار وادي ميزاب وخاصة القرار، حيث نظمت حفلة لاستقباله في صالة المعهد يوم الاثنين: 08 صفر 1388ه الموافق ل 6 ماي 1968م. ودام الملتقى حوالى الساعتين : من 10.50 الى 12.50 ظهرا ، وتضمن الحفل كلمة الاستاذ الشيخ يبّوض –حفظه الله – ، للتعريف بهذا المفكر الجزائرى الكبير ، والتعريف بكتبه القيمة التي دافع بها عن الاسلام خير الدفاع ، وبعده كلمة الضيف الكريم مالك بن نبي في موضوع ” الدين والعلم “وهي محاضرةعظيمة،يثبت فيها بالدليل العقليّ صحة نبوة رسول الله .
2- أصل الكتاب رسالة قدمها الدكتور طه حسين لنيل درجة الدكتوراه من جامعة السوربون بفرنسا، وكان مشرفة على الدراسة أستاذ مارجيليوث. تقدم نبذة مختصرة عن الكتب .
3- أسفرت هذه الادعاءات عن معركة ادبية ناضجة خاض غِمارها في مواجهة طه حسين العديد من النقاد الكبار أمثال محمد فريد وجدي ، محمد لطفي جمعة، محمد الخضر حسين، محمد الخضري بيك، محمد أحمد الغمراوي، الأمير شكيب أرسلان، و مصطفى صادق الرافعي وغيرهم. ومن سمات هذه المعركة الايجابية أن جاءت بالكثير من تفتيح الأذهان و قدح الأفكار، و أثارت الأفكار الراكدة حول التاريخ الأدبي العربي، ووثقت الصلة بين مجريات الفكر في الشرق و الغرب.
4- هذا ما وجدته في أصل مسودة الندوة، و لكن المشهور أن من ساق الشُبهة التي سيفصل فيها الشيخ هو المستشرق اليهودي “جولد تسيهر”. ينظر كتاب: السنة و مكانتها في التشريع لمصطفى السباعي، وكتاب المستشرفون و الحديث النبوي لمحمد بهاء الدين .
5- تطرق مالك بن نبي إلى دور الفكرة الدينية في بناء الإنسان و الحضارة في كتابين هامين من كتبه، هما شروط النهضة- فصل: الفكرة الدينية، و كتاب ميلاد مجتمع .
6- ربما يقصد بلفظة “الأخرى” عالم الغيب، حيث إن السياق يدل على ذلك، و الله أعلم
7- لمزيد من التعمق في التحليل يرجع إلى كتاب مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، أين ناقش مالك بن نبي إشكالية الصلة بين صحة الأفكار و فعاليتها.
8- يقصد به طوماس كارلايل المؤرخ الإنجليزي
9- ذكر في كتاب “الظاهرة القرآنية”- هامش ص، 195 أن هذه العبارة نقلها من كتاب للمؤلف بعنوان “كتاب الأبطال”

المصدر:
كتاب(ندوات ميزاب في الثقافةوالحضارةوالمجتمع)
مجموعة من ندوات سمعية للمفكر مالك بن نبي تم تنزيلها برمجت بمناسبة زياراته إلى منطقة ميزاب في ماي 1968 و أوت 1969 و سبتمبر 1970

Comments (0)
Add Comment