هكذا تكلم مالك بن نبي …

عدد القراءات :3479

تمر علينا هذه السنه مائة عام على ميلاد المفكر والفيلسوف الاجتماعي مالك بن نبي (1905) واثنان وثلاثون عاما على وفاته (1973)، وما بين لحظة الميلاد ولحظة الوفاة مسار فكري وعلمي عميق وتضاريس ثقافية وسياسية وعرة وشاقة.
مالك بن نبي، الشخص الذي نذر حياته في خدمة القضايا الإنسانية العادلة ابتداء من القضية الجزائرية إلى القضايا القومية والإسلامية وانتهاء بمعضلات العالم الثالث. ورغم التعتيم والتهميش الذي مورس ضده حيا وميتا، إلا أن مالكا بقي حيا يقرأ وأفكاره ما زالت تنبض بالحيوية والفعالية، تتداولها أجيال ما بعد الاستقلال في الجزائر وفي العالم الإسلامي برمته.
كان رحمه الله يقول “وكل كلمة لا تحمل جنين نشاط معين فهي كلمة فارغة، كلمة ميتة”. عبارته هذه تنطبق عليه تماما، فالذي كتب لأفكاره الامتداد في الزمان والانتشار في المكان إنما هو الجنين الحي الذي تحمله وتنتظر تجمع الشروط التاريخية لوضعه.
واليوم إذ نتذكر مالك بن نبي فإننا نعيد بذلك قراءة طروحاته في ضوء مستجدات العصر وعلى وقع تغيرات الخريطة العالمية على الصعيد الثقافي والسياسي.
تميز مالك بن نبي في أفكاره النهضوية جذريا عن باقي المصلحين الكبار، سواء على مستوى منهج التحليل أو على مستوى المعالجة واقتراح البدائل. واستطاع أن يصل إلى هذا المقام من خلال:
– نقده للمدارس الإصلاحية السابقة والاطلاع في المقابل على الفكر الغربي العقلاني منه.
– تمسكه برؤية شاملة في عرضه لأزمة الإنسان المسلم باعتبارها أزمة حضارية في جوهرها.
ففي كل المواضيع التي طرقها في كتبه أو مقالاته المتفرقة، اعتمد مالك بن نبي المنهج العلمي القائم على التجربة الشخصية ودقة الملاحظات والتحكم الجيد في أدوات التحليل واستنباط الأفكار بسلاسة ووضوح منطقي تام. وهو إلى ذلك يتمتع بشجاعة أدبية في توجيه النقد الذاتي إلى مواطن الخلل في العالم الثقافي والسلوك السياسي وحركات الإصلاح التي أخذت قسطا كبيرا من الملاحظات والنقد.

لقد كانت مشكلات الحضارة هي محور تفكير مالك بن نبي وعليها أسس مشروعه التغييري. فهو يعتقد أن أزمة إنسان ما بعد الموحدين هي في جوهرها أزمة حضارة “إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم مشكلته ما لم يرتفع بفكره إلى مستوى الأحداث الإنسانية وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها”. والحضارة عند مالك هي تفاعل عناصر ثلاثة حددها في: إنسان + تراب + وقت. و مع مرور الزمن اضمحلت الحضارة الإسلامية وفقدت مبرراتها ولم تعد قادرة على الاستمرار والإنتاج والإبداع بسبب فقدان الفكرة الدينية لفعاليتها باعتبارها الطاقة الحيوية والقوة الفاعلة التي تؤلف عنصر التفاعل بين العناصر الثلاثة على غرار العنصر المركب للماء catalyseur بين الهدروجين والأكسجين.
تاريخيا فقد المجتمع الإسلامي دوره وانشغل أفراده في معارك هامشية بين بعضهم البعض حيث تراجع الوعي الاجتماعي وهو أهم عامل للثورة والتغيير وبدأ العد التنازلي في أفول الحضارة على المستوى السياسي بضعف الدولة والتطاحن على الحكم والتقهقر الاقتصادي بسبب الفساد والترف وتراجع الإنتاج العلمي والثقافي لغياب المحيط السليم حيث تسطحت الثقافة، وتوقفت لغة العقل عن النقد والإبداع، سواء في الفلسفة أو الفكر أو الأدب، أما الدين فقد أغلق باب الاجتهاد فيه بحجة: ما ترك الأولون للآخرين من شيء.
كانت هذه الوضعية بداية دخول المجتمع إلى حالة من الركود والتخلف العام حيث أصابه العجز والتيه، الأمر الذي ترك السلبيات تتراكم والأمراض تتفاقم من الداخل إلى أن أصيب بأخطر مرض خبيث في القرن التاسع عشر ألا وهو الاستعمار.
بحث مالك بن نبي مسألة الاستعمار لا كجيش يحمل عتاده ليغزو بلد ما وراء البحر، بل كظاهرة بسيكولوجية وأيديولوجية إمبريالية في النهاية، تتخطى حدود الدول لتخضع الشعوب النائمة والفاقدة للحصانة تحت هيمنتها وسلطتها. توصل بن نبي إلى وجود ارتباط قوي ووثيق بين الاستعمار وقابلية الشعوب له. فبالنسبة إلى مفكرنا، القابلية للاستعمار Colonisabilite منشأها نفسية الفرد عندما يكون في وضعية قابلة لأي استغلال وهيمنة. فالمستعمر – يقول بن نبي – يريد منا بطالة وجهالة وانحطاطا في الأخلاق وتشتيت المجتمع، كما يريد منا أن نكون أفرادا تغمرهم الأوساخ ويظهر في تصرفاتهم الذوق القبيح “وبذلك تكون العلة مزدوجة، فكلما شعرنا بداء المعامل الاستعماري الذي يعترينا من الخارج فإننا نرى في الوقت نفسه معاملا باطنيا يستجيب للمعامل الخارجي ويحط من كرامتنا بأيدينا”.

ضمن هذا السياق، سار مالك بن نبي في اتجاه الدعوة إلى تغيير ما بالنفس، واكتشاف جملة الأمراض البسيكو-اجتماعية المترسبة عبر التاريخ. وهو يعتقد أنه لا يكفي طرد المستعمر عن الأرض والحصول على الاستقلال السياسي، بل العمل المهم الذي ينتظر النخب السياسية والثقافية هو تحرير الفرد من أمراضه التي علقت به وكبلته، يقول بن نبي: “إن القضية عندنا منوطة أولا بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في أنفسنا من استعداد لخدمته، من حيث نشعر أو لا نشعر، وما دام له سلطة خفية على توجيه الطاقة الاجتماعية عندنا، وتبديدها وتشتيتها على أيدينا، فلا رجاء في استقلال، ولا أمل في حرية مهما كانت الأوضاع السياسية”. عدد مالك بن نبي ببصيرته النافذة جملة من السمات الباتولوجية التي سادت الثقافة الإسلامية وأصبحت جزءا من السلوك العام للفرد والمجتمع من بينها: الشيئية والتكديس، الذرية، ذهان السهولة والصعوبة.
لقد تركت هذه الوضعية إنسان ما بعد الموحدين جسدا بلا روح و بلا عقل، فغاب عنه الطموح إلى التجديد، والأمل في النجدة، وأصابه الكسل والوهن، فلم يعد قادرا على فهم محيطه وظروف تخلفه إلى أن وصل به جهله إلى اعتبار الاستعمار قضاء الله وقدره وعليه التسليم بأمر الواقع وانتظار المعجزة.
وهكذا تحول هذا الاعتقاد إلى مجموعة من التصورات تختزنها الذاكرة الجماعية لتظهرها من حين لآخر في حكايات وقص شعبي عبر إحياء الشخصيات التارخية وإضفاء كل ألوان القداسة والقوة التي لا تقهر عليها، ويمثل “الولي الصالح” الشخصية الأكثر تأثيرا وسلطة على الفرد والجماعة. كانت هذه الثقافة تسري بسهولة تامة داخل الأوساط الشعبية في البيوت والأسواق والمساجد. واليوم ما زلنا نشاهد هذه الظاهرة في السلوك الاجتماعي والسياسي للمواطن، حيث يربط مالك بن نبي بدقة متناهية بين انتظار الجزائري للمعجزة في – ليل الاستعمار – تأتيه من التمائم والحروز وبين انتظاره لها – في الاستقلال – تأتيه من صندوق الانتخاب، وفي هذا المناخ الأسطوري يتوهم هذا المسكين الجزائر وقد تحولت إلى جنة خلد. لكن السؤال المطروح هل كان باستطاعة الدجالين السياسيين أن ينجحوا في الترويج للكذب والبهتان لولا الاستعداد النفسي للمواطن الذي غاب عنه التفكير والحس النقدي وأصبحت لديه “القابلية للاذلال والتدجيل”.

تؤكد التجارب الغربية والآسيوية أنه لا تنمية ولا نهضة بدون إنسان قوي يملك الثقة في النفس وأمن على كرامته وحقوقه. لأجل هذا، راح مالك بن نبي يقدم البدائل الاستراتجية التي تصب في تغيير الإنسان وإصلاح العالم الثقافي لديه وتوجيه الطاقة الكامنة نحو الهدف المنشود. لقد أوصى بإقامة علم اجتماع الاستقلال يقوم بمهمة النقد الذاتي لمرحلة ما بعد الاستعمار والبحث في أخلاقيات الثورة وأخطار الفردية في مجتمع جديد العهد بالاستقلال. كما أكد على أخطار الانحراف داخل أجهزة الدولة، وهي مهام تقع كلها على عاتق الهيئات الأكاديمية والجامعية.
إن استقراء التاريخ والواقع يؤكد مدى صدق نظرته وعلمية فكرته التي طرحها في النصف الأول من القرن العشرين. وبعد نصف قرن آخر نراها تتحقق في واقعنا وتنفذ داخل مشهدنا السياسي والثقافي فكرة فكرة، وها هو على فراش الموت يختصر القضية الكبرى فيوصي بالإسراع في إحداث التغيير “وإذا لم نقم نحن بثورتنا فإن التغيير سوف يأتي من الخارج ويفرض علينا فرضا” وفعلا وقع التغيير، وكانت نتيجته مأساوية على العرب والمسلمين، لأن حكامهم رفضوا التغيير الآتي من الأصوات الداعية له من الداخل، حتى جاء “الاخ الأكبر” ليفرضه بقوة الاقتصاد والسلاح، ويضع لحكامنا توصيات للإصلاح السياسي والاقتصادي والديني. وصدق مالك بن نبي إذ يقول: “وإنها لشريعة السماء: غير نفسك تغير التاريخ”.
ويبقى الأمل في إعادة تجديد طاقاتنا وتوجيهها الوجهة الصحيحة والسليمة نحو رسم المستقبل الذي نريده نحن لأنفسنا ولمستقبل الأجيال قائما، يأخذ إشعاعه وروحه من أفكار النهضة التي تركها أستاذنا مالك بن نبي تنتظر من يأخذها بقوة للدخول بها إلى القرن الواحد والعشرين حتى نحقق لأنفسنا التحرر من التخلف الاستبداد والهيمنة.

زقاوة أحمد / مستشار رئيسي للتوجيه المدرسي والمهني
ahmedzegaoua@yahoo.fr
المصدر مجلة أفق الثقافية : الثلاثاء 08 نوفمبر 2005

Comments (0)
Add Comment