الدكتور محمد الدراجي
المعهد الوطني لأصول الدين
كان بن نبي رحمه الله كثير الاهتمام بالقرآن الكريم لأنه مفكر مسلم جعل من القرآن الكريم محور فكر وأساس انطلاقه، وفي هذا الإطار كتب بن نبي مؤلفه القيم «الظاهرة القرآنية» كما اهتم بن نبي بمناهج التفسير منذ شبابيه الباكر إذا يقول في المذكرات: «وفي هذه الأثناء وصل إلى باريس وفد من علماء الأزهر من أجل تحضير شهادة الدكتور تحت شهادة الدكتوراه تحت إشراف أستاذة السربون ومعهم بعثة من طلاب جامعة القاهرة لتحضير شهادات أخرى، وأتيح لي ولحمودة بن الساعي أن نتعرف على هؤلاء الطلبة وألئك العلماء ومن بينهم الشيخ تاج والشيخ دراز رحمة الله بمقهى الهقار، كما أتيح لي ولصديقي أن نساعد هؤلاء الوافدين في خطواتهم الأولى في اللغة الفرنسية، وأخذت عليهم في نفس الوقت ما يفيدوني من معلومات عن الحياة في الشرق حتى بالنسبة لشروط الانتساب إلى المعاهد الأزهرية لأنني لم ألق بفكرة الهجرة إلى الشرق عرض الحائط فبقت تخامرني فترة كمهندس ينشئ هناك إحدى الصناعات وأخرى كطالب أزهري يبحث في مناهج التفسير»(1).
وكان القصد من تأليف بن نبي الظاهرة القرآنية هو إحداث ثورة منهجية في مجال مناهج التفسير وتزويد المثقف المسلم المحنك بالثقافة الغربية الحديثة بأسس راسخة تسمح له يتأمل ناضج ووع للدين الإسلامي(2) يقول بن نبي في المدخل لدراسة الظاهرة القرآنية :
«ولذا حاولنا أن نجمع العناصر التي بقيت من الأصل مكتوبة في قصاصات أو مسجلة في الذاكرة فأنقذنا بذلك ـ على ما نعتقد جوهر الموضوع ـ وهو الاهتمام بتحقيق منهج تحليلي في الناحية العملية هدفا مزدوجا هو :
1ـ أنه يتيح للشباب المسلم فرصة التأمل الناضج في الدين
2ـ وانه يقترح إصلاحا مناسبا للمنهج القديم في تفسير الكريم»(3).
وحسب بن نبي فان هذا يعود إلى جملة أسباب، يتصل بعضها بالتطور الثقافي الذي حدث في العالم الإسلامي بصورة عامة، وبعضها يرجع إلى عنصر آخر يمكن أن نسميه «تطور نظرتنا في مشكلة الإعجاز» بصورة خاصة، ففيما يخص الجانب الأول يلاحظ مالك بن نبي تغلغل الثقافة الغربية في كل شيء حتى فيما يتصل بالحياة الروحية، إذ أصبح الشباب المسلم المثقف في ديار الإسلام أوفي ديار الغرب متأثرا بالنـزعة الديكارتية ومعجبا بها إلى حد كبير، وأصبحت الأفكار الصادرة من جامعات الغرب في نظر قادة الثقافة العربية وهي المقياس الثابت -على الأشياء- ومثال ذلك فرض مرجليوث «عن الشعر الجاهلي» وكيف أصبح حقيقة لا مجال للشك فيها عند الدكتور طه حسين، الأمر الذي يزلزل أو ينسف منهج التفسير القديم ذلك المنهج القائم على المقارنة الأسلوبية معتمدا على الشعر الجاهلي كحقيقة لا تقبل الجدل (4).
علاوة على أن الطائفة الديكارتية ترى في هذا المنهج، منهجا ذاتيا فقد موضوعيته. ثم إن الضعف اللغوي الذي عم جعل من المتعذر، إن لم نقل من المستحيل، أن نستنبط من مقارنة أدبية بين آية قرآنية وفقرة أدبية موزونة أو مقفاة نتيجة عادلة أو حكيمة ندرك على إثرها الإعجاز البياني، مما يزيد في بعده عن الموضوعية.
ويرى بن نبي بأن بعض المسلمين المحدثين قد فكروا في الموضوع في الإطار أن جهودهم بالرغم من أنها لم تغفل الجانب الاجتماعي، إلا أنها تفقد المنهج الكامل فالشيخ طنطاوي جوهري ألف تفسيرا ضخما إلا أنه إنتاج علمي أشبه بدائرة المعارف.
أما تفسير الشيخ رشيد رضا الذي اتبع فيه إمامه الشيخ محمد عبده، فلم يضع هو الآخر هذا المنهج القديم صبغة عقل جديد(5) إلا أنها خطت بالتفسير خطوات كبيرة في عالم التجديد الأدبي.
وتبقى مشكلة التفسير خطير بالنسبة للاعتقاد الفرد الذي شكلته النزعة الديكارتية من جهة وبالنسبة لمجموع الأفكار الدارجة التي هي أساس الثقافة الشعبية منهجة أخرى(6).
ومن هنا تأتي ضرورة إعادة النظر في منهج التفسير، وهنا يقترح بن نبي منهجا اجتماعيا يتماشى والتجربة التاريخية التي مر بها العالم الإسلامي وقد قدم بن نبي نماذج لهذا المنهج في بعض كتبه، نلمسها هناك.
1- النموذج رقم 1 : تفسير قوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد:11] في كتابه شروط النهضة تعرض لها بالتفسير الاجتماعي.
يقول بن نبي إننا نجد في القرآن الكريم النص المبدئي للتاريخ التكويني (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد:11].
وينبغي أن لا نقرر هذا المبدأ حسب إيماننا به فقط بل يجب أن يكون في ضوء التاريخ.
و«نعم» لا تجدي كجواب عن السؤال المطروح أمامنا، إلا إذا تأكدنا من شرطين :
أولهما : هل المبدأ القرآني سليم في تأثيره التاريخي ؟
ثانيهما : هل يمكن للشعوب الإسلامية تطبيق هذا المبدأ في حالته الراهنة ؟
الشرط الأول : مطابقة التاريخ للمبدأ القرآني
ويجيب بن نبي عن السؤال الأول بعد أن حلل دورتين من أدوار الحضارة هما الحضارة الإسلامية، والحضارة المسيحية.
فيقول : «ومن هنا يستطيع المؤمن إدراك الحقيقة الساطعة التي يفسرها التاريخ في القرة التي وردت في أحد الكتب القديمة : في البدء كانت الروح . ومن المعلوم أن جزيرة العرب مثلا لم يكن قبل نزول القرآن، إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة يذهب وقته هباء لا ينتفع به، لذلك فقد كانت العوامل الثلاثة : الإنسان والتراب والوقت راكدة خامدة، وبعبارة أصح مكدسة لا تؤدي دورا ما في التاريخ، حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء كما تجلت من قبل بالوادي المقدس، أو بمياه الأردن نشأت من بين هذه العناصر الثلاثة المكدسة حضارة جديدة، فكأنما ولدتها كملة «اقرأ» التي أدهشت النبي الأمي وأثارت معه وعليه العالم، فمن تلك اللحظة وثبت القبائل العربية على مسرح التاريخ حيث ظلت قورنا طوالا تحمل للعامل حضارة جديدة وتقوده إلى التمدن والرقي.
ومما هو جدير بالاعتبار أن هذه الوثبة لم تكن من صنع السياسيين ولا العلماء الفطاحل، بل كانت بين أناس يتسمون بالبساطة ورجال لا يزالون في بدواتهم . إلى ما وراء أفق الأرض أو إلى ما وراء الأفق القريب، فتجلت لهم آيات في أنفسهم وتراءت لهم أنوارهم في الأفاق».
نعم إنه لمن الغريب أن يتحول هؤلاء البسطاء ذوو الحياة الراكد، عندما مستهم شرارة الروح، إلى دعاة إسلاميين تتمثل فيهم خلاصة الحضارة الجديدة وأن يدفعوا بروحها وثبة واحدة، إلى تلك القمة الخلفية الرفيعة التي انتشرت منها حياة فكرية واسعة متجددة نقلت من علوم الأولين ما نقلت، وأدخلت علوما جديدة حتى إذا ما بلغت درجة معينة انحدرت القيم الفكرية التي أنتجتها دمشق وبغداد وقرطبة وسمرقند.
ومن هنا ندرك سر دعوة القرآن الكريم المؤمنين إلى التأمل حتى يدركوا كيف تتركب الكتلة المحصبة من الإنسان والتراب والوقت.
ولاشك أن المرحلة الأولى من مراحل الحضارة الإسلامية التي ابتدأت من غار حراء إلى صفين ـ وهي المرحلة الرئيسية التي تركبت فيها عناصرها الجوهرية ـ إنما كانت دينية بحتة تسودها الروح.
ففي هذه الحقبة ظلت روح المؤمن هي العامل النفسي الرئيسي من ليلة حراء إلى أن وصلت إلى القمة الروحية للحضارة الإسلامية وهو ما يوافق واقعة صفين عام 38هـ .
ولست أدري لماذا المؤرخون إلى هذه الواقعة التي حولت مجرى التاريخ الإسلامي إذا أخرجت الحضارة الإسلامية إلا طور القيصرية الذي يسوده عامل العقل وتزينه الأبهة والعظمة في الوقت الذي بدأت تظهر فيه بوادر الفتور الدالة على أفول الروح، فإن مؤرخينا لم يروا في تلك الكارثة إلى ظاهرة ثانوية وهي نشوء التشيع في العالم الإسلامي مع تداولهم الحديث ألح فيه الرسول إلى تلك الكارثة وقد ورد فيه ما معناه : أن الخلافة تكون بعده أربعين عاما ثم تكون ملكا عضوضا . ولا شأن لنا بتحقيق مدى صحته منهجه السند أو الرواية. الأمر الذي يهمنا هو أنه مما لا شك فيه أن الحضارة الإسلامية قد خرجت من عمق النفوس كقوة دافعة إلى سطح الأرض تنتشر أفقيا من شاطئ الأطلنطي إلى حدود الصين .
وهكذا وجدنا الحضارة الإسلامية تتوسع وتنتشر فوق الأرض، تتغلب أولا على جاذبيتها بما تبقى لديها من مخزون روحي، حتى إذا ما وهنت لديها من مخزون روحي، إذا ما وهنت فيها قوى الروح وجدناها تخلد إلى الأرض شيئا فشيئا ..
أما عن الشرط الثاني وهو إمكانية تطبيق المبدأ القرآني الآن؟ فيقول بن نبي إننا لكي نتوصل إلي التركيب الضروري كحل للمشكلة الإسلامية أعني مزج الإنسان والتراب والوقت، يجب أن يتوفر لدينا مؤثر الدين الذي يغير النفس الإسلامية أو كما يقول كيسرلنج «يمنح النفس مبدأ الشعور» فهل يمكن تحقيق هذا الشرط في الحالة الراهنة للشعوب الإسلامية ؟
إن التردد في الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب لا يدل إلا جهل بالإسلام، وبصفة عامة بتأثير الدين في الكون، فان قوة التركيب لعناصر الحضارة خالدة في الجوهر الدين وليست ميزة خاصة بوقت ظهوره في التاريخ، فجوهر الدين مؤثر صالح في كل زمان ومكان .ذو تسجيله في النفس وهو ما يهم التاريخ ـ كما سبق في حديثنا عن الحضارة المسيحية التي تركبت يعد ألف عام من ظهور المسيحية ـ يمكن أن يتجدد ويستمر مل لم يخالف الناس شروطه وقوانينه (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) [النور:63]، ومن هذه الوجهة نستطيع أن نقول : أن الدين وحده هو الذي يمنح الإنسان هذه القوة فقد أمد بها أولئك الحفاة العراة من بدو الصحراء، الذين اتبعوا هدي محمد ×(7).
وهكذا فإن مالك بن نبي رحمه الله يقترح منهجا اجتماعيا لفهم نصوص القرآن الكريم فهما يحرك النفوس الهامدة ويسير بها قدما نحو التغيير نحو الفهم الذي يستلهم الوقائع الاجتماعية والتاريخية التي تقع تحت سمع الناس وأبصارهم(8).
هوامش:
( )مالك بن نبي : الطالب ص 220.
(2) عبد اللطيف مشرقة بن نبي ص75.
(3) مالك بن نبي :ظاهر القرآنية ص 53، وهكذا دعا بن نبي إلى تعديل منهج التفسير ولم يتجرأ في التشكيك في القرآن أو وضعه موضع الشك، كما زعم محمد أركون في ملتقى بن نبي الذي نظمه جامعة وهران وكان عنوانه نقد ذاتي ونقد للفكر الإسلامي عند ابن نبي ـ ولعله بذلك أراد أن يبرر موقفه وأن يقول للناس لست بدعا في الأمر، فقد مثل الذي فعلته مفكر الإسلامي كبير ـ وصاحبنا الذي اتهم بن نبي ظلما وزورا وهو الذي تجرأ حقا للتشكيك في القرآن إذ يقول القرآن للفرنسية ـ كزجريسكي «إن القرآن يبدو بالنسبة لعقل حديث اعتاد الاستدلال العقلي والإثارة والوصف حسب خطة منظمة تنظيما محكما. يبدو القرآن منفرا بما فيه من عرض مشوش واستعمال للكلام غير مألوف ومن كثرة الإشارات والتعليمات الخرافية والجغرافية والدينية وما فيه من تكرار ومن بعد عن المنطق».
(4)مالك بن نبي : الظاهرة القرآنية ص 37-38.
(5) مالك بن نبي : الظاهرة القرآنية ص 37-38.
(6) نفس المصدر ص 59.
(7) مالك بن نبي : شروط النهضة، ترجمة كامل مسقاوي، عبد الصبور شاهين، دار الفكر بيروت ط3ص 72 فما بعد.
(8) لا نعتقد أننا وفينا الموضوع حقه لأنع في نظرنا هو أس الفكر البناني، ويحتاج إلى مزيد من البحث والتحليل ورصد اللمحات ولكن يكفينا هنا الإشارة إلى أهمية الموضوع وضرورة دراسته ونسأل الله أن يوفقنا للقيام ببحث مستفيض للمسألة .
المصدر: مجلة الموافقات (المعهد الوطني العالي لأصول الدين – الجزائر) العدد 3 جوان 1994.