«الترجمة وفاء والمترجم ناقل أمين »
«…إنه ما أصابني الاستعمار بأذى يعطل نشاطي إلا عن طريق هيئة دينية إسلامية أو سلطة في بلاد عربية …» مالك بن نبي ـ بين الرشاد والتيه ـ ص 174
مقدمـــــة
يقول مثل إيطالي : «كل ترجمة هي خيانة» وكتابة المقولة باللغة الإيطالية تقارب الكلمتين لاشتراكهما في عدة حروف .
فمهما حاول المترجم التزام الأمانة فإنه لن يستطيع إيفاء النص الأصلي حقه، لأن اللغة ليست فقط وعاء للأفكار، بل هي أيضا أداة للتفكير، فدلالات الكلمة تحمل من الخصوصيات ما يجعل أمر ترجمتها إلى أية لغة أخرى مجرد محاولة للنقل وهذا ما جعل بعض الباحثين يفضل كلمة النقل على الترجمة . وفي التاريخ الفكري العالمي لا يمكن أن ينكر أي منصف أن اطلاع الغرب على التراث اليوناني كان عن طريق العرب، فقد رحلت طلائع مفكري الغرب إلى الحواضر العربية كغرناطة وطليطلة، ونهلت من فكر العرب، واتخذت من الفلسفة الإسلامية طريقا عرفت بواسطته تراثها اليوناني، وعندما بلغت حركة النهضة والإحياء الأوروبية سن الرشد على – رأي الدكتورمحمد عمارة- عادت مباشرة ودون وسيط إلى تراثها القديم فتبلورت حضارتها الحديثة .
فالترجمة – أو النقل- إلى لغة أخرى لا يمكنه أن يتجاوز دور النقل، وما أضافه العرب إلى الفلسفة اليونانية لا يدخل في إطار الترجمة ولكن في إطار الاجتهاد، لذلك نجد في المكتبة العربية كتابا ترجموا لليونان كالمسيحي العربي “إسحاق بن حنين” وكتابا شرحوا الفلسفة اليونانية كـالفارابي و ابن رشد و غيرهما،و كتابا أيضا انتقدواالفلسفة اليونانية كـ “أبي حامد الغزالي و ابن تيمية “وغيرهما .و لكن يبقى على الباحث الالتزام بالمنهجية العلمية بخط الحدود واضحة بين الترجمة و النقل و الشرح و التحليل و الإضافة و النقد.
هذه المقدمة لا بد منها قبل أن نتناول خطورة دعوة الدكتور “عبد الصبور شاهين” التي لم تبدأ اليوم و التي يصر من خلالها على إفراغ أفكار المرحوم “مالك بن نبي” من أصالتها و تجديديتها بالقول بأن الترجمة التي قام بها الدكتور “شاهين” أهم و أعمق من النصوص الأصلية للمفكر “مالك بن نبي” ، و النص المعتمد عليه في هذه الوقفة هو حوار صحفي أجراه بالقاهرة مراسل مجلة “الوحدة” لسان حال منظمة الشبيبة الجزائرية و نشر في عددها 431 الصادر بين 28 سبتمبر و 4 أكتوبر من سنة 1989. و قد سلمت شخصيا نسخة منه لسيدة مثقفة من عائلة المرحوم “مالك بن نبي” لتأخذ الإجراءات الأخوية أو القانونية ضد تصريحات الدكتور “عبد الصبور شاهين” التي تحمل طعنا خطيرا في شخص المرحوم، خصوصا و أن بعض الإخوة أكدوا أن الدكتور “عبد الصبور شاهين” ماض في تصريحاته في محافل عديدة كالندوة العالمية حول فكر مالك بن نبي في ماليزيا مثلا.1
و الوقفة التحليلية مع ما قاله “الدكتور شاهين” لا تعني بأي حال من الأحوال تنزيه المرحوم “مالك بن نبي” عن كل نقد ، بل تعني أولا و أخيرا التأكيد بأن النقد الموضوعي لفكر ما يثريه و لا ينتقص منه، و هذه سنة تاريخية لا يعارضها إلا جاهل، لكن ما جاء في حوار الدكتور “شاهين” يبتعد في كثير من تفاصيله عن النقد الموضوعي .
الدكتور القرضاوي و نقد غير موضوعي آخر:
لا أحد ينكر جهود الدكتور القرضاوي في إثراء المكتبة الإسلامية و الحركة الإسلامية، و هذا لا يخوله تقديم أحكام كالتي أعلنها من على منصة ملتقى الفكر الإسلامي المنعقد بمدينة تبسة عام 1989، إذ أعلن بلهجة اتهامية أن ما يقوله الجزائريون و غيرهم من أن “مالك بن نبي” هو صاحب الفكرة الشهيرة “القابلية للاستعمار” ليس صحيحا، و يؤكد الدكتور القرضاوي أن الشيخ محمد الغزالي سبقه إلى ذلك في أحد كتبه التي ألفها في الأربعينيات. و لحد اليوم لم نفهم لماذا قال الدكتور القرضاوي ذلك؟ خصوصا و أن المرحوم “مالك بن نبي” لم يذكر أنه اخترع “إكسيرا” جديدا للحياة الثقافية، و لكنه استطاع بطاقته التحليلية أن يصل إلى نتائج منطقية جدا في تحليل ظاهرة الاستعمار و الانحطاط، إذ أنه بين أن احتلال أمة لا يكون إلا بعد اختلال توازنها مصداقا لقوله عز وجل : (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، وهذه الجملة الأساسية التي أثرى المرحوم “مالك بن نبي” بها ملاحظاته الدقيقة هي من الآية 11 من سورة الرعد والمسلمون يقرؤونها منذ قرون، لكن مالك بن نبي اتخذها مفتاحا لتحليلاته العميقة التي صدق الواقع الكثير منها، ولظروف يعلمها منظمو ملتقى الفكر الإسلامي مرت ملاحظة الدكتور القرضاوي دون أن تثير عقول الكثير من تلاميذ مالك بن نبي الحاضرين في الملتقى .نقطة ملحة أخرى تفرض نفسها الآن وهي تفكك الباحثين الجزائريين المجدين في فكر مالك بن نبي ، بل إن عملية إحصائية ودقيقة لمؤلفاته وتسجيلاته لم تتم لحد الساعة، وقد سمعنا منذ سنوات أحد تلامذة المرحوم مالك بن نبي وهو الأستاذ عبد اللطيف عبادة يعلن أنه بدأ مشروعا قريبا من هذا، ومازلنا ننتظر هذا العمل إلى اليوم خصوصا وأن أجيالا كاملة مازالت عطشى لهذا الفكر، ولاشك أن مرور عشرين سنة على وفاته ونصف قرن تقريبا على بداياته في عالم الكتابة قد جعل كثيرا من أفكاره بحاجة إلى إعادة قراءة وبعضها بحاجة إلى مراجعة و إن كان كثير منها مازال صالحا ولا ينتظر إلا النشر والخروج من الغبن.
إن تمكن المرحوم مالك بن نبي من اللغة الفرنسية لا يعني أنه كان يفكر فرنسيا، وإن كانت اللغة كما سبق الذكر ليست حيادية، وقد رأينا أديبا متميزا كالمرحوم “مالك حداد” يعلن أن غربته في لغته هي التي جعلته يتوقف عن الكتابة وبأبعاد إيديولوجية، وعلى النقيض نجد أديبا كبوجدرة يفضل أن يشتم الإسلام بالعربية.
إن مالك بن نبي كان قد تلقى ثقافة إسلامية في طفولته دعمها بقراءته في شبابه بوعي المثقف، وكانت له حساسية حضارية جد متطورة، ورغم المفارقة التي عاشها كضحية للاستيطان اللاتيني، استطاع أن ينقذ بنقده لجذور الحضارة الغربية الكثير من الفراشات الوطنية من السقوط في زيف بريق الحضارة الغربية بكل أرمادتها الثقافية والفنية .
إن أصالة فكرمالك بن نبي وروحه الناقدة قد حصنته من السقوط في شراك استعباد اللغة، كما أن تكوينه العلمي الدقيق جعل أسلوبه في الكتابة تقنيا أكثر منه أدبيا استطراديا، مما يسهل مهمة القارئ لنصه الأصلي ونصه المترجم بأمانة، سواء من حيث كمية المتن أو نوعية الكلمات وتراكيب الجمل . إذ يسهل على القارئ التفكيك اللغوي للنص ليتفرغ لفهم الفكرة التي كثيرا ما تحمل أبعادا عميقة زمنيا ومكانيا.
ولاشك أن وجود قراء له في فئة ذوي التكوين العلمي يفوقون عددا أولئك القادمين من التكوين الأدبي لدليل على أن الأستاذ مالك بن نبي يكتب بأسلوب المعادلات والمنحنيات وهي لغة لا تحتاج إلى الثراء اللغوي الكبير.
وقد أكد لنا الأستاذ رشيد بن عيسى وهو من الذين تعاملوا مباشرة مع الأستاذ مالك بن نبي أن هذا الأخير كان يلتقي بالزوار من الطلبة من مختلف الفروع ولكن بأغلبية من تكوين علمي دقيق، ورواد مسجد الجامعة المركزية دليل آخر على ذلك. ومع كل هذا فالباحث الموضوعي المدقق بحاجة ماسة لقراءة فكر مالك بن نبي في لغته ونصوصه الأصلية،و هذا ما نحن بحاجة إليه بالفعل ، خصوصا وأننا نرى أن فكرة ما بلغة أصلية قد تجد لها ترجمات متباينة في لغد أخرى.
إن الأسف الشديد هو أقل ما يقال أمام القمع والاضطهاد الذين تعرض لهما فكر الأستاذ مالك بن نبي مما يجعل تطبيق الصيرورة الطبيعية لتناول أي فكر مسألة ليست سهلة فعادة تكون هذه الصيرورة عبر مراحل هي :
1- التعريف بفكره وقراءته داخل منظومته الفكرية ذات الوحدة التناسقية .
2- التعريف بالأفكار السائدة في زمانه وعلاقته بالمدارس الفكرية إن وجدت وهذا ما حاول الأستاذ غازي التوبة في كتابه عن مفكري الإسلام المعاصرين.
3- النقد الموجه له من خصومه، وفي حالة الأستاذ مالك بن نبي هم أساطين التيار التغريبي، ومغالطتهم في شرح وتأويل مفاهيمه خصوصا القابلية للاستعمار.
4- النقد الموجه له من المنتمين إلى نفس اتجاهه وهذا يدخل ـ كما سبق الذكر ـ ضمن الإثراء .
5- القراءة الموضوعية الشاملة التي تجعل من الفكر المدروس محفزا لبحث جديد.
والقارئ الواعي لفكر الأستاذ مالك بن نبي قد يعترف بعد تأمل عميق أن أهم خصائصه كونه لا يقدم لك الحلول للمشاكل المطروحة ولا التبسيط المغني عن البحث ولكنه “يوترك” كما يستعمل هو هذا المصطلح الفيزيائي والنفسي، ويحثك على البحث من جديد وضرورة اكتشاف أغوار عوالم فكرية جديدة ، وقد يتفق قراء مالك بن نبي أن قراءة كتبه دون ملاحظات بقلم الرصاص على هوامش الصفحات هي قراءة سطحية لأنك إذا التزمت العلمية سوف تناقش أفكاره، لأنه يخاطبك بعقيدة وفكر وسوف تختلف معه في بعض الاستنتاجات،و تضيف له ما تراكم معك من خلال مطالعاتك لتصل في نهاية الكتاب إلى أنك عشت جولة فكرية دراسية غير عادية، و أن عقلك قد قام بتمرينات ضرورية في مستوى من ينفض عن نفسه وعقله غبار السهولة والخمول، وكلما سرت في عالم البحث والتفكير وعدت إلى كتبه تكتشف فضله عليك بتتلمذك على منهجه الفكري، وتشعر و أنت تعارضه صراحة في بعض ملاحظاته أنك تفي له بأمانة البنوة الفكرية . وقد اعترف الأستاذ مالك بن نبي نفسه أن هذا السلوك قانون حضاري في خاتمة كتابه بين الرشاد والتيه والتي جعلها فصلا بعنوان الصراع الفكري ويغتنم فرصة تطابق عنوان الخاتمة مع عنوان أحد كتبه ليقول عن الكتاب : ((..كتاب الصراع الفكري )) أعتقد أنه الآن بحاجة إلى تكملة عريضة في ضوء التجارب الجديدة التي مر بها ويمر بها الوطن العربي بعد الاستقلال .
مع حوار الدكتور عبد الصبور شاهين في بعض نقاطه
أولا :نحيل ترجمات الدكتور عبد الصبور شاهين على خبير لغوي وألسني ليقول لنا ما هو وزنها الحقيقي ؟ وهل هي الصورالوحيدة التي يمكن أن ننقل عبرها أفكار الأستاذ مالك بن نبي، هذا حتى نجيب عن السؤال المحير الأول: لماذا نجعل نصوص الأستاذ مالك بن نبي حبيسة ترجمة فريدة؟
ثانيا : نتوقف بتعجب أمام قول الدكتور عبد الصبور شاهين : «إن السر في نجاح كثير من كتب مالك بن نبي يرجع إلى الترجمة، ولذلك أعتقد أن الترجمة هي التي جعلت من مالك بن نبي مفكرا عربيا إسلاميا ؟…
إن الإجابة عن هذه المغالطات قد تأتي من عدة أبواب نكتفي باثنين منهما :
الباب الأول :
إن الدكتور عبد الصبور شاهين يذكر في نفس الحوار أن اهتماماته المعرفية هي أساسا لغوية بحتة، ويذكر قائمة لكتبه وأبحاثه منها «العربية لغة علوم وتقنية» و «دراسات لغوية في التطور اللغوي وفي علم اللغة العام» و”المنهج الصوتي للبيئة العربية” وغيرها . و هذا ما يؤكد أن رأيه مغالطة علمية لسبب بسيط وهو أن كتب مالك بن نبي ذات منحى علمي يحتاج الناقل لها إلى لغة أخرى إلى مجرد إتباع خطة المعرفي ، ومحاور فكره تدخل أساسا في إطار علم اجتماع الحضارة، وهو لا يتقاطع كثيرا مع تخصص الدكتور عبد الصبور شاهين وبالتالي ما احتاج إليه الدكتور شاهين كان فقط معجما بسيطا للغة العربية وقد اعترف هو نفسه في الحوار عندما قال: ” لم أجد في لغة مالك بن نبي أية صعوبة”.
وقد زامل المترجم الأستاذ مالك بن نبي مما كان يساعده على الفهم الصحيح لأفكار الأستاذ بطريق مباشر يسمح له بالاستفسار خصوصا وأن الأستاذ مالك بن نبي كانت له قدرة اتصالية وجدلية وحوارية شهد له بها الكثير من تلامذته وأصدقائه داخل الجزائر أو خارجها، وأذكر مثالين نقلت شهادتي صاحبيهما شخصيا وهما الأستاذ راشد الغنوشي الذي حضر بعض ندواته، وقال إن المرحوم مالك بن نبي كان يهتم بطريقة خاصة بالشباب التونسي، والداعية زينب الغزالي التي نظمت في بيتها ندوات للمرحوم مالك بن نبي ومازالت تشير بفخر للكرسي الذي كان يفضله المرحوم.
إن اعتراف الشخصيتين بقدرة المرحوم الاتصالية شهادة له، خصوصا إذا أخدنا بعين الاعتبار الانشغالات المتباينة لهما.
الباب الثاني :
إن الترجمة لا يمكنها أن تحول المترجم إلى مفكر قريب المستوى من المفكر الأصلي للنص الأصلي إلا باحتكاكه بصاحب النص الأصلي، ومع ذلك يبقى مكانه بعده، فهل نقول مثلا إن إسحاق بن حنين هو أرسطو أو أحسن منه في الترجمة لكتاب “الأخلاق” أم نقول إن المترجم عرف كيف ينقل بأمانة أفكار يونانية إلى لغة عربية سليمة، وانه نجح في ذلك لأنه فهم النص الأصلي وكانت له ناصية اللغة العربية؟
ومهما يكن فّإن أقصى اعتراف يقدم للمترجم هو أمانته في نقل أفكار صاحب النص الأصلي، وبالتالي الاعتراف لا يكون من جنس موضوع النص الأصلي و لكن من جنس موضوع آخر يدخل في تخصص الدكتور عبد الصبور شاهين المعرفي ـ فالتاريخ لم يسجل أن إسحاق بن حنين كان فيلسوفا، ولكنه سجل له ّأنه كان مترجما ناجحا،و كل هذا لا يجعلنا نغمط حق أحد، فللدكتور عبد الصبور شاهين فضل الترجمة .
وهنا بالذات لابد من إضافة فكرة تابعة وهي أن الأستاذ مالك بن نبي عاش تحت نير استعمار استيطاني شرس عرف بجهوده في استئصال الشجرة الثقافية، وفي ظروف المرحوم مالك بن نبي لم يكن من الصعب أن يعرف ككاتب إسلامي كما عرفت الثورة الجزائرية ـ مثلا من خلال ممثلين لها لا يحسنون كثيرا اللغة العربية وهو عذر مقبول استثنائيا في ظروف استثنائية.
ورغم ذلك نضيف أن كثيرا من المثقفين ممن يعرفون الأستاذ مالك بن نبي ممن فهموه أو ممن حاولوا تشويه أفكاره ومحاربته كانوا قد قرأوه في اللغة التي كتب بها.
كما أن المرحوم مالك بن نبي عرف أيضا بعلاقاته مع حكام ومواطني العالم العربي وهي علاقات تحفزه للحديث باللغة العربية ونشر أفكاره باللغة العربية .
نقطة أخرى تستوقف المتأمل للحوار مع الدكتور عبد الصبور شاهين وهي اعترافه ضمنيا أن شهرته هو جاءت لأنه لازم المرحوم مالك بن نبي كما اعترف بأن المرحوم ما لك بن نبي كان يشعر بالقضايا النابعة من صميم الواقع ويدفع من قبل التلاميذ والطلاب الذين يترددون عليه إلى أمثال هذه المعالجات . ويضيف الدكتور عبد الصبور شاهين أن المرحوم مالك بن نبي كان يتحدث اللغة الدارجة المغاربية وهي كما نعلم قريبة نطقا وتركيبا من اللغة العربية، كما يعترف الدكتور عبد الصبور شاهين أن المرحوم مالك بن نبي كان يكتب باللغة الفرنسية ومجموعة من التلاميذ والطلاب يترجمون وهو اعتراف آخرمن الدكتور عبدالصبور شاهين بأن قائمة المترجمين لم تنحصر في اسمه ،وأنه استفاد بجهد هذا اللفيف المتحمس الذي سعى إلى ترجمة كتابات المرحوم مالك بن نبي وهو موقف يذكرنا بما كان يفعله المرحوم جمال الدين الأفغاني عندما كان يقيم الحلقات ويبث أفكاره في الشباب المسلم المتوقد، بل ينقل الدكتورمحمد عمارة في تقديمه لأعمال المرحوم جمال الدين الأفغاني أن هذا الأخير كثيرا ما كان يملي أفكاره على تلاميذه ويطلب منهم نشرها بأسمائهم، علما بأن المرحوم جمال الدين الأفغاني أيضا لم يكتب فقط بالعربية، فهل ينتقص هذا من جهوده العملاقة في بث الحركة الإسلامية نحو الوثوب ؟
وهناك قضية خاصة لدى المرحوم مالك بن نبي أيضا وهي طابع الشك وهو سؤال أظن أن الصحافي كان خاطئا في طرحه على المترجم لأن له علاقة بالحياة الشخصية والخاصة للمفكر ليس المترجم بأحسن من يجيب عنها . لكن إجابات الدكتور عبد الصبور شاهين أيضا طبعت بكثير من الذاتية والتحامل وخصوصا وأنه يصور لنا المفكر مالك بن نبي إنسانا مريضا غير متوازن . والإجابة الشافية عن هذا لن يقدمها سوى المقربون منه مع ضرورة الفصل بين طباع البشر التي تشكل جزءا من كيانهم وشخصيتهم كأن يكون المرء أسمر أو قصير القامة، أو انه يحب اللون الأزرق، أوله طريقة خاصة في التعامل، وبين السلوك العام الذي يطبع علاقاته مع الآخرين والذي يدخل في تحديد بيئته الاجتماعية، وكل من يقرأ ما قاله الدكتور عبد الصبور شاهين يحزن لبعض الكلمات الجارحة التي أخذت طابع المحاكمة لشخص المرحوم مالك بن نبي وإنتاجه، وهو ما يعود سلبا على المترجم لا على المفكر، إضافة إلى أن كلمات مثل التي قالها عن المفكر الراحل تعيد النظر في مصداقية تحليلاته الفكرية، لأنها ستكون حتما إسقاطا لآراء ذاتية على تراث فكري ليس من حق شخص واحد محاكمته وإفراغه من كل وهجه الحضاري وهذا دون إضفاء القدسية عليها طبعا، وهو ما حصل بالفعل في نقد الدكتور عبد الصبور شاهين لفكرة القابلية للاستعمار والتي مازال النقاش دائرا لتحديد هل هي الترجمة الأمينة لفكرة مالك بن نبي وأيضا نقد الدكتور لمفهوم الاستعمار بحد ذاته وتحليله والذي يبقى اجتهادا شخصيا قد تعارضه دراسات متخصصة أكثر عمقا ليس مستبعدا تأكيدها لفكر المرحوم مالك بن نبي واتجاه تحليلاته.
قبل الخاتمة
إن المكتبة الإسلامية والحركة الإسلامية غنيتان بجهود مفكرين إسلاميين عديدين من الهند وباكستان وإيران وأوربا كتبوا بغير اللغة العربية واشتهروا وكتبوا بلغات محلية ولغات عالمية بعضهم كان يحسن العربية فكتب بعض إنتاجه بقلمه العربي وبعضهم لم يفعل ذلك، ولكننا لم نسمع أن مترجميهم قالوا إن ترجمتهم هي التي جعلت شهرتهم تصل إلى نقاط عديدة في العالم الإسلامي، بل إن بعض مترجميهم دفنت أسماؤهم في المطابع .
فهل نقول بعد هذا إن لفكر مالك بن نبي فضل على الدكتور عبد الصبور شاهين ؟ وأن شهرته جاءت بالضبط من ترجمته لأعماله ؟ لا نجيب عن هذا السؤال لأن غرض هذه الدراسة هو تصحيح المغالطة التي يرفضها العلم والتي تقول إن المترجم هو الذي يصنع المفكرالأصلي .
في الخاتمة
إن ثراء فكر المرحوم مالك بن نبي مازال يدفع كثيرا من الدارسين إلى تنبيه الغافلين عن ثورية المنهج الفكري لصاحب ندوة الحضارة، ومن هؤلاء الأستاذ توفيق الطيب الذي يقول في كتابه “الحل الإسلامي ما بعد النكبتين” الصادر سنة 1990 في طبعته الثالثة عن دار بيت المقدس بيروت : «وإنه ما من أحد يمثل انتهاء عملية التصفية النفسية وصفاء الشخصية الإسلامية المستعلية بالإسلام على كل ما سواه مثل شخصية الشهيد المصري «سيد قطب»، وما من أحد يمثل أولى محاولات التركيب المبدع مثل المفكر الجزائري مالك بن نبي، وإذا كان موقف الشهيد هو الشرط النفسي، والضرورة لإمكانية إجراء عملية التركيب ألا و هو “التميز” أو اكتشاف الذات فإن موقف “مالك بن نبي” يمثّل الشرط الموضوعي لكيفية إجراء تلك العملية، ألا وهو «وعي المشكلة الاجتماعية ووضعها وضعا صحيحا، وبحثها بحثا تفصيليا».
وإذا كان الأول قد ألح على جانب العقيدة في تربية الجيل القرآني الفريد – كما أسماه- فلعلمه بأن شعلة الإيمان هي الأساس في تجاوز الأزمة، لأنه هو وحده الذي يجعل منها قضية.
فحركة النهضة الإسلامية الحقيقية لا يمكن أن تبدأ إلا ببعث الروح الإسلامي، وبميلاد الإنسان المسلم ميلادا جديدا يعبر عنه بالحكم الشخصي التالي : إنني لا أرى من حولي إلا هشيما لذلك لا بد من أن يتغير كل شيء. التغير النفسي في الفرد هو أساس التغيير الاجتماعي، بعبارة أخرى ما لم «أتجدد» أنا فلن أستطيع أن أجدد شيئا، وما لم «نتجدد» نحن فلن نستطيع «تجديد» المجتمع.
وهذا هو عين ما فهمه مالك بن نبي من الآية الكريمة : «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» وهو المغزى الحقيقي لمفهومه عن «القابلية للاستعمار»، ثم راح مالك بن نبي من خلال مفهومه عن الحضارة يبرز أهمية جانب التكنيك الاجتماعي من المشكلة، ويلح عليه دون أن يحصرها في هذا الجانب وحده. وفي الحقيقة إن كلا منهما يعكس تجربة مجتمعه فيلح على أحد الجانبين دون الآخر، ولذا فنحن نعتبرهما مكملين متممين … ولعل كلا الرجلين يعكس جناح المشرق والمغرب في لقاء فهم موحد لمهمة الحركة الإسلامية هي أحوج ما تكون إليه في مرحلتها المعاصرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – مجلة “العالم” التي تصدربلندن، عدد401، بتاريخ 19أكتوبر1991ص 33 و 34، و قد عنونت المجلة مداخلة د. عبد الصبور شاهين بـ “خيبة أمل”، كما أشارت إلى ردود الفعل التي برزت من بعض المشاركين الذين قرأوا الكتب المذكورة أي كتب بن نبي التي ترجمها عبدالصبور شاهين في طبعتها الفرنسية الأصلية ، و ذلك لأن عبد الصبور شاهين “كاد أن ينفي أي أصالة فكرية في التوجه الإسلامي لدى بن نبي..و حجم المبالغة التي أوردها”
المصدر: مجلة الموافقات (المعهد الوطني العالي لأصول الدين – الجزائر) العدد 3 جوان 1994.