الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد، فإن من السنن الثابتة تجديد الدين للأمم المتعاقبة، ولا يعني ذلك تغيير العقيدة والشريعة السمحاء بقدر ما هو إحياء النفوس وضمائرها وتقويم سلوك المجتمعات والأفراد بروح الدين القيم، عقيدةً وشريعةً.
وقد اصطفى عز وجل الدين لعباده وأرسل الرسل تترى لنشر رسالة التوحيد، وما من قرية إلا وقد خلا فيها نذير. وأكد المصطفى عليه الصلاة والسلام بأن الله تعالى يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد للأمة دينها.
وإذا اقتصرنا النظر في العصور الحديثة، نرى أن كثيرا من المصلحين قد ظهروا في شتى بقاع الأراضي الإسلامية، يقفون من وراء انبعاث الشعوب وتحرير العقول على ضوء تعاليم الحنيفية الغراء.
وقد يتفاوت هؤلاء المصلحون بين مجدد مباشر تنطلق منه الفكرة والمنهاج، وبين مجدد مكمل لغيره يوسع في نفس الفكرة أو في نفس المنهاج. ولكل درجات ولهم جميعا فضل عظيم في بعث الحياة وشحذ الهمم.
وقد كانت عوامل الانحطاط وظروف الاستعمار على مدى العصور الحديثة من أهم الأسباب التي أدت إلى الشعور بواجب الإصلاح والتغيير في البلاد الإسلامية قاطبة، فظهر عدة مصلحين تسابقوا في بذل النفس والنفيس لأجل إحياء علوم الدين، أو تفجير روح المقاومة ضد التخلف والانحطاط والاستعمار، أو تربية الأجيال الصاعدة على مناهج عصرية وأصيلة.
وكان مالك بن نبي رحمه الله تعالى ممن رأوا النور على أرض مستعمرة وفي أجواء الإصلاح، فواصل الفكرة والمنهاج ثم انتقدهما لأجل زيغ “سياسي” قد أصابهما في رأيه، وراح يبتكر أسلوبا متميزا في التحليل والتغيير.
1- حياة كفاح
امتدت حياة مالك بن نبي رحمه الله تعالى ما بين أوائل القرن العشرين وثلثه الأخير، ولم تنقطع شهاداته الحية على مدى تلك الفترة من خلال تحاليله الفذة لمجريات الأحداث، ومعالجاته لمشكلات الحضارة، “شاهدا على القرن” بكل روافده الاستعمارية والثورية، حريصا على نهضة العالم الإسلامي من سباته منذ عهد ما بعد الموحدين إلى “دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين”.
فكانت حياته منذ الطفولة إلى “حلقاته” وهو متقاعد في بيته حياة كفاح بالقلم ، وجهادا بالدليل العلمي وجوامع الكلم، في عالم تضاربت فيه القرائح بين مسرف في”الشيئية” همه الخلود إلى الأرض، وبين غائص في “الفكر” المثالي يتطلع إلى المطلق. وهل من سنة أجدى وأبقى في تغيير الأنفس والمجتمعات من نور القلم الذي به علم الرحمان، علم الانسان ما لم يعلم. وهل من جهاد في مجال الثقافات والحضارات أكبر من نفوذ الكلمة في صنع الذهنيات وطرح ما بها من ملابسات وانحرافات مثلما جاء في قوله عز وجل: “وجاهد به جهادا كبيرا”؟.
وقد اتخذ مالك كعنوان لدراساته قوله تعالى :”إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. وانصب جل تفكيره في هذا الاتجاه: إذ كيف مثلا برفع مهانة الاستعمار عن الشعوب من غير رفع وطأة “القابلية للاستعمار” وتحريرالرقاب من “الأفكار الميتة”؟ وهل من سبيل إلى الرقي الحضاري بدون الاعتناء بتقويم الانسان قبل “تكديس الأشياء”؟ وهل تقوم النهضة على التغني بأمجاد ما مضي ونسيان ماهو قائم وواقع وتركه للغزو الثقافي ومكر الكثير من المستشرقين؟.
لقد رأى مالك ما أصاب الأمة من مصائب شتى، وإن المصاب جلل والوعي بالرسالة قد ثقل، فترك الانشغال كمهندس من خريجي أكبر مدرسة فرنسية في الكهرباء، وانكب كمهندس من نوع جديد في معالجة مشكلات الحضارة.
وتميز باطلاعه الواسع على كل من الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، وغيرهما من الحضارات. فدرس دوراتها بين البزوغ والأفول و بيَن أسباب أوجها وحضيضها وأبرز العناصر الأساسية المكونة لها. كما عالج شروط النهضة للحضارات وأسباب سقوطها، وبين ما للأديان من طاقة فريدة في نشأتها وتفجيرها.
وتميز على المستوى الفكري في قدرة فائقة على التحليل العلمي في القضايا الاجتماعية والنفسية أوالمسائل الدينية، فتراه في معالجته لتلك القضايا كأنما يعالج مسائل فيزيائية أو رياضية. مثل ذلك انبعاث الحضارة يراه متجسدا في دافع الدين على غرار دافعة أرخميدس، والدورة التاريخية بين مبتداها ومنتهاها على شاكلة الدورة الدموية بين عمليتي الانقباض والاسترخاء.
وقد نلمس على وجه الخصوص أن الأستاذ مالك يعتمد كثيرا في تحاليله على النظر بعمق في ما بين ثنائيات تقع على طرفي نقيض أو تتكامل تكامل القفل والمفتاح. فهو على سبيل المثال لا يعالج مسألة الكيف (Comment) بدون أن يتساءل لماذا (Pourquoi)، ولا يذكر القدرة (Pouvoir) من غير معية الإرادة (Vouloir) ولا المنطق العقلاني (Logique rationnelle) دون المنطق المتسامي (Logique transcendantale) ولا الشيئ (Chose) بلا جدلية بينه وبين الفكرة (Idée). وأذكر أن من أواخر ما استمعت إليه في السبعينات هو شرحه على الصبورة في بيته فكرتي الوعد الأدنى (Promesse mineure) والوعد الأعلى (Promesse majeure) وفعلهما في النفوس كدافعة أرخميدس في المياه.
ونود في هذا الصدد أن نقدم نموذجا لبعض تحاليله لتلك المشكلات، وذلك من خلال ما أسماه بعالم الأفكار وعالم الأشياء.
2- الواقعية والمثالية
كثيرا ما تناوب الفكر البشري كتيار دافق بين قطبين اثنين وهما: “الواقعية” (Réalisme) و”المثالية” (Idéalisme).
أما مفهوم “الواقعية” ، فغالبا ما يدل على كل ما هو فيزيائي، حسي، ظاهري، مادي وعقلاني، كما أنه بحسب تعبير مالك بن نبي محيط “بعالم الأشياء” أو “الشيئية”.
وأما مفهوم “المثالية” فهو يشمل، غالبا، كل ما هو روحي، ميتافيزيقي ومعنوي باطني، ويمتاز بالفكرة المجردة كما يدرك عموما بالحدس والشعور، وهو كذلك وفق تعبير مالك بن نبي كل ما يحيط “بعالم الأفكار”.
ومن الناس من هو أقرب إلى المثالية منه إلى الواقعية أو العكس، وتجد من هو مثالي ويرى نفسه أكثر واقعية. والكل في ذلك إنما ينظر بمنظاره إلى حقيقة العالم بما فيه من آفاق وأنفس.
وعموما فإن بني آدم في تصوراتهم تلك فريقان: فريق يعتقد جازما بأن العالم ليس إلا “عالم الشهادة” وفريق يدرك ويؤمن بأن ذلك العالم لا يكتمل بدون “عالم الغيب” الذي إنما هو المبدأ والأساس.
ويرتبط مفهوم الواقعية الظاهرية بعالم الشهادة الذي تطرأ عليه سمات التغيير والزوال، بينما يتعلق مفهوم المثالية الباطنية بعالم الغيب الذي تغلب عليه صفات الثبات والدوام، إلا ما شاء الله رب العالمين: “كل شيئ هالك إلا وجهه” (القصص 28/88).
وفي ما يلي نذكر بعض النماذج الموضحة لتحاليل مالك حول القطبين المشار إليهما، ونتأمل في مدى اشتمال تلك التحاليل على كثير من المذاهب الفلسفية والعلمية ، لنخرج في نهاية المطاف إلى منهاج الرؤي الوسيطية التي توازن بين من غلا في غياهيب الروحانيات الباطنية ومن أخلد في دجى الماديات الظاهرية.
3- بين روحانية ابن اليقظان وواقعية روبنسون
يقع عموما بين المنهج المثالي والمنهج الواقعي جدل متصل لا ينقطع إلى يوم الدين، ومن الناس من يقتصر هذا الجدل على ظاهرتي المحيا والممات، فلا يبحث عما وراءهما من مقاصد وأبعاد، ولا يرضى إلا بالحياة الدنيا ويتجاهل يوم التناد. فذلك مبلغهم من العلم وقد قال عز وجل: “وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون” (الجاثية 45/24).
فهؤلاء هم الدهرية الذين اقتصروا الطريق، فاتبعوا الظنون وابتعدوا عن طلب اليقين.
لكن الفطرة السليمة قد جبلت على حب الاطلاع وعمق النظر، وكثيرا ما ترى الانسان يتساءل عن أصل وجوده: من أين أتى؟ وعن المصير: إلى أين الذهاب؟، باحثا عن مغزى لحياته وعن دوره وسط الكائنات. وقد يقف عند “اللاأدرية” كما فعل بعضهم ، وغالبا ما يغوص في أغوار تلك المسائل بحثا عن أجوبة شافية.
ولطالما وقف الإنسان بين الأرض والسماء، تأخذه الدوافع من الأعماق إلى التأمل فيما حوله من مخلوقات، فيرى نفسه كأنه في جزيرة معزولة وسط محيط بلا حدود أو كذرة منثورة في خضم كائنات لا تحصى ولا تعد.
وفي هذا المقام كثيرا ما يحس بوحشة العزلة ويغمره هلع وفزع مما يجري وراء الآفاق ووراء كل الأبعاد.
فيتساءل أو تنصب عليه المسائل من كل حدب وصوب، ويتقلب بصره ذات اليمين وذات الشمال وإلى كل مشرق ومغرب، فيقف بصره في النهاية على اتجاهين اثنين، إذ هو كما يقول مالك بن نبي: “إما ينظر نحو قدميه إلى الأرض أو يرفع عينيه في اتجاه السماء” .
حينما يمد بصره إلى الأرض، ويخلد إليها مطمئنا بالحياة الدنيا، فهو عندئذ كمثل روبنسون كريزوئي الذي رمى به الموج، في يوم عاصف، إلى جزيرة معزولة عن الناس، فكان عليه أن يصب تفكيره كله في البحث عن الطعام وأسباب العيش، وهو في هذا الحال يتفاعل مع “واقعية الأشياء” و يأخذ “بأرضية الأمور”.
وحينما يمد بصره إلى السماء ويتأمل فيما وراءها ووراء كل الأبعاد، فهو عندئذ كمثل حي ابن يقظان الذي تعلقت نفسه منذ الصغر بعنزة تسقيه من حليبها ويمرح في المراعي معها، فلما ماتت شق عليه فراقها، وتساءل عن ماهية المحيا والممات، ثم تصاعد في تساؤلاته عن الروح وما علاها وعن كنه السماوات وما وراءها. فهو في هذا الحال يبحث عن الحقيقة على الإطلاق ويتقلب بصره في السماء لعله يدرك إلى ما ترجع الأمور وإلى أين المصير؟.
وهكذا تناوب منظور الانسان منذ القدم بين مثالية الروح وأرضية الواقع، ولا يزال الأمر كذلك في العصور الحديثة مع تغيير في الأساليب والمفاهيم، على غرار الموقفين المتضادين بين حي بن يقظان وروبنسون كريزوئي. وفي هذا السياق يقول مالك بن نبي: ” تتألق كل حضارة إلى أوجها تارة بتركيز الأشياء حول الفكرة وتارة أخرى بتركيز الأفكار حول الأشياء” .
4- بين أفلاطون وأرسطو
ولعل من أبرز المذاهب الفكرية، عند القدامى، التي سادت عبر العصور والأمصار وأثرت تأثيرا عميقا في مجالات الفكر والعلم والدين: ما ذهب إليه كل من أفلاطون وأرسطو وما حصل بين طريقتيهما من جدال أو وصال بصدد الباطن والظاهر، والثابت والمتغير.
لقد اعتمد أفلاطون في فلسفته على نظرية “الأفكار” أو “المُثل” . فالعالم وفقه ينقسم إلى قسمين:
أ) ـ عالم حسي يتكون من الأشياء الملموسة والمألوفة لدينا وهو يتسم بالتغيير والزوال.
ب) ـ وعالم معنوي يشتمل على الأفكار البحتة والمثل الكاملة وكلها خالدة وثابتة لا تتغير.
وما من كائن في العالم الحسي إلا وله “مَثل” في العالم الروحاني: ففي تصور أفلاطون، كل من الأشجار والحجر والأجسام وغيرها من الأشياء المحسوسة: إن هي إلا نسخ غير كاملة وغير وفية “للأفكار” المطلقة.
ويضرب لذلك، في كتابه “الجمهورية”، مثال السجناء في كهف معزول ومظلم: فهم يظنون خطأ أن ظل الكائنات خارج الكهف، التي تعكسها نار موقدة على بعض أطراف الكهف، هي حقيقة تلك الكائنات المحجوبة عنهم. فإذا خرج أحدهم من الكهف بدت له الأمور على حقيقتها، على عكس ما كان يتصوره داخل الكهف. وكذلك الفرق، عند أفلاطون، بين حقيقة الأفكار أو عالم المثل وشبح “الظلال” التي تنعكس عنها أو عالم الأشياء. وبين هذين العالمين خيط متصل أفقيا، ينقسم في وسطه إلى قسمين: قسم سفلي متغير لا نملك فيه عن حقيقة الأشياء سوى فكرة نسبية أو تصورا ما عنها، وقسم علوي تظهر فيه الأشياء على حقيقتها المثلى .
وكان أرسطو يرى عكس أفلاطون، أن الحقيقة كائنة في الأشياء ذاتها وليست منفصلة عنها، وكل كائن مكون عنده من هيولى (جوهر الشيئ) وصورة متلازمتين لا تنفصلان، كما أنشأ مذهبه وطريقته معتمدا على المعرفة “الواقعية” في مقابل المعرفة “المثالية” التي انتهجها شيخه.
فكان يرى في تحرك الكائنات وتغييرها من حال إلى حال أن ذلك يعود إلى أسباب واقعية، وقد عد أربعة من هذه الأسباب: السبب المادي : كون الشيئ مركب من مواد معينة (كقولنا مثلا: الطين هو السبب المادي في تكوين القدر)، والسبب الشكلي (شكل القدر مقعر)، والسبب الفعلي ( الفاخوري هو صانع القدر)، والسبب الغائي (القدر صالح لحفظ الدقيق أو الحليب ولذلك صنع). وهكذا فتح أرسطو الباب على مصراعيه لدراسة “الفيزياء”، بمفهومها الأرسطي الواسع، لأجل اكتشاف الحقائق والنظر في ما وراء الظواهر.
يقول أحد المعلقين عليه: “كان أرسطو فيزيائيا بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة. فهو يؤمن بأن الأشياء المادية هي المصدر الأول للحقيقة، وبإمكان الفيزياء وغيرها من العلوم دراسة العالم الفيزيائي واستنتاج الحقائق من ذلك” .
وقد كان لأفلاطون وأرسطو أثر عميق في أوساط الفكر والفلسفة على العموم كما عند هيغل على سبيل المثال، وعند أتباع القرآن وأهل الكتاب على وجه الخصوص . فهؤلاء وأولئك قد بذلوا جهودا كبيرة في التوفيق بين طرحات الفلسفة اليونانية وحقائق الوحي والإيمان، ومنهم من رفض هذه الفلسفة ومنهم من اعتبرها “خادمة” للدين واستعان بها لفهم التعاليم وتقديم الحجج.
5- بين هيغل وماركس
لقد حظيت فلسفة هيغل بتأثير بليغ على الفكر الحديث، وكان ممن تأثر بها إلى حد بعيد هو كارل ماركس الذي قلب له الأمور رأسا على عقب:
إذ أن جدلية هيغل هي عبارة عن عملية أو ديناميكية تمضي وفقها جميع القضايا من الأمثل فالأمثل نحو “الفكرة المطلقة” وقد سميت “بالجدلية المثالية”. بينما رأى ماركس عكس ذلك وقال بصريح العبارة أن منهجه الجدلي هو “العكس المباشر” لمنهج هيغل وأن “جدلية الأفكار ليست سوى انعكاسا لجدلية المادة” . لذلك اتخذ من مفهوم الجدلية المادية، مع رفيقة إنقلز، أساسا ومنبعا لحركة التاريخ وتطور الفكر.
يقول ماو تسيتونغ موضحا الفرق بين هذين الإتجاهين: “إن الفيلسوف الشهير هيغل الذي عاش في أواخر القرن 18 وبداية القرن 19، قد أتى بمساهمة عظيمة حول الجدلية، لكن جدليته كانت مثالية […]. وإن ماركس وإنقلز قد أخذا بعين الإعتبار وبروح نقدية، الجوانب العقلانية لجدلية هيغل” .
واعترف ماركس نفسه بمساهمة هيغل في تعميق مفهوم الجدلية فقال: “لقد أصبحت الجدلية بين يدي هيغل روحية لكن هذا لا يمنع بأنه أول من بين أنواع الحركة العامة للجدلية بجميع خصائصها” .
وهكذا نرى، في هذا السياق، أن هيغل قد ذهب في تصوراته إلى أقصى حدود المثالية بينما ذهب ماركس في تحاليله إلى أقصى حدود المادية.
فغاص الأول في باطن الأمور حتى ولج في أعماقها، وقلب الآخر اتجاه المسيرة فولج في ظاهر الأمور طلبا لأسبابها. وقد أيقن أحدهما أو كاد يوقن، بارتقائه في سماء المثالية، بالذي هو الأول والآخر والظاهر والباطن، بينما جحد الثاني بآيات ربه فانسلخ منها وأخلد إلى الأرض. وكثيرا من أهل الكتاب من اعتنق مذهب المثالية لهيغل بينما وجد أنصار المادية ضالتهم في جدلية ماركس.
وقد سادت هذه التصورات الفكرية والفلسفية في القرن العشرين على وجه الخصوص، فحملت أمما و شعوبا على طرفي نقيض: بين اتجاه ليبرالي “مثالي” واتجاه شيوعي “ثوري” يأخذ بأرضية الواقع.
6- بين يونغ وفرويد
ولم يتوقف التناوب الفكرى بين المثالي الروحي والواقعي المادي عند هذه المجالات فحسب، وإنما تعدى إلى غيره من الميادين مثلما هو الشأن في علم النفس التحليلي على وجه الخصوص.
إذ تتطور المنظور المثالي لأفلاطون في العصور الحديثة، لدى العالم النفساني يونغ ، مثلما كان الأمر بالنسبة لهيغل كما سبق. فقد اعتبر يونغ المثل العليا اللاشعورية من الأسباب الأساسية في تأويل سلوك الأفراد والأمم، من خلال اللاشعور الفردي والجماعي. وكان الأستاذ مالك بن نبي يردد أن ميلاد الفرد المنتمي إلى حضارة ما، كالمسلم مثلا، ليس بالذي يوجد على بطاقة تعريفه ولكن هو الذي سجل في لاشعوره بداية من انطلاق تلك الحضارة بكل روافدها الثقافية والمدنية (أي منذ أربعة عشر قرنا بالنسبة للمسلم).
وبصفة موازية، تطور كذلك الفكر “الواقعي” الذي يأخذ بظاهر الأمور و”أرضيتها” في مجال العلوم النفسية، مع نظرية فرويد باعتباره لطاقة الليبدو “السفلية” في مقابل المثل اللاشعرية “العلوية” ليونغ، مثلما فعل ماركس في مجال السنن الاجتماعية باعتباره، كما سبق، للجدلية المادية بدل الجدلية المثالية. بالفعل فقد انتقد فرويد، بناء على اعتباره هذا، كلا من خصميه آدلار ويونغ، فاتهم الأول بأنه: ” أنكر الغريزة الليبدنية لصالح غريزية الأنا ” وقال عن الثاني أن ما دفعه إلى الانشقاق هي “الرغبة في إبعاد العناصر القبيحة التي تتسبب في العقد العائلية [مثل عقدة أوديب] لئلا يجدها ثانية في مجال الدين والأخلاق” . ولخص في النهاية الفرق بينه وبينهما في قوله، وهو تلخيص غني عن كل تعليق: “أتمنى رحلة سعيدة في أعالي المرتفعات للذين لم يتحملوا البقاء [معنا] في العالم الأرضي لعلم التحليل النفسي” .
وهكذا تفرقت الآراء بين من لمس في النفس جانبها العلوي المتميز بغرائز “تقواها” وبين من توخى فيها الجانب السفلي المتمثل في دوافع “فجورها” : “ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها” (الشمس 91/7-10).
7- نزاع في مجـال العلوم الطبيـعية
إن أمر التناوب الفكري بين المنتصرين للمثالية الباطنية على غرار حي بن يقظان والمنتصرين للواقعية الظاهرية على غرار روبنسون كريزوئي لا تقتصر على المجالت الفلسفية أو العلوم الانسانية فحسب وإنما يتعدى ذلك إلى مجال العلوم الطبيعية، كالفيزياء والكيمياء على سبيل المثال.
ولنا على وجه الخصوص في علم الفلك عبر جليلة وآيات بينات. فلنتوقف قليلا عند هذا العلم الجليل، لنتأمل في مدى اشتمال ذلك التناوب على جل القرائح والمذاهب.
إن قصة الكون وتطوره، من نشأته أو منطلقه الابتدائي إلى منتهاه أو مصيره النهائي، قد شغلت الورى منذ فجر التاريخ وهي اليوم من أهم المواضيع المطروحة في مخابر البحوث. وإن الدراسات والمنشورات في هذا المجال كثيرة متوفرة ، لذا سوف نقتصر في تأملاتنا على نظرية الانفجار العظيم التي أصبحت اليوم من المسلمات الفلكية وتعرف في الأوساط العلمية “بالنظرية الأساسية” .
تنص هذه النظرية على أن الكون انطلق في الانتشار والتوسع ابتداء من “ذرة ابتدائبة” وذلك بعد انفجار عظيم. وقد توالت الأدلة المؤيدة لهذه الأطروحة، منها على وجه الخصوص تباعد المجرات فيما بينها وحالة التوسع الكوني وإثبات خلفية الإشعاع الكوني الصادرعن ذلك الانفجار الكبير.
وقد وقع حول هذه النظرية صراع أيديولوجي شديد في الأوساط العلمية بين مؤيد اقتنع بفكرة الخلق من لدن خالق أعلى وبين معارض يرفض فكرة الخلق وينتصر لالإلحاد .
ولابأس أن نذكر في هذا السياق تعليقا لأليكسندر فريدمان الذي كان من أوائل الدارسين لتلك النظرية. فقد انطلق فريدمان من نظرية النسبية وتبين له أن الكون يمضي نحو احتمالين اثنين : إما سيتراجع عن التوسع فينطوي على نفسه حتى النقطة الأولى وينهار كليا ، وإما سوف يستمر في التمدد إلى الأبد. وكلا النموذجين: الأول (وهو النموذج المغلق) أو الثاني (وهو النموذج المفتوح) يقوم على فرضية الانطلاق من “الذرة الابتدائية” أو نقطة البداية.
والسؤال المطروح عندئذ: ماذا وراء تلك النقطة الأولية؟. يقول فريدمان معلقا على ذلك: “ليس بين تلك النقطة وفكرة الخلق إلا خطوة واحدة” .
وهكذا نري أن صوت الإيمان يقرع بقوة في آذان علماء الفلك الحديث وفي ما سواهم من الراسخين في العلم، غير أنهم اختلفوا إلى فريقين: فريق ازداد إيمانا كأمثال القسيس لوميتر مكتشف “الذرة الابتدائية”، وفريق استحب الإلحاد على الإيمان فراح يسعى بكل قواه في إنشاء نظريات كونية غير نظرية الانفجار العظيم ولا تمت بصلة إلى فكرة الخلق، كأمثال هويل وبعض رواد الفيزياء الفلكية في الاتحاد السوفياتي السابق .
وما اختلاف الفريقين إلا نموذج آخر بين المعتقدات الباطنية لحي بن يقظان والمعتقدات الظاهرية المادية لروبنسون كريزوئي. وقد ذهب كل فريق منهما يسعى مسعاه في حل لغز مسألة المنتهى: إلى أين المساق؟.
8- بين الإيـمان والإلـحاد
وفي نهاية المطاف ندرك بأن الجدل القائم منذ غابر الأزمان، كما هو واضح من خلال النزاعات السابقة، إنما يعود في أصله ولبه إلى تدافع بين فئتين على طرفي نقيض، يتخللهما طيف متواصل من الاتجاهات والاعتقادات من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، ألا إنهما أهل الإيمان الذين صدقوا وعرجوا بدرجات متفاوتة إلى من له المثل الأعلى، وأهل الإلحاد الذين جحدوا وأخلدوا إلى الأرض فسقطوا دركات إلى الهاوية.
وقد جاء في الذكر الحكيم مثل الأولين بين أنصار الإيمان وأنصار الإلحاد. كما وردت فيه نماذج عديدة عبرة للآخرين، منها على وجه الخصوص ما جرى لأهل الكتاب في العهود الخالية وما لذلك من آثار بليغة في العصور الحديثة.
ويتعين علينا في هذا السياق ذكر ما جاء عن أهل الكتاب لإلقاء الأضواء على كثير من الاتجاهات العقدية أو الفلسفية وإدراك الخلفيات التي تقف من وراء بعض كبرى المجريات الحاضرة.
8 . 1- أهل الكتاب بين فريقين
لقد كانت سفينة نوح عليه السلام فيصلا بين عهد خلا منذ آدم عليه السلام وبين عهد جديد شهده من نجا على متن تلك السفينة ومن تناسل عنهم وانتشروا في الأرض من بعدهم. وكان إبراهيم من شيعة نوح عليهما السلام، فاتخذه الله عز وجل خليلا وجعله أبا للمسلمين: “ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل” (الحج 22/78).
وكتب الله عز وجل في ذرية إبراهيم عليه السلام النبوة والرسالة، فكان من سلالته بنو إسرائيل الذين فضلهم الله أيما تفضيل وأصبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة وأرسل إليهم موسى عليه السلام لنصرتهم من فرعون وجنوده وهدايتهم لالإيمان والعمل بالتوراة، ثم انحرفوا إلا المتقين منهم وآثروا الحياة الدنيا على الآخرة وأحبوا المال حبا جما، فأشربوا في قلوبهم العجل الذي صنعه السامري من الذهب. قال عز وجل عنهم: “وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمتين”(البقرة 2/93).
وأرسل المولى عز وجل إليهم المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام وأنزل معه الإنجيل ليردهم إلى رشدهم ويهديهم سبل السلام، لكنهم كفروا بنعم الله عليهم وقست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة وهموا بقتل المسيح عليه السلام فأنجاه الله منهم ورفعه إليه: “وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم “(النساء 4/157). وكان من أتباع المسيح الحواريون الذين انتصروا لله: “فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون” (آل عمران 3/52). فكان منهم النصارى الذين وقعوا في شبهات التثليث وابتدعوا رهبانية لم تكتب عليهم: “ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون” (الحديد 57/27).
وهكذا انشق أهل الكتاب إلى فريقين:
فريق منهم آثروا الحياة الدنيا: “ولتجدنهم أحرص الناس على حياة” (البقرة 2/96)، واثاقلوا إلى الأرض والتصقوا بها. وكانوا أكثر التصاقا وتمسكا بالذهب الذي ابتلوا به (وما يليه من فضة وكل نفيس)، فتداولوه جيلا بعد جيل على مدى أحقاب وأزمان، وتمكنوا بمهارة ومكر من السيطرة على أرباب المال والأعمال وبسط نفوذهم عبر مؤسسات دولية على المعمورة كلها.
وفريق منهم زهدوا في الحياة الدنيا واعتزلوا لذاتها مما أحل الله للعباد، وقالوا بأن ملك الله في الآخرة، واعتقدوا أن ما لقيصر فهو لقيصر وما لله فهو لله.
وهكذا اختلف الناس على غرار هذين الفريقين بين اتجاهين متناظرين: أحدهما يغوص في أعماق الماديات والآخر يهيم في أعالي الروحانيت. وفي ذلك خير نموذج لمن سلكوا سبيل حي بن يقظان أو انتهجوا منهج روبنسون كريزوئي.
ونرى من قصة أهل الكتاب أن الزيغ والضلال يكونان في عالم “المثالية” المتطرفة كما يحصلان في أرض “الواقعية” المادية، غير أن أحد الاتجاهين “أقرب مودة” من أهل الإيمان والآخر “أشد عداوة” لهم.
ولا بد إذن من منهاج أصيل يعود إليه الانسان للخروج به إلى شاطئ الأمان.
8 . 2- المنهاج الوسطي
فكان من رحمة الله عز وجل أن بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، من سلالة إبراهيم عليه السلام، وجعله خاتم النبيين وأنزل معه القرآن لهداية البشرية جمعاء إلى الوسطية بين غلو هؤلاء وأولائك: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا” (البقرة 2/143)، وبين أن ذلك منهاج إبراهيم عليه السلام الذي زاغ عنه أهل الكتاب: “ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ” (الحج 22/78).
ولولا فضل الله عز وجل في بعثة المصطفى رحمة للعالمين لضل الناس أجمعين، جيلا بعد جيل إلى يوم الدين، بين تيه في غياهيب الروحانيات ولج في غيابات الماديات.
وترى اليوم تكالب شرار المعمورة في محاربة هذا المنهاج الرباني كما كانوا يصنعون ذلك بالأمس. فهم يسعون بشتى الوسائل للطعن في رسول الله وهو خير البرية، وتحريف كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمساس بالمقدسات كالقدس الشريف التي إنما هي شعائر ومنارات للبشرية جمعاء، والنيل من أعراض الذين يأمرون بالقسط من الناس .
لكن الذي بعث بخاتم النبيين وأنزل الفرقان هدى للعالمين، يقول وهو أصدق القائلين: “يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون” (الصف 61/8).
والله يهدي السبيل وهو ولي التوفيق.