مالك بن نبي وشروط النهضة

عدد القراءات :3858

• تمهيد:
في تشخيص مشكلة المجتمع المسلم في العصر الحديث تناول المفكرون المسلمون أبعاداً مختلفة، وأفرد بعضهم لبعد معين الدور كله في المشكلة كمن جعل المشكلة في العقيدة أو في السياسة إلى آخره ..
مالك بن نبي رحمه الله نظر إلى المشكلة على أنها مشكلة حضارة، غير أننا نرى أنه يضمن هذه الرؤية أبعاداً متعددة بتعدد أبعاد الحضارة نفسها، ومن هنا اختار عنواناً عاماً لكل كتبه هو: “مشكلات الحضارة”.(1)
وكان لا بد له لكي يشخص “مشكلات الحضارة” عموماً والمشكلة التي تهمه بصورة خاصة وهي مشكلة الحضارة الإسلامية من أن يحلل العناصر المكونة للحضارة، وكيف تتركب وما الذي يقود الحضارة في درب النهوض أو درب الانحطاط.
وفي أبحاثه التي تمحورت حول هذا الموضوع تحول بن نبي إلى فيلسوف حضارة وعالم اجتماع وعالم تربية مرموق، وهو في كل هذا يشغل مكاناً مرموقاً في الفكر الإسلامي المعاصر يستحقه بجدارة. وفي اعتقادي أننا الآن بحاجة إلى قراءة أفكار هذا المفكر الهادئ والتعلم منه، لا أعني بالضرورة أن نقره على كل تفاصيل تحليلاته ولكن يجب أن نستخلص ما هو قيم حقاً في فكر بن نبي وهو طريقته في رؤية مشكلة الحضارة الإسلامية وتحليلها والجوانب التي يلفت انتباهنا إلى ضرورة التركيز عليها.
هذا المقال أريده تحية لروحه المخلصة ومساهمة متواضعة في إعادة بعث الاهتمام بهذا المفكر الكبير.
وسأقسم المقال إلى قسمين أتحدث في القسم الأول عن مفاهيمه النظرية المتعلقة بالحضارة والنهضة وشروطها، وأتحدث في القسم الثاني عن موقع بن نبي في الفكر الإسلامي المعاصر.
• القسم الأول: نقاط أساسية في نظرية الحضارة وشروط النهضة عند بن نبي
• الدورة الحضارية:
يرى بن نبي أن كل حضارة تبدأ ببزوغ فكرة دينية تقوم بتركيب عناصر الحضارة، وتنظم الطاقة الحيوية للأفراد وتثير فيهم الحركة والنشاط بحيث يتحرر الفرد في هذه المرحلة الأولى الصاعدة من هيمنة الغريزة ويخضع لهيمنة الروح،وفي هذه المرحلة تصل “شبكة العلاقات الاجتماعية” إلى قمة كثافتها (فيصبح المجتمع كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً) هذا هو وضع النهوض، وهو في الحضارة الإسلامية يكافئ المرحلة النبوية ومرحلة الخلافة الراشدة. ويؤرخ بن نبي نهاية هذه المرحلة في الحضارة الإسلامية بمعركة صفين.

والمرحلة الثانية تنعطف فيها الحضارة بسبب المشكلات المادية الناتجة عن توسع المجتمع الوليد منعطفاً تكف فيه الروح عن السيطرة المطلقة على الغرائز، ويبدأ عهد العقل، ويعادل هذا المنعطف في الحضارة الإسلامية المرحلة الأموية والمرحلة العباسية، وبحسب تعبيره “هو منعطف للعقل”. غير أن هذا العقل لا يملك سيطرة الروح على الغرائز، وحينئذ تشرع الغرائز في التحرر من قيودها بالتدريج على الصورة التي عرفناها عن عهد بني أمية، إذ أخذت الروح تفقد نفوذها، كما كف المجتمع عن ممارسة ضغطه على الفرد. وطبيعي ألا تنطلق الغرائز دفعة واحدة وإنما تحرر بقدر ما يضعف سلطان الروح” (“ميلاد مجتمع..” –ص103)
وفي هذه المرحلة تنقص الفاعلية الاجتماعية للفكرة الدينية، وإن كانت الحضارة نفسها تبلغ أوجها فتزدهر العلوم والفنون فيها، ولكن مرضاً اجتماعياً يكون قد بدأ وإن تكن آثاره المحسوسة لم تظهر بعد. إن الطبيعة تستعيد سيطرتها على المجتمع والفرد شيئاً فشيئاً.
ثم تدخل الحضارة طورها الثالث، وهو طور الانحطاط والانحلال، ولا يعود للفكرة الدينية فيه من وظيفة اجتماعية، وتعود الأشياء كما كانت في مجتمع منحل، وتتفكك شبكة العلاقات الاجتماعية بانحلال المجتمع إلى ذرات لا روابط بينها وتنتهي بهذا دورة الحضارة.
ويميز بن نبي بين وضعين متناقضين للإنسان: “وضع ما قبل الحضارة” ،و “وضع ما بعد الحضارة” ،فالوضع الأول هو وضع الإنسان الفطري أو الطبيعي وهو مستعد للدخول في دورة الحضارة كما هي الحال مع العرب قبيل ظهور الإسلام، أما الحالة الثانية فهي حالة الإنسان الذي تفسخ حضارياً وهي حالة إنسان ما عاد قابلاً لإنجاز عمل محضّر إلا إذا تغير هو نفسه من جذوره الأساسية. ويمثل بن نبي للحالين بجزيء الماء قبل وصوله إلى الخزان الذي ينتج الكهرباء وبعد خروجه من الخزان، ففي الحالة الأولى يكون الجزيء مشحوناً بطاقة كامنة سيبذلها منتجاً عملاً، وأما في الحالة الثانية فإن الجزيء يكون قد فقد طاقته المذكورة ولم يعد في إمكانه أن يستعيد طاقته هذه إلا بواسطة عملية جوهرية تتمثل في عملية التبخر التي ترجع به إلى حالة بخارية وفي التيارات الجوية الملائمة التي ترجعه إلى أصله، حيث يتم تحوله من جديد إلى جزيء مائي واقع “قبل” خزان معين. (“شروط النهضة” –ص71)
“إنسان ما بعد الحضارة” هو الإنسان المسلم منذ انهارت دولة الموحدين، وهو يسميه “إنسان ما بعد الموحدين”، ومرحلة التفسخ الحضاري هذه ما زال المسلمون يعيشونها، وإن كانت الحضارة الإسلامية في العصر الحديث شهدت محاولات لاستئناف نهضة جديدة في أماكن متعددة من العالم الإسلامي.
فكرة الدورة الحضارية هذه نجد نظائر لها في الفكر العالمي، وأهم ممثليها عندنا ابن خلدون وإن كان اهتم بالدولة أكثر من اهتمامه بالحضارة وهي أعم من الدولة.
وفي اعتقادي أن فكرة الدورة الحضارية هذه هي في غاية العمومية والتجريد شأن أفكار فلسفة الحضارة والتاريخ عموماً، ولا يمكن البرهان القاطع على صحتها أو خطئها، ومن هنا فهي ليست فكرة علمية بحصر المعنى، ولكن هذه الفكرة قادت بن نبي إلى تحليلات عميقة وخصبة لشروط النهضة الحضارية، وهي متفرقة في كتبه وكرس لها كتاباً خاصاً هو “شروط النهضة”. وفي الحقيقة البحث في شروط النهضة هو الهم الأساسي لبن نبي، وهو الذي قاده إلى تأملات متشعبة في بناء المجتمع وعلاقاته ودور العامل الخارجي (الاستعمار) والداخلي (القابلية للاستعمار) في وضعه الراهن.
• العناصر الثلاثة للحضارة ودور الدين:
يقول بن نبي إن العالم الإسلامي يعمل على جمع أكوام من منتجات الحضارة أكثر من عمله على بناء حضارة، وهذه العملية لا تؤدي به إلى إنجاز البناء الحضاري المطلوب في زمن قصير كما فعلت اليابان التي انتقلت بين عامي 1868 و1905 من العصور الوسطى إلى الحضارة الحديثة من هنا فبن نبي لا يريد لبناء الحضارة الجديدة المنشودة أن يخضع للصدفة أو للتطور الطويل بل يريد البناء الواعي المخطط قصير الأمد انطلاقاً من العناصر الأساسية للحضارة كما يراها: “فالعالم الإسلامي يريد أن يجتاز نفس المرحلة بمعنى أنه يريد إنجاز مهمة “تركيب” الحضارة في زمن معين، ولذا يجب عليه أن يقتبس من الكيماوي طريقته، فهو يحلل أولاً المنتجات التي يريد أن يجري عليها بعد ذلك عملية التركيب. فإذا سلكنا هنا هذا المسلك قررنا أن كل ناتج حضاري تنطبق عليه الصيغة التحليلية الآتية:
ناتج حضاري= إنسان + تراب +وقت

ففي المصباح مثلاً يوجد الإنسان خلف العملية العلمية والصناعية، التي يعتبر المصباح ثمرتها، والتراب في عناصره من موصل وعازل، وهو يتدخل بعنصره الأول في نشأة الإنسان العضوية، والوقت “مناط” يبرز في جميع العمليات البيولوجية والتكنولوجية، وهو ينتج المصباح بمساعدة العنصرين الأولين: الإنسان والتراب” (“شروط..” –ص45)
فإن كانت الحضارة ناتجاً لاجتماع هذه العناصر الثلاثة فلماذا لا يوجد هذا الناتج تلقائياً بمجرد توفر هذه العناصر؟
جواب بن نبي يمثل له بالتركيب الكيميائي: “الماء في الحقيقة نتاج للهيدروجين والأوكسجين وبرغم هذا فهما لا يكونانه تلقائياً، فقد قالوا إن تركيب الماء يخضع لقانون معين يقتضي تدخل “مركب” (بتشديد الكاف وكسرها.م) ما، بدونه لا تتم عملية تكون الماء. وبالمثل لنا الحق في أن نقول: إن هناك ما يطلق عليه “مركب الحضارة” أي العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض، (…) هو الفكرة الدينية التي رافقت دائماً تركيب الحضارة خلال التاريخ”.(“شروط..” –ص46)
دور الدين إذاً في الحضارة هو دور العامل المركب لعناصرها، واختفاء هذا الدور يعني تحلل هذه العناصر إلى وضع غير مركب أي تحلل الحضارة.
وبن نبي يرى أن هذه الفرضية تنطبق على جميع الحضارات، فالحضارة الغربية في رأيه بنتها الفكرة المسيحية التي دفعت البداوة الجرمانية بعد ستة قرون من الإسلام إلى تكوين هذا الكيان الذي أسسه شارلمان، ذلك أن المسيحية على رأيه حين ظهرت في الشرق لم تأت إلى أرض بكر بل جاءت إلى وسط خليط تعمل فيه ثقافات متنوعة، وليس كذلك كان الأمر في أوروبة حين بعث فيها شارلمان الروح المسيحية. وهذا التحليل يتفق فيه بن نبي مع المفكر الألماني كيسرلنج والمؤرخ هنري بيرين في كتاب له قارن فيه بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية عنوانه “محمد وشارلمان”. وحتى الحضارة التي قادتها الأحزاب الشيوعية الملحدة لا يستثنيها بن نبي من هذه القاعدة قائلاً إنها من جهة نتاج لأزمة في المسيحية وإنها من جهة أخرى لم تقم حقيقة في مستواها الإنساني على الأفكار الماركسية الملحدة بل قامت على تفاني أفراد توجههم فكرة عن التضحية في سبيل المصلحة العامة: “تعتبر الشيوعية النظرية قبل كل شيء “فكرة” ماركس، ولكن هناك شيوعية واقعية، هي في جوهرها نشاط المؤمنين المدفوعين بنفس القوى الداخلية التي دفعت غيرهم من المؤمنين في مختلف العصور، أولئك الذين شهدوا مولد الحضارات. فالظاهرة متماثلة في جوهرها النفسي ومحددة هنا وهناك بنفس سلوك الفرد حيال مشاكل المجتمع الناتج”(“شروط..” –ص54)
ويضرب بن نبي المثل برفع العامل الروسي استخانوف لإنتاجه اليومي إلى الضعف مقارناً إياه بالعمل المضاعف الذي بذله الصحابة في بناء مسجد المدينة أو في حفر الخندق “ففي كلتا الحالتين نجد أن الإيمان هو الذي مهد الطريق للحضارة” (“شروط.. –ص55)
ولا شك عندي أن بن نبي رحمه الله لا يجهل الفارق بين العقيدة الشيوعية الملحدة التي من مسلماتها عدم وجود يوم آخر وبين الإسلام الذي يرتجي فيه المسلم الأجر الحقيقي في الآخرة ولكنه يرى فيما يبدو لي أن هؤلاء الروس الذين كانوا متحمسين في البداية للشيوعية حولوا إليها كل طاقتهم الدينية المكبوتة التي حالت خيبة أملهم في الكنيسة دون إبقائها في إطار ديني صريح بشكله المألوف. وهذا الحماس الذي ينتاب أهل المبادئ فيدفعهم للتضحية بأنفسهم في سبيل مثلهم العليا لا أجد حقاً له تفسيراً إلا أنه من أصل ديني حتى لو ظهر بصيغ بعيدة عن الدين.
الدين في رأي بن نبي إذاً هو العامل الذي تقوم الحضارة به وتتحلل بصورة مضطردة كلما ضعفت فاعليته: “تطور الإنسانية هو ما يحدث من نمو في مشاعرها الدينية المسجلة في واقع الأحداث الاجتماعية، تلك التي تطبع حياة الإنسان وعمله على وجه البسيطة” )”ميلاد..” –ص56)
• شبكة العلاقات الاجتماعية:
يقول بن نبي إن أول عمل يؤديه المجتمع عند ولادته هو بناء شبكة العلاقات الاجتماعية، ويضرب لذلك مثلاً بميلاد المجتمع الإسلامي في المدينة حيث آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار.
وعلى العكس من ذلك عند أفول المجتمع تتمزق شبكة علاقاته الاجتماعية، كما كانت حالة المجتمع الإسلامي المتفسخ الذي غزاه الاستعمار.
وبن نبي يذكر الحديث الشريف المشهور: “يوشك أن تتداعى عليكم الأمم…” وفيه يصف النبي عليه الصلاة والسلام كثرة المسلمين آنذاك بأنها “غثاء كغثاء السيل” فيقول “لقد كان هذا الحديث ضرباً من التنبؤ والاستحضار: استحضار صورة العالم الإسلامي بعد أن تتمزق شبكة علاقاته الاجتماعية، أي عندما لا يعود مجتمعاً بل مجرد تجمعات لا هدف لها كغثاء السيل” (“ميلاد..” –ص26)

وفي رأي بن نبي أن المجتمع يتكون من ثلاثة مركبات هي”أشخاص” و “أفكار” و “أشياء”.
وأول عمل للمجتمع هو تحويل الكائن الذي صفته أنه “فرد” في “نوع” أي صفته شبه البيولوجية إلى “شخص” Person أي إلى كائن اجتماعي، والثقافة هي المحيط الذي يصوغ كيان الفرد ويقدم له الروابط الاجتماعية. لنتذكر هذه الملاحظة ولو أننا، مع بن نبي!، سنستعمل كلمة “فرد” أحياناً في التحليل اللاحق بمعناها المعتاد الذي يعني الواحد في المجموعة البشرية أكان “شخصاً” أم “فرداً” بالمعنى السابق.
وإذا كان المجتمع يتألف من “أشخاص” و “أفكار” و “أشياء” فإن غنى المجتمع يقاس مبدئياً بما فيه من أفكار لا من أشياء، ويضرب بن نبي على ذلك مثلاً ألمانيا المدمرة بعد الحرب العالمية الثانية حيث خسرت “أشياءها” بالكامل ولكنها استعادتها بسهولة بسبب غناها بالأفكار!
ولكن الأفكار لوحدها لا تكون فعالة عند تفكك شبكة العلاقات الاجتماعية، ويضرب بن نبي لذلك مثلاً الإسبان الذين هزموا مسلمي الأندلس، فهم كانوا أفقر بالأفكار من المسلمين بكثير ولكن شبكة علاقاتهم الاجتماعية كانت أقوى و أفضل.
وفي اعتقادي أن هذه الملاحظة هي واحدة من ملاحظات ثاقبة كثيرة جداً لبن نبي وبالفعل ليتأمل القارئ في هزيمة الحضارة الإسلامية العريقة ممثلة بالدولة العباسية في ذروة انحطاطها أمام شعوب لا ثقافة عندها تقارن بثقافة الإسلام هي المغول، ثم انتصار المسلمين عليهم بفضل النظام الاجتماعي الفتي الذي مثلته دولة المماليك، ودوماً بتأثير هذا “المركب” الحضاري الإلهي الذي هو الإسلام الذي رأينا في فقرة سابقة أنه عند بن نبي العامل الذي يتحدد صعود الحضارة الإسلامية أو هبوطها بدرجة فاعليته.
والمجتمع كما يرى بن نبي يتراوح في كثافة شبكة علاقاته الاجتماعية بين حدين: الحد الأول يكون فيه المجتمع في ذروة نموه ويكون كل فرد عنده مرتبطاً بمجموع أعضاء المجتمع، وأما الحد الثاني فهو حالة المجتمع المتفسخ الذي تحول إلى أفراد لا رابط بينهم.
والمجتمع في حالة انحطاطه هو مجتمع مريض تضخمت ذوات أفراده ليصبح وجود العامل الجماعي المشترك صعباً أو مستحيلاً، ويقول بن نبي في تعبير لاذع يذكرنا بالفعل بحالنا هذه الأيام إن ما يميز هذه المرحلة هو أن الأفراد في المجتمع المتفسخ وبسبب تضخم ذواتهم وانحلال الروح الجماعية يدور النقاش بينهم فيحاول كل منهم في النقاش لا أن يصل إلى حلول للمشاكل ولكن أن يجد أدلة وبراهين (أي على ما يريده هو!(.
وتورم الذات هذا تعبير عن أن شبكة العلاقات ما عادت صحيحة ويتساءل بن نبي ماذا كان يمكن أن يحدث في المجتمع الإسلامي المريض الذي شهدناه لاحقاً ما حدث في المجتمع الإسلامي الصحيح حين عزل الخليفة خالد بن الوليد! لقد كان فعل الخليفة دون عقدة،وتقبله خالد دون عقدة أيضاً لأن علاقتهما كانت علاقة سوية منزهة، ولو حدثت هذه الحادثة في المجتمع الإسلامي بعد قرنين أو ثلاثة لتزلزل هذا المجتمع!
ويسهر “القانون الخلقي” على شبكة العلاقات الاجتماعية، والإخلال بهذا القانون يمزق هذه الشبكة، والدين هو الذي يخلق العلاقة الاجتماعية ويؤلف بين القلوب، و كلما ضعف الدين زاد الفراغ الاجتماعي الذي لا علاقة فيه بين الناس، وعلى العكس المجتمع المؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ولا فراغ اجتماعياً فيه.
ويستطيع القارئ لكتابات بن نبي أن يرى تحليلات شيقة للسياسة الاستعمارية المدروسة لتحطيم العلاقات الاجتماعية للمجتمع المغزو. ومبدؤه “فرق تسد” يمارسه بدقة ومهارة وبأساليب خفية لا يلقي إليها الضحايا بالاً، ولا يحتاج القارئ هنا إلى أن نذكره بالمهارة الخارقة التي تمكن فيها خلفاء الاستعمار المباشر من تفريقنا ليس كدول فقط بل حتى كوحدات أصغر بكثير من الدول، وقد استعان هؤلاء بالعيوب الاجتماعية التي قضى مالك بن نبي حياته يحللها، عيوب المجتمع المتفسخ، “مجتمع ما بعد الحضارة”، “مجتمع ما بعد الموحدين”.
• القابلية للاستعمار والاستعمار، الحقوق والواجبات:
مفهوم “القابلية للاستعمار” هو من أشهر مفاهيم مالك بن نبي رحمه الله، وباستقراء استعماله لهذا المفهوم في مؤلفات عديدة تبين لي أنه يستعمله على الأغلب كصفة للمجتمع تعادل صفة “مجتمع ما بعد الحضارة” أو في حالة المسلمين ما يسميه “مجتمع ما بعد الموحدين”، أي الوضع المنهار للحضارة في نهاية دورة حضارية وقبل بدء دورة حضارية جديدة، إنه وضع المجتمع الإسلامي الآن.

غير أنه في كتابه “شروط النهضة” استعمله في توصيف حالة خاصة هي حالة الجزائر التي كان الاستعمار حين دخلها يعرف “القيمة الطبيعية” الكامنة في أفراد شعبها، ولذلك بدأت الإدارة الاستعمارية في تنفيذ خطة منهجية للتقليل من هذه القيمة خصوصاً بعد هزيمة فرنسا المخزية أمام بروسيا عام 1870. “منذ ذلك الحين بدأ الحط من قيمة الأهالي ينفذ بطرق فنية، كأنه معامل جبري وضع أمام قيمة كل فرد، بقصد التنقيص من قيمته الإيجابية. ولقد رأينا هذا “المعامل” يؤثر في حياة الفرد في جميع أطوارها” ويعدد بن نبي أمثلة : فالطفل يحرم مما يقوي جسده وينمي فكره فلا مدرسة ولا توجيه، وإن كان يتيماً فالأمر أدهى وأمر، وحتى لو تمكن من الدخول إلى المدرسة فسوف توضع العراقيل في وجهه لكي لا يكملها بنجاح ،ثم هو بعد ذلك لا يستطيع أن يجد عملاً مناسباً. وفي عهد الرجولة تنسج حوله شبكة دقيقة مسمومة تجعل الشراء والبيع والسفر والكلام والكتابة والتليفون لا تنال إلا بشق الأنفس. إنه ما عاد يمكن له أن يقوم بأعماله إلا بالقدر الذي يريده الاستعمار.(“شروط..” ص147)
هذا إذاً “معامل استعماري” يؤثر في الفرد ويبخس من قيمته الإنسانية والاجتماعية. ولكن بالمقابل ثمة معامل آخر يؤثر في الفرد وهو داخلي هذه المرة وليس مفروضاً من الخارج شأن المعامل الأول يجعل من الفرد يقبل الوضع الاستعماري ويسير في الحدود التي رسمها له الاستعمار، بل يقبل حتى الاسم الذي أعطاه الاستعمار له. يقول بن نبي ساخراً: “إذا لم نكن شاهدنا خصياناً يلقبون أنفسهم بالخصي فقد شاهدنا مراراً مثقفين جزائريين يطلقون على أنفسهم الأهلي”(“شروط..” ص153)(2)
هذه القابلية للاستعمار تعني جملة الخواص الاجتماعية التي تسهل سيطرة الغزاة واستمرار الوضع المنحل للحضارة. وبن نبي يستعمل هذه الصفة عموماً كما قلنا في وصف الحضارة في طورها المنحل ولا يقتصر على وصف المجتمع الذي تعرض بالفعل للاستعمار. ومن أمثلته الدائمة أن هناك مجتمعات تتعرض بالفعل للاحتلال العسكري، ولكنها “غير قابلة للاستعمار” ،كحال المجتمع الألماني بعد احتلال الحلفاء، وهناك مجتمعات لم يدخلها الاستعمار ولكنها قابلة للاستعمار ويحظى بهذه “المزية” إخواننا في اليمن الذين هم بخلاف المجتمعات الإسلامية الأخرى لم يتعرضوا للاحتلال الاستعماري ولكن المجتمع اليمني مثله مثل بقية هذه المجتمعات قابل للاستعمار!
كنت في مقال سابق (انظر مجلة “المجتمع” العدد 1470-مقال “النقد المنطقي لمفهوم القابلية للاستعمار”) نقدت استعمال هذا المفهوم كصفة جوهرية للحضارات غير الغربية التي تعرضت للاستعمار الغربي، حيث أن هذا المفهوم لا يقدم لنا صفة جوهرية لهذه الحضارات ولا يفرق بينها وهي في غاية الاختلاف فلا يظهر خصائص كل منها المميزة ولا يرى فيها إلا علاقتها مع الحضارة الغربية.
ومن دوافع نقد هذا المفهوم إساءة استعماله عند من يهدفون من الاستشهاد به إلى الدفاع الضمني عن الاستعمار وتبرير تعاونهم معه وهو طبعاً عكس ما كان يريد مالك بن نبي رحمه الله.
وعلى أنني لا أزال على هذا الرأي، إلا أنني أريد هنا أن أذكر الوجه الإيجابي الهام جداً لهذا المفهوم ألا وهو دعوة المجتمعات المستعمرة (بفتح الميم) وخصوصاً المجتمع المسلم للتركيز على عيوب التركيبة الاجتماعية التي تجعل المجتمع ضعيفاً لا يصمد أمام أي تحد خارجي.
ومن هنا يضيق بن نبي ذرعاً بذلك الفكر السياسي الذي يجعل من الاستعمار المشجب الذي تعلق عليه كل مشاكل المجتمع، والذي يرى أن حل هذه المشاكل السحري يتلخص في التخلص من الاستعمار.
ولا شك أن هذه الفكرة أثبتت مصداقيتها بعد أن تم التخلص من الاستعمار المباشر في غالبية أقطار العالم الإسلامي، إذ استمر التخلف الاقتصادي والانحلال الاجتماعي وتفاقمت التبعية للغرب في كل شيء حتى في الغذاء.
يقول بن نبي: ” لقد انتهى المجتمع الإسلامي منذ عدة قرون إلى آخر أطوار حضارته. وهو اليوم في مرحلة ما قبل التحضر من جديد. ولقد بذل جهوداً كبيرة خلال ما يقرب من قرن لكي تدب فيه الحركة من جديد، ولكن إقلاعه يبدو ثقيلاً وبطيئاً إذا ما قورن ببعض المجتمعات المعاصرة مثل اليابان أو الصين الشعبية التي كانت متأخرة عنه بكثير.
ويرى المفسرون أن هناك نوعين من المعوقات. فالمدافعون عن الاستعمار يرجعون إلى الإسلام سبب تأخير الإقلاع، وأما حاملوا لواء النظرية القومية فيعزونه إلى الاستعمار، وفي كلتا النظريتين خطأ جسيم (…) فالفريق الأول عندما يحمل الإسلام مسؤولية كل هذه الأوضاع يتجاهل حقيقة صارخة وهي أن الاستعمار مسؤول عن النصيب الأكبر من الفوضى التي تسود العالم الإسلامي اليوم. أما الفريق الثاني فعندما يلقي اللوم كله على الاستعمار يحاول أن يخفي سياسة التملق التي يتبعها مع شعوبه كونها لا تخفف من مضاء المشكلة وحدتها بل على العكس تزيد الطينة بلة مما يشبه عملية تخدير لهذه الشعوب تلفتها عن مسؤوليتها في ورطتها الحالية”(“مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي –ص97-98)
هنا نكون وصلنا إلى واحد من أهم آراء مالك بن نبي في اعتقادي، وإلى الوصية الأهم من وصاياه التي على المجتمع الإسلامي أن يسير عليها ألا وهي تركيز الجهود على القيام بالواجب وعدم الاكتفاء بانتظار الحصول على حقوقنا من طرف خارجي. هذه النقطة يكررها بن نبي في كافة مؤلفاته تقريباً: إن الطريق الوحيد للحصول على الحقوق هو القيام بالواجبات. إن قابليتنا للاستعمار عائدة إلى كوننا متقاعسين عن أداء واجباتنا، إننا نرفع شعارات كبيرة ولكننا نكسل عن تنفيذ الخطوات الصغيرة التي لو نفذناها لبنينا المجتمع المثالي القوي القادر على الدفاع عن حقوقه!
ومن الأمثلة التي يضربها بن نبي مثال اليهود الذين كانوا يعيشون في الجزائر أيام استلام حكومة موالية للنازية في فرنسا بعد الاحتلال الألماني لها عام 1940 فقد منعتهم الحكومة من الانتساب إلى المدارس وصدرت قوانين اقتصادية ضدهم ولكن المدارس التي أغلقت قامت بدلاً منها مدارس تطوعية في البيوت أساتذتها المهندس والطبيب والمحامي، وتجارتهم أنقذوها بفضل تضامنهم الداخلي. ويذكر بن نبي بمرارة في مضمار المقارنة مع المسلمين كيف امتنع المتعلمون المسلمون عن أن يفعلوا شيئاً مماثلاً لمكافحة داء الأمية الرهيب في المجتمع الجزائري. هذا هو التغيير الداخلي الذي هو شرط لتحقيق التغيير الخارجي، وبن نبي يستشهد مثالاً بقوله تعالى “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.
ويقول بن نبي إن الاستعمار لا يمانع في تمحور سياستنا حول مبدأ مطالبته بإعطائنا حقوقنا، دون أن نفعل نحن شيئاً لتغيير وضعنا الاجتماعي وقيامنا بالنهضة المطلوبة، وبن نبي يؤكد على هذه النقطة دوماً حتى حين يتكلم عن العلاقة بين تجمعات البلدان النامية والبلدان المتقدمة. ففي مقاله عن “مؤتمر 77” الذي نشره في جريدة “الثورة الأفريقية” – 9 نوفمبر 1967 ينتقد هذه الدول النامية التي لم تحدد التزامات صارمة لكل عضو من أعضائها بل اكتفت بمطالبة الغرب بدفع نصيب للتنمية يقول: “لقد كنا في الحقيقة ننتظر بنوداً تحدد التزامات كل عضو في الوحدة أو الجهة الاقتصادية المزمع تشييدها، لكننا لم نجد في الوثيقة سوى كراسة المقترحات التي ستقدم بنيودلهي إلى المخاطب الحاضر غير المرئي. وفي الحقيقة نجد الكراسة هذه تطالب بالكثير، من العالم المصنع، إن لم نقل إنها تطالب بكل شيء، فتطالب مثلاً 1ب% من مدخوله العام لتنمية البلدان النامية ومن الناحية الأخلاقية لعل هذا جائز، ولكن المخاطب لا ينصت لهذا المنطق ولا يتكلم هذه اللغة. وهكذا انزلقت المداولات في الحديث عن حقوق العالم الثالث عوضاً عن أن تذكره “بواجباته” نحو نفسه” (“بين الرشاد والتيه”- مقال “مؤتمر 77”- ص130.)
النهضة عند بن نبي هي مسألة داخلية أساساً وأولاً ، ومن هنا هو يقدم مبدأ الواجبات على مبدأ الحقوق، وهو باستمرار يرجع إلى ذكر ما جرى في الجزائر حين بدأت عام 1925 نهضة كبرى بقيادة العلماء الإصلاحيين كان يؤمل لها أن تغير المجتمع الجزائري.
نشأت المدارس وسرى في المجتمع روح جديد، وامتدت النقاشات المثمرة لا العقيمة في تجمعات الشعب الجزائري، وبدأت الأمة مسيرة الانبعاث الفكري والانبعاث الروحي، وتغيرت عوائد وأشياء، وحتى المدمنون للخمور هجروا الحانات وعمروا المساجد حتى احتج باعة الخمور لدى الحكومة 1927! ونشأت الحلقات الدراسية الليلية التي كان روادها رواداً سابقين لحلقات الدراويش. والذي جرى كان تبديد هذه النهضة من تحت بأوهام السياسة الفوقية، فقد شغلت الحكومة الزعماء بالانتخابات والمطالب وهكذا ضلت النهضة طريقها “ميممة وجهها شطر السراب السياسي، حيث تتوارى من ورائها بوارق النهضة والتقدم. لقد أصبحنا لا نتكلم إلا عن حقوقنا المهضومة، ونسينا الواجبات، ونسينا أن مشكلتنا ليست فيما نستحق من رغائب، بل فيما يسودنا من عادات وما يراودنا من أفكار، وفي تصوراتنا الاجتماعية بما فيها من قيم الجمال والأخلاق وما فيها أيضاً من نقائص تعتري كل شعب نائم.
وبدلاً من أن تكون البلاد ورشة للعمل المثمر والقيام بالواجبات الباعثة إلى الحياة فإنها أصبحت منذ سنة 1936 سوقاً للانتخابات وصارت كل منضدة في المقاهي منبراً تلقى منه الخطب الانتخابية فلكم شربنا في تلك الأيام الشاي وكم سمعنا من الأسطوانات، وكم رددنا عبارة “إننا نطالب بحقوقنا” تلك الحقوق الخلابة المغرية التي يستسهلها الناس فلا يعمدون إلى الطريق الأصعب: طريق الواجبات” (“شروط..” –ص34-35)
هذه التجربة أراها في غاية الأهمية وفيها عبرة قلما يتم الانتباه إليها إذا أردنا أن ندرس تاريخ الفكر السياسي العربي في نصف القرن الأخير. لقد عانى هذا الفكر مما أسميه “فرط التسيس” فقد أغفلنا بعد النهضة الاجتماعي وركزنا على البعد السياسي المتمحور حول فكرة استلام السلطة لكل من يريد أن يطبق وصفته السحرية التي تتيح لمجتمعنا الخروج من مرضه الحضاري المزمن. وبهذه العقلية تم تأجيل أي عمل نهضوي اجتماعي “صغير” بانتظار العمل السياسي “الكبير”، وفي الحقيقة إن النهضة مؤلفة من “أعمال صغيرة” هي مجموعة من الواجبات الملقاة على عاتق كل فرد. ولكن لكي يقوم هذا الفرد بواجباته يجب عليه أن يحس بالمسؤولية، ولكن الحقيقة أن فكرنا السياسي علمه أمرين: أولاً تأجيل كل عمل بانتظار “العيد” الموعود المتمثل في التحرر من الاستعمار، أو الوحدة ،أو قيام الدولة الاشتراكية، أو قيام الدولة التي تطبق الشريعة الإسلامية، وثانياُ تعليق كل مأساة من مآسينا على مشجب عدم تنفيذ وصفة من الوصفات الجاهزة التي قامت عليها الأيديولوجيا السياسية العربية المعاصرة. فمشاكلنا كلها ناتجة عن: الاستعمار، أو التجزئة السياسية، أو النظام الطبقي، أو عدم تطبيق الشريعة الإسلامية.

والاحتجاج على عدم تطبيق الشريعة الإسلامية تم بنفس الطريقة السياسية التي يصفها بن نبي بأنها التمحور حول الحقوق لا حول الواجبات. إذ لم يطرح الفرد العربي على نفسه فكرة السير بمقتضى ما تريده منه الشريعة من بناء اجتماعي متين لا تمزق “شبكة علاقاته الاجتماعية” عيوب العشائرية والإقليمية والمحسوبية الشخصية، ومن سعي جاد في سبيل المصلحة العامة، وقدرة على تجاوز الأنانية الشخصية، وتقديم الكفاءات، ووضعها في المكان المناسب، والعمل النشيط المثمر، وعدم تضييع الوقت. وكل هذه البنود النهضوية كان يمكن القيام بها حتى لو كانت السلطة السياسية لا تطبق الشريعة الإسلامية!
ومن هنا فإن مجتمعنا بحاجة إلى ثورة نهضوية سلمية داخلية تأتي من أسفل لا من أعلى، وهي بلا شك إن قامت ستجبر البناء الفوقي على أن يتماثل معها. وهذا معنى الحديث الشريف “كما تكونوا يولى عليكم”! ومعنى الآية “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”!
لا ننتظر التغيير إذاً كمنجز لقوة خارجة عنا: شخص أو دولة أو وصفة جاهزة وحيدة تحل المشاكل في طرفة عين. وكما قال بن نبي رحمه الله “لا شك في أن عقائدنا السياسية تدين لتلك القيم الفاسدة للحضارة، تلك العقائد التي تمثلت عندنا اليوم في أسطورة: “الشيء الوحيد” و “الرجل الوحيد” الذي ينقذنا (…) فالتاجر الذي تنجح تجارته يجزم بلا تردد بأن النجاة في الاقتصاد، وآخرون يرون الشيء الوحيد في البيان وتزويق الكلام، وهكذا ننتقل من وهم لنتخبط في وهم، ولا ندري كم من السنين سوف نقضيها لندرك عجز “الأشياء الوحيدة” عن حل المشكلة التي هي مشكلة الحضارة أولاً و قبل كل شيء” “)شروط..” ص158)
• المجتمع الفعال والمجتمع غير الفعال: الفعالية- المعادلة الاجتماعية للفرد- المنطق العملي- توجيه الثقافة والعمل- توجيه رأس المال
قضى بن نبي حياته وهو يبحث في سؤال الفعالية الاجتماعية، سؤال النهضة، أو سؤال إزالة القابلية للاستعمار.
وفي هذا البحث حاول تحليل قضايا مرتبطة مباشرة بهذا السؤال.
أريد في هذه الفقرة الكلام قليلاً عن أربع منها: “الفعالية” و “المعادلتان البيولوجية والاجتماعية للفرد” و “المنطق العملي” و “التوجيه”.
الفعالية:
يقول بن نبي: “إذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ، وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ. ذلك ما تشير إليه النظرة في تاريخ الإنسانية منذ أن بدأ التاريخ. فنرى المجتمع حيناً يزخر بوجود النشاط وتزدهر فيه الحضارة وأحياناً نراه ساكناً لا يتحرك يسوده الكساد وتغمره الظلمات (…) على أنني حينما أرى في حركة التاريخ حركة الإنسان وفي ركوده ركوده فإن ذلك يضعني أمام مشكلة تتصنف تحت عنوان الفعالية. فعالية الإنسان في التاريخ”(“تأملات” –مقال “الفاعلية” –ص125)
ونظرتنا إلى التاريخ ليس لها نتائج نظرية فقط بل لها نتائج عملية أيضاً تتصل بسلوكنا، فهي تحدد مواقفنا أمام الأحداث. فإن نظرنا إلى التاريخ كسلسلة أحداث لا رابط بينها نتج عن هذا الاعتقاد بأن ما يجري في التاريخ مقدور لا يد للإنسان فيه ولا يستطيع تغييره، أما إن نظرنا إليه بصفته مجموعة من الأحداث المترابطة منطقياً فإن هذا يجعلنا ندرك الأسباب ونرى فيها منبهات لإرادتنا وموجهات لنشاطنا ونرى أن ما يجري في التاريخ متأثر بسلوكنا وبموقفنا وإرادتنا في تغيير الأشياء وفقاً للوظيفة الاجتماعية التي حددها لنا القرآن في قوله تعالى “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر” فشرط الفعالية هو أن ينظر الإنسان لنفسه كصانع للتاريخ ومحرك له.
والفعالية مرتبطة بالإرادة، فالطفل الذي يقود الجمل هو فاعل لأنه يملك الإرادة (بينما ينقاد الجمل لأنه يفتقد لهذه الإرادة!) وعلاقة الطفل بالجمل مثل علاقة دولة صغيرة استعمارية كإنجلترة بمجتمع ضخم تستعمره كالهند، ويستطيع القارئ طبعاً أن يرى فائدة هذا التحليل في أوضاعنا الراهنة!.
والفرد في مجتمع معين تمر عليه حالات يكون فيها فاعلاً وحالات أخرى لا يكون فيها كذلك وبرأي بن نبي أن الفاعلية تستثار في الأفراد حين يسود المجتمع القلق والشعور بالخطر وتظهر الفكرة التي تحدد له طريق الخلاص.
المعادلة البيولوجية والمعادلة الاجتماعية للفرد:
ثمة تجربة تاريخية لا ينفك بن نبي يذكرها في كتبه وهي تجربة أندونيسيا أواخر الأربعينات حين كلفت اختصاصياً ألمانياً هو الدكتور شاخت بوضع مخطط للنهوض باقتصاد أندونيسيا. وكان هذا الاختصاصي نفسه قد وضع مخططاً قاد الاقتصاد الألماني بين عامي 1933 و1936 إلى نهوض عاصف.
في أندونيسيا وضعت إمكانيات اقتصادية تحت تصرف الدكتور شاخت هي أفضل من الإمكانيات الألمانية، ولكن المخطط عينه الذي نجح نجاحاً باهراً في ألمانيا أخفق في أندونيسيا إخفاقاً ذريعاً فما السبب؟
يقول بن نبي: “لا شك أن شاخت وضع مخططه على الشروط التي يقدمها الشعب الألماني مباشرة وبطريقة آلية أثناء مرحلة التطبيق، ثم لا شك في أنه طبق هذه الشروط آلياً في التجربة الأندونيسية، أي أنه وضع مخططه على معادلته الشخصية كفرد من المجتمع الألماني، بينما ستجري التجربة الأندونيسية بطبيعة الحال على أساس معادلة الفرد الأندونيسي بحيث تعثرت التجربة الأندونيسية على خطأ مخططها شاخت في تقدير المعطيات البشرية في المجال الاقتصادي”(“المسلم في عالم الاقتصاد..” ص94). يقول بن نبي إن هناك لكل إنسان معادلتين معادلة بيولوجية يتساوى فيها البشر ولا اختلاف فيها بين المجتمعات، ومعادلة اجتماعية تختلف من مجتمع إلى آخر وفي المجتمع نفسه تختلف من عصر إلى آخر اختلاف درجة النمو أو التخلف.
أما المعادلة البيولوجية فهي منحة الله لجميع الناس، وأما المعادلة الاجتماعية فهي نتاج المجتمع وهي القاسم المشترك الذي يطبع سلوكهم ويحدد درجة فعاليتهم أمام المشكلات بما يميزهم عن أفراد مجتمع آخر أو عن جيل آخر من مجتمعهم إن كان الفاصل الزمني كافياً بين جيلين.
كيف تتكون المعادلة الاجتماعية؟
إنها إما أن تتكون بطريقة تلقائية مع الأيام، وإما أن تتكون بعمل إرادي “تريد ما تفعل وتفعل ما تريد لمواجهة ظروف وضرورات قاسية”، ويضرب مثلاً للحالة الثانية اليابان والصين الحديثتين. والمجتمع الإسلامي بدوره يجب عليه أن يختار: إما أن يسير في طريق طويل تاركاً للأيام صياغة معادلته الاجتماعية عبر التجارب والمحن، وإما أن يطرح المشكلة بصورة منهجية كما فعلت اليابان والصين. وهو يفضل الطريقة الثانية لأن هذا المجتمع كما يقول “يواجه حالة طوارئ تفرض عليه أن يتخذ قرارات صارمة بالمجال الاقتصادي، كما تتخذ قيادة عسكرية قراراتها لمواجهة ظروف استثنائية”(“المسلم في عالم..” ص99) . المنطق العملي:
يقول بن نبي: “إننا نرى في حياتنا اليومية جانباً كبيراً من اللافاعلية في أعمالنا إذ يذهب جزء كبير منها في العبث، والمحاولات الهازلة. وإذا ما أردنا حصراً لهذه القضية فإننا نرى سببها الأصيل في افتقادنا الضابط الذي يربط بين عمل وهدفه، بين سياسة ووسائلها، بين ثقافة ومثلها، بين فكرة وتحقيقها فسياستنا تجهل وسائلها وثقافتنا لا تعرف مثلها العليا”(“شروط..” –ص96). نحن نشكو برأي مالك بن نبي من افتقادنا إلى “المنطق العملي” في حياتنا وهو استخراج أقصى ما يمكن من الفائدة من وسائل معينة.
إن المسلم لا يحسن الاستفادة من الوقت، ولا مما لديه من العلم، ولا مما لديه من المال، وهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مجرداً بل هو قد يبغض الأفكار المنطقية التي يمكن أن تتحول إلى عمل ونشاط!
فكرة التوجيه:
لتحقيق الفعالية النهضوية المنشودة يطرح بن نبي فكرة “التوجيه”.
إذ الحضارة عنده كما رأينا مكونة من ثلاثة عناصر هي “الإنسان” و “التراب” و “الوقت”.
و “الإنسان” هو الرجل والمرأة، وهو يفرد للمرأة فصلاً خاصاً يطرح فيه مشكلتها من منظوره الدائم: “نحن نرى لزاماً علينا أن يكون تناولنا للموضوع بعيداً عن تلك الأناشيد الشعرية التي تدعو إلى تحرير المرأة فالمشكلة لا تتحدد في الجنس اللطيف فحسب أو في بنات المدن أو بنات الأسر الراقية بل هي فوق ذلك تتعلق بتقدم المجتمع وتحديد مستقبله وحضارته”(“شروط..” –ص116).
ومالك بن نبي في هذا التحديد لحل مشكلة المرأة بأنه مرتبط بمشكلة الحضارة لا يتجاهل الشريعة بل يعد الالتزام بها أمراً بديهياً فهو لم تكن تطرح عنده مسألة الخيار بين الشريعة واللاشريعة أصلاً-وسأتكلم في الفقرة الأخيرة من هذا المقال إن شاء الله في طبيعة نظرة بن نبي إلى الشريعة.
ويعود إلى مشكلة الفرد وتوجيهه فيقول إنه يؤثر في المجتمع بثلاثة مؤثرات: بفكره وعمله وماله ومن هنا يجب أن نبحث في توجيه الثقافة وتوجيه العمل وتوجيه رأس المال.
التوجيه عنده “قوة في الأساس وتوافق في السير ووحدة في الهدف، فكم من طاقات وقوى لم تستخدم لأننا لا نعرف كيف نكتلها، وكم من طاقات وقوى ضاعت فلم تحقق هدفها حين زحمتها قوى أخرى صادرة عن نفس المصدر متجهة إلى نفس الهدف! فالتوجيه هو إدارة ملايين السواعد العاملة والعقول المفكرة في أحسن الظروف الزمنية والإنتاجية المناسبة لكل واحد من هذه الملايين “وفي هذا تكمن أساساً فكرة توجيه الإنسان الذي تحركه دفعة دينية، وبلغة الاجتماع: الذي يكتسب من فكرته الدينية معنى “الجماعة” ومعنى “الكفاح”.(“شروط..” –ص78)
توجيه الثقافة:
النهضة عند بن نبي تصفية للعادات والتقاليد والإطار الخلقي والاجتماعي من رواسب الماضي الضارة وبناء لفكر جديد هو الفكرة الإسلامية الصافية التي تخطط للمستقبل. وقد اشتغل على الهدف الأول الإصلاحيون أمثال محمد عبده وعبد الحميد بن باديس، وأما المنهج الجديد للتفكير فعناصره الجوهرية عنده أربعة: الدستور الخلقي والذوق الجمالي والمنطق العملي والفن التطبيقي أو “الصناعة” بمعنى الكلمة القديم لا الحديث.

والثقافة ليست هي العلم، ويوضح ذلك بمثال يقول إن الطبيب الإنكليزي والراعي الإنكليزي على اختلافهما في الوظيفة والظروف الاجتماعية هما ينتميان إلى ثقافة واحدة. ولكن فردين لهما نفس الوظيفة والعمل وينتميان إلى مجتمعين مختلفين ليس لهما نفس الثقافة إذ يختلف سلوكهما واختلاف السلوك ناتج عن الثقافة لا عن العلم.
ويعرف بن نبي الثقافة بناء على ذلك بأنها مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته وهي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته، هي كل ما يعطي الحضارة سمتها الخاصة ويحدد قطبيها العقلي والروحاني. وتوجيه الثقافة يعني توجيه الأخلاق لتكوين الصلات الاجتماعية وهذه الصلات يبعثها الدين أصلاً وقوة التماسك الضرورية لمجتمعنا موجودة في الإسلام ولكن أي إسلام! الإسلام المتحرك في عقولنا وسلوكنا والمنبعث في صورة إسلام اجتماعي.
ويعني التوجيه الثقافي في بعد ثان التوجيه الجمالي، إذ الجمال هو الإطار الذي تتكون فيه أية حضارة.
وفي رأيه هذا وجاهة ،على أن الأمثلة التي يضربها ليست جميعها موفقة برأيي، فلا شك أن مجتمعنا يفتقد إلى الذوق الجمالي المرتبط بعمق برؤيتنا للعلاقة بين المصلحة العامة والخاصة، فمما نلاحظه أننا نهتم بنظافة بيوتنا وليس نظافة شوارعنا، ولكن بن نبي يذهب إلى القول أن فرض القبعة بدلاً من الطربوش على يد كمال أتاتورك كان عملاً نهضوياً لتغيير الأنفس عن طريق تغيير الملابس! ويرى القارئ من هذا المثال البائس كيف أن إغفال فكرة الاستلاب الحضاري يمكن أن يضلل حتى الأذكياء المخلصين من أمثال بن نبي إذ أن أتاتورك كان يضع علامة مساواة بين الإسلام والتخلف وبين الغرب بكل مكوناته الجوهري منها والعرضي، المضموني منها والشكلي، وبين التقدم. وهذه الفكرة بالذات يرفضها بن نبي رفضاً باتاً وينطلق في أفكاره من قاعدة نقيضة تقول إن الإسلام كان هو الشرارة التي شكلت الحضارة، وهذه الحضارة انحطت ليس بسبب فعالية الإسلام بل بسبب توقف فعاليته كما رأينا في فقرة سابقة عن نظرية بن نبي في الدورة الحضارية. وإحسان الظن بأتاتورك كان أمراً مميزاً للعصر الليبرالي العربي الذي كتبت فيه المخطوطة الأصلية من كتاب شروط النهضة، والكتاب نشرت طبعته الفرنسية عام 1947 ،(وهذا المصطلح”العصر اللبرالي” الذي يصف الفكر العربي المتأثر بالاحتكاك مع الغرب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من ابتكار ألبرت حوراني صاحب الكتاب الشهير “الفكر العربي في العصر الليبرالي” وقد صدر عن دار النهار مترجماً باسم “الفكر العربي في عصر النهضة”! وفي رأيي أن هذا التغيير في العنوان تشويه إذ يخلع على الفكر الموصوف صفة إيجابية لم يردها المؤلف ،بل على العكس لقد أعطى حوراني هذا الفكر حين وصفه بالليبرالي صفة المحدودية الذهنية والعقائدية ولم يعطه أي تقويم إيجابي من نوع ذلك الذي يعطيه وصف “عصر النهضة”
. ويعني التوجيه الثقافي ثالثاً التوجيه التقني أو ما يسميه “الصناعة”، وهو تكوين المتخصصين المطلوبين في كل نواحي النشاط الاجتماعي المختلفة من اقتصاد وغيره وإعطاء هؤلاء أماكنهم وفقاً للحاجة.
و العنصر الرابع من برنامج التوجيه التربوي للثقافة عنده هو المنطق العملي الذي تكلمنا عنه منذ قليل.
توجيه العمل :
لا بد للنهضة من أن ينتقل المجتمع من حالة العطالة والعبث إلى حالة العمل الموجه، إنه سير الجهود الاجتماعية في اتجاه واحد. وهو في البداية عمل تطوعي له هدف تربوي لا كسبي كما يرى بن نبي “فإعطاء ثلاثة حروف من الأبجدية عمل، وتقبل هذه الحروف عمل، وإزالة أذى عن الطريق عمل، وإسداء نصح عن النظافة أو الجمال دون أن يغضب الناصح حين لا يصغى لنصحه عمل، وغرس شجرة هنا عمل واستغلال أوقات فراغنا في مساعدة الآخرين عمل وهكذا .. فنحن نعمل ما دمنا نعطي أو نأخذ بصورة تؤثر في التاريخ، فتوجيه العمل هو تأليف كل هذه الجهود لتغيير وضع الإنسان وخلق بيئته الجديدة” (“شروط..” –ص108).
ويرى بن نبي أنه يجب أن يكون التوجيه المنهجي للعمل شرطاً عاماً أولاً، ثم وسيلة خاصة لكسب الحياة بعد ذلك لأن هذا التوجيه حين يتحد مع توجيه الثقافة وتوجيه رأس المال يفتح مجالات جديدة للعمل.
توجيه رأس المال:
“رأس المال” هو مفهوم يختلف عن مفهوم “الثروة” وإن كنا –كما يقول بن نبي – معتادين على الخلط بينهما: “الثروة” شيء شخصي يستعمل للوجاهة الاجتماعية أو لإرواء الحاجات الخاصة للمالك أما “رأس المال” فهو شيء غير شخصي منفصل عن صاحبه، إنه المال المتحرك الذي يخلق حركة ونشاطاً ويوظف الأيدي والعقول.وتحويل “الثروة” إلى “رأس مال” هو عمل نهضوي يجب أن تقوم به كما يرى بن نبي هيئة مخططة تهدف إلى تحويل كل قطعة نقدية إلى كيان متحرك يخلق معه العمل والنشاط، وتحويل أموال الأمة البسيطة بالتوجيه من أموال كاسدة إلى رأس مال متحرك ينشط الفكر والعمل والحياة في البلاد. و”تكوين رأس المال ممكن، حتى في وطن فقير إذا ما اتحدت فيه الجهود وتوجهت نحو الصالح العام” (“شروط..” –ص113).
• مفهوم مالك بن نبي للسياسة:
يقول بن نبي: “ما السياسة في جوهرها إلا مشروع لتنظيم التغيرات المتتابعة في ظروف الإنسان وأوضاع حياته، هذه العلاقة التي تحدد وضع الفرد باعتباره غاية كل سياسة، تعتبر الفرد أيضاً عاملاً لتحقيق تلك الغاية” (“وجهة..”- ص 87) ومن هذا الفهم للسياسة يعد بن نبي الفرد وسيلة السياسة وغايتها ومن هنا تتوجه السياسة إلى الفرد بمعنيين: تتوجه إليه بصفته هو الفاعل الذي يحقق التغييرات المطلوبة وبصفته هو الموضوع المطلوب تغييره وعلى سبيل المثال في النضال ضد الاستعمار تريد السياسة من الفرد أن يغير من وضعه كمستعمر (بفتح الميم) ومن وضعه كقابل للاستعمار وينعي بن نبي على سياسات العالم الإسلامي أنها اتجهت في كفاحها للاستعمار تطالبه بتغيير وضع المستعمرات دون أن تتجه إلى الفرد المستعمر لتطالبه هو بتغيير وضعه الحضاري لكي لا يعود قابلاً للاستعمار إذ من الزيغ عن الطريق الأقوم كما يقول أن يطلب الأسير مفتاح سجنه من سجانه.
يطالب بن نبي السياسة الإسلامية أن تكون بمثابة “علم اجتماع تطبيقي” لا مجرد نشاط فوضوي فليس المطلوب جمع تلفيق من العناصر بل منهج يقوم على التحليل ليوجد العناصر التي ستركب الحضارة.
إن الفرد القابل للاستعمار حين ينهض فإن عليه أن يستعمل ما تحت يديه من وسائل مهما كانت محدودة ليغير بيئته وهذه الوسائل تزداد كمالاً كلما غير نفسه أكثر ووعى حقيقة إنسانيته “وما تقتضيه من مسؤوليات”.
هذه السياسة المطلوبة تقوم على مبدأين يصوغهما بن نبي بصياغته اللغوية السيئة المعتادة:
– 1-أن نتبع سياسة تتفق ووسائلنا.
– 2-أن نوجد بأنفسنا وسائل سياستنا! (“وجهة..”- ص90)
وشرح ذلك أن هذه السياسة تسير على مرحلتين:
المرحلة الأولى تستند إلى الوسائل الموجودة في المجتمع والعناصر الثلاثة الأولية للحضارة وهي الإنسان والتراب والوقت وعدم الاعتماد على الوسائل الأخرى العرضية التي قد توجد وقد لا توجد ويقول بن نبي إن هذه المرحلة يجب أن تنتهي بتصفية القابلية للاستعمار.
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة تحسين مالدينا من وسائل لنغيير البيئة بالتدريج ونتيجة هذه المرحلة يجب أن تكون تصفية الاستعمار نفسه.
والمهم في هذه السياسة هو المضمون لا الشكل، فلا فرق أي شكل سياسي من أشكال النظم يكون هو السائد أكان جمهورياً أم ملكياً أم استبدادياً مطلقاً! والمضمون الإيجابي هو وحده المقياس الذي يتيح لنا أن نعرف إذا كانت السياسة المتبعة علم اجتماع مطبقاً أم ضرباً من الأوهام والخزعبلات. (“وجهة..” –ص 91).
أما السياسة الارتجالية، المتخبطة المخاتلة التي يتبعها الزعماء فيسميها بن نبي باسم احتقاري “البوليتيكا” ويقول عنها: “هذه السياسة الخرقاء ما زالت تخفي العناصر الحقيقية للمشكلة عن ضمير المسلم: فهو يتكلم حيث يلزمه أن يعمل، وهو يلعن الاستعمار حيث يجب عليه أن يلعن القابلية للاستعمار، وهو مع هذا لا يبذل أقل الجهد في سبيل تغيير وضعه تغييراً عملياً. أما أكثر القادة جداً فهم في انتظار الملابسات أعني: يتوقعون سنوح فرصة، فإذا بك تراهم من حين لآخر يرفعون عقائرهم بالاحتجاج معلقين أملهم على بعض الأساطير المسماة بالأمم المتحدة أو بالضمير العالمي” (“وجهة..”- ص 92).
غني عن البيان أن هذا الوصف للسياسة العربية الذي كتب منذ نصف قرن أو يزيد لم يزل صحيحاً إلى الآن مع الأسف وكأنه كتب الآن عن سياستنا الراهنة!
باختصار يرى بن نبي أن السياسة يجب أن تكون مستندة من جهة إلى دراسة دقيقة للواقع بعيدة عن الارتجال ومن جهة أخرى يجب أن تستند إلى ما يقدمه هذا الواقع من إمكانيات لتغيير مزدوج للذات والموضوع وفي علاقة جدلية وطيدة بينهما ويضرب بن نبي مثلاً للتخبط في السياسة العربية السياسة التي قادت إلى نكبة عام 1948 وكانت عندما كتب هذا التحليل جديدة. ويمكن للقارئ أن يرى أنه لم يتغير شيء تقريباً لذلك توالت نكباتنا مع الأسف.
ويحق لنا أن نتذكر مع كل نكبة جديدة ما قاله بن نبي “لقد كان هيناً على كل إنسان أن يتوقع انتصار الصهيونيين فيما عدا ضحايا “البوليتيكا” إذ هي دائماً تكرر أخطاءها، لأنها ليست علماً أو تجربة، وإنما هي جهل وهذر وشذوذ” (“وجهة..”- ص 95)

المصدر : موقع الخيمة العربية

Comments (0)
Add Comment