بقلم د. عائشة يوسف المناعي
أولا : التجديد وما يقابله من مفاهيم:
يفهم من معنى التجديد في اللغة : وجود شيء معروف عند الناس، ولكنه بحكم ما مر عليه من زمن أصابه البلى والقدم، ولذلك احتاج إلى إعادة بناء وترميم، ولهذا فإن المعنى المنشود في التجديد أن يكون على صورة أفضل مما سبق .
أما في الاصطلاح فمعناه لا يخرج عن المعنى اللغوي فهو : الإحياء والبعث والإعادة والتغيير كما في قوله تعالى : {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} ، وقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم : «جددوا إيمانكم، قيل يا رسول الله وكيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله» ، ويقول صلى الله عليه وسلم مؤكدًا التجديد «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها » .
فهل يفهم من ذلك أن الدين الإسلامي يحتاج إلى تجديد وهو الكامل والتام والخاتم! وإذا سلمنا بذلك فما هي كيفية تجديده والرسول الأعظم ليس بين ظهرانينا .
يقول الشيخ يوسف القرضاوي أن المقصود بالتجديد هنا لا يقع على الثابت من الدين وهو المنهج الإلهي من عقائد وعبادات وشرائع وأخلاق ، ولكنه يقع على الحالة الثانية منه وهي ما يكون عليه الإنسان في علاقته بالمعنى الأول من الفكر والشعور والعمل والخلق، ومن هنا يقال : ضعيف الدين أو قويه ، حسن الإسلام أو رديئه ، ولذلك أضاف الرسول صلى الله عليه وسلم الدين للأمة ولم يضفه إلى الله تعالى .
فالتجديد على ذلك مطلب شرعي بكل ما تحمله كلمة التجديد من معنى التغيير والتطوير و خلق الشخصية المسلمة المؤمنة بدين جديد قادر على إطلاق طاقات الأمة الإسلامية في كل مجالات الحياة عن طريق الفكر والعقيدة والسلوك .
والإسلام ما جاء إلا ليجدد ويغير ويكمل ويتم وكان له ذلك .
وترد مصطلحات مختلفة قد يفهم منها معنى التجديد ، وقد استخدمها بعض الباحثين على أنها مرادفات للتجديد ، وإن كنا نرى أنها تتفق معها في أمر وتختلف عنها في آخر . ومثالها:
(أ)التقدم :
يقال : «مشى فلان القدمية والتقدمية إذا تقدم في الشرف والفضل ولم يتأخر عن غيره في الإفضال على الناس» ومنه يقال : التقدم الإنساني و يقصد به ترقي الإنسان وعلوه وسيره إلى الأمام قدمًا في العلم والاجتماع والسياسة والاقتصاد .
ويرى بعض الباحثين أن هذا المفهوم قد يكون مقابلاً لمصطلح (التنوير) في كثير من عناصره عند مفكري الغرب، وإن «من الحق أن يقال إن مفهوم التقدم عند مفكري الإسلام المحدثين لم يؤخذ إلا لماما بالمعنى الذي نجده لدى فلاسفة التقدم التنويريين في أوربا»
(ب) التطوير :
ويقصد به عند إطلاقه ، التحول إلى الأصلح والأحسن والأفضل و فيقال : تطور الإنسان وتطور المجتمع أي تقدم في ميدان من ميادينه أو أكثر ، فكأنه مساوٍ لمصطلح التقدم والتقدمية ، أو مرادف له.
(ج) التغيير:
وأحسبه أكثر المصطلحات التصاقًا بمفهوم التجديد ، وقد يعبر عنه في أغلب صوره ، وإن كان مصطلح التغيير – في نظري – أعم من مصطلح التجديد من حيث أن التغيير إذا أطلق فيشمل الانتقال من الفساد إلى الصلاح والعكس أيضًا صحيح .
والتغيير في اللغة هو التحول «وغيّره: حوله وبدّله كانه جعله غير ما كان ». وفي التنزيل العزيز {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } .
وقد جاء في موسوعة المفاهيم الإسلامية العامة : أن هذا المفهوم وبخاصة إذا ارتبط بالمجتمع _ كثيرًا ما يترادف مع «مصطلحات النهضة واليقظة والتطور والنمو والاصلاح والتقدم ، وهي مفردات شاعت لدى رواد الفكر والإصلاح العرب والمسلمين في العصر الحديث ، فاستخدام هذه الكلمات يتضمن معنى واحدًا هو الصيغة الإرادية للتغيير».
والمصطلحات التي ذكرناها لا تستلزم ارتباط الجديد بالقديم ، وإن وجد فلا يوجد مقياس يحدد ما يجب وما يجوز وما يجب محوه وفناؤه ، أما التجديد فهو يتميز عنها بأن معناه كما يرى د. محمد عمارة «إزالة ما طرأ على الأصول والكليات والقسمات الأساسية، مما يتعارض مع روحها ومقاصدها ، الأمر الذي يكشف عن نقاء هذه الأصول ويعيدها بالعقلانية والاجتهاد كي تفعل فعلها في مستحدثات الأمور، وما وجد وما يستجد في واقع الحياة .. ففيه عودة لحقيقة الذات ، واستلهام لعوامل الثبات وقسماته ، مع إضافات جديدة تعالج الجديد في إطار الأصول والثوابت ، بحيث يتم للحضارة ذلك الاتساق الذي يجعل حاضرها الامتداد المتطور للقسمات الأصلية والثوابت الجوهرية في بنائها القديم» .
ثانيا : مالك بن نبي والمجددون:
لقد استخدم رواد الإصلاح كثيرًا من المصطلحات النهضوية مثل: التنوير، والتحرر والتجديد الكفيلان بإحداث اليقظة الإسلامية التى تعود إلى استلهام الحضارة الإسلامية ونفض الغبار عنها . ذلك التجديد الذي نحسبه من ضرورات الدين الإسلامي حتى إن الإسلام ذاته لم يأت إلا ليغير ما هو سائد عند الناس من أباطيل وأوهام حجبت الفطرة الصحيحة، وساهمت في تحريف الرسالات السابقة وتبديلها أو تحويرها.
وباكتمال الرسالة عقيدة وشريعة وبختم النبوة وبمرور الزمان ، وانتهاء النصوص ، واستمرار الأحداث ، أصاب الفكر الإسلامي بعض الجمود ، فظهرت طائفة تدعو إلى العودة إلى القديم الجديد من الفكر الإسلامي ، تدعو إلى إحياء الفهم الصحيح لثوابت الدين وقواعده . وظهور تلك الطائفة ومن بعدها ممن يسمون بالمجددين لهو مطلب ضروري في الإسلام ، وقد ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي أوردناه سابقًا .
وكلما أصاب الحضارة الإسلامية تراجع ، وازداد أصحابها اختلاطًا وامتزاجًا بالحضارة الغربية أو بالآخرين ، كلما احتاجت إلى من يوقظها وينهض بها ويحرر عقلها الأمر الذي يعد مقدمة للتغيير والتجديد .
ويرى المؤرخون أن التجديد توقف عند السنة العاشرة للهجرة ، ثم عاد من جديد بعد أن اشتد الجمود والانغلاق، وكان الداعية له جمال الدين الأفغاني في نهاية القرن الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر الهجري يقول عمارة : «وإذا كان الأفغاني قد أضاء مشعل التجديد الديني وفتح بابه ، ثم استغرقه العمل السياسي ضد الاستعمار والاستبداد ، فإن الشيخ محمد عبده كان أبرز أئمة هذه المدرسة ، فلقد أتاح له تركيزه علي قضايا تحرير العقل المسلم وتجديد الدين الإسلامي أن ينجز على هذا الدرب أعظم الإنجازات التي جعلت هذه الأمة تعيش حقًا في العصر الحديث» .
والاستعمار والدين والقضايا الاجتماعية كانت قاسمًا مشتركًا بين مفكري الإسلام في العصر الحديث وفي تناولهم إياه ، وإن اختلفت معالجاتهم لموضوعاته وترتيبها حسب أولياتها عند كل منهم .
وقد جاء اتفاقهم على ضرورة طرح تلك الموضوعات وبيان أزمة الفكر الإسلامي فيها ، والتخطيط لمعالم تغييرها من منطلق العقل المستضئ بنور الشرع، والمستبصر بالفهم الصحيح لروح الإسلام وخصائصه ، والمنتفع بكل ما ينفتح عليه من علوم الغرب وحضارتهم القائمة على المادة .
وكلهم متفق على أن الفهم الصحيح للدين هو الركيزة الاولى للتغيير ، ودليلهم قوله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم}.
والسنن الكونية الإلهية هي خير دليل ومرشد للعقل الإسلامي على أهمية التغيير، إضافة إلى فهمه لأبعاد الحضارة الأوربية المعاصرة . ومن عناصر الاتفاق محاربة البدع بمظاهرها المتنوعة من خرافة وتواكل واستلاب العقول ، وفي المقابل تجاوز الفكر المجرد وتحويله إلى حركة كما يقول مالك بن نبي «إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة ولكن منطق العمل والحركة ، فهولا يفكر ليعمل بل ليقول كلامًا مجردًا بل أكثر من ذلك» .
وكان من بين ما اشترك فيه فكر المجددين ضرورة أن تحل الحضارة كل المشكلات الإنسانية الاجتماعية ، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بمحاربة القوى الاستعمارية الخارجية من جهة ومحاربة الاستبداد والظلم السياسي والاقتصادي الداخلي من جهة أخرى .
ومالك بن بني (1905م – 1973م) تلك الشخصية الجزائرية يعد – بحق – أحد النماذج الإسلامية الذين شغلت الحضارة الإسلامية وعلاقتها بالحضارة الغربية جلَّ تفكيره منذ صغره إلى أن لقى ربه .
ويحسن بنا قبل البدء في محاولتنا لدراسة مظاهر التجديد في فكر مالك بن نبي أن نلقي الضوء بإيجاز شديد على الناحية التاريخية من حياته ، والتي أرخ لها بقلمه في مؤلف له سماه « مذكرات شاهد للقرن» تناول فيه فترة حياته منذ مولده إلى 1939م. وموجزها : أن ولادته كانت في مدينة قسنطينة في الجزائر ، من عائلة فقيرة . وأول تعليمه كان القرآن الكريم .. وبعد ذلك درس في النظامية ، وبعد حصوله على الشهادة الثانوية سافر إلى باريس ليدرس فيها الهندسة الكهربائية .
وكان كثير الاطلاع والقراءة في الأدب العربي القديم ، وفي كثير من كتب التفسير ، إضافة إلى اطلاعه على أدب المهجر والأدب الفرنسي ، كل هذا صقل ذهنه المتوقد وفكره الناقد ، فاتسع أفقه وحسه الأدبي ، وأصبحت له نظرة منهجية في كل ما يدور حوله ، واستطاع مالك بن نبي أن يرصد حركة الاستعمار وقسوته التى أحدثت تغييرات خطيرة في بنية المجتمع الجزائري.
وقد تميز فكر مالك بن نبي بتكونه من ثقافتين : الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية . وقد أعطته قيمه الإسلامية المغروسة في نفسه فترة طفولته ومراهقته قوة وصلابة أمام الأحداث المتغيرة والمتواترة على حياته ، بل كانت تلك الأحداث مع سمات شخصيته وإيمانه المتأجج بالله تعالى عصمة له من الانحراف مع أي تيار من التيارات الفكرية المتلاطمة في عصره .. كل ذلك كان سببًا – أيضًا – في توجيه مسار فكره إلى البحث عن أسباب ضعف وتخلف العالم الإسلامي ، ومن ناحية أخرى محاولة البحث عن إيجاد الحلول العلمية والعملية للخلاص من هذا التقهقر والضعف .
ذلك الحل يتمثل – في نظره – بتصحيح الاعتقاد وتصحيح الفهم وتصحيح السلوك ، وخير دليل على ذلك : أن أول ما تمخض عنه فكره دراسة حول الظاهرة القرآنية سنة 1946م باللغة الفرنسية، ويكفيني أن أنقل شهادة الدكتور محمد عبد الله دراز والأستاذ محمود شاكر في تقديمهما لهذه الدراسة ، يقول دراز:« ففي ضوء العلم الحديث ولجت قضية رئيسية ما فتت تشغل المفسرين في كل زمن ، ولعلي أنا لامستها في دراسات عديدة سابقة ، سواء ما كان منها بالعربية أو الفرنسية. إن الغبطة التي شعرت بها وأنا أقرؤك لهي من العمق بقدر ما أتاحت لي هذه القراءة أن أدرك من جديد ذلك الجهد الجاد المستقل والمتجرد يقود الباحثين عن الحقيقة إلى نتائج متماثلة بل موحدة رغم المسافة التي يمكن أن تفصل بينهم في المكان والزمان .
وإذا نحينا جانبًا أسلوبك الغني في الكتاب وطريقتك الرائعة في عرض الأشياء فإننا نجد طرقنا في الدراسة متشابهة بصورة بارزة…. »
أما شهادة الاستاذ محمود شاكر فيقول فيها «فليس عدلاً أن أقدم كتابًا هو يقدم نفسه إلى قارئه ، وبحسب أخي الأستاذ مالك بن نبي وبحسب كتابه أن يشار إليه ، وإنه لعسير أن أقدم كتابًا هو نهج مستقل أحسبه لم يسبقه كتاب مثله من قبل ، وهو منهج متكامل يفسره تطبيق أصوله كما يفسره حرص قارئه على تأمل مناحيه ولا أقول هذا ثناء»
وتتالت بعد ذلك مؤلفات مالك بن نبي وكلها تدور حول ما سماه «بمشكلات الحضارة» .
وكانت رحلته إلى فرنسا سنة 1930م بعد حصوله على الثانوية العامة، وتنقل في معاهدها إلى أن استقر أمره في كلية الكهرباء والميكانيكا فتخصص في هندسة الكهرباء .
وفي هذه الأثناء سنة 1931م تزوج من امرأة فرنسية أسلمت وتسمت باسم خديجة ، وقد كانت امرأة صالحة وكان لها الأثر الكبير في حياته الأسرية والفكرية علي الخصوص _ كما يتحدث هو عنها كثيرًا في سيرة حياته . فقد أدخلته إلى عمق الحضارة الأوربية : حياة وذوقًا وجمالاً ، يقول :«ومضت زوجي تفتن من أجل توفير جميع وسائل الراحة لي داخل البيت حتى من الناحية الفكرية ، إذ كانت تأتي على الأشياء التى أشاهدها في عالمي الجديد بشهادة من يعرفها من داخلها . لقد كنت أرى في تلك الأشياء القيم الحضارية التي أصبحت الشغل الشاغل بالنسبة لي من الناحية النظرية ، ولكن زوجي ألبستها لباسها الإنساني وصيرتها ملموسة أمامي. لقد أصبحت في الحقيقة أعيش في الورشة المختصة بالجانب التطبيقي لملاحظاتي عن البيئة الجديدة ، وبصياغة توقعي واستطلاعي الشخصي تجاهها سواء من حيث الفكر والسلوك أو من حيث ما أذكى من فضائلها وما أرفض من رذائلها».
بل يروى أن زوجته بذوقها واتقانها في صنع كل ما يقع تحت يدها ، وتميزها في دقة ترتيبها ونظافة بيتها ، جعلته في حالة من التطور النفسي ، يقول بعد وصفه لها « إنني أذكر هذه التفاصيل لأنني أعدها دالة على التطور النفسي الذي سيجعلني أشد الناس نفورًا لكل ما يسئ لذوق الجمال .. غير أن الاستعدادات التي تدفعني إلى هذا الموقف كانت أصيلة في نفسي لم أكتسبها اكتسابًا .. وإنما وجودي بفرنسا ومعايشتي لزوجي طورا هذه الاستعدادات الوراثية إلى افكار اجتماعية واضحة» .
وفي فترة إقامة بن نبي في فرنسا تنقل في العديد من الدول لعله يجد عملاً واستقرارًا في أحدها ، وكان كل أمله أن يقيم في الطائف بالمملكة العربية السعودية ، ولكنه لم يفلح في محاولته فعاد إلى فرنسا مرة ثانية .
وفي سنة 1956م سافر إلى مصر ، وألف به العديد من كتبه باللغة العربية، كما أنه سعي فيها إلى ترجمة ما كتبه بالفرنسية إلى العربية ، وكانت له صولات وجولات فكرية أثر فيها وتأثر إلى أن غادر إلى الجزائر في سنة 1963م، وعين مديرًا عامًا للتعليم العالي ثم استقال من منصبه سنة 1967م.
وواصل ابن نبي مسيرته العلمية وعطاءه الفكري المتميز والمتجدد إلى أن وافته المنية في 31 / 10 / 1973م .
ومن دلائل صلاح هذا الرجل وعمق إيمانه بالله تعالى وثبات معتقده وشدة تعلقه بدينه ان أنهى عطاءه الفكري برسالة سماها تلميذه المحامي عمر المسقاوي (بالوصية) ، وهي محاضرة ألقاها مالك بن نبي سنة 1972م أثناء عودته من رحلة الحج الأخيرة ، مارًا بدمشق. وألقى بها محاضرتين بعنوان «دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين» ، ويقول مسقاوي:« وهذه وصية تركها مالك ابن نبي في ضمير أجيال تتلمس الخروج من أزمتها الراهنة ، وما نقول فيها ونحن نبلغها إلا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (رب مبلغ أوعى من سامع».
والسؤال الآن : لماذا مالك بن نبي؟ أو كما تساءل أحد الباحثين بقوله: «لماذا العودة إلى مالك بن نبي عندما يطرح منهج التغيير؟
والجواب : «إن مالك بن نبي – في رأينا – هو حلقة وسيطة بين النهضة الإسلامية والصحوة الإسلامية . وهو إذ نراه متميزًا في أنه استوعب أفكار النهضويين الأوائل فتجاوزهم من خلال معطيات مرحلته وعلومها وعالميتها ، فإن ما يستغرب أن اللاحقين لم يتواصلوا معه في صحوتهم الجديدة ، حتى أضحى التقليد الأحادي بديلاً لكل فكر ، وأضحت السياسة البراغماتية اليومية حكمًا في كل موقف وممارسة .
ومن هنا فإن إعادة قراءة مالك بن نبي انطلاقًا من الحرص على التواصل مع الأفكار البناءة في تاريخ نهضتنا ، وإن كان موضوعها التاريخي قد فشل تعطينا فسحة من التأمل فيما هو مستمر في العقلية السائدة والمنهج وأسلوب التفكير السائدين» .
وسنحاول أن نلقى الضوء على أبرز مسائل التجديد بصفة عامة في فكر مالك بن نبي مع تأكيدنا على أن ابن نبي مسلم مخلص يحاول فهم دينه في روحه ومقاصده ، من خلال رحلة طويلة مع الفكر الإنساني ومقاصده _ أيضًا _ ولم ير أو لم يدع لنفسه – قط – علمًا في الفقه أو الحديث او التفسير أو علم الكلام .
المبحث الأول: التجديد ومناهجه
لم يكن فكر مالك بن نبي بدعًا من فكر رجال الإصلاح من حيث أنه لابد له في إبداعه ودعوته من أن يتأثر بمن سبقه ويؤثر فيمن لحقه هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لابد وأن تشغل فكره ذات القضايا التى شغلت فكر سابقيه بغض النظر عن أولوياتها عند كل منهم.
وقد قسم بن نبي في تأليفاته الحركات التاريخية الإصلاحية في العالم الإسلامي إلى نوعين سمي أولهما «بتيار الإصلاح الذي ارتبط بالضمير المسلم والأخرى بتيار التجديد وهو أقل عمقًا وأكثر سطحية وهو يمثل مطامح طائفة اجتماعية جديدة تخرجت في المدرسة الغربية» .
أما ابن نبي فقد امتدح في دعوته الإصلاحية الحركة الوهابية وزعيمها محمد بن عبدالوهاب، وإن اختلف منهجه عن منهجها إلا أنه يعدها حركة صالحة لتحرير العالم الإسلامي من مشكلاته وهمومه الداخلية ، فهي منذ نشأتها وهي تحاول القضاء على التخلف الداخلي باسم الإسلام ، وترى أن لا سبيل للصلاح إلا بالعودة إلى فهم الإسلام و تطبيق مبادئه كما فهمه الصدر الأول وطبقها ، ويصفها بن نبي بقوله :«تعني _ في نظري _ سيطرة الفكرة الإسلامية الوحيدة التي تصلح بما فيها من طاقة متحركة ، لتحرير العالم الإسلامي المنهار منذ سقوط خلافة بغداد» .
هذه الحركة، وإن كانت إصلاحية لما بالداخل إلا أن المستعمر يخشاها ويرهبها لأنها كما سماها ابن نبي طاقة محركة ، وتلك الطاقة تكمن في تركيز الوهابية على فكرة التوحيد وتجريدها عن الماديات وبذلك «أمنت دفعًا ثوريًا ترك بصماته على كل دعاة الإصلاح بعدها، وهذا الدفع الثوري لا ينتقص من قيمته تشددها في بعض الجوانب الشرعية والأحكام أو بعض المواقف المتطرفة لبعض أتباعها مما أوصل بعض تصرفاتهم إلى حد المغالاة» .
ولا يخفى ابن نبي إعجابه بتلك الحركة فيذكرها كلما سنحت له الفرصة فيقول أثناء حديثه عن القضية اليهودية وخطورة ما يؤمن به تجاهها «إذ كان لي فعلاً فيها رأي يزيد من خطورتي في نظر تلك السلطات بالإضافة إلى أنها وجدتني ملتزمًا نحو الوهابية والوطنية والإصلاح ونحو التكنولوجيا».
ثم تتسع حركة الإصلاح فيأتي من يقاوم العدو الخارجي «رجل الثقافة والعلم» كما يسميه ابن نبي « جمال الدين الأفغاني» فكانت كلمته موقظة للعزيمة النائمة ومجددة للإيمان بالله تعالى وبالثورة والتغيير «وهكذا كانت كلمة جمال الدين فقد شقت كالمحراث في الجموع النائمة طريقها فأحيت مواتها ثم ألقت وراءها بذورًا لفكرة بسيطة : فكرة النهوض ، فسرعان ما آتت أكلها في الضمير الإسلامي ضعفين ، وأصبحت قوية فعالة» .
ويتوالى تيار الإصلاح بعد أن كان جمال الدين باعثًا له كما يقول ابن نبي لا مصلحًا بمعنى الكلمة « فإذا كان جمال الدين باعث الحركة الإصلاحية ورائدها وما زال بطلها الأسطوري في العصر الحديث ، فإنه لم يكن في ذاته مصلحًا بمعنى الكلمة » ثم يأتي دور محمد عبده الذي تتلمذ على يد الأفغاني فأكمل دوره ، وهو الرجل الأزهري المتمسك بدينه ، ويرى ابن نبي أن «الفضل في نشأة الحركة الإصلاحية واتجاهها الذي اصطبغت به ، يعود إلى الاستعدادات الأصيلة لدى الشيخ المصري الذي كان بحق أستاذ تلك المدرسة … وكان الشيخ عبده يعلم علم اليقين انه لكي يتحقق الإصلاح يجب أن يبدأ خطوته الأولى من الفرد ، ولقد وجد أسـاس هذه الفكرة في كتاب الله» .
ويظن الشيخ محمد عبده كما ظن بعده محمد إقبال «أن من الضروري إصلاح علم الكلام بوضع فلسفة جديدة حتى يمكن تغيير النفس » وهذا ظن خاطئ لأن «كلمة علم الكلام ستصبح قدرًا مسلطًا على حركة الإصلاح القدر الذي حاد بها جزئيًا عن الطريق، حين حط من قيمة بعض مبادئها الرئيسة، كمبادئ السلفية ، أي العودة إلى الفكرة الأصيلة في الإسلام ، فكرة السلف ».
هذه هي المآخذ على مدارس الإصلاح ، يضيف إليها مالك بن نبي ما أطلق عليه (جب) عقدة (التسامي) . ولقد وجدت هذه العقدة في الثقافة الأوربية على عهد (توماس الأكويني) واتخذت صورة تنحية كل ما من شأنه أن يدل على وجود تأثير إسلامي .
واليوم تحدث الظاهرة نفسها في الثقافة الإسلامية التقليدية في صورة مقاومة لضغط الأفكار الغربية ، فعمل الشيخ محمد عبده في ميدان العقيدة كان في أقصاه (نزعة إلى المديح) اقتضاها هذا التسامي.)
وبعد ذلك يقول بن نبي : «إن تلخيصنا هذا النقد يوشك ألا يطلعنا إلا على نقائص حركة الإصلاح ، وربما فقدت بذلك في نظرنا قيمتها الاجتماعية إن لم تفقد قيمتها التاريخية ، ومع ذلك فإن جزءًا كبيرًا مما حققه العالم الإسلامي وما قدره راجع إلى مجهود الشيخ محمد عبده ومدرسته ، وأما ما بقي بعد ذلك فهو راجع إلى تيار المدنية الحديثة» ، وهذا يعني أن مالك بن نبي لا ينكر دور المصلحين جميعًا في العصر الحديث منذ جمال الدين الأفغاني الذي كثيرًا ما يسميه «بالرجل العظيم» ، إلا أنه يتطلع إلى إصلاح أكثر إيجابية، إصلاح وتجديد يجعل المجتمع الإسلامي يبدع الوسيلة التي تشبع حاجته الجديدة -على حد تعبيره- ويعزو هذه الفجوة في دعوات المصلحين إلى الاضطراب العام الذي يسود التفكير الإسلامي ، يقول : «فكانت النهضة ولكن دون توجيه منهجي ، فتحررت قوى كانت من قبل خامدة ، بيد أنها لم تتخذ مجالاً أو تتسلم دورًا ، لقد ثار العالم الإسلامي الحديث لكن ثورته كانت في ظرف مغلق في قنينة دعيّ في الكيمياء ، لا يدرى قانونًا لتفاعل المادة في عمليته» .
وفي نص آخر له يقول : «إن نظرة واحدة إلى نهضتنا البعيدة حينما نهضنا على صوت زعمائنا الأقدمين كجمال الدين ومحمد عبده والشيخ رشيد رضا . حينما سمعنا هذه الأصوات الجليلة وأيقظتنا من سباتنا أين توجهنا؟ إننا توجهنا بالطبع في طريق الحضارة ، ولكنا بكل أسف من غير أن نحدد الهدف ونوضح معالم الطريق ».
وابن نبي في نقده لمنهج الحركة الإسلامية الحديثة لا يمكنه ادعاء عدم تأثره بها ، بل ولا يمكنه إنكار النتائج الإيجابية التي خلفتها كل حركة وخلفها كل فكر إصلاحي ، ولكني أحسبه أراد تحديد أولويات الإصلاح «مركزًا على الفاعلية الاجتماعية للعقيدة ، لأن فتح باب الإشعاع الروحي في الحياة الاجتماعية معناه إعطاء نمط حضاري مميز عماده التوازن الروحي – المادي» .
وقد يكون ابن نبي متجاوزًا في نقده حد الحقيقة حيث إن كل مصلح قدم خططه وبرامجه الإصلاحية سواء في الشأن السياسي أو الاجتماعي أو الديني أو التربوي أو مقاومة الاستعمار . ومنهم من ركز على إصلاح الداخل ، ومنهم من ركز على إصلاح الخارج «وأما إن كان يريد ابن نبي لما كتبوه أن يكون برنامج العمل العربي الإسلامي على امتداد السنوات الطويلة فهذا أمر غير ممكن ، لأن من سنة الله في الخلق تبدل الأحوال وتقلبها ، ومن طبيعة العلاقات الاجتماعية والدولية الزئبقية التي تعدّل التحالفات والمواقف على ضوء المعطيات المستجدة ، إذن الثبات على حال مستحيل ، فكيف نطلب لبرامج الإصلاح ديمومة الصلاحية دون تعديل أو تبديل ».
وابن نبي في تحليله لمناهج الإصلاح يعترف بذلك ويؤكد على أن الداعي للإصلاح في حاجة إلى من يعاضده ويسانده ، وهذا ما يصف به شخصية الشيخ عبد الحميد بن باديس الجزائري المناضل ، الذي يعده ابن نبي شخصية عظيمة «هو الرجل الذي قدر لإشعاعه أن يبلغ أعماق الضمير الشعبي» وهو لم يكن ليستطيع ذلك دون أن يكون له أيد مصلحة تقنع بفكره وتشد من أزره، وقد تمثل ذلك في الجمعية التي أسسها وسماها (جمعية العلماء المسلمين) ، ويقول ابن نبي «لقد بدأت معجزة البعث تتدفق من كلمات بن باديس، فكانت تلك ساعة اليقظة ، وبدأ الشعب الجزائري المخدر يتحرك .. فتحولت المناجاة إلى خطب ومحادثات ومناقشات وجدل وهكذا استيقظ المعنى الجماعي وتحولت مناجاة الفرد إلى حديث الشعب» .
وظهرت على إثر ذلك قيادات وأفكار اتفقت حينًا وتصارعت حينًا ، ظهرت في صورة مدرسة أو مسجد أو مؤسسة إصلاحية ، وظهرت نظريات اجتماعية ، وهكذا : « نرى ان هذه القيادات والاتجاهات – رغم تباينها واختلافها – كانت متفقة على نقطة هي: إرادة الحركة والتجديد .. ولقد كانت حركة الإصلاح التي قام بها العلماء الجزائريون أقرب هذه الحركات إلى النفوس وأدخلها في القلوب إذ كان أساس منهاجهم الأكمل قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم} فأصبحت هذه الآية شعار كل من ينطرح في سلك الإصلاح في مدرسة (بن باديس) وكانت أساسًا لكل تفكير، ظهرت آثارها في كل خطوة وفي كل مقال حتى أشرب الشعب في قلبه نزعة التغيير فأصبحت أحاديثه تتخذها شرعة ومنهاجًا .
هذه الحركات وهذا الفكر تأثر به مالك بن نبي وأقر بفضله في عملية النهضة والتجديد، إضافة إلى أنه بنظرته التحليلية العميقة أبرز ما فيه من نقص في مناهجه الإصلاحية تمثل في عدم التفاته إلى ما يسميه بعناصر الحضارة أو عواملها أو ما يسميه بمشكلات الحضارة.
وتشخيص المشكلات وحلها يكون في الجمع بين الفكر والعمل، وذلك لن يكون – كما يرى ابن نبي – إلا بتطبيق الإسلام بصفته خير ممثل لمعيار الحضارة وهو الجمع بين الفكر والعمل . وباستقراء بن نبي للتاريخ ورصده للواقع وفهمه للإسلام يطرح تصوره لمناهج التجديد مستلهمًا روح القرآن الكريم، وسنعرض أهمها فيما يلي:
أولاً : المفهومية :
ويقصد بها مالك الفهم الصحيح لكل أو بعض ما يدور حول المرء ليصح انطلاقه للعمل من خلال ذلك الفهم ، ويمثل لذلك باستقلال الجزائر الناتج عن ثورة قامت على «مفهومية تتلخص في كلمة واحدة هي «الاستقلال» وكان الفلاح هو الذي أعطاها محتوى مفاهيميًّا في عبارات جد بسيطة، وقد وضع فيها شعوره بالتضحية…وهو الذي جعـــل منها معـركة (مقدسة).. . »
ولا غرو أن يكون هذا المنهج داخلاً ضمن ما سماه ابن نبي (بالأفكار) التي يعدها جزءًا لا يتجزأ من مشكلات الحضارة .
وفي الإسلام يرى أن النزعة الإسلامية التي يجب أن ندرجها في منهاجنا المفاهيمي – على حد قوله – هي القادرة على أن تعطي كل ذي حق حقه، ففي الحياة الاجتماعية مثلاً «المسألة لا تتمثل في تلقين او إعادة تلقين المسلم عقيدته ، ولكنها تتمثل في إعادة تلقينه استخدامها وفعاليتها في الحياة ».
وهنا قد يواجه المسلم أمرًا له أهميته من حيث حيرته بين التمسك بحرفية الدين أو بروحه دون أن يمس جوهره، ويستشهد ابن نبي في هذه المسألة بسلامة موقف سيدنا عمر بن الخطاب حين صح فهمه للدين ، فأطلق سراح سارق الخبز في عام القحط . بالرغم من أن حكم السارق معلوم في الفقه الإسلامي وهو قطع اليد «ولكن الخليفة العظيم في تعلقه بروح الدين بدلاً من حرفيته، أطلق السارق وقدم له مع ذلك نصائحه حتى لا يقع ثانية تحت طائلة العقاب مع تمويله بالزاد الضروري لحياته في انتظار ظروف أفضل ».
ولم تخل حركات التغيير في العالم الإسلامي من عدم المفهومية أو بمعنى أصح من حطأ المفهومية . وذلك من خلال ما يسميه ابن نبي بالأفكار الميتة والأفكار القاتلة .
الأولى : تحاول الحفاظ على الأفكار القديمة ، كما هي حتى وإن كانت ميتة.
والثانية: تستورد الأفكار الغربية وتتمسك بها ، وإن كانت قاتلة ، ويرى أن الأفكار التي فقدت الحياة بداخلنا هي الأخطر من المستوردة ، يقول : «ولو وجب علينا أن نميز بين الفئتين لقلنا أن الأفكار الميتة التي ورثناها من عصر ما بعد الموحدين ، أخطر علينا من الفئة الأخرى» .
ويبدو أن مالك ينتقد في هذا كلا من دعاة الإصلاح ودعاة الحداثة ، وقد يعود ذلك لعدم انفتاح كل منهما على التيار الآخر ، إضافة إلى عدم تمكنه من فهم مصدره الذي يتشدد في الانتماء إليه يقول بن نبي «فالخطأ الذي وقع فيه المحدثون ودعاة الإصلاح ، ناتج عن أن كليهما لم يتجه إلى مصدر إلهامه الحق، فالإصلاحيون لم يتجهوا إلى الفكر الإسلامي ، كما أن المحدثين لم يعمدوا إلى أصول الفكر الغربي» .
ثانيًا : الفعالية :
الفعالية هي النتيجة الطبيعية للمفهومية الصحيحة ، فإن المرء إذا فهم مشكلاته ورتبها ترتيبًا منطقيًّا أصبح الأمر عنده كالآتي «مشكلة تهمني كمواطن عربي ومشكلات تواجهني كإنسان يعيش في مجتمع إنساني» ، وبعد ذلك يأتي دور اتخاذ الموقف في سبيل حل تلك المشكلات: إن القضية.. تتصل بموقفنا نحن كأفراد تتصل بموقفي كمواطن أمام المشكلات فإنني عاجز عن صياغتها فكريًا، وإذا صيغت فكريًا بصورة ما فإنني عاجز عن التصرف في الإمكانيات لحلها ، فعجزي إذن مزدوج وليس عجزًا بسيطًا . هذا العجز هو الوجه الآخر للفعالية ، هو عدم الفعالية ، وهو ناتج عن خلل في المفهومية سواء في ذلك صيغة المشكلات وترتيب أولوياتها أو في القدرة على حلها.
وإذا أردنا فعالية منتجة ، لابد أن نبدأ بالإنسان فيعرف قدراته وإمكانياته الذاتية ، ويعرف قدرات وإمكانيات مجتمعه ، وتأتي معرفة دينه على رأس القائمة ، من حيث إنه هو الذي يمده بالطاقة ويشكل تصورّه عن نفسه وعن الكون وعما وراء الطبيعة ، ومن ثم يكتسب القدرة على الفعالية . فإذا تحرك الإنسان كان تحركه هو الفاعلية المنشودة في الحضارات ، يقول ابن نبي : «علينا أن ندرس أولاً الجهاز الاجتماعي الأول وهو الإنسان .. فإذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ ، وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ » هذا التحرك – كما ذكرنا – هو فعالية الإنسان في التاريخ وتحتاج تلك الفعالية إلى شروط لتحققها ، أهمها : عدم الاستسلام لكل ما يحدث له من خلال وضعه تحت إطار القضاء والقدر ، ولن يتحقق ذلك _ أيضًا _ إلا بتحديد مسؤولية المرء تجاه تلك الأحداث «وبقدر ما نكشف من أسرارها نسيطر عليها بدلاً من أن تسيطر علينا فنوجهها نحن ولا توجهنا هي» .ويستدل ابن نبي بالآية الكريمة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر} فهذه الآية خير ما يمثل فعالية المسلم، ويكشف عـــــــن وظيفته الاجتماعية: « فالمعروف في أعم صوره والمنكر في أشمل معانيه يكونان جوهر الأحداث التي تواجهنا يوميًا كما يكونان لبّ التاريخ ، هـــذا هو المعنى العام للفعالية» .
ثالثًا : التوازن:
لا يمكن لحضارة ما أن تقوم إلا على أساس من التوازن . والتوازن في مفهومه العام لا يخرج عن إطار مفهوم العدل وهو : إعطاء كل ذي حق حقه، وهذا لا يعنى العطاء المادي دون المعنوي.
إذن فالحضارة تتركب من تلك النظرة المتوازنة للروح والجسد والكم والكيف والغاية والوسيلة ، فإذا اختل التوازن في جانب واحد اختلت الحضارة. «والحضارة الإسلامية قد فقدت تعادلها يوم فاتها أن ترعي سلامة هذه العلاقة بين العلم والضمير ، بين العناصر المادية والوجود الروحي ، فغرقت في هاوية الصوفية الخالصة، في فوضى المرابطــين التي سببـت سقوطها» .
ولا يستثنى مالك بن نبي الحضارة الغربية من ذلك السقوط ، ويرى أنها حين فقدت معنى الروح فهي «تجد نفسها بدورها على حافة الهاوية» .
والإسلام هو الدين الأوحد الذي يُعد التوازن الدقيق والشامل من أهم خصائصه ، قال تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (الدنيا مطية الآخرة) . وما عبرت عنه هذه النصوص بالنسبة للفرد المسلم – كما يقول بن نبي – ينطبق على الحياة الاجتماعية كلها ، «فنحن بالطبع لانفصل الدنيا عن الأخرى، إذ هي المطية التي نمتطيها للوصول إلى أهداف هي أبعد من الموت ، فإذا كانت هناك بعض المجتمعات الحديثة اليوم تبني المجتمع لغايات اجتماعية بحتة ولحياة أرضية بحتة _ وأنا لا أقلل من شأن هذه الغايات ، وإنما أعلم انها تقف في منتصف الطريق _ فإن مجتمعنا يبني لما بعد الحياة كما يبني لأهداف يحققها لحياة كل فرد . وهذا بالطبع يتطلب من المسلم ومن العربي جهدًا أقدر من جهد الآخرين وجهادًا أكبر من جهادهم».
إذن فالنهوض يحتاج إلى تطبيق معتنقي الإسلام لمبدأ التوازن الذي يطرحه وينادي به ، لا أن يتعصب لجانب دون الآخر ، «فنهضة العالم الإسلامي إذًا ليست في الفصل بين القيم، وإنما هي في أن يجمع بين العلم والضمير ، بين الخلق والفن، بين الطبيعة وما وراء الطبيعة ، حتى يتسنى له أن يشيد عالمه طبقًا لقانون أسبابه ووسائله وطبقًا لمقتضيات غاياته ».
ويطرق الأمل نفس مالك بن نبي في قدرة العالم الإسلامي على التجديد والتغيير ، فيقول « .. ولكنا في الوقت نفسه نجد هذا العالم الإسلامي يخطو في طريقه إلى تجديد نفسه بفضل ما تحصل في يديه من قيم حديثة ، فهذا الامتزاج بين الروح والمادة والذي يتم الآن في بطء سيسرع دون ريب ، كلما تعود مواجهة المشكلات بفكر علمي» .
رابعًا : النقد الذاتي :
هذا النقد يعوقه ويشل حركته ما يسميه ابن نبي «بالشلل الأخلاقي» الذي نتج عن قياس خاطئ عند المسلم ، وهو : ( أن الإسلام دين كامل ونحن مسلمون إذّا فنحن كاملون) ، هذا القياس يعطل قابلية الفرد للكمال، إن لم يقض عليها تمامًا ، وفي ذلك تحقيق _ ولاشك _ لأهداف الاستعمار يقدمه المسلم له دون أن يكون للمستعمر أي جهد فيه ، يقول ابن نبي: « وإنه لمن الحكمة أن نفكر في ضروب الارتكاس إلى الجريمة ووجوه المغالاة الاعتباطية المؤذية ، تظل ممكنة الحدوث ما لم تتم تصفية العقد المخجلة داخل مجتمعنا ، ويمكننا القول بأن هذه العقد هي التي كونت رأس المال الذي استثمره الاستعمار في جهازنا الإداري لكي يستبقي داخله ثغرات ملائمة لنشاطه المباشر» .
هذه العقد المحجلة تحتاج في محاربتها إلى تطهير النفس ، ولا يكون ذلك إلا بالنقد الذاتي والإحساس بالذنب والإقرار به والإعلان عن الخطأ .
وكثيرًا ما يميل بن نبي إلى التمثل بمواقف سيدنا عمر بن الخطاب الذي جمع الصحابة وأعلن لهم ما مؤداه أنه لم يكن شيئًا مذكورًا وأنه لا يعدو كونه مجرد راعي ماشية جعل منه الإسلام خليفة ، إضافة إلى اعترافه بالخطأ في قوله: أصابت امرأة وأخطأ عمر ، وكثيرًا ما يتميز بمحاسبته الدائمة لنفسه وذكر ذنوبه وندمه وبكائه ، ورجائه في أن يغفر الله تعالى له .
هذا النقد الذاتي وذلك الإحساس المرهف بالخطأ فُقد في العالم الإسلامي منذ عهد بعيد «ولم نعد نرى زعيمًا يعترف بأخطائه ، وهكذا غرق المثل الأعلى الإسلامي ، المثل الأعلى للحياة والحركة ، في فيضان من التعالي والغرور، بل في ذلك القنوع الذي يتصف به رجل الدين ، حين يعتقد أنه بتأدية الصلوات الخمس قد بلغ ذروة الكمال دون أن يحاول تعديل سلوكه وإصلاح نفسه .. وبذلك تختل حركة التقدم للنفس في الفرد والمجتمع» .
أما سيدنا عمر ومن هم في مقامه ، هم أول من أعلنوا هذا المنهج المتجه إلى الذات قبل أن يتجه إلى الغير ، يقول ابن نبي : « وهكذا كان عمر العظيم الذي نعرف مدى حساسيته الأخلاقية المتوفرَة، أول من فتح طريق النقد الذاتي» .
المبحث الثاني: مفهوم الحضارة ( شروطها ومشكلاتها)
يعرف ابن نبي الحضارة ، بأنها «جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل فرد من أعضائه جميع الضـــمانات الاجتماعية اللازمة لتقدمه» .
ويفصل هذا التعريف في مؤلف آخر فيرى أنها «مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التى تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده من الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه. فالمدرسة والعمل والمستشفى ونظام شبكة المواصلات والأمن في جميع صوره عبر سائر تراب القطر واحترام شخصية الفرد تمثل جميعها أشكالاً مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه »
بهذا المفهوم الشامل حدد بن نبي معنى الحضارة ، ولا تستطيع أمة من الأمم أن تخلق حضارة إلا إذا توفرت جميع هذه الشروط ، الأمر الذي يمكن المجتمع او هذه الحضارة من أن تحلّ . أما مجرد اقتباس المنتجات المادية من حضارة أو حضـــارات أخـــرى ؛ فإنه لا ينشئ (حضارة) ، إن هذا الاقتباس – أو الاستيراد – لا يعدو أن يكون (تكديسًا) للمنتجات ، أي (لأشياء) الحضارة، وليس تأسيٍسًا أو (بناء) لحضارة جديدة. ولهذا نادى مالك بن نبي بوجوب ان ينتقل العالم الإسلامي من (التكديس) إلى (البناء) .
وإذا جاز لهذا التكديس ان يسمى حضارة ، فهو (الحضارة الشيئية) كما يسميه بن نبي الآن «أي حضارة لا يمكن أن تبيع جملة واحدة الأشياء التي تنتجها ومشتملات هذه الأشياء ، أي أنها لا يمكن أن تبيعنا روحها وأفكارها الذاتية وأذواقها .. وبدونها تصبح كل الأشياء التي تبيعنا إياها دون روح وبغير هدف» .
إذن فالحضارة لابد وأن تصنع منتجاتها حيث إننا لا نستطيع استيراد روح إي حضارة وقيمها ومعانيها التي تربط بين ما يسميه بن نبي بعناصر الحضارة ، وعبر عنها في كل مؤلفاته (بالأشخاص والأفكار والأشياء) .
ويميل بن نبي إلى طريقة عالم الكيمياء في عملية التحليل المؤدية إلى التركيب، وينصح العالم الإسلامي باقتباس تلك الطريقة إن أراد لنفسه النجاح في تركيب حضارة ، ويرى أن كل ناتج حضاري تنطبق عليه الصيغة التحليلية الآتية :
ناتج حضاري= إنسان + تراب + وقت
وبعد أن شرح هذه المعادلة ببعض الأمثلة ، وأثبت أو أكد صيغة صادقة بالنسبة لأي ناتج حضاري . انتهى إلى تقرير قاعدته المشهورة :
حضارة = إنسان + تراب + وقت. وقال إنه استخدم كلمـــة (تراب) بدل (مادة) في هذا السياق ؛ تحاشيًا للبس في كلمة (المادة) نظرًا لتعدد مفاهيمها في باب الأخلاق والعلوم والفلسفة .
وعلى هذا ، فإن العالم الإسلامي من أجل أن يحل مشكلته الحضارية ، لابد له أن يحل مشكلاته الثلاث الأولية : مشكلة الإنسان ، مشكلة التراب، مشكلة الوقت .
ومن هنا جاء رفضه السابق – الذي أشرنا إليه – وأعنى رفض التكديس، لأن تكديس المنتجات (الحضارية) لا يحل أيًا من مشكلات الحضارة .
ولكن هذا لا يعنى أن توفر العناصر الثلاثة ، ومحاولة حل مشكلاتها ، يوفر تكوّن حضارة تلقائيًا ، ولكن كما أن القانون في الطبيعة يحتم تدخل مركب ما لإتمام عملية كيميائية ، فكذلك «وبالمثل لنا الحق في أن نقول: أن هناك ما يطلق عليه (مركب الحضارة) أي العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض، فكما يدل عليه التحليل التاريخي..، نجد أن هذا (المركب) موجود فعلاُ، هو الفكرة الدينية التي رافقت دائمًا تركيب الحضارة خلال التاريخ» .
إذن ، فالحضارة تحتاج إلى عنصر الدين الذي هو الأساس في علاقة الأشخاص بالأفكار وبالأشياء ، أو هو الفاعل في علاقة الإنسان بالوقت والتراب، أو ما يسميه بن نبي ما يحدث من مزج للإنسان بالوقت والتراب.
ومن فهم الدين الإسلامي فهمًا صحيحًا وعلم قدرته وتأثيره في النفس والكون، آمن بإمكانية تحقيق هذا الشرط في الحالة الراهنة للشعوب الإسلامية «فإن قوة التركيب لعناصر الحضارة خالدة في جوهر الدين، وليست ميزة خاصة بوقت ظهوره في التاريخ ، فجوهر الدين مؤثر صالح في كل زمان ومكان» .
ويحسن بنا أن نستعرض بإيجاز عناصر الحضارة كما هي في رؤية مالك بن نبي ، وتصوره للحلول المناسبة لمشكلاتها : « مشكلة الإنسان وتحديد الشروط لانسجامه مع سير التاريخ، مشكلة التراب وشروط استغلاله في العملية الاجتماعية ، مشكلة الوقت وبث معناه في روح المجتمع ونفسية الفرد. إنه يمكننا الآن في ضوء هذه الاعتبارات النظرية أن نقدر تقديرًا سليمًا وضع النهضة العربية من حيث غايتها ووسائلها وطبيعة مشاكلها» .
أولاً: الإنسان:
هو المرتبة الأولى لأنه كما يرى بن نبي هو الذي يوجه الأشياء والأفكار والوقت والتراب، ويصنع الحضارة .
الإنسان هو الذي يحدد القيمة الاجتماعية للمعادلة التي صاغها ابن نبي، وإن كان مالك بن نبي يتحدث عن إنسان الحضارة بصفة عامة إلا أنه يعنيه في هذا المقام الإنسان المسلم، ولكي يكون هذا الإنسان قادرًا على تحقيق النهضة لابد له من شروط ثلاثة:
1- أن يعرف نفسه ويعمل على تنقيتها من كل أنواع التخلف.
2- أن يعرف الآخرين وأن لا يتعالى عليهم وأن لا يتجاهلهم .
3- أن يعرف الآخرين بنفسه ، ولكن بالصورة المحببة ، بالصورة التي أجريت عليها كل عمليات التغيير بعد التنقية والتصفية من كل رواسب القابلية للاستعمار والتخلـف وأصنـــاف التقهقر .
وأول معرفة – على ذلك – يجب أن تكون لتنقية فكره ، وهو بعالمه الفكري يستطيع أن يدعم عالم الأشياء «العالم الذي لا يقف على قدميه بدون العالم الأول ، ولا يمكن أن يقف على قدميه بنفسه إذا ما أطاحت به النوائب» .
ويضرب بن نبي أمثلة بتجارب الغرب، فألمانيا في حرب 1945م فقدت (عالم أشيائها) حيث دمرت وأتلفت مصانعها وآلاتها وبنوكها ، ولكنها لم تفقد (عالم أفكارها) فنهضت «وقد كونت من جديد وابتدأ من هذا الرأسمال المفاهيمي كل حياتها الاجتماعية واحتلت مجددًا مكانتها السياسية في العالم» .
والإسلام يُملِّك المسلم كل مقومات هذا العالم الخلاق المحرك ، وإضافة إلى إعلاء هذا الجانب يعلى فيه جانبين آخرين وهما: العمل والمال . وصحة الجانب الأول شرط لصحة هذين الجانبين . وعالم الأفكار تنضوي بداخله مفاهيم كثيرة مثل : الثقافة والعلم والأخلاق والعاطفة .
ومن هنا فعلى المسلم أن يحاول تصفية وتنقية تلك المفاهيم ، فيتخلص من الأفكار الميتة ، والأفكار القاتلة ، ويقصد بن نبي بالأولى : الأفكار التي يصنعها المجتمع بنفسه ، ثم تبقى في تراثه الاجتماعي «أفكارًا ميتة» كتلك التي ورثها المجتمع الإسلامي من عصر ما بعد الموحدّين . وقال إن هذه الأفكار تمثل خطرًا أشد عليه من خطر «الأفكار القاتلة» لأنها منسجمة مع عادته، وتفعل فعلها في كيانه من الداخل! ويؤكد ابن نبي أن هذه الأفكار «التي كانت قاتلة في مجتمع حي قبل أن تصبح ميتة في مجتمع يريد الحياة لم تولد بباريس أو لندن ، بل ولــدت بفاس والجزائر وتونس والقاهرة. »
أما الثانية فهي التي نستعيرها من الغرب، وقد مثل لهما ابن نبي «بالجانب الذي نسميه الاستعمار والجانب الذي نطلق عليه القابلية للاستعمار» .
ولذلك فإذا أراد المسلم التحرر من الاستعمار ، فعليه أولاً أن يتخلص من فكرة «القابلية للاستعمار» التي يعدها بن نبي عائقًا معرقلاً لحركة النهضة ، ويفسرها بمقولة غاية في الدقة :« فكون المسلم غير حائز جميع الوسائل التي يريدها لتنمية شخصيته وتحقيق مواهبه: ذلك هو الاستعمار ، وأما ألا يفكر المسلم في استخدام ما تحت يده من وسائل استخدامًا مؤثرًا ، وفي بذل أقصى الجهد ليرفع من مستوى حياته، حتى بالوسائل العارضة ، وأما ألا يستخدم وقته في هذه السبيل، فيستسلم – على العكس – لحظة إفقاره وتحويله كمًا مهملاً يكفل نجاح الفنية الاستعمارية ؛ فتلك هي القابلية للاستعمار» . هذه القابلية أخطر من الاستعمار وتتعدى خطره من حيث أنها تصبح هي الجالبة له «إن هناك حركة تاريخية ينبغي ألا تغيب عن نواظرنا، وإلا غابت عنا جواهر الأشياء فلم نر فيها غير الظواهر ، هذه الحركة لا تبدأ بالاستعمار ، بل بالقابلية له ، فهي التي تدعوه» .
ولكي يتحرر هذا الفكر وتكون للمسلم فعالية لابد له من تحقق «الثقافة» ، فهي تلازم الإنسان المتحضر وترتبط بالحضارة ارتباطًا عضويًا في جانبها التربوي . وفي هذا يقول بن نبي «تتحدد الثقافة بصفة عامة عندما تصبح تاريخًا ، فتتمثل لأعين الأجيال في صورة معجزة إغريقية ، أو امبراطورية رومانية، غير أن القرن العشرين قد أدخل مقياسًا جديدًا في روح المنهج وفي الطريقة التي تحدد بها الثقافة ، فالإنسانية قد دخلت عصر التخطيط .. فإذا أردنا أن نفهم الثقافة في هذا العصر وجب أن نفهمها كمنهاج قبل أن نحددها كنتيجة» .
والثقافة – كما يراها مالك كنتيجة تاريخية – تتكون من عناصر جوهرية أربعة تلزمها ولا تنفك عنها وهي : الدستور الخلقي، والذوق الجمالي، والمنطق العملي، والصناعة بتعبير ابن خلدون أو (التقنية) . ومن هنا فبالإمكان تعريف الثقافة بصورة عملية، بأنها : «مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولى في الوسط الذي ولد فيه ، والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته» . وشرح بعض جوانب هذا التعريف في موضع آخر ، أو في تعريف ثان ، فقال : الثقافة: «هي الجو المشتمل على أشياء ظاهرة مثل الأوزان والألحان والحركات، وعلى أشياء باطنة كالأذواق والعادات والتقاليد . بمعنى أنها الجو العام الذي يطبع أسلوب الحياة في مجتمع معين وسلوك الفرد فيه بطابع خاص يختلف عن الطابع الذي نجده في حياة مجتمع آخر» .
إذن فالثقافة تجمع – كما يرى ابن نبي – بين معطيات الإنسان ومعطيات المجتمع ، وما يحدث بينهما من انسجام وتناغم وتفاعل .
والثقافة بهذا المفهوم لا تفيد معنى العلم، وإن كان العلم جزءًا منها ومن مضمونها . وتلك الفكرة عن الثقافة هي التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحضارة «وفي ضوء هذا الربط تصبح الثقافة نظرية في السلوك أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة، وبهذا يمكن أن يقاس الفرق الضروري بين الثقافة والعلم» .
والثقافة وحدها لا تستطيع أن تكون أسلوب حياة لمجتمع ما ، إلا إذا اشتملت على مبدأ أخلاقي، هذا المبدأ هو الذي «يجعل كل فرد مرتبطًا بهذا الأسلوب ، فلا يحـــدث فيه نشوزًا بسلوكه الخاص» .
والفعالية المنشودة في مجتمع ما هي التي تحدد مقياس وجود هذا المبدأ ودرجاته في هذا المجتمع ، فبقدر ما يزيد تأثير العنصر الأخلاقي فيه تزيد الفعالية وبقدر ما ينقص تنقص .
وفي إطار الثقافة ، وفي إطار عالم الأفكار ظهرت فكرة المنطق العملي. ولا يريد بن نبي بهذه الفكرة كما يقول «ذلك الشيء الذي دونت أصوله ووضعت قواعده منذ أرسطو ، وإنما نعنى به كيفية ارتباط العمل بوسائله ومعانيه ، وذلك حتى لا نستسهل او نستصعب شيئًا بغير قياس يستمد معاييره من واقع الوسط الاجتماعي ، وما يشتمل عليه من إمكانيات» .
هذا المنطق العملي الذي يعد أحد عناصر أو مكونات الثقافة ، هو جوهر اتحاد الفكرة بالعمل، وهذا النوع من الفكر هو الذي ينقص المسلمين بصفة عامة ، وهو السبب الأساسي في تخلفهم _ الذي يستنتجه أي عاقل من واقع أحوالهم ، ويرى ابن نبي « أن المنطق العملي ينقص البلاد الإسلامية عمومًا ، فهذا أمر متوقع ، لأن العجز في الأفكار يخلق أو ينتج في المجال النفسي عجزًا في المراقبة الذاتية وفي مراجعة النتائج» .
ويعجب بن نبي من أمر المسلمين ، حيث إن دينهم الذي يدينون به ليل نهار، يتمثل فيه المنطق العملي بكل أبعاده ، فيدعوهم إليه كتابه وتدعوهم إليه سنة قدوتهم ومثالهم الأعلى – قولاً وعملاً – . ويستشهد بما يسميه مبدأ التبادل الذي يطبقه القرآن في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر} . وهذا المبدأ تناولته سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله :« مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم ، فقالوا لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا وإن أخذوا على أيديهــــم نجوا ونجوا جميعًا» .
ففي الآية الكريمة ، وفي الحديث الشريف معان كاملة لفعالية كاملة بين مجتمع وأفراده ، وهذا هو عين التحضر الذي يأخذ في اعتباره ثنائية النقد والنصح والتوجيه ، لكي تتلافي السلبيات وتستجلب الإيجابيات «إلا أن هذه المبادلة لا يمكن أن تمارس إلا إذا تم ربط الفرد بالجسم الاجتماعي ، بالصورة التي تلتحم بها مادة البناء بكامل البناية ، وذلك لكي نستعمل مرة أخــرى صورة مقتبسة عن الرسول صلى الله عليه وسلم» في صورة ثقب حاجز السفينةالمشار إليه .
و يأسف ابن نبي على حال المسلمين الذين فقدوا هذا المنطق فيقول «ولقد يقال إن المجتمع الإسلامي يعيش طبقًا لمبادئ القرآن ومع ذلك فمن الأصوب أن نقول إنه يتكلم تبعًا لمبادئ القرآن لعدم وجود المنطق العملي في سلوكه اليومي».
وعلى الرغم من ذلك فابن نبي يعترف للمسلمين بما عندهم من فكر إلا أنه فكر مجرد عن العمل وعلى ذلك فالمسلم يفكر «لا ليعمل بل ليقول كلامًا مجردًا ، بل أكثر من ذلك ، فهو أحيانًا يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيرًا مؤثرًا ويقولون كلامًا منطقيًّا من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط» .
ثانيًا : التراب:
لقد عني ابن نبي بهذا العنصر قيمته الاجتماعية التى يستمدها من قيمة مالكيه «فحينما تكون قيمة الأمة مرتفعة وحضارتها متقدمة يكون التراب غالي القيمة ، وحيث تكون الأمة متخلفة يكون التراب على قدرها من الانحطاط».
ولقد أنكر بعض الباحثين على مالك بن نبي أن جعل للتراب أهمية كعنصر مكون للحضارة ، ويرى أن الإنسان هو وحده الذي يستطيع أن يخلق حضارة ، وهذا الإنسان هو المسلم فقط ، وعلى ذلك فمعادلة بن نبي : ( إنسان + تراب + وقت = حضارة) خاطئة ، لأن نتيجتها دمار – كما يرى- فتكون بهذه الصورة : ( إنسان + وقت + تراب = دمار) .
أما المعادلة الصحيحة فهي : إنسان متوازن = حضارة ، ولما كان المسلم – حتمًا – متوازنًا تصبح صورة المعادلة كالآتي «إنسان مسلم = حضارة .. ونستطيع أن نفقط المعادلة السابقة بالشكل التالي: الحضارة فقط الإنسان المسلم. »
وتذكرنا هذه المقولة بنقد بن نبي للذهنية المسلمة المعتمدة على كمال الدين الإسلامي في جعله مقياسًا لوصفها بالكمال ، وهي «الإسلام كامل، ونحن مسلمون ، إذن فنحن كاملون» . ولا يخفى علينا أن تلك المقولة ناتجة عن ذلك القياس الخاطئ هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فابن نبي يستخدم هذا المصطلح لأنه عماد حياة المجتمع المادية ، يقول مالك : « ومن التراب كل شيء على الأرض ، وفي باطنها ، ومعنى التراب هنا ليس هو المعني المتبادر إلى الذهن، فقد تعمدت ألا أستخدم كلمة مادة لأسباب فقلت: « التراب» . لأن التراب يتصل به الإنسان بصورتين: صورة الملكية أي من حيث تشرع الملكية في المجتمع الذي يحقق للفرد الضمانات الاجتماعية . فالتراب هنا شيء حيوي في المجتمع من حيث التشريع، وهو يتصل به بصورة أخرى من ناحية علم التراب والمعلومات التي تتصل به كالكيمياء وغيرها ، فالتراب نعني به هذين الجانبين جانب التشريع وجانب السيطرة الفنية والاستخدام الفني» ولاشك أن هذا المعنى الدقيق لمفهوم (التراب) في فكر بن نبي غاب عن الأستاذ غازي التوبة ومن هنا أصدر حكمه .
ويناقش ابن نبي في مسألة الإنسان الكثير من القضايا المهمة في الفكر الإسلامي مثل : المرأة والزي والفنون الجميلة وغيرها .
ثالثًا : الوقت:
وهو الزمن الذي بتحديده يتحدد معنى التأثير والإنتاج ، وهو على ذلك جوهر الحياة الذي لا يقدر بثمن وفي «ساعات الخطر في التاريخ تمتزج قيمة الزمن بغريزة المحافظة على البقاء إذا استيقظت ، ففي هذه الساعات التي تحدث فيها انتفاضات الشعوب ، لا يقوم الوقت بالمال ، كما ينتفى عنه معنى العدم، إنه يصبح جوهر الحياة الذي لا يقدر»
والعالم الإسلامي لا ينقصه معرفة شيء اسمه (الوقت) ، ولكن ينقصه إدراك معناه ، فينتهي عنده الوقت إلى عدم «ولسنا نعرف إلى الآن فكرة الزمن الذي يتصل اتصالاً وثيقًا بالتاريخ ، مع أن فلكيًا عربيًا مسلمًا هو «أبو الحسن المراكشي» يعتبر أول من أدرك: هذه الفكرة الوثيقة الصلة بنهضة العلم المادي في عصرنا» . وبتحديد فكرة الزمن، يتحدد معنى التأثير والإنتاج «وهو معنى الحياة الحاضرة الذي ينقصنا» .
ويرى ابن نبي ان الوسيلة الضرورية للفت نظر العالم الإسلامي إلى أهمية الوقت وغرس فكرة الزمن عمليًا في عقل المسلم ، هي التربية «فإذا استغل الوقت ولم يضع سدى ، ولم يمر كسولاً في حقلنا، فسترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي،وهذه هي الحضارة»
وخير ما يستدل به ابن نبي في ذلك خبر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم:« ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي ، يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد فاغتنم مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة»
المبحث الثالث: الدين وأثره في الحضارة
عندما يتحدث بن نبي عن أثر الدين في الحضارة يتناوله من جانبين:
الجانب الأول: تأثير الدين بصفة عامة.
الجانب الثاني: تأثير الدين الإسلامي بصفة خاصة.
والفكرة الدينية في عمومها أساس لكل مشروع حضاري ، يقول: «فالحضارة لا تبعث – كما هو ملاحظ – إلا بالعقيدة الدينية ، وينبغي أن نبحث في حضارة من الحضارات عن أصلها الديني الذي بعثها ، ولعله ليس من الغلو في شيء أن يجد التاريخ في البوذية بذور الحضارة البوذية وفي البرهمية نواة الحضارة البراهمية .
فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم في صورة وحي يهبط من السماء يكون للناس شرعًا ومنهاجًا ، أو هي – على الأقل – تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي بالمعنى العام ، فكأنما قدر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية» .
ولقد كانت قناعة بن نبي في الدين الإسلامي على الخصوص ، على أنه يملك من المقومات ما به يغير حياة الفرد وحياة المجتمع ، كما أنه يحمل من جهة أخرى مقومات وجوده واستمراريته . ولقد كانت عناصر الحضارة في جزيرة العرب «الإنسان والتراب والوقت راكدة خامدة، وبعبارة أصح مكدسة لا تؤدي دورًا ما في التاريخ، حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء _ كما تجلت من قبل بالوادي المقدس أو بمياه الأردن _ نشأت من بين هذه العناصر الثلاثة المكدسة حضارة جديدة فكأنما ولدتها كلمة (اقرأ) …» . هذه الكلمة التى غيرت مجرى التاريخ ، وتميز بها الدين الإسلامي عن غيره من الأديان السماوية «فبينما ينفتح كتاب العهد القديم منذ السطر الأول في سفر التكوين على عالم الظاهرات المادية ، وينفتح كتاب العهد الجديد في إنجيل يوحنا على عملية التجسيد ينفتح القرآن على الجانب العقلي : اقرأ باسم ربك … اقرأ … هذه هي الكلمة الأولى التي تفتح إليها أول ضمير إسلامي، ضمير محمد، ويتفتح لها بعده كل ضمير مسلم »
ويفهم من ذلك الأمر الإلهي ، أنه أمر بالتغيير ، ومن هنا كان منهج الرسالة الإسلامية مقتضيًا للتغيير ، والتغيير يستلزم تغيير ما بالنفس أولاً ، وهذه المسؤولية الفردية وإن كان أساسها ذات الإنسان كفرد، إلا أنها تحتم من ناحية أخرى – إذا تشكلت مجموعة من الأفراد – تغيير المجتمع أو الأمة أو ما سماه القرآن بالقوم في قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم} هذه الآية الكريمة الصادقة يتخذها ابن نبي ، وكذلك رجال الإصلاح شعارًا لهم ، تعبر عن أهمية وضرورة أن يبدأ التغيير من الإنسان الفرد أو الجماعة ثم يأتي فعل الله تعالى في التغيير ، «.. علاوة على ذلك ، فالفكرة الدينية التي تشرط سلوك الفرد.. تخلق في قلوب المجتمع بحكم غائية معينة ، وذلك بمنحها إياها الوعي بهدف معين ، تصبح معه الحياة ذات دلالة ومعنى .. وهي حينما تمكن لهذا الهدف من جيل إلى جيل، ومن طبقة إلى أخرى فإنها حينئذ تكون قد مكنت لبقاء المجتمع ودوامه وذلك بتثبتها وضمانها لاستمرار الحضارة» .
تلك هي سنة الله تعالى في خلقه {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} . والتجديد عملية تستلزمها روح الرسالة المحمدية ، إضافة إلى خاتمتيها ، وبذلك يقول الرسول : «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» .
وفي مفهوم الحديث نوع من الاستمرارية للتجديد «يمكن أن نعتبر عمليات التجديد وخطط ووسائل التغيير المرحلية في الرسالة الخاتمة ، تقوم مقام عمليات تتابع التصويب التي كان يتكفل به تتابع النبوات .. فالتغيير والتجديد في الرسالة الخاتمة ، في ضوء القيم في الكتاب والسنة ممكن أن يحقق الخلود ويقوم مقام تتابع النبوات ورسالاتها المرحلية في التصويب» .
من هنا تظهر القيمة القرآنية لا على أساس أنها آية يتعبد بها وتحفظ عن ظهر قلب دون أن تمس القلب، بل قيمتها في كونها محركة للحياة وباعثة للنشاط ومغيرة للإنسان ، ولكن لن تكون كذلك إلا إذا وجدت من يجعلها آية حية تملى على الفرد تصورًا جديدًا لعبوديته لله تعالى ، وتملى عليه سلوكًا جديدًا ثم تجذبه إلى الحياة بمناشطها. فإذا «وهنت الدفعة القرآنية توقف العالم الإسلامي كما يتوقف المحرك عندما يستنفد آخر قطرة من الوقود . وما كان لأي معوض زمني أن يقوم خلال التاريخ مقام المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية ، ألا وهو الإيمان» .
هذا الإيمان الذي يرقق القلوب وينشر إشعاعه الروحي على الجموع فتتألف قلوبهم وتتآخى نفوسهم كما تآلف وتآخي المهاجرين مع الأنصار، ويسميها بن نبي المؤاخاة الفعلية وهي الأساس الذي قام عليه المجتمع . وهذا الإيمان هو الذي جعل «الحياة الإسلامية_ في أرياف الجزائر _ مازالت رغم الفقر الروحي المنتشر في العالم مازالت توقظ رسالات صوفية تستحق الإعجاب وتمدها من الإشعاع الروحي بما يناسب حاجاتها والتزاماتها» .
الخلاصة :
أن فكر مالك بن نبي يمثل ثقافة مزدوجة عالمية : إسلامية وغربية ، وبحكم سعة أفقه وعمق تفكيره وثبات عقيدته ، استطاع أن يستقرئ الواقع الإسلامي ، ويكشف عن حالة تشتته ، ومن ثم طرح رؤيته فيما شكل حلاً لمشكلة الركود أو التخلف الذي يعاني منه العالم الإسلامي ، أو منهاجًا للنهوض أو الإقلاع الحضاري، وكان بن نبي ينطلق في رؤيته من مباني الإسلام وتوجيهاته للفكر والسلوك ، ودعوته لتغيير النفس وتصفيتها ، ولا حرج في استخدام كل الوسائل والمناهج التغييرية التي لا تعارض الدين ولا تعاديه، ومنها الانفتاح على الحضارة الغربية ، والاستفادة منها .
وهو بذلك لا يجعل العالم الإسلامي تابعًا للغرب كما يتهمه بعض الباحثين في الزعم : بأن مالك يرى خلود الحضارة الغربية ، ومن هنا فإن إعادة تشكل الحضارة الإسلامية لن يكون إلا بمتابعتها لها
ومن يقرأ مالك بن نبي لا يصعب عليه اكتشاف خطأ هذا الرأي، لأن بن نبي لا يمكنه تبني هذه الفكرة ، وأقواله وآراؤه الكثيرة شاهدة على ذلك ، نذكر منها : قوله : « إن علينا أن نأخذ من الحضارة الغربية الأدوات التي تلزم في بناء حضارتنا .. حتى يأتي يوم نستطيع فيه الاستغناء عنها بمنتجاتنا» .
ويحذر بن نبي من ناحية أخرى من الأفكار المعادية لنا من أن تجتاحنا يقول:« إن كل فراغ أيديولوجي لا تشغله أفكارنا ينتظر أفكارًا منافية معادية لنا » ، وهذا لا يمنع كما يرى من الاستفادة من تجارب الآخرين ، التي هي أمر مطلوب حتى من الشرع، يقول: «وإنه لمن المستحسن أحيانًا أن نعيد التفكير في تجربة غيرنا عندما تكون قابلة للتطبيق على حالتنا نحن لكي نكيفها مع شروطنا الخاصة ».
كل ذلك يشهد لمالك بن نبي بأصالة الفكر وتميز المنهج وتوازن النظرة ، ويمكن القول : أن المنحى الذي اتخذه في دراسة العالم الإسلامي ، وفي التجديد وشروط النهضة يكاد يكون فريدًا من نوعه بين دراسات الرواد والمصلحين . وربما أمكن عدّه (ابن خلدون) العصر ، أو الخطوة اللاحقة والمكملة لدراسات ابن خلدون . ويبدو أن هذا اللون من الدراسات والمناهج الاجتماعية الحضارية مغربي أكثر من مشرقي. وقد يضاف إلى هذا اللون من الدراسات ويلحق بها: البحث في (مقاصد الشريعة) وتحقيق أغراض النصوص؛ وكما شهد العالم الإسلامي بين يدي دخوله في عصر الركود ابن خلدون والشاطبي ، فقد شهد بين يدي عصر النهضة مالك بن نبي وابن عاشور وعلال الفاسي .
لم يكن مالك بن نبي مفكرًا بارزًا وصاحب نظرية في الحضارة فحسب، بل كان كذلك مؤمنًا شديد الحماسة، ظل تخلف المسلمين يقض مضجعه ويشغل باله السنوات الطوال ، وقد توفي رحمه الله ، والأمل في نهضة العالم الإسلامي واستعادته لدوره الحضاري – أو دورته الحضارية – يملأ نفسه وقلبه.
مراجع البحث
1- ابن منظور _ لسان العرب – دار صادر .
2- أسعد السحمراني – مالك بن نبي مفكرًا إصلاحيًّا – دار النفائس – بيروت – ط1 – 1984 .
3- عباس محمود العقاد – الإنسان في القرآن الكريم – منشورات المكتبة العصرية – بيروت.
4- عبد الصبور مرزوق – موسوعة المفاهيم الإسلامية العامة – المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – القاهرة _ 2000م .
5_ عمر عبيد حسنة – مناهج التغيير ووسائله في ضوء الكتاب والسنة – ندوة الكويت – ط1 – 1995م.
6- عمر مسقاوي – نظرات في الفكر الإسلامي ومالك بن نبي – دار الفكر – دمشق – ط1 – 1979م.
7- غازي التوبة – الفكر الإسلامي المعاصر – ط1 – 1969م.
8- فهمي جدعان – أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – ط2 – بيروت – 1981م.
9- مالك بن نبي :
أ – آفاق جزائرية – مكتبة عمار – ط1 – القاهرة – 1971م .
ب – إنتاج المستشرقين – مكتبة عمار – القاهرة – 1970م.
جـ – تأملات _ دار الفكر – دمشق – 1979م.
د – دور المسلم ورسالته – دار الفكر – دمشق 1978م .
هـ – شروط النهضة -دار الفكر – دمشق 1986م.
و – الظاهرة القرآنية – دار الفكر – دمشق 1980م.
ز – فكرة كومنولث إسلامي – مكتبة عمار – ط2 – القاهرة – 1971م .
ح – في مهب المعركة – مكتبة المتنبي – ط2 – القاهرة – 1972م.
ط – القضايا الكبرى – دار الفكر – دمشق – ط1 – 1991 م.
ي – مذكرات شاهد للقرن – دار الفكر – ط2 – دمشق – 1984م .
ك – وجهة العالم الإسلامي – دار الفكر – دمشق – 1981م.
10- محسن عبد الحميد – تجديد الفكر الإسلامي – دار الصحوة – مصر – 1977م.
11- محمد عمارة – الإمام محمد عبده مجدد الدنيا بتجديد الدين – دار الوحدة – بيروت – 1985م.
12- وجيه كوثراني – لماذا العودة إلى مالك بن نبي عندما يُطرح منهج التغيير – ندوة الكويت – ط1 – 1995م .
13- يوسف القرضاوي – تجديد الدين في ضوء السنة – مجلة مركز السيرة والسنة – العدد الثاني – 1987م _ جامعة قطر .
(*) البحث مقدم إلى المؤتمر العام الثالث عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، من 31 مايو – 3 يونيو 2001م ، القاهرة .
(**)المؤلف : أستاذ مساعد ، قسم أصول الدين – كلية الشريعة والقانون والدراسات الإسلامية – جامعة قطر .
مجلة المسلم المعاصر العدد 101 (15 أيلول/سبتمبر 2001)