معرفة الغرب في السياق الحضاري؛ قراءة في تراث مالك بن نبي (1) مقدمات في الإطار النظري وأهمية معرفة الغرب

عدد القراءات :2898

الدكتور بدران بن الحسن

تمهيد:
نحاول في هذه الدراسة أن نتناول تراث مالك بن نبي الفكري بالدراسة والتحليل فيما يتعلق بموضوع جهوده في بناء منظور متميز للتعرف على الغرب الحضاري ودراسته والاستفادة منه ونقده بما يخدم المشروع الحضاري للعالم الإسلامي يوفر له مفاتيح معرفية للتعامل مع الظواهر الحضارية والاستفادة منها في بناء حضارتنا الإسلامية من جديد في دورتها الثانية.
ومن أجل تفهم أكثر، فإني قمت بتقسيم هذه الدراسة إلى أربع حلقات تهدف الحلقة الأولى إلى بناء مقدمات نظرية تتضمن الإطار النظري لمعرفة الغرب، والحاجة إلى معرفة الغرب وتحديد الصلة به. أما الحلقة الثانية فتتضمن مناقشة مادية الحضارة الغربية (باعتبارها رؤية تصورية عن الخالق والكون والحياة والإنسان)، في حين أن الحلقة الثالثة تتناول الفعالية الحضارية الغربية والنزعة الجمالية وأثرهما في تشكيل أنماط الحياة الغربية، أما في الحلقة الرابعة فإن الدراسة تتجه إلى مناقشة العولمة الغربية باعتبارها محاولة غربية لاستعادة الهيمنة على العالم في مرحلة ما بعد الحداثة، وفي الخير نختم بحلقة خامسة نعمل على حوصلة مساهمة بن نبي في بناء علم “الاستغراب” وآفاق الاستفادة من تراثه الفكري في هذا المجال وتعميقه وتحقيق خطوة اكثر منهجية وعمقا، وتنتقل إلى بناء حقل معرفي بدأت معالمه تتشكل بوضوح يهدف إلى دراسة الغرب ومعرفة أنساقه الثقافية وإطاره الحضاري وخصائصه وأنماط حياته المتنوعة.

مقدمة:
مثلت العلاقة بالغرب في خطاب التجديد الإسلامي محورًا مهمًا، ويكاد الغرب يكون عاملاً حاضرًا في كل الخطابات الإسلامية منذ الغزو الاستعماري للعالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، وكانت الدراسات الإسلامية للحضارة الغربية لم تتجاوز في أغلبها النظرة الحدية التي اتسمت بها ثقافة رجل ما بعد الموحدين[1]؛ فالغرب إما طاهر مقدس، وإما دنس حقير. كما لم تتجاوز في معظمها خطاب التحذير والتعبئة. وذهب كثير من المفكرين لدراسة الظواهر المصاحبة للهيمنة الغربية على العالم بشيء من الاجتزاء والقصور.
غير أن هناك بعض المحاولات المبكرة في الفكر الإسلامي المعاصر، حاولت أن تؤسس لخطاب علمي يتجه إلى البحث في عمق الظاهرة، وتتبع جذورها وصيرورتها، وآثارها وانعكاساتها على الواقع الإسلامي، كما اتجهت إلى دراسة التجربة الحضارية الغربية في خصائصها، ومدى إسهاماتها في الحضارة الإنسانية وآثارها عليها، مما أفرز توجهات ومؤسسات أكاديمية إسلامية كثيرة، تحاول أن تجعل من دراسة الغرب في حضارته وثقافته حقلاً معرفيًا، تدرس من خلاله التطور التاريخي للحضارة الغربية، وكيفية تشكل المفاهيم الغربية في ارتباطها مع الوعي الغربي، وانضوائها في نسق معرفي وحضاري عام للحضارة الغربية، وذلك من منظور حضاري إسلامي يحيط بالمشكلة ويحللها ويدرسها، ثم يقدم التصورات والحلول العلمية والعملية لمسألة التخلف الحضاري في العالم الإسلامي، باعتبار غياب الحضارة الإسلامية الفاعلة المشكلةَ المركزيةَ التي يتخبط فيها العالم الإسلامي.
ومهمة مثل هذه تحتاج إلى تراكم الخبرات المعرفية، سواء عن طريق البحث في جوانب من الظاهرة الحضارية الغربية في صلتها بالمشكلة الإسلامية، أو في نقد الرؤى والتصورات والأطروحات التي قام بها رواد الفكر الإسلامي في هذا المجال، وذلك لضمان التواصل العلمي، وتأسيس تقاليد علمية تتجاوز نطاق التجارب الفردية المعزولة عن بعضها، وتتحول إلى حقل معرفي للدراسات المتخصصة التي تركز بحثها في الغرب؛ لفهمه، وفهم أنساقه الثقافية والمعرفية، وأنماط حياته، وتقديم خلاصة علمية للاستفادة منها في تحقيق الخروج من حالة التخلف والتراوح والتبطل التي تعاني منها أمتنا الإسلامية.
ولقد كان لمالك بن نبي محاولة رائدة فيما يتعلق بدراسة الظاهرة الحضارية عمومًا، والظاهرة الغربية بوجه خاص، ومدى صلتها بالوعي الإسلامي، وصلتها بالمشكلة الحضارية في العالم الإسلامي.
ويمثل مالك بن نبي عليه رحمة الله حلقة مهمة في مشروع دراسة الحضارة عموما ودراسة الحضارة الغربية بوجه خاص لما يمثله من نقطة انطلاق منهجية مهمة لتعميق الوعي، وتأسيسه على قواعد بيّنة، وإعطائه مداه الواسع، لنتمكن من تحديد موقع الحضارة الغربية ومكتسباتها المختلفة في مشروعنا الحضاري الإسلامي، في سبيل تحقيق العودة إلى صناعة التاريخ وبناء الحضارة الإسلامية من جديد لتمارس أمتنا دورها في القيادة والشهادة.
وفي هذا السياق، فإن مالك بن نبي تناول دراسته للحضارة الغربية في إطار عام من خلاله صاغ مجموعة من المفاتيح المنهجية لفهم الغرب والتعامل معه. فهو أولاً حدد إطاره النظري الذي من خلاله درس الحضارة الغربية، ثم بين أهمية ومبررات التعامل مع الغرب، ثم حدد أهم الخصائص الحضارية للغرب.

1. الإطار النظري لمعرفة الغرب: المنظور الحضاري.
يرى مالك بن نبي “أن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها”[2]. هذه المقولة تبين الإطار النظري العام الذي صاغ وفقه بن نبي تصوره لحل مشكلة التخلف الحضاري للعالم الإسلامي.
ولهذا فإن المسألة الحضارية أو بتعبير أدق “مشكلات الحضارة” كانت محور اجتهاده الفكري لصياغة منظور يمكن من خلاله استيعاب مختلف المشكلات التي اكتنفت المجتمع الإسلامي واختلفت مسمياتها من جهة إلى أخرى. كما سعى لإيجاد وحدة فهم وتحليل لمختلف تمظهرات الأزمة ومدخل منهجي مناسب لإعادة بناء حضارة العالم الإسلامي من جديد.
ونجد هذا الوضوح في الهدف ووحدة الجذر لمختلف المشكلات واضحا في مواضع كثيرة من تراثه الفكري المدون في كتبه أو الذي دونه عنه أصدقاؤه وتلاميذه. وفي هذا السياق ينقل إلينا أحد الباحثين موقف نبي واضحا بقوله: “أعتقد أن المشكلة التي استقطبت تفكيري واهتمامي منذ أكثر من ربع قرن وحتى الآن، هي مشكلة الحضارة”[3]. ولذلك فإنه اتجه في كل إنتاجه الفكري إلى محاولة صياغة منظور يمكن من علاج مختلف المشكلات المتعلقة بالظاهرة جوهر اهتمامه.
وفي سياق بحثه عن تطوير منظور يتناول مشكلات الحضارة فإن بن نبي أعطى اهتماما خاصاً بالحضارة الغربية باعتبار إشعاعها العالمي وتأثيرها على العالم سلبا وإيجابا خلال القرنين الأخيرين.
ولذا فإنه وقف موقفا نقديا من التيارات الفكرية السائدة في العالم الإسلامي في زمنه سواء التيارات التي رأت في الغرب مصدراً للشر فرفضته جملة، أو التي رأت الغرب الحضارة عينها ولا مناص من اتباعه في مساره الحضاري لإدراك الحضارة وتحقيق التحديث والخروج من حالة التخلف الحضاري في العالم الإسلامي.
وقد دعا بن نبي إلى “معرفة الغرب” واتخاذ موقف علمي منه وتطوير خبرات وآليات للتعامل مع الحضارة الغربية بما يحقق لنا التميز الحضاري الذي نريده وفي الوقت نفسه نبني مع الغرب علاقات حضارية قائمة على الاستفادة والإفادة وفق معايير حضارية إسلامية.
ومن هنا فإن مالك بن نبي قام بعملية نقدية للذين ينظرون إلى مشكلة العالم الإسلامي بسطحية ومعزل عن التيار العام للإنسانية، والقانون الذي يضبط انتقال الحضارة في شروطها النفسية والاجتماعية. ويعبر عن ذلك بقوله: “هذه الملاحظات تدفعنا إلى أن ننتقد مسلك بعض الباحثين حين ينظرون إلى ظاهرة (الحضارة) منفصلة عن ظاهرة (الانحطاط); وإن العالم الإسلامي لفي حاجة ماسة في هذه النقطة إلى أفكار واضحة تهدي سعيه نحو النهضة، ولهذا فإن مما يهمنا في المقام الأول أن نتأمل الأسباب البعيدة التي حتمت تقهقره وانحطاطه”[4].
وفي دراسته لانحطاط العالم الإسلامي، والسبيل إلى تحقيق النهضة، دعا مالك بن نبي إلى تأمل دورة التاريخ وتسلسله، لتحقيق إدراك واعٍ بمكاننا من دورة التاريخ، وأن ندرك أوضاعنا، وما يعتورنا من عوامل الانحطاط، وما ننطوي عليه من أسباب التقدم. فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ، سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا[5].
فتحديد المكان الذي نوجد فيه يسهِّل علينا كثيرًا معرفة إمكانياتنا، كما يساهم في تحقيق الوعي بأسباب التخلف وعوامل النهوض الكامنة في ذاتنا، وإذا ما غاب هذا التحديد، فإننا قد ننهمك في حل إشكاليات ليست حقيقية، أو إشكاليات لها صلة واهية أو معدومة بأزمتنا الحضارية. إذ من الواضح أن الفرق شاسع بين مشاكل ندرسها في إطار الدورة الزمنية الغربية، ومشاكل أخرى تولدت في نطاق الدورة الإسلامية[6]. فهناك فرق بين مشاكل مجتمع يعمل على التخلص من ركام التخلف والدخول في دورة حضارية جديدة، وبين مشاكل مجتمع في قمة حضارته.
ولعل من أعظم ملامح زيغنا وتنكبنا عن طريق التاريخ، أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا، مما جعلنا نراوح المكان، بين أن نحتمي بالتاريخ، أو نطفر إلى الإمام طفرة عمياء في حركتنا نحو الغرب[7].
ولهذا يؤكد مالك بن نبي أنه “لا يجوز لأحد أن يضع الحلول والمناهج، مغفلاً مكان أمته ومركزها، بل يجب عليه أن تنسجم أفكاره، وعواطفه، وأقواله، وخطواته مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمته، أما أن يستورد حلولاً من الشرق أو الغرب، فإن ذلك تضييعًا للجهد، ومضاعفة للداء، إذ كل تقليد في هذا الميدان جهل وانتحار”[8].
وإدراك الفرق بين الدورة الحضارية الإسلامية والدورة الحضارية الغربية لا يدفع إلى الانعزال عن بقية الإنسانية والتعلم من التجارب التي يتم إنجازها، وبخاصة في عالم يشهد انحسار الحدود، وتقريب المسـافات بين الشعوب والأمم والحضارات، مما يدفعنا إلى تحديد مكاننا من منطلق واقع اجتماعي معيش.
من هذه الرؤية الواقعية ينطلق مالك بن نبي معتبرا أن العالم يتجه نحو التوحد، ولا يمكن للعالم الإسلامي أن يعيش في عزلة. وعلى الرغم من أن حلول مشكلات العالم الإسلامي لا تأتي من خارج حدوده، فإنه مطالب بأن يتعلم من التجارب الإنسانية، ومنها التجربة الغربية، التي شهدت إنجازات كبرى كما شهدت إخفاقات رهيبة في جوانب أخرى تتصل من قريب أو من بعيد بالمشكلة الحضارية الإسلامية في بعض جوانبها.
ولهذا ينبغي أن ينشأ علم خاص بدراسة الحضارة الغربية وطرق التعامل معها والسياق الحضاري لعلاقتنا بها. وفي هذا المضمار فإن ابن نبي كان شديد الاهتمام بمعرفة الغرب وفق منظور حضاري متكامل لما لهذه الحضارة من حضور وإشعاع وتدخل في نشأة أو تطور كثير من المشكلات التي نعاني منها أو نواجهها.

2. الحاجة إلى معرفة الغرب وتحديد طبيعة الصلة به:
يقول ابن نبي، وهو يتحدث عن صلة الغرب بالمشكلة الحضارية في العالم الإسلامي: “ولا شك أن هذا الإشعاع العالمي الشامل الذي تتمتع به ثقافة الغرب، هو الذي يجعل من فوضاه الحالية مشكلة عالمية، ينبغي أن نحللها وأن نتفهمها في صلاتها بالمشكلة الإنسانية عامة، وبالتالي بالمشكلة الإسلامية”[9].
وهذا لا يجعل العالم الإسلامي تابعًا في حلوله للغرب، وإنما يتطلب منه أن يعرف التجارب حتى يتحقق من مدى نسبيتها ومدى قابليتها للنقل والاستفادة، فإذا ما أدرك العالم الإسلامي أن صدق الظواهر الغربية مسألة نسبية، فسيكون من السهل عليه أن يعرف أوجه النقص فيها، كما سيعرف جوانب عظمتها الحقيقية، وبهذا تصبح الصلات مع العالم الغربي أكثر خصوبة، ويسمح ذلك للنخبة المسلمة أن تمتلك نموذجها الخاص، تنسج عليه فكرها ونشاطها. فالأمر يتعلق بكيفية تنظيم العلاقة وعدم الوقوع في الاضطراب كلما تعلق الأمر بالغرب.
فالعالم الإسلامي منذ بداية الجهود التجديدية الحديثة يضطرب، كلما تعلق الأمر بالغرب، غير أن هذا الأخير لم يعد له ما كان يتمتع به من تأثير ساحر، وجاذبية ظفر بها على عهد أتاتورك.. فالعالم الغربي صار حافلاً بالفوضى، ولا يجد فيه المسلم الباحث عن النظام نموذجًا يحتذيه، بقدر ما يجد فيه نتائج تجربة هائلة ذات قيمة لا تقدر، على الرغم مما تحتوى من أخطاء، بل بسبب ما بها من أخطاء[10].
فالغرب تجربة تعد درسًا خطيرًا لفهم مصائر الشعوب والحضارات، فهي تجربة مفيدة لبناء الفكر الإسلامي، وتحقيق الوعي السنني، الذي ينسجم مع البعد الكوني لحركة التاريخ، ذلك البعد الذي يسبغ على حركة انتقال الحضارة قانونًا أزليًا أشار إليه القرآن في قوله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) (آل عمران، 104)[11].
فالتأمل في هذه التجربة التي صادفت أعظم ما تصادفه عبقرية الإنسان من نجاح، وأخطر ما باءت به من إخفاق، وإدراك الأحداث من الوجهين كليهما، ضرورة ملحة للعالم الإسلامي في وقفته الحالية، إذ هو يحاول أن يفهم مشكلاته فهمًا واقعيًا، وأن يقوم أسباب نهضته كما يقوّم أسباب فوضاه تقويمًا موضوعيًا[12].
وحتى تنظم هذه العلاقات، ويستفاد من هذه التجربة البشرية، ويدرك مغزى التاريخ، لا بد من فهم هذا الغرب في عمقه، وتحديد خصائصه، ومعرفة ما يتميز به من إيجابيات وسلبيات، حتى لا تكون معرفتنا به سطحية مبتسرة، وأفكارنا عنه عامة وغير نابعة من إطلاع متأمل، وبالتالي يكون وعينا به مشوهًا أو جزئيًا. ولهذا ينتقد ابن نبي النخب المسلمة في صلتهم بأوروبا، بأنها صلة تجارية أو وظيفية، بدل أن تكون صلة تأمل وإدراك لسر حركة التاريخ في أوروبا والغرب عموما، فيقول: “نرى أن الطالب المسلم لم يجرب حياة أوروبا، بل اكتفى بقراءتها، أي أنه تعلمها دون أن يتذوقها. فإذا أضفنا إلى ذلك أنه ما زال يجهل تاريخ حضارتها، أدركنا أنه لن يستطيع أن يعرف كيف تكونت، وكيف أنها في طريق التحلل والزوال لما اشتملت عليه من ألوان التناقض، وضروب التعارض مع القوانين الإنسانية”[13].
وإذا كان القرن العشرين قد تميز بتقريب المسافات، واتجاه البشرية نحو التوحد، في مصيرها، وفي علاقاتها، فإن المثقف المسلم نفسه ملزم بأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الإنسانية الرحبة، ويرتقي إلى إطار الحضور العالمي، وعيًا وإنجازًا، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي[14]، إذ لا يمكن أن نطرح مشاكلنا في زمن العولمة[15]، دون أن نأخذ في الاعتبار كل المعطيات السياسية والتاريخية والجغرافية[16].
وتحديد الصلة بالغرب وبغيره من الكيانات الحضارية، يمكننا من الوصول إلى تحديدين مهمين في إنجاز مشروعنا الحضاري التجديدي؛ التحديد الأول; هو التحديد السلبي، من خلال إدراك نسبية الظواهر الغربية، ومعرفة أوجه النقص فيها وأوجه العظمة الحقيقية. والتحديد الثاني; هو التحديد الإيجابي، من خلال تحديد ما يمكن أن نسهم به في ترشيد الحضارة الإنسانية وهدايتها. وهذا في حد ذاته ينضج ثقافتنا ويعطيها توجهًا عالميا.
فمن المفيد قطعًا أن ننظر إلى مشكلة الثقافة من زاوية عالمية… فإذا ما أدرك المثقف المسلم مشكلة الثقافة من هذه الزاوية، فسوف يمكنه أن يدرك حقيقة الدور الذي يناط به في الحضارة المعاصرة[17].
ففي هذا العصر؛ عصر العولمة، هناك وحدة في المشكلة الإنسانية تنبثق عن المصير المشترك[18]، وتجعل التاريخ الانساني موحداً، ولذا فإن ابن نبي يؤكد ذلك بقوله: “فوحدة التاريخ تتأكد في القرن العشرين [والواحد والعشرين] بطريقة لا تدع مجالاً لفكرة (الوحدات التاريخية) المستقلة، التي تفهم فيها كل وحدة في حدودها; فلقد دخلت الإنسانية مرحلة لم يعد ممكنًا فيها تحديد مجال الدراسة الخاص على طريقة (توينبي). ولعله للمرة الأولى ينبغي على التاريخ أن يضع مشكلته وضعًا منهجيًا”[19].
ولهذا علينا بأن نولي عناية خاصة بأهمية الرؤية المتوازنة للأشياء، ولحركة التاريخ، ولتطور مسار الحضارة. ذلك أن موقف المثقفين المسلمين من الغرب، ما زال موقفا حديا جزئيا مفككا تغلب عليه ثقافة عهد ما بعد الموحدين؛ تلك الثقافة الحدية الجزئية التي ترى أن الشيء إما طاهر مقدس وإما دنس حقير، ولا تعطي مكانا لاحتمالات أخرى أكثر توازنا ونضجا وسعة.
ولذا يرى ابن نبي أن عددًا كبيرًا من المسلمين، لم يرحل في طلب العلم بالغرب، ودراسته في جوهره. فالحركة الحديثة “لا تعدو على هذا مستوىً يتخبط فيه مجتمع فقد توازنه التقليدي، إذ هي مكونة في جوهرها من عناصر خالية من المعنى، مأخوذة عن المدرسة الاستعمارية، ثم يضاف إلى هذه العناصر، بعض العناصر الأخرى التي التقطتها اتفاقًا الشبيبة الجامعية، التي نشأت في طبقة متوسطة، وأقامت في أوروبا إقامة قصيرة لم تهدف من خلالها إلى معرفة الحضارة الغربية”[20].
ومن ثم وجدنا المسلم يحكم على الحضارة الغربية والنظام الغربي الذي يحيط به أو الذي يستشعر وجوده في مطالعاته المبتورة، فأفكاره عن الحضارة الغربية تصدر عن ذلك الحكم المبتسر، وعن تلك العلاقة السطحية -الوظيفية أو التجارية- بينه وبينها. وهذا مرض متجذر في ذاتنا منذ قرون مضت، حينما صار الفكر الإسلامي عاجزًا عن إدراك حقيقة الظواهر، فلم يعد يرى منها سوى قشرتها; وأصبح عاجزًا عن فهم القرآن، فاكتفى باستظهاره، حتى إذا انهالت منتجات الحضارة الغربية على بلاده اكتفى بمعرفة فائدتها إجمالاً، دون أن يفكر في نقدها، وتفهمها، وغاب عن وعيه أنه إذا كانت الأشياء قابلة للاستعمال، فإن قيم هذه الأشياء قابلة للمناقشة[21].
فصرنا لا نكترث بمعرفة كيف تم إبداع الأشياء، بل نقنع بمعرفة طرق الحصول عليها، فاستحكم فينا ذهان السهولة، وهكذا كانت المرحلة الأولى من مراحل تجديد العالم الإسلامي، مرحلة تقتني أشكالاً دون أن تلم بروحها[22]، فأدى هذا الوضع إلى تطور في الكم، زاد في كمية الحاجات دون أن يعمل على زيادة وسائل تحقيقها، فانتـــشر الغــرام بكل ما هو مستحدث[23]، وكان الأولى التفريق بين عمق الحضارة ومظاهرها السطحية. وذلك من خلال رؤية شاملة ومنهج واضح المعالم والخطوات من أجل معرفة متوازنة وعلمية بالغرب وتحديد منهجي مثمر لعلاقتنا به، وهو ما نحاول بيانه في الحلقات المقبلة بحول الله.

الهـــوامش:
[1] مصطلح “ما بعد الموحدين” مفهوم صاغه ابن نبي للدلالة على شخصية الانسان المسلم منذ عهد ما بعد دولة الموحدين في المغرب العربي إلى اليوم، وهي شخصية تتسم بالرؤية الحدية للأمور، والتبطل عن العمل التاريخي، والركون إلى الدعة والماضي، والمطالية بالحقوق وترك أداء الواجبات.
[2] مالك بن نبي، شروط النهضة، ص100.
[3] أحمد زكي، مالك بن نبي ومشكلات الحضارة، ص74.
[4] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص28-29.
[5] مالك بن نبي، شروط النهضة، 47.
[6] مالك بن نبي، شروط النهضة، ص48.
[7] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص121.
[8] مالك بن نبي، شروط النهضة، ص47-48.
[9] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص121.
[10] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص122-123.
[11] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص122.
[12] مالك بن نبي، المصدر نفسه، ص122.
[13] مالك بن نبي، المصدر نفسه، ص68.
[14] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص16.
[15] تجدر الإشارة هنا أن مالك بن نبي استعمل مصطلح “العالمية” للدلالة على العولمة Globalizationفي كتابه مشكلة الثقافة، ص، 131. وذلك عند حديثه عن “الثقافة في اتجاه العالمية الغربية” كما أعطاه مفهوم العالمية Universality عند حديثه عن القيم الموضوعية المفتوحة، وعن الحالة التي يشهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وستأتي مناقشة ذلك في الحلقة الرابعة من سلسلة هذه الدراسة.
[16] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص131.
[17] مالك بن نبي، المصدر نفسه، ص140.
[18] مالك بن نبي، فكرة الإفريقية الأسيوية، ص206.
[19] مالك بن نبي، المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[20] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص45 وما بعجها.
[21] مالك بن نبي، المصدر نفسه، ص65-66.
[22] فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام، ص426.
[23] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص66.

Comments (0)
Add Comment