أ.د. أسعد السحمراني*
جامعة الإمام الأوزاعي
الظروف والواقع:
امتدت حياة مالك بن نبي بين عامي 1905 و1973 ولهذا دلالة وخصوصية فهو ابن الجزائر التي كان قد احتلها الفرنسي منذ العام 1831، ونشأته كانت في أمة عربية وعالم إسلامي شهد تحولات مفصلية في مساره السياسي فقد شهد مالك الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية والتي كانت في جوهرها صراعات بين الأوروبيين حركتها أطماعهم التي كانت ساحتها بلاد العرب والمسلمين ودول أخرى في أفريقيا وآسيا.
لقد نشأ مالك بن نبي في ظل تحديات تهدد الوجود والثقافة والإنسان والمسار الحضاري للأمة كما أنها تهدد الدين واللغة حيث كان الفرنسي المستعمِر يصنّف الجزائر على أنها فرنسا الجنوبية، وقد عمل لينشر فيها الفرنسة والتنصير في مقابل العروبة والإسلام، وهذا التحدي جعل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تعتمد في مطلع نشيد كشافها البيت التالي:
شعب الجزائر مسلم ° ° ° وإلى العروبة ينـتسب
وشهد مالك تحدياً آخر أكثر خطورة هو اغتصاب فلسطين في العام 1948 وكان ذلك إمضاء لإرادة صهيوأوروبية زرعت جسماً غريباً غاصباً في قلب الأمة يهدد مصيرها ويدنس مقدساتها إنه الاستعمار الإسرائيلي الاستيطاني الإحلالي.
وعاش مالك ظروفاً سياسية شهدت سقوط أنظمة وحكام في أكثر من قطر عربي حيث حصلت ثورات وانتفاضات كما نالت دول عربية عديدة استقلالها، أو قل نالت أغلب الدول العربية استقلالها في الحقبة التي عاش فيها مالك بن نبي، وشهد اندحار العدوان والاستعمار في أكثر من معركة كاندحار العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، أو الثورة الجزائرية من أجل التحرير والاستقلال. وسبق ذلك انتفاضات في أكثر من بلد عربي أبرزها ما كان ضد الاستيطان الإحلالي الإسرائيلي في فلسطين وصولاً إلى تبلور صيغة للمقاومة الفلسطينية بدءاً من العام 1965، كما أنه عاش انتكاسات أبرزها نكسة حرب الخامس من حزيران/يونيو 1967 حيث تمكن العدو الإسرائيلي من احتلال أراضٍ عربية جديدة من فلسطين ومصر وسوريا ولبنان والأردن، وشاء القدر أن لا يرحل مالك بن نبي من الدنيا إلا بعد أن يشهد انتصار جيش الأمة على العدو الإسرائيلي في حرب العاشر من رمضان التي كانت نهار السبت في 6 تشرين الأول/أكتوبر من العام 1973، وقد رحل مالك بن نبي – رحمه الله تعالى- إلى عالم الآخرة في 31 تشرين الأول/أكتوبر من السنة نفسها.
إن السنوات التي عاشها مالك بن نبي شهدت كذلك غزواً ثقافياً مارسه الاستعمار الغربي الأوروبي، والصهيوني والأمريكي، وكان هذا الغزو الفكري ولا يزال يهدد الأمة في هويتها وخصائص شخصيتها كما أن ما أحاط بواقع أمتنا من تحديات ولّد أحوالاً سياسية في النظم والتيارات والقوى، وفي الاقتصاد والبيئة والتعليم والإعلام والفنون والآداب احتاجت ولا تزال إلى معالجات، وحركات مواجهة تصون وتحفظ الهوية الثقافية، وتمنع المستعمر من سلب ونهب قدرات الأمة، وفي الوقت عينه تحقق انفتاحاً من موقع الندّية لا من موقع الدونية، وتؤمّن مقاومةً تردع كل عدوان من أية جهة أتى، وإلى أيِّ قطاع أو ميدان اتجه أو استهدف.
بين الحضارة والثقافة:
لقد حصل تشويش في عالم المصطلح بين الثقافة والحضارة والمدنية. فالمدنية هي الإنجازات في عالم الماديات والأرقام والكميات والعمران والتقانة عموماً. أما الثقافة فهي الهوية، وهي التي تحدد الانتماء عقيدة وشريعة ولغة وفكراً وفي قيم الاجتماع الذي يعيشه فيه الفرد، وهي تظهر في الفنون والآداب والأعراف والتقاليد؛ كل هذه الأمور وسواها تندرج تحت مصطلح الثقافة.
والحضارة هي ما تبرز من خلاله الإنجازات وثمرات الجهود الفردية والجماعية والمؤسسية، والإنجازات الحضارية تكون شاملة للكيف والكم، وهي في حقل العلوم الإنسانية (التربية- الآداب- الاجتماع- القانون…) كما أنها في حقل العلوم التطبيقية وسائر وجوه وألوان الأنشطة البشرية. وإذا كانت الثقافة هوية وخصوصية تقبل الانفتاح ولا يجوز التنازل عن خصائصها فإن الحضارة عامة تقبل النقل والأخذ والرد ويتبادلها الناس والأمم طبعاً مع إخضاعها في الاستخدام إلى السائد ثقافياً في الواقع الذي تنقل إليه.
والثقافة موجهة للحضارة وللفرد والمجتمع ولذلك قال مالك بن نبي: “وهذا ما نريد أن نتناوله هنا حين نربط ربطاً وثيقاً بين الثقافة والحضارة. وفي ضوء هذا الربط تصبح الثقافة نظرية في السلوك، أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة، وبهذا يمكن أن يقاس الفرق الضروري بين الثقافة والتعليم.”1
الثقافة تتجه للإنسان تنشئة وهوية وتجعله منتمياً لمحيطه ومجتمع أمته، بينما المعارف في حال من التطور والنماء لا تقف عند حدود، والثقافة تُعدّه بينما التعليم يعطيه ما يحتاجه من معارف وآليات واختصاص، فالثقافة تهذّب سلوكه وتؤهله اجتماعياً بينما الحضارة تعدّه للانخراط في أداء دوره وتوفر له احتياجاته.
ويكمل مفكرنا قائلاً: “الثقافة إذن تتعرف بصورة عملية على أنها مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه، فهي هذا المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته.
وهذا التعريف الشامل للثقافة هو الذي يحدد مفهومها، فهي المحيط الذي يعكس حضارة معينة، والذي يتحرك في نطاقه الإنسان المتحضر. وهكذا نرى أن هذا التعريف يضمّ بين دفتيه فلسفة الإنسان، وفلسفة الجماعة، أي مقومات الإنسان، ومقومات المجتمع، مع أخذ في الاعتبار ضرورة انسجام هذه المقومات جميعاً في كيان واحد، تحدثه عملية التركيب التي تجريها الشرارة الروحية، عندما يؤذن فجر إحدى الحضارات.”2
كل مجتمع أمة له ثقافته ومنها تتشكل شخصية المجتمع كما شخصية الفرد، لأن الانسجام في النسيج الاجتماعي لا يتم بغير ذلك، فالفرد ابن مجتمعه ومحيطه الثقافي الذي نشأ فيه وتربى على القيم الناظمة له، وقد تحل الفتن، وتسود الفوضى إذا تنافر الفرد مع محيطه حيث يتناقض عندها الأفراد المكونون للمجتمع فتفسد العلاقات بينهم، وينعكس ذلك على المسار الحضاري فيه قيماً ثقافية مناسبة لهذا الواقع، فلا استقرار بغير انسجام، ولا حركة حضارية متميزة بغير تركيب مناسب حدده مالك بن نبي على الشكل التالي:
حضارة = إنسان + تراب + وقت.
فالحضارة في أمة تحتاج لبناء الإنسان بناء ثقافياً ومعرفياً مناسباً، ومن ثمّ استثمار الإمكانات والثروات (التراب) بشكل أفضل، هذا مع توظيف الوقت بعيداً من الهدر والبطالة.
وإذا كان الإنسان هو الأساس في مركب الحضارة لأنه يحرك التراب ويستغل الزمن، والإنسان حصنه هويته الثقافية، وهي التي تحميه من السقوط بفعل الغزو والعدوان أو بفعل الجمود والكسل. قال ابن نبي في هذا: “إذا كانت الثقافة هي الجسر الذي يعبره البعض إلى الرقي والتمدن، فإنها أيضاً ذلك الحاجز الذي يحفظ البعض الآخر من السقوط من أعلى الجسر إلى الهاوية.
وعلى هدي هذه القاعدة فإن الثقافة تشتمل في معناها العام على إطار حياة واحدة يجمع بين راعي الغنم والعالم، بحيث توحد بينهما مقتضيات مشتركة، وهي تهتم في معناها بكل طبقة من طبقات المجتمع فيما يناسبها من وظيفة تقوم بها، وما لهذه الوظيفة من شروط خاصة، وعلى ذلك فإن الثقافة تتدخل في شؤون الفرد، وفي بناء المجتمع، وتعالج القيادة، كما تعالج مشكلة الجماهير.”3
فالثقافة هي العاصم للفرد وللمجتمع من السقوط والضياع كما أنها مرقاة باتجاه حضارة منشودة، ومقاصد مبتغاة. والثقافة ليست المعارف والعلوم التي اكتسبها فرد أو ابتكرها بمفرده أو مع مجموعة، وإنما الثقافة هي التي تطبع الشخص أو تكوِّن شخصية الفرد، وكذلك شخصية أو هوية المجتمع، فالأفراد قيادة وجماهير، وأياً كانت مواقعهم يحملون هوية واحدة تطبعها ثقافة واحدة من الراعي ببساطته إلى العالم والمفكر بكل ما يتسامى به من أفكار ومفاهيم.
والثقافة تحمل أو تقدم الأسس لمعالجة المشكلات التي يعاني منها الفرد أو التي تنتشر في مجتمع.
ثمّ هذه الثقافة ترتكز عليها حركة الحضارة وهي تستفيد من مخزونها ومقوماتها، ونحن في مجتمع تكوّنت شخصيته في ظلال الإسلام لا بد لحركته الحضارية في أي مسار اتجهت أن تبدع وتنجز إلا إذا انطلقت من حلقة مركزية هي الإسلام، والإيمان الديني عموماً لأن الأرض العربية هي مهد رسالات السماء.
تأسيساً على ما تقدم يؤكد ابن نبي أن الروابط الدينية شكلت وتشكل مرتكزات أساسية لحقيقة الحضارة ومنطلقاتها واتجاهاتها، ومنها تتكون قوة الروابط التي تجعل التماسك والائتلاف في أي مجتمع. وقد قال حول هذا الموضوع: “فقوة التماسك الضرورية للمجتمع الإسلامي موجودة بكل وضوح في الإسلام، ولكن أي إسلام؟ الإسلام المتحرك في عقولنا، وسلوكنا، والمنبعث في صورة إسلام اجتماعي.
وقوة التماسك هذه جديرة بأن تؤلف لنا حضارتنا المنشودة، وفي يدها – ضماناً لذلك- تجربة عمرها ألف عام، وحضارة ولدت على أرض قاحلة، وسط البدو، رجال الفطرة والصحراء.”4
إن تحديد مرتكزات الحركة الحضارية بالاستناد إلى تجربة عمرها قرون إنما غايته أن يرد على بعض المنبهرين بالوافد الذين يظنون أن الاستيراد يفيد في الفكر الإصلاحي. فالثقافة العربية- الإسلامية هي القادرة كما في السابق أن تحقق الحركة النهضوية، والحضارة المنشودة. قال مالك بن نبي: “إن هناك لواقعنا أساساً ثقافياً عربياً إسلامياً لا يمكن إعادة بناء حضارتنا على سواه… إن الثقافة العربية الإسلامية يمكنها أن تقوم به لأنها قد قامت به في الماضي فعلاً، عندما كانت تهدي بإشعاعها من مراكزها في القاهرة وبغداد وقرطبة موكب التقدم الروحي والعقلي للإنسانية.
وبهذا فهي قادرة وجديرة بأن تنهض اليوم بدورها كثقافة كبرى في العالم. فإذا ما أدرك المثقف العربي المسلم مشكلة الثقافة من هذه الزاوية فسوف يمكنه أن يدرك حقيقة الدور الذي يناط في حضارة القرن العشرين.”5 واليوم نقول بعد ابن نبي: الذي يناط به حضارة القرن الحادي والعشرين.
نخلص مع ابن نبي بأن الصيغة الأنسب لأي ناتج حضاري إنما تقوم إذا ما اعتمدت مناهج الجمع في علم الحساب، “فسننتهي حتماً إلى ثلاثة أعمدة ذات علاقة وظيفية:
حضارة = إنسان + تراب + وقت.
وتحت هذا الشكل تشير الصيغة إلى أن مشكلة الحضارة تنحل إلى ثلاث مشكلات أولية: مشكلة الإنسان، مشكلة التراب، مشكلة الوقت. فلكي نقيم بناء حضارة لا يكون ذلك بأن نكدس المنتجات، وإنما بأن نحلّ هذه المشكلات الثلاثة من أساسها.”6
بهذه النظرة الشاملة والكلية رأى مالك بن نبي الأسلوب المثل من أجل بناء حضارة تحتاجها أمتنا فرداً ومجتمعاً كي تأخذ موقعها ومكانتها بين الأمم.
الفكر وموقعه في الإصلاح والحضارة:
انطلاقاً من المفهوم الإسلامي التزم مالك بن نبي قاعدة مفادها أن الإنسان هو المحور الرئيس في أي مشروع حضاري أو إصلاحي، والإنسان هو المقصد وهناؤه هو الغاية. فالصعود الحضاري العربي الإسلامي كان بإنسان مؤهل قام بهذه المهمة النهضوية، ويوم دبّ الضعف في جسد المجتمع وفي الفرد حصلت ثغرات في شخصية الإنسان الفرد فأدى ذلك إلى حالة من الجمود والانحطاط. قال ابن نبي: “إن جميع الأعراض التي ظهرت في السياسة أو في صورة العمران لم تكن إلا تعبيراً عن حالة مرضية يعانيها الإنسان الجديد… الذي خلف إنسان الحضارة الإسلامية، والذي كان يحمل في كيانه جميع الجراثيم التي سينتج عنها في فترات متفرقة جميع المشاكل التي تعرض لها العالم الإسلامي منذ ذلك الحين. فالنقائص التي تعانيها النهضة الآن، يعود وزرها إلى ذلك الرجل الذي لم يكن طليعة في التاريخ.”7
إن هذه الصورة التي حددها ابن نبي تنبه إلى أهمية الالتفات للإنسان للارتقاء به فهو الركيزة للارتقاء الحضاري، وهذا الإنسان هو الذي تمّ تهذيب طباعه وشخصيته والارتقاء الفكري به، وبذلك تكون العلوم الإنسانية ومنها علوم الاجتماع والنفس والتربية وكل علم يسهم في تنشئة الأجيال أجدر بالاهتمام من تلك التي تدور حول الجوانب المادية. قال في ذلك: “إن العلوم الأخلاقية والاجتماعية والنفسية تعدّ اليوم أكثر ضرورة من العلوم المادية، فهذه تعتبر خطراً في مجتمع ما زال الناس يجهلون فيه حقيقة أنفسهم، ومعرفة إنسان الحضارة وإعداده أشق كثيراً من صنع محرك أو ترويض فرد على استخدام رباط عنق.”8
الإنسان هو الأساس وإعداده يحتاج سنوات وخطوات لأن التطور الفكري لا يكون بقرار أو بمجموعة مقتنيات يتم تجميعها، وإنما المسار الفكري للفرد والحضاري للأمم ينمو ويتطور بشكل تراكمي كمي ونوعي كيفي كحال النمو والتطور في كل مخلوق حيّ.
الفكر هو ما يميّز الإنسان فرداً ومجتمعاً، ولكن العناية بالفكر في مجتمعنا باتجاه إصلاحي نهضوي أو تغييري يحتاج لتحديد المضامين المناسبة فكرياً لمشروعنا الحضاري دون أن نغفل عن التحدي الاستعماري، وما يطرحه من أفكار لو تركناها لحققت شيئاً من التسلط الذي يصب في خدمة الاستعمار سواء أكان الفكر الاستعماري في ميدان السياسة أو الاقتصاد أو الفن أو التربية…إلخ. ولأن الفكر هو السلاح الأفعل فإن واجبنا أن “نفكر كيف نعطي لأفكارنا أقصى ما يمكن من الفعالية، ومن ناحية أخرى أن نعرف ما الوسائل التي يستخدمها الاستعمار لينقص ما يمكن من فاعلية أفكارنا. وهكذا نصبح – في الواقع – أمام مشكلتين: الأولى تتضمن كيف ننشئ أفكاراً فعالة في مجتمعنا. والثانية كيف يجب أن نفهم أسلوب الاستعمار في الصراع الفكري، حتى لا يكون له أي سلطان على أفكارنا.”9
الحركة الفكرية – بنظر مالك بن نبي- تقوم بداية على أساس تحرري لا مكان فيها لأطماع المستعمر ولا لفكره وهذا لا يخالف الانفتاح على التجارب عند الشعوب الأخرى لأن قبول الطروحات الفكرية للمستعمر شيء والانفتاح شيء آخر، كما أن الفكر في كل الميادين يجب أن ينطلق من مقومات ثقافة الأمة وأسس شخصيتها لا من دورة حضارية أخرى لها سمات وخصائص مختلفة.
فالحلول الفكرية الفعالة في أية أمة تنبثق من نسيج ولّده رحم الأمة واستنبته المفكرون في تربتها الثقافية فالاستعارة والنقل الببغاوي في هذا الجانب أكثر ما يخالف منطق الأمور، كما أنه يضيّع الجهود ويهدر الطاقات.
لقد حدد مالك بن نبي للمفكرين الإصلاحيين والثوريين السبيل الأجدى والمطلوب فقال: “لا يجوز لأحد أن يضع الحلول والمناهج، مغفلاً مكان أمته ومركزها، بل يجب عليه أن تنسجم أفكاره، وعواطفه، وأقواله، وخطواته مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمته، أما أن يستورد حلولاً من الشرق أو الغرب، فإن في ذلك تضييعاً للجهد، ومضاعفة للداء. إذ كل تقليد في هذا المجال جهل وانتحار.
وعلاج أي مشكلة يرتبط بعوامل زمنية نفسية، ناتجة عن فكرة معينة، تؤرخ من ميلادها عمليات التطور الاجتماعي، في حدود الدورة التي ندرسها. فالفرق شاسع بين مشاكل ندرسها في إطار الدورة الزمنية الغربية، ومشاكل أخرى تولدت في نطاق الدورة الإسلامية.”10
إن هذا البيان من مالك بن نبي ضروري لأن المشكلة في بعض المفكرين ورجال الإصلاح أنهم عند طرح فكرهم ومشاريعهم الإصلاحية لا ينتبهون إلى الثوابت والمبادئ التي تحدد المسار الحضاري لأمة، ومن خلالها يحصل طرح المشاريع، وترسم التطلعات النهضوية.
ولو أعطينا مثالاً العمل الأهلي في وجوه الخير والعون أو التمكين الاجتماعي فإن مجتمع الغرب يدون ويحصي ويعلن الأرقام، وإذا قارنا ذلك رقمياً فقط مع بلادنا نجد خللاً بيّناً، ولكن هذا الفعل تعسفي لأن الأصل أن نعتبر العمل الأهلي الاجتماعي بناء لشريعة أو أعراف كل مجتمع وأمة، وفي أمتنا العربية وعالمنا الإسلامي يقتضي الشرع أن يخفي فاعل الخير ما فعل، وأن لا يعلن وإلا ذهب أجره لذلك ينتج أن تكون الأرقام غير معبّرة عن حقيقة ما يحصل وما يتم، وقل الأمر نفسه في أمور كثيرة أخرى.
وقد حسم ابن نبي الموضوع قائلاً: “لا يمكن لمجتمع في عهد التشييد أن يتشيّد بالأفكار المستوردة أو المسلطة عليه من الخارج.”11
والاستقلال في حركة الفكر والمفكرين مقدمة لمقاومة كل أشكال الهيمنة والسيطرة الاستعمارية والأجنبية في السياسة والاقتصاد وسائر الشؤون. فحل مشكلة الفكر هي الأساس، وبذلك يكون “علينا أن نستعيد أصالتنا الفكرية، واستقلالنا في ميدان الأفكار حتى نحقق بذلك استقلالنا الاقتصادي والسياسي.”12
إن المفكر صاحب دور أساسي إذن في عملية الإصلاح والنهضة شرط أن “يدرس الواقع الذي سيضع له الأهداف وسبل الإنقاذ في أفكاره، وأن يعبّر فيها عن تطلعات الجماعة لا عن نزوات الأفراد. أما الأمر الآخر فهو أن يدقق في كل عمل من أعماله، وكل حركة من حركاته، لتأتي مطابقة لأفكاره، حتى إذا انسجم الفكر والتطبيق في سلوك المفكر، استطاع أن يلعب دور القيادة والتوجيه.”13
هذا التلازم عند المفكر والمصلح القيادي بين الفكر والعمل، وبين النظريات والممارسات والسلوك ضروري كي لا يلمس الناس تناقضاً، وكي لا يكون ذلك ثغرة ينفذ منها المستعمر وأعداء الأمة. قال ابن نبي حول هذا الشأن: “على من يكتب واجب إزاء الكلمات التي يكتبها إنه يجب عليه أن يتبعها، خارج مكتبه، في معركة الحياة والصراع الفكري، أن يتبعها في عمله في المجتمع، يجب عليه أن لا يغفل تلك الصلة التي تنشأ بصفة أوتوماتيكية بين من يكتب فكرة ومن يصيّرها أو يحاول أن يصيّرها عملاً.”14 وكي يستقطب المفكر جماهير الأمة ليصيّروا فكره عملاً وحركة يجب أن يكون على دراية بهم، بواقعهم ومشكلاتهم، وبمقاصدهم وغاياتهم كي يجدوا في فكره ضالتهم فتجذبهم إليها.
ولكن المستعمر والأعداء يعملون جاهدين لزرع الفتنة، ونشر الخصام بين أهل الأمة كي يصبح البأس بينهم شديداً فتتحول أنظارهم عن مواجهته، ولا بد من الانتباه لتفويت الفرصة عليه، وإلا “يستطيع الاستعمار، بطرق مختلفة، تحويل المعركة التي تنشأ بينه وبين القوى التحررية، إلى معركة، أو على الأقل إلى منافسة، بين تلك القوى نفسها، كما رأينا كيف يحوّل معركة بينه وبين فرد – يكتب مثلاً- إلى معركة بين هذا الفرد وإخوانه أنفسهم.”15
إن خلق مثل هذا النزاع الداخلي يمكن المستعمر والعدو من تحقيق أهدافه حين يحطم جبهة المقاومة، ويتعطل مفعول الفكر فيصبح النشاط والحركة السياسية وفي المؤسسات الأهلية أعمى لا رشاد له.
وهناك أسلوب آخر يعتمده المستعمر ضد المفكر الجاد، والمصلح الفاعل يكون بمحاولة عزله ومحاصرته معتمداً أسلوب التشهير به، أو أسلوب زرع اليأس والإحباط فيه من خلال نشر مقولة مفادها أن لا جدوى مما يقوم به أو يخطه من أفكار. إن المستعمر يعمل لعزل “المكافح في حلبة الصراع الفكري، من جانبين:
أولاً: أن ينفر من أفكاره الرأي العام في بلاده، بجميع الوسائل الصالحة لذلك.
ثانياً: أن ينفره هو نفسه، من القضية التي يكافح من أجلها بأن يشعره بعبث كفاحه.”16
إن هذه اللفتة من مالك بن نبي مهمة في عالم الإصلاح ومنهج المقاومة، وهي ترشد إلى ضرورة عدم الأخذ بالشائعات المغرضة التي يوزعها الأعداء، وأن يتفاعل المفكر مع محيطه وأبناء وطنه وأمته ليشكلوا الحامل لأفكاره الإصلاحية وجهاز التنفيذ والأداء، وبالمقابل أن يلتصق الكل ببعضهم وأن يحذروا الانقسام والفرقة والتباغض والتباعد بين العلماء وأهل الأمة لأن كل منهما درع للآخر.
إن الأعداء والمستعمرين يعرفون أهمية الفكر في استنهاض الأمة، وإنماء إنجازاتها الحضارية لذلك يصب الأعداء جهودهم على نشر مقولات التخوين بين المناضلين في الأمة مفكرين ومؤسسات وشعباً. ويختم ابن نبي: “إن الاستعمار يسعى أولاً أن يجعل من الفرد خائناً ضد المجتمع الذي يعيش فيه، فإن لم يستطع فإنه يحاول أن يحقق خيانة المجتمع لهذا الفرد على يد بعض الأشرار… وكل ما نتمناه هو أن تقوم في بلادنا رابطة من المثقفين لكشف هجمات الاستعمار على الجبهة الفكرية حتى لا تبقى الأفكار معرضة لتلك الهجمات دون نجدة ولا مدد.”17
الإنسان هو الأساس في المشروع الإصلاحي:
إن مالك بن نبي الذي وجد أن مشكلات الحضارة تكون بإعطاء الاهتمام لعالم الأفكار قبل عالم الأشياء، وبأنه لا حضارة من خلال التراب (الثروة) والزمن ما لم يكن هناك إنسان قائد لمسيرة الحضارة، قد أكد على موقع الرأسمال البشري في صناعة التحرر والتقدم والوحدة، فالإنسان هو الأصل. وهذا أمر مستفاد من الإسلام ومن رسالات السماء عموماً التي استهدفت بالدرجة الأولى رفع شرف الإنسان، وتحقيق كرامته وسعادته.
فالإنسان مستخلف في الأرض، وهو مخلوق في أحسن تقويم، وقد أعطاه الخالق سبحانه من التكريم والنعم ما لم يعطه لأي كائن آخر. وهذا الإنسان يحتاج منّا الإعداد والتربية والتنشئة السليمة كي تستقيم مسيرة حياته، ومن أجل أن تكون عنده الأهلية لأداء دوره.
ولذلك فإن تربية الإنسان وتأهيله – وهي مهمة شاقة- يجب أن يسبقا عملية تكديس الثروات، وتجميع المقتنيات لأنها عملية أسهل بكثير والأولى توجيه العناية للإنسان لتنمية مواهبه وقدراته وتغذية فكره وتعويده أن يقرن القول بالفعل عندها يسير قطار الإصلاح والنهضة على السكة الصحيحة.
قال مالك بن نبي: “فالثورة لا تستطيع الوصول إلى أهدافها، إذا هي لم تغيّر الإنسان بطريقة لا رجعة فيها من حيث سلوكه وأفكاره وكلماته. وإذا ما نظرنا إلى الأمور في عمقها، فإن ثورة ما، لا بد لها أن تسير طبقاً للقانون الاجتماعي الذي تشير إليه الآية الكريمة”18: (إنَّ اللهَ َ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَ نْفُسِهِمْ)19
وما تشير إليه الآية في تغيير النفس بالجمع وليس بالمفرد إنما يرشد إلى نهوض جماعي وحركة مجتمع، فالفرد واجبه أن يغيّر ما بنفسه وفي ذاته، وكذلك المجتمع بمجموع أفراده مسؤول عن تغيير ما في دخائل النفس. هنا يكون المسار الصحيح لأن التغيير لا يكون من خلال الأرقام أو الأشكال أو المباني والآلات فكل ذلك لا فائدة منه ما لم يبدأ المسار الثوري والحضاري بتغيير الرأسمال الأهم ألا وهو الإنسان. لذلك وجه مالك خطابه قائلاً: “إنها لشرعة السماء: غيّر نفسك تغيّر التاريخ.”20
هذا التغيير الذي يبدأ من الذات إنما يراد به أن يرفض الفرد الدونية في النظرة للآخرين، وأن يستعيد ثقته بنفسه، وبقدراته التي تؤهله للإنجاز ولبناء حضارة مرموقة، فتحرير الذات من قابلية الذل ومن التخاذل هو في تحريرها من القابلية للاستعمار وبذلك تبدأ المجتمعات مسارها الحضاري بالاتجاه السليم.
قال مالك بن نبي: “إن هناك نتيجة منطقية وعلمية تفرض نفسها، هي: أنه لكي نتحرر من أثر هو الاستعمار، يجب أن نتحرر أولاً من سببه وهو القابلية للاستعمار. فكون المسلم غير حائز جميع الوسائل التي يريدها لتنمية شخصيته، وتحقيق مواهبه: ذلك هو الاستعمار، وأما ألا يفكر المسلم في استخدام ما تحت يده من وسائل استخداماً مؤثراً، وفي بذل أقصى الجهد ليرفع من مستوى حياته، حتى بالوسائل العارضة، وأما ألا يستخدم وقته في هذه السبيل، فيستسلم – على العكس- لخطة إفقاره وتحويله كماً مهملاً، يكفل نجاح الفنية الاستعمارية: فتلك هي القابلية الاستعمارية.”21
وقال كذلك: “إن المشكلة الرئيسية هي أنه لكي نتخلص من الاستعمار، يجب أن نتخلص من القابلية للاستعمار.”22
إن التخلص من القابلية للاستعمار هي نقطة الانطلاق إلى المستقبل المنشود لأن هذه القابلية لو بقيت لأحدثت دونية وخذلاناً لا تكون معه عملية إصلاح أو مناهج تغيير، أو تطلعات نهضوية وثورية.
لكن في الوقت نفسه لفت مالك بن نبي إلى مخاطر الجمود والغلو بالتغني بالماضي والتراث دون تفكيك قيود الماضوية التي لا تقل خطورة عن القابلية للاستعمار. وفي عرض أسباب التخلف الحضاري قال: “وهناك سبب آخر لانعدام الفاعلية التي وصمت بها نزعة المديح العمل الفكري، فحين اتجهت الثقافة إلى امتداح الماضي أصبحت ثقافة أثرية، لا يتجه العمل الفكري فيها إلى أمام، بل ينتكس إلى وراء. وكان هذا الاتجاه الناكص المسرف سبباً في انطباع التعليم كله بطابع دارس لا يتفق ومقتضيات الحاضر والمستقبل، وبذلك أصيبت الأفكار بظاهرة التشبث بالماضي، كأنما قد أصبحت متنفساً له.”23
ينبه ابن نبي من منحى خطير هو ذلك التغنّي بالماضي التليد والجمود عنده دون أن تكون هناك حركية وفاعلية تقود اتجاهاً تقدمياً فالتراث يحتاج منّا أن نقدر رجالاته، وأن نتعامل معه بأسلوب انتقائي، وهذا معناه أن نستفيد منه ما له حضور في واقعنا اليوم، وأن نهمل ما لا حاجة له، لأن الموروث الميّت خطر كما حال الوافد المسموم حسب رأي مالك بن نبي. والأمر يستلزم أن نخلص إنسان أمتنا من قيود الموروث الميّت تماماً كما نفعل في تحريره من أغلال الاستعمار أو القابلية للاستعمار، ومدار الأمر دائماً الذات التي نريد أن نكونها وهذا ما أرشد إليه الله تعالى في الآية الكريمة: (إنَّ اللهَ َ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)24
يأتي بعد ذلك دور فلسفة الحق والواجب في تكوين شخصية الإنسان الذي نريده، هذا الإنسان الذي يحتاج للتوازن في بنائه بين الروح والمادة، وبين الكيف والكم، وصولاً إلى التوازن بين الحقوق والواجبات.
وإذا كانت حركات التحرير والتحرر قد عملت على تعليم الإنسان كيف يحصل حقوقه أو ينتزعها فإن الواجب يقتضي أن نعرّفه كذلك بواجباته، فمن أتقن فن الواجب وأداءه يمكنه بعدها أن يتقن فنّ انتزاع الحقوق والحفاظ عليها بعد الظفر بها.
إن التربية المطلوبة لإعداد الإنسان هي تلك التي توازن بين الحقوق والواجبات، والشعب ليس “بحاجة إلى أن نتكلم له عن حقوقه وحريته، بل أن نحدد له الوسائل التي يحصل بها عليها، وهذه الوسائل لا يمكن إلا أن تكون تعبيراً عن واجباته. سيكون على مجتمع… إذن أن يخفف من نزوعه إلى المطالبة بالحقوق، لكي يفرغ لاستخدام الإنسان والتراب والوقت استخداماً فنياً لاستحداث تشكيل اجتماعي، ينتج من تلقاء ذاته الحق، وذلك بمقتضى الاقتران الوثيق بينه وبين الواجب، فرسم سياسة معينة معناه إعداد الشروط النفسية والمادية للتاريخ، أعني إعداد الإنسان لصنع التاريخ.”25
إن الشخصية السوية المتوازنة هي تلك التي ترعرعت على هذه المعادلات بين الثنائيات التي تؤسس لشخصية وسطية لا يعرف الغلو سبيلاً إليها. والواجب الذي نحتاجه في تأسيس الشخصية السوية يشمل الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والفني وجوانب الشخصية كافة. لأن من أتقن فن القيام بالواجب يستطيع أن يتقن فن المطالبة بالحقوق، إن مقررات التربية وأنظمتها يجب أن تتنبه إلى هذه الجوانب التربوية لأننا كثيراً ما نجد من يتحدث عن حقوقه ساعات وساعات، وهو مقصر بواجباته بدءاً من أسرته إلى عائلته إلى محيطه ووطنه وأمته.
وإذا ما توازنت شخصية الإنسان الفرد، واستقامت حياته يكون عليه أن ينخرط في مجتمعه على قاعدة الإقرار بالأنا والآخر من بني قومه وأمته، وأن يرافق ذلك معرفة حقيقة ذاته وقدر نفسه كي يبدأ رحلة التغيير بدءاً من تنقية هذه الأنا فمن غيّر نفسه يمكنه أن يغيّر واقع أمته ومجتمعه.
إن إنجاز مهمة “التغيير في محيطنا يجب أن يتحقق أولاً في أنفسنا، وبذلك تتوافر شروط رسالة المسلم… وإلا فإن المسلم لن يستطيع إنقاذ نفسه ولا إنقاذ الآخرين. ثم إذا كان منهج الرسالة يقتضي التغيير، والتغيير يقتضي تغيير ما في النفوس أولاً… عندها يجب على المسلم أن يحقق بمفرده شروطاً ثلاثة:
1- أن يعرف نفسه.
2- أن يعرف الآخرين، وأن لا يتعالى عليهم، وأن لا يتجاهلهم.
3- ويجب عليه في الشرط الثالث أن يعرّف الآخرين بنفسه ولكن بالصورة المحببة، بالصورة التي أجريت عليها كل عمليات التغيير بعد التنقية والتصفية من كل رواسب القابلية للاستعمار والتخلف وأصناف التقهقر.”26
هذه الشروط هي تلك المطلوبة في الداعية والمصلح، ورجل الفكر وكل من يتولى موقعاً قيادياً وهي:
1- أن يتأمل نفسه ليعرف قدراته، وليحدد موقعه ودوره ويفيد أن يجيب عن سؤالين هما: من أنا؟ وماذا أريد؟ فالأول يحدد الهوية والانتماء، والثاني به تتحدد المقاصد والغايات.
2- أن يقوم نسيج العلاقات الاجتماعية على أخلاق الألفة والود، وعلى منهج التواضع لأن الاستعلاء يولد النفور ويسهم ذلك بتفكيك الصف الداخلي ويؤدي إلى تبعثر الطاقات.
3- ثم يقدم المصلح ذاته وأفكاره ومشروعاته بشكل محبب عماده الاحترام والمودة والتكافل الاجتماعي، وهذه الذات من واجبه أن يقدمها بالشكل المقبول الذي يستميل الآخرين إليه، وهذا يتطلب منه أن ينقّي نفسه من العقد، عقد الدونية، أو عقد الشهوات والنوازع المادية، ومن عقد الخنوع والجمود.
تأسيساً على ما تقدم نقول: الإنسان هو الهدف، ومهما تمادت بعض المجتمعات بشراء المقتنيات، أو تفننت بألوان اللباس والطعام وتطاولت في المباني والعمران فإن ذلك لن يؤدي إلى صناعة التقدم ما لم تبدأ المسيرة من تكوين الفرد الحامل لرسالة، والتكوين المطلوب تكوين تغييري لا يستسلم للأمر الواقع، ولا يضعف أمام الصعاب والمعوقات، وهذا التكوين يحتاج تحديد الهوية الثقافية التي تحدد أسس المنهج التربوي الذي سيتم اعتماده في مسيرة التغيير من النفس في الفرد إلى الروح الفاعلة في عموم أبناء الأمة.
خلاصات ومقترحات:
لقد عاش مالك بن نبي حاملاً هموم أمته العربية وعالمه الإسلامي ووطنه الجزائر لذلك لم يمارس عملاً في اختصاصه وهو الهندسة الكهربائية، وعندما سئل عن السر في ذلك أجاب: “عندما تخرجت من المعهد الجامعي وجدت أمتي تحتاجني مفكراً أكثر من مهندساً”.
وكان مالك بن نبي مسكوناً بهواجس الاستقلال والتحرير وانعتاق الإنسان من الدونية المتولدة من القابلية للاستعمار، وكان يدعو إلى بناء الحضارة انطلاقاً من بناء وتكوين الإنسان الفرد، ومن ثمّ صياغة الظروف لميلاد مجتمع تقوم شبكة العلاقات الاجتماعية فيه على أساس القيم التي تناسب ثقافة الأمة لا بالاستناد إلى وافد فكري من هذه الجهة أو تلك.
إن مشروع مالك بن نبي الإصلاحي الثوري المعنون: “مشكلات الحضارة” لا يزال له حضوره، ويفيد في واقعنا اليوم بعد أكثر من ثلاثة عقود على وفاة ابن نبي، وأبرز المقترحات المستفادة نجملها بما يلي:
1- إن أية حركة ثورية أو إصلاحية كي تنجح عليها الانطلاق من واقع أمتها ومن رحم هويتها الثقافية لأن ما يفيد في دورة ثقافية لا يكون مناسباً لدورة ثقافية أخرى، ولذلك لا يجوز الاستيراد في الفكر السياسي والتربوي والاجتماعي كما الحال في العلوم التطبيقية، وفي التقنيات والمصنوعات.
2- إن الهم الأساسي لأي مشروع إصلاحي ونهضوي يحتاج لنجاحه أن يبدأ من الإنسان المخلوق المستخلف في الأرض والذي كتب الله تعالى له التكريم والإنسان أو الرأسمال الاجتماعي هو الرأسمال الأكثر أهمية في صناعة التقدم وإليه يجب أن يتوجه الاهتمام. وإذا كان مالك بن نبي قد حدد الحضارة على الشكل التالي:
حضارة = إنسان + تراب + وقت، فإنه علينا أن ندرك بأن الإنسان هو الذي يستخدم التراب ويدير حركته وأنه هو كذلك الذي يستثمر الوقت بحسن إدارته وبذلك يكون الإنسان مدار الحضارة.
3- إن بناء الإنسان يحتاج إلى تخليصه من كل الرواسب، وتنقية شخصيته مما علق بها لأنه لا يمكن لفرد أن يقود حركة إصلاح في “أناه” وكذلك حال المجتمع، والقاعدة هي قول الله تعالى: (إنَّ اللهَ َ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَ نْفُسِهِمْ) .
4- إن العناية بالتربية أمر ضروري من أجل تنشئة الجيل وإعداده انطلاقاً من أساس مكين لواقعنا هو العروبة والإسلام. والموقف السليم فكرياً هو بعدم الانبهار بالوافد الأجنبي، وكذلك الابتعاد عن كل أشكال الجمود باسم الدين والتراث.
5- إن البناء الاجتماعي التغييري في المجتمع وفي الفرد يحتاج إلى توازن روحي- مادي، ويراعي الكيف والكم، ولا يقف عند حدود الأرقام والأعداد. وهذا ما يقود إلى ضرورة الاهتمام بالعلوم، والمعارف التي تعتمد الإنسان محوراً كالفكر والدين والفلسفة والاجتماع والتربية وسواها لا أن ينصب الجهد على الماديات ومتعلقاتها.
6- إن المصلح والمفكر وكل عامل في الشأن العام عليه أن يمتلك ثقة بنفسه وثقة بأبناء أمته وأن ينشر الألفة بينه وبينهم كي لا يمكن الاستعمار من عزل المفكر أو تنفير الناس منه، وهذا يقتضي الانتباه إلى سلوكه، وواجبه أن يكون متواضعاً ومنضبطاً وغير فظ الطباع.
7- إن المفكر يحتاج بداية إلى فهم مكانة أمته ودورها في المسار الحضاري والأمر الآخر أن يحرص على اقتران القول والفعل في حركته، وعندما يقترن عنده الجانب الفكري النظري بالتطبيق سلوكاً وفعلاً يكون قد نجح في نيل ثقة مجتمعه، وبالتالي يلتف حوله الناس وهكذا تنجح حركته.
8- إن تحصين الإنسان من القابلية للاستعمار هذه الأيام مهم. والمتأمل لواقعنا اليوم يجد أن قبيلاً من المتخاذلين يضخم الدور الأمريكي والأجنبي كي يبرر تخاذله، وقبيل آخر يستسلم للأمر الواقع ليجد ما يستر به تقصيره وهكذا الأمر، ولا بد حيال ذلك من ثقة عالية بالنفس وبالأمة وبخيريتها لقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)27.
9- إن المشروع النهضوي يحتاج لإنسان يؤدي واجباته في شتى الميادين قبل أن يطالب بأي حق من حقوقه. لأن التوازن في هذه المعادلة يساعد على تحقيق الاتزان في الشخصية والسلوك وكل خلل ينعكس عليهما معاً.
10- ختاماً نقول : واجب الإنسان أن ينطلق من مسلمة مفادها أنه حامل رسالة لإنقاذ نفسه وأمته والإنسان أينما كان، وهذا أمر يعطي الصدارة للمبادئ والالتزام بها والثبات عليها والاستعداد للتضحية والفداء لأن الأمم لا تنتصر بغير هذا النوع من الناس.
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* sahmarani2002@hotmail.com
1- مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، دمشق، دار الفكر، سنة 1399هـ- 1979م، ص 70.
2- مشكلة الثقافة، م.س.، ص 71.
3- مشكلة الثقافة، م.س.، ص 74.
4- مشكلة الثقافة، م.س.، ص 78.
5- مشكلة الثقافة، م.س.، ص 127.
6- مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة د. عبد الصبور شاهين وعمر مسقاوي، دمشق، دار الفكر، سنة 1399هـ- 1979م، ص 45.
7- مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة د. عبد الصبور شاهين، بيروت، دار الفكر، بدون تاريخ،ص 36.
8- وجهة العالم الإسلامي، م.س.، ص 37، 38.
9- مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، دمشق، دار الفكر، سنة 1399هـ- 1979م، ص 19،20.
10- شروط النهضة، م.س.، ص 47، 48.
11- مالك بن نبي، إنتاج المستشرقين، القاهرة، مكتبة عمار، سنة 1970، ص 62.
12- إنتاج المستشرقين، م.س.، ص 62.
13- أسعد السحمراني، مالك بن نبي مفكراً إصلاحياً، بيروت، دار النفائس، ط2، سنة 1406هـ – 1986م،ص 142.
14- مالك بن نبي، في مهب المعركة، دمشق، دار الفكر، سنة 1981، ص 137.
15- الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، م.س.، ص 43.
16- الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، م.س.، ص 37.
17- الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، م.س.، ص 125، 126.
18- بين الرشاد والتيه، م.س.، ص 46.
19- سورة الرعد، الآية 11.
20- شروط النهضة، م.س.، ص 32.
21- وجهة العالم الإسلامي، م.س.، ص 105.
22- وجهة العالم الإسلامي، م.س.، ص 119.
23- وجهة العالم الإسلامي، م.س.، ص 63.
24- سورة الرعد، الآية 11.
25- وجهة العالم الإسلامي، م.س.، ص 162.
26- مالك بن نبي، دور المسلم ورسالته، دمشق، دار الفكر، سنة 1978، ص 58، 59.
27 – سورة آل عمران ، الآية 110
الملتقى الدولي: مالك بن نبي و استشراف المستقبل
من شروط النهضة إلى شروط الميلاد الجديد
في إطار تظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية
تلمسان 12 ـ 13 ـ 14 ديسمبر 2011 م
17 ـ 18 ـ 19 محرم 1433 هـ