مالك بن نبي : لمحات من حياته، وقبسات من فكره

عدد القراءات :8260

ولد فقيه الحضارة الأستاذ مالك بن نبي في 5 ذو القعدة 1323 هـ (1يناير 1905 م)، بمدينة قسنطينة، وانتقلت أسرته إلى مدينة تبسة ثم لحق بها ظن بعد فترة قضاها في قسنطينة عند أقاربه، وفي تبسة انتظم في حلقة لحفظ ما تيسر من القرآن الكريم وأتم تعليمه الابتدائي والإعدادي.
رجع إلى قسنطينة لمواصلة دراسته الثانوية التي أنهاها سنة 1925، وفي هذه الفترة بدأ وعيه يتكون، فقد كانت قسنطينة مركزا تقليديا للثقافة العربية الإسلامية منذ أشرقت الجزائر بنور الإسلام، وقد أصبحت -بعد الاحتلال الفرنسي- مركزا كبيرا لوجوده الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، وفي هذه الفترة بدأت في المدينة حركة إسلامية بقيادة الإمام عبد الحميد بن باديس، تتغيّ تحرير عقول الجزائريين وتغيير ما بأنفسهم، وذلك بتخليصهم من «الفكر الميت» أو «التراث الوثني» كما سماه الدكتور عبد العزيز الخالدي1 هذا التراث المحروس من فئة فرضت على الجزائريين رهبانية ما كتبها الله، وأدخلت في الإسلام ما لم يأذن به الله، وبتحصينهم ضد «الفكر القاتل» بصليبيته ولائكيته، والذي يستهدف محو الشخصية الجزائرية العربية الإسلامية.
وقد اعتبر ابن نبي -فيما بعد- حركة الإمام ابن باديس «بداية معجزة البعث»2 في الجزائر حيث «استيقظ المعنى الجماعي وتحولت مناجاة الفرد إلى حديث الشعب»3 كما سمى ّ ذلك النهج الصغير الذي كان يوجد به مكتب الإمام «شارع الفكر»4.
يبدوا أن إدارة المدرسة – التي كان ابن نبي يزاول تعليمه بها – شمت في أقواله ولاحظت في تصرفاته ما ينبئ بانفلاته من «الفكر الميت» وتطعيمه ضد جراثيم «الفكر القاتل» وهما ما يحرص الفرنسيون على أن يظل الجزائر أسير أحدهما أو كليبهما لأنهما الضمانان لبقائهم في الجزائر، فراحت تلك الإدارة تحمله سلفا مسئولية كل ما يحدث من شر في المدرسة، ولا شك أن الإدارة المذكورة لم تكن تزعجها الشرور المادية من تكسير وتخريب بقدر ما كانت تقلقها «الشرور الفكرية» فوضعت قراءاته تحت المراقبة5.
في سنة 1927 التحق مالك بن نبي بمدينة آفلو للعمل في محكمتها، وفي هذه المدينة الصغيرة تعرف على «الجزائر المفقودة..الجزائر البكر»6 التي لم يطمث أصالتها الدخيل، فكانت تلك المدينة الصغيرة «مدرسة تعلمتُ فيها أن أدرك فضائل الشعب الجزائري، وكانت هذه فضائله بالتأكيد في سائر أنحاء الجزائر قبل أن يفسد منها الاستعمار»7.
وقد يكون مالك ابن نبي أراد أن يعرف سكان المنطقة بمرجع فكري يساعدهم على التمسك بتلك الفضائل ويجعلهم يعتصمون بها عن بينة، ويجادلون عنها بعلم فأدخل إليها لأول مرة مجلة الشهاب8 للإمام ابن باديس، التي تحملت مسئولية الدفاع عما بقي من تلك الفضائل والقيم، وإحياء ما مات منها، وإصلاح ما أفسد الاستعمار .
لقد لفتت نظر ابن نبي في آفلوا ظاهرة ستأخذ مستقبلا حيزا هاما من تفكيره، هذه الظاهرة هي زحف الرمال على الأراضي الزراعية، وقد بدأ – منذ ذلك الوقت – يدق ناقوس الخطر، ويحذر من أخطارها على الأمن الغذائي للجزائر وللأمة الإسلامية التي يُعاني كثير من أقطارها من الظاهرة نفسها، وممن أثار معهم هذه الظاهرة معهم هذه المشكلة الإمام عبد الحميد بن باديس، وذلك سنة 1928 9 وقد أصبح «التراب» أحد شروط النهضة، وعناصر الحضارة، في مشروع ابن نبي لحل مشكلات الأمة الإسلامية10.
لم تطل إقامة ابن نبي في آفلو فانتقل إلى مدينة شلغوم العيد11 غير البعيد عن قسنطينة، وكان وجود في هذه المدينة فرصة له ليقارن بين الإنسان الجزائري فيها الذي فقد فضائله أو أفقده الاستعمار فضائله، حيث كانت المدينة «مركزا كبيرا للمستعمرين»، وبين الإنسان الجزائري في آفلوا الذي احتفظ بتلك الفضائل، مما جعل بن نبي يتأسف لأنه لا يستطيع «إصدار قانون يحرم جبل «عمور» على المستعمر، كما يمنع دخول متحف وضعت فيه أشياء ثمينة»12 لم يلب ث بها إلا قليلا فاستقال من الوظيفة نهائيا ..
وفي سنة1930، غادر ابن نبي الجزائر إلى باريس لمواصلة دراسته، فحيل بينه وبين رغبته في دخول معهد الدراسات الشرقية، فتوجه إلى مدرسة اللاسلكي التي تخرج فيها مهندسا كهربائيا سنة 1935. وبعد فترة من وصول إلى باريس هدى الله على يديه فتاة فرنسية إلى الإسلام، تفاءلت باسم خديجة فاتخذته اسما لها، وجمع الله بينهما بالزواج، وكان لكل منهما أثر طيب في صاحبه .
أتيح لابن نبي في باريس أن يتعرف على مشكلات أمته التي كانت صورة مكبرة عن مشكلات وطنه، فانغمس في نشاط الفكري والسياسي في أوساط المغتربين – طلبة وعمالا – ابتدأ من أول محاضرة ألقاها في أواخر ديسمبر 1931 بعنوان «لماذا نحن مسلمون»13 التي جاء رد فعل السلطات الفرنسية عنها سريعا، فقد استجوبته البوليس الفرنسي 14وتم نقل والده من وظيفة الصغيرة في تبسة إلى مكان آخر15 ورغب لويس ماسينيون – مهندس السياسة الفرنسية للشئون الإسلامية – في رؤيته 16*.
ومن النشاطات التي شارك فيها مالك بن نبي تأسيس «جمعية الوحدة المغربية» وتمثيل الجزائر في «جمعية الوحدة العربية» التي تأسست في باريس بوحي من الأمير شكيب أرسلان، كما أشرف -فيما بعد- في مرسيليا على نادي «المؤتمر الجزائري الإسلامي» الذي وأَدته السلطات الفرنسية قبل أن يستوي على سوقه، ويؤتي أكله.
وفي باريس عاش تجربة غنية بالتعرف على الحضارة الغربية في روحها وأفكارها ولا في مزبلتها ** كما تفعل أغلبية المثقفين المسلمين، وقد دخل ابن نبي إلى لبّ هذه الحضارة من عدة أبواب :
1- باب العلوم التي يقول عنها ( أسكنتُ في نفس شيطان العلوم )17.
2- باب «وحدة الشبان المسيحيين الباريسيين». التي أتاحت له عقد الصلة بين القيم الاجتماعية والتكنية التي كان يشاهدوها ويتذوقها في الشارع وفي المدرسة، وربما كشفت له تلك الملاحظات عن جوانب في روحه المسلمة18.
3 – باب زوجته وأسرتها.
4- باب «المنطق المسيحي بما يتخلله من تعقيد»19.
إن الفهم الدقيق لروحي الحضارتين الإسلامية والغربية والاستيعاب العميق لأسسها الفكري مكنا مالك ابن نبي من الصمود في وجه الحضارة الغربية فلم يجرفه تيارها الذي «تراهم يعانون مركَّبَ النقص نحو الثقافة الغربية»20 وتحرر من عبودية ذات وقع أثقلت -أو ما تزال تثقل- غالبا فكر المثقفين العرب تجاه عبقرية أوروبا وثقافتها21.
إن تلك التجربة العميقة، والعنيفة في الوقت نفسه، بأبعادها الروحية، والفكرية، والاجتماعية، جعلت ابن نبي يعلم علم اليقين أن الإسلام بعقيدته الموحِّدة، وفكره المنفتح على العقل منذ بدايته وهي «اقرأ»22 وروحه الاجتماعي من مساواة، وتضامن، وأخُوّة ..أقدرُ على مواجهة الحضارة الغربية، والانتصار عليها، ولكن المشكلة هي في المسلمين …
لقد استطاع ابن نبي – بعد تلك التجربة الفكرية والميدانية أن يحدث نقلة نوعية في الفكر الإسلامي الحديث، وإن المنصفين ليعرفون بهذه النقلة النوعية التي أضافها مالك ابن نبي ألفاظا وتعبيرات مبتكرة، وأفكار وفلسفة لم يسبقه إليها كاتب23 و«يناقش بعض المشاكل، ويحدد مفهومها تحديدا علميا، لم يتح لكاتب في الشرق أو في الغرب حتى الآن»24 ولذلك لا تجد لكُتُب مالك عموما شبيها في كتب المشارقة25.
إنني أذهب إلى أن هذه النقلة التي أحدثها مالك بن نبي في الفكر الإسلامي الحديث من ***أسباب الصحوة الإسلامية الواعية في طول العالم الإسلامي وعرضه، هذه الصحوة التي يعمل على إجهاضها طغاة المسلمين وجهالهم – ولو تعالموا -، وأعداء الأمة الإسلامية . وإذا كان هؤلاء الأعداء غير ملومين على كيدهم للصحوة وتربصهم بها فإن أولئك المسلمين هم الملومين لأنهم يصيبون منها ما لا سبيل لأعداء إليه .
من النادر أن نجد إنسانا آتاه الله بسطة في العلم والجسد، ونال من الشهادات العلمية أعلاها، وتخرج في أكبر المؤسسات التعليمية وأرقاها وعاش معيشة ضنكا . وقد كان هذا قدر مالك ابن نبي، فلم يهنأ بالعيشة الرّغْد لا عن كسل في طبعه، ولا عن علة في جسمه، ولا قصور في عقله، ولكن لأن المستعمرين الفرنسيين – علماءهم وإدارييهم – قعدوا له كل مرصد، وأوصدوا في وجهه كل باب، أنه أفلت من الفكر الميت فلم يَتَدَروَشْ ونجا الفكر القاتل فلم يتفرنس ****، وظنوا أنه سيأتيهم صاغرا، ولعفوهم طالبا، وفي رضاهم راغبا، ومن بطشهم راهبا، ولكنه لم يزْدَدْ إلا ثباتا على مبدئه، وتشبثا بأفكاره، وفضّل أن على يبيت على الطوى ويظله على أن يستبدل الذي أدنى بالذي هو خير.
قضى الله أن لا يكون مالك – في هذه المرحلة – أبا لأبناء الصلب، ووالدا الأفلاذ القلب، ولو رزق الولد في هذه المرحلة في هذه الفترة الحرجة من حياته لَحبَا وأَبَا26 وربما وقع – بسببهم – وكبَا، فتفرغ إلى هيأته إليه الأقدار، فبدأ يخرج الأفكار الخوالد، وينتج الآراء النوادر .
وإن تعجب، فأعجب لبديع صنع الله، وبالغ حكمته، فقد أن تكون باكورة تلك الأفكار السديدة، والآراء الرشيدة هو كتاب «الظاهرة القرآنية» الذي «هو نهج مستقل، أحسبه لم يسبقه كتاب مثله من قبل»27 كما قدر أن يكتب مالك هذا الكتاب في أرض قوم لم يألوه خبالا، ووردّوا لو يكفر كما كفروا، ولم يدخروا وُسعا، ولا وفّروا وسيلة لمحو هذا القرآن، وقدر الله -مرة أخرى- أن يكون هذا الكتاب سببا في اعتناق أحد أبناء جلدتهم الإسلام28 وقد أشار الشاعر العيد آل خليفة إلى ذلك في قصيدته التي هنّأ بها ذلك الفرنسي ومنها :
بهرتك ظاهرة بَدَت من مالكٍ فَجَلَت دُجَاك ببرقها البسام 29
وفي سنة 1956 حط الرحال بالقاهرة، فأصدر كتابة «فكرة الإفريقية- الآسيوية»، الذي وضع فيه الأسس النظرية والمناهج التطبيقية لإبراز كتلة جديدة على المسرح العالمي والتاريخي البشري. لا مرية في أن نية الأستاذ ابن نبي كانت طيبة في اقتراحه ذاك، ولكن الفكرة لم تكن قابلة للتطبيق لفقدان عنصر «الانسجام» بين الأعضاء المدعوين لتجسيدها30 وقد يكون ذلك «فكرة كومنولث إسلامي» الذي يتوفر على العنصر المفقود، وبالتالي فهو أقرب إلى التحقيق، خاصة أن التجربة التاريخية أثبتت ذلك ولو أن الظروف مختلف.
وقد وجّه -بعيد وصوله إلى القاهرة- رسالة إلى قدر لهم أن يكونوا قادة جهاد الشعب الجزائري، يضع نفسه تحت تصرفهم لتكليفه بأية مهمة يرونه مفيدا فيها، ولكن أولئك القادة يبدو انعزل في برجه عن أنهم لم يجدوا فيه «ما ينفع» فلم يكلفوا أنفسهم حتى مجرد الرد على رسالته لإشعاره بعدم الحاجة إليه31، ورغم ذلك فقد راح المرجفون يذيعون «أن ابن نبي رجل انعزل في برجه العاجي عن الثورة الجزائرية ولم يساهم فيها بشيء»32.
لقد أراد ابن نبي أن يكون للجزائر، ولكن الله شاء أن يكون للعالم الإسلامي، فعُيِّن سنة 1957 مستشارا في «المؤتمر الإسلامي»33 وبدأ يعقد في القاهرة ندوة فكرية كل يوم جمعة يحضرها الطلبة والأساتذة من مختلف الدول الإسلامية، وبدأت عملية ترجمة كتبه إلى اللغة العربية، فوجد المفكرون والأساتذة والطلبة في هذه المحاضرات والكتب مدرسة فكرية إسلامية لا عهد لهم بمثلها في المحتوى والمنهج، اتسمت بالعقلية الأفّاقة، والحيوية والدّفَّاقة، في لفظ مفصّلٍ على قدر المعنى، وجملة مبنية بحجم الفكرة.
ونصر الله جنده، وحقق وعده، وحطّم الهلال الصليب34 في الجزائر فعاد مالك بن نبي إليها، فأسندت إليه إدارة التعليم العالي، ليستقيل مرة أخرى سنة 1967، متفرغا من جديد لتحصيل الشباب المثقف بالفكر السليم والمنهج القويم في ندواته المنزلية، وفي الجامعات والثانويات.
ويرجع الفضل -بعد الله- إلى مالك بن نبي في إنجاز أمرين كان لهما أطيب الأثر في الجزائر:
أولا: التوفيق في فتح مسجد الطلبة بجامعة الجزائر، وقد يقول قائل: وهل في فتح مسجد ما يعبر إنجاز يشاد بصاحبه ؟ ولهذا القائل نقول : إن ذلك – آنذاك – لم يكن أمرا هيّنا ولكنه كان كمن يطلُبُ الفصَّ من اللص، وقد يذهب الخيال ببعض فيتصور هذا المسجد واسع الأرجاء، عالي الصوامع، جيد التجهيز، حسن التأثيث، والحقيقة أنه عبارة عن قاعة صغيرة جدا، اقتطع الجزء الخلفي منها لتؤدي فيه ثلة من الطالبات القانتات صلواتهن، مما كان يضطر كثيرا من الطلبة إلى الصلاة في ساحة صغيرة بجانبه تحت الشمس المحرقة أو الماء المنهمر.
وقد كان الأستاذ مالك بن نبي يزور هذا المسجد، فيلقي علينا دررا من الفكر غاليات، وفصوصا من الحكم بديعات، لا نفقه كثيرا منها، ونتخذ من القليل الذي نفهمه عدة نواجه به الإلحاد والضلال اللذين كانا منتشرين في الجامعة.
ومما ما يزال عالقا بذهني من تلك الأيام الخاليات والذكريات الغاليات أنه كان -رحمه الله- أكره ما يكره أن يقوم أي شخص بعد أن يبدأ حديثه، وأغلب من كانوا يفعلون ذلك هم أولئك العمال الطيبون الذين ما كانوا يفقهون شيئا مما يقول. فكان -إذا نهض شخص- يتوقف عن الحديث ويقول في أسلوب لا يجرح : «من لا يسمح له وقته بالبقاء معنا، أو له عمل ينتظر فليتفضل بالانصراف لأن حديثنا قد يطول».. فيجد أولئك مبررا للخروج حتى لا يبقى إلا الطلبة الذين تتفاوت نسبة إدراكهم لما يقول . ومما أذكره أيضا أنني حضرت له درسا في مسجد الطلبة في يوم شديد البرودة، فرأيت جبينه يتَفَصّدُ عرقا فأدركت -فيما بعد- مبلغ الجهد الفكري الذي كان يبذله.
ثانيا : فكرة ملتقيات «التعرف على الفكر الإسلامي» التي بارك الله فيها هي الأخرى فقد بدأت صغيرة كبذرة طيبة سرعان ما ثبت أصلها ونَما فرعها، وآتت أكلها، وصارت ملء سمع العالم وبصره، وكانت مخابر الصراع الفكري شرقا وغربا ترصد جداول أعمالها، وتحصي أفكارها، وتقدر نتائجها. وقد كانت هذه الملتقيات لله فدامت واتصلت أربعة وعشرون ملتقى، والله ندعو أن يعيدها كما أنشأها أول مرة ولم تكُ شيئا.
لم ينشغل مالك بن نبي طوال حياته بقضية غير قضية الأمة الإسلامية، فانكب على تاريخها يدرسه، وعلى حاضرها يلاحظه ويتأمله، وعلى مستقبلها يرسم معالمه. وقد خرج من الدرس العميق لذلك التاريخ، والرصد الدقيق لهذا الحاضر بمعرفة جملة من الأمراض الحضارية التي أقعدت الأمة، وانتزعت منها القيادة، وأفقدتها السيادة، وصيّرتها ذيلا بعد أن كانت رأسا، ومن هذه الأمراض : التكديس – الشيئية – الذرية – اللافعالية – ذهان السهولة – ذهان الاستحالة – الأفكار الميتة، الأفكار القاتلة، القابلية للاستعمار 35… وغيرها وكان كلما اكتشف مرضا نبّه إليه، وحذّر من أضراره، ووضح آثاره.
لم يكتف الأستاذ مالك بن نبي بالتعريف بتلك الأمراض والتحذير من أخطارها، ولكنه اجتهد في وصف الأدوية الشافية منها، والسبل الواقية منها وما هذه الأدوية إلا تلك الكتب القيمة التي سلكها في عنوان عام هو مشكلات الحضارة. فقد وضح لهم الوجهة36 ونبههم إلى مشكلة الثقافة وفتح أعينهم على الصراع الفكري واقترح عليهم كومنولث إسلامي وحذّرهم من «إنتاج المستشرقين وأثره على الفكر الإسلامي»، وبيّن لهم مشكلات الأفكار ومكانة المسلم في عالم الاقتصادي وحدد «دور المسلم ورسالته» وكان قد استفتح بالذي هو خير «الظاهرة القرآنية» وهي كنز المسلمين الذي لا ينفد ودواؤهم الشافي لما في الصدور، ومغير ما بأنفسهم، ومعيدهم سيرتهم الأولى.
ويلاحظ بمزيد من الأسف أن المسؤولين في العالم الإسلامي لم يلقوا أسماعهم، ويفتحوا أعينهم وعقولهم لأفكار مالك بن نبي، ويستعينوا بها فهم مشكلات شعوبهم، ويستفيدوا منها فيحل تلك المشكلات37.
ويختلف سبب ذلك الإعراض من مسؤول إلى آخر فمنهم من يعرض عن تلك الأفكار لقصوره في الفهم وعجزه عن الإدراك، ومنهم من يعرض عنها لأن الاستعمار قد حال بينه وبين قلبه، فتحسبهم أحياء وهم أموات، ومنهم من أضله الله على علم فأخلد إلى الأرض وأتبعه الشيطان فكان من الغاوين.
ومما يبعث الأمل في نفوس أن كثيرا من علماء المسلمين ومفكريهم يعطون لأفكار الرجل ما تستحقه من اهتمام، وينزلون صاحبها المنزلة الطيبة، ويعترفون بدوره المتميز في تجديد الفكر الإسلامي الحديث موضوعا ومنهجا.
ونسجل بكل ارتياح أن عداد من الطلاب المسلمين انكبوا -وما يزالون- على دراسة فكر مالك بن نبي، وتحليل آرائه، وشرح نظرياته وأعدوا في ذلك كله رسائل علمية في مختلف الجامعات وشتى التخصصات، حتى أصبحت مدرسة بن نبي أمرا واقعا في العالم الإسلامي من أقصى مغربه إلى أقصى مشرقه .
ولا يفوتنا إلى الدوائر الأجنبية ومخابر الفكرية التي ترصد بكل يقظة وجدية منظومة الأفكار في العالم الإسلامي، وتميز جليلها من حقيرها، وصحيحها من سقيمها، هذه الدوائر تعرف جيدا قيمة أفكار مالك بن نبي، وتدرك أنه أكثر المسلمين فهما لأساليبها، واستيعابا لأهدافها، ومعرفة بمناهجها، ولذلك فهي تحرص أشد الحرص، وتعمل بشتى الوسائل-البشرية -والمادية- على إبعاد أفكاره عن المجتمعات الإسلامية، والحيلولة دون تطبيقها38.
آن لفارس الفكر وفقيه الحضارة أن ترجع نفسه إلى ربها بعد ما أدى صاحبها الأمانة ونصح الأمة، وهداها إلى الرشاد وأنذرها من التيه فانتقل إلى جوار ربه يوم 4شوال 1393هـ (31أكتوبر 1973 م) .جعل الله اسمه للخلود وروحه للخلد …

الهوامش:
1- عبد العزيز الخالدي : مقدمة كتاب شروط النهضة، دار الجهاد القاهرة ن ص 10.
2- مالك بن نبي : شروط النهضة، ص 23.
3- مالك بن نبي : شروط النهضة، ص 23.
4- مالك بن نبي : مذكرات شاهد القرن، دار الفكر، دمشق، ط ـ 1984، ص 106.
5- نفس المرجع، ص 90.
6- نفس المرجع، ص 172.
7- نفس المرجع، ص173.
8- نفس المرجع، ص 180يقول الأستاذ مالك يبن نبي ” أدخلت العدد الأول من مجلة الشهاب إلى آفلو ” ولست ماذا يقصد الأستاذ بكلمة الأول لأن الشهاب صدر العدد الأول منه في شكل جريدة أسبوعية في سنة 29نوفمير 1925، أي قبل التحاق ابن نبي بآفلو، ثم تحولت الشهاب إلى مجلة شهرية في 5فبراير 1929أي بعد مغادرة ابن نبي آفلو . ولعله يقصد أول عدد إلى المنطقة .بالنسبة إلى المعلومات المتعلقة بمجلة الشهاب أنظر : د.محمد ناصر : الصحف العربية الجزائرية:الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1980، ص58.
9- مالك بن نبي :المذكرات، ص 184.
10- انظر تفصيل ذلك في كتاب شروط النهضة . وما مشروع السد الأخضر في الجزائر إلا تنفيذا لفكرته، ولكن هذا التنفيذ اتخذ صبغة سياسية ديماغوجية، فكانت عاقبته خسرا.
11- كانت آنذاك تسمى شاتودان chateadun وهذه إحدى جرائم التي لم ينج منها حتى أسماء المدن والقرى.
12- مالك بن نبي :المذكرات، ص 183.
13- نفس الرجع :ص 237.
14- نفس الرجع، ص 239-242.
15- نفس الرجع، ص 239-242.
16- نفس الرجع، ص 239-242.
*بالنسبة لماسينيون فهو إضافة إلى نشاطه العلمي في ميدان التصوف البدعي، ونشاطه التجسسي في مصر والعراق، لبنان، إضافة إلى ذلك كله فهو مشروع “لإسلام الجزائري” الذي أقل ما يقال عنه أنه يدعم الوجود الفرنسي في الجزائر، بإشاعته أن مقاومة هذا الوجود تعتبر “تحديا” لقضاء الله وقدره ..
** من الكتب التي كان ابن نبي يوصي الطلبة بقراتها كتاب “الأسس الثقافية للحضارة الصناعية” للمفكر الأمريكي جون نيف JHON NEF .
17- مالك بن نبي : المرجع السابق، ص 219.
18- نفس المرجع، ص 222.
19- نفس المرجع، ص223.
20- نفس المرجع، ص.
21- نفس المرجع، ص.
22- لم يطرح الإسلام مسألة العلم والمعرفة في صورة حق يمكن النزول عنه، ولكنه طرحها في صورة واجب اقرأ “ولا تقف مالي سلك به علم” ” فاسألوا أهل الذكر” ” طلب العلم فريضة على كل مسلم ” “من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من النار” والآيات الكريمة والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا …
23و24- عبد الصبور شاهين :مقدمة شروط النهضة ط1دار الجهاد، القاهرة 1957ص 5-6وقد لاحظت أن هذه المقدمة لم تظهر في الطبعات التالية لهذا الكتاب، وإني أتساءل عن سبب ذلك خاصة وأن ما جاء في هذه المقدمة يناقض تصريحات وأحكامها ما أدلى بها الدكتور عبد الصبور شاهين منذ فترة فريبة يشتم منها التقليل من قيمة الأستاذ ابن نبي، رغم اعترافه في مقدمة الكتاب المذكور أنه نال شرف السبق في ترجمة أول محاولة جدية لحل مشاكلنا ص 7 وأنظر مقال الأستاذة شافية الصديق في هذا العدد تعليقا على تصريحات الدكتور شاهين.
25- محمد المبارك : مقدمة كتاب «وجهة العالم الإسلامي.” دار الفكر ط 2بيروت 1970ص 6.
*** لا أعرف شخصا استعمل مصطلح “الصحوة” قبل الدكتور عبد العزيز الخالدي في مقدمته لكتاب “شروط النهضة” لمالك بن نبي وذلك سنة 1948.كما تمنى أن تعتبر الدول الكبرى هذه الصحوة “كخطر إسلامي ”
**** المقصود بالفرنسة هنا فرنسة الفكر والتوجه، لأن من كتاب العربية من هو فرنسي أكثر من الفرنسيين
26- أبا الرجل أولاده : صنع لهم ما يصنعه الآباء لأبنائهم .
27- محمود محمد شاكر :مقدمة كتاب “الظاهرة القرآنية” دار الفكر، دمشق 1981، ص 17 .
28- هو الطبيب الفرنسي علي سلمان بنوه الذي أعترف أنه مدين كثيرا للكتاب الرائع الذي ألفه الأستاذ مالك ابن نبي بعنوان “الظاهرة القرآنية” أنظر :عرفات العشي : رجال ونساء أسلموا ج 6 دار القلم الكويت 1981ص 11.
29- محمد العيد آل خليفة : “الديوان”، المؤسسة الوطنية للكتاب ط3، الجزائر 1992 ص 214.
30- أشار إلى ابن نبي في فكرة كومنولث إسلامي دار الفكر، ص 7.
31- أنظر نص الرسالة في كتاب “في مهب المعركة” وهي بتاريخ 1سبتمبر 1956.
32- نفس الرجع، دار الفكر، دمشق 1981، ص 80.
33- انظر ظروف تعيينه في هذا المنصب في مقال د عبد السلام الهراس في مجلة الفيصل ع 196، الرياض أفريل 1993، ص 18.
34- كان جورج بيدو أحد وزراء الخارجية في فرنسا في الخمسينات يردد في خطبته «سيحطم الصليب الهلال»
La croix écrasera le croissant
Henri ALLEG, LA GURRE D

Comments (0)
Add Comment