مالك بن نبي.. مُنظِّر النهضة الإسلامية

عدد القراءات :7154

بواكير حياته
ولد المفكر الإسلامي مالك بن نبي في مدينة قسنطينة الجزائرية عام 1905 لأسرة متواضعة الحال، حيث كان أبوه عمر موظفا بسيطا في إدارة مدينة تبسَّة، وأمه زهيرة ربة بيت تعمل في الحياكة. لكن الأسرة كانت عميقة التدين، عزيزة الأنفس. وقد تحدث مالك في مذكراته (شاهد القرن) عن هجرة أجداده لأمه إلى تونس والجزائر بداية الغزو الفرنسي، خوفا من انتهاك أعراض بناتهم على أيدي الجند الفرنسيين المتغطرسين. كانت أحاديث جدته هي النافذة التي فهم منها مالك جرائم الاستعمار الفرنسي، وأهمية الاعتزاز بالعقيدة الإسلامية واللغة العربية، ثم كانت صلة أسرته بالحركات الإصلاحية وبالطرق الصوفية، خصوصا (الزاوية العيسوية)، دافعا له إلى الاهتمام بقضايا الإصلاح والنهضة والتجديد. ثم كان حرص والدته على تعليمه القرآن –حتى إنها رهنت سريرها مرة لدفع أجرة المعلم- دافعا آخر عمق في نفسه حب القرآن وحمْلَ راية الدفاع عنه ضد المستشرقين في كتابه القيم “الظاهرة القرآنية”. جمع مالك بين الدراسة في الكتَّاب وفي المدارس الفرنسية بالجزائر، ثم تخرج من معهد إسلامي بالجزائر (مدرسة سيدي الجليس) وواصل دراسته العليا في فرنسا فتخرج مهندسا عام 1935. والحق أن مالكا كان معلم نفسه، فولعه بالقراءة شديد، وجلده في التعلم الذاتي لا يضاهى، وذلك أكبر مصدر من مصادر المعرفة لديه.

بين المشرق والمغرب
بعد ثلاثين عاما من العيش في فرنسا، رحل فيلسوفنا إلى مصر عام 1956. وفي القاهرة عمَّق مالك معرفته باللغة العربية، وقد كانت الفرنسية غالبة على لسانه وقلمه من قبل، وهناك ترجم له د. عبد الصبور شاهين عددا من أهم كتبه ترجمة بديعة، فاشتهر ذكر مالك، وتعرَّف عليه الأكابر بمصر والشام. كما بنى مالك صلة بالرئيس عبد الناصر، وخصصت له القيادة المصرية راتبا شهريا مكنه من التفرغ للكتابة والمحاضرات خلال سبع سنين.. وفي مرحلته القاهرية اندلعت الثورة الجزائرية المجيدة، فجرد مالك قلمه لها، وكتب الكثير عنها. عاد مالك إلى الجزائر عام 1963 وفيها تقلد عدة مناصب أكاديمية، منها منصب مستشار للتعليم العالي، ثم مدير جامعة الجزائر، ثم مدير التعليم العالي، لكنه استقال عام 1967 مؤثرا التفرغ للعمل الفكري إلى أن وافاه الأجل يوم 31 أكتوبر 1973. وخلف ثروة فكرية رائعة من حوالي ثلاثين كتابا، نشر منها حتى الآن حوالي العشرين، ولا تزال بعض أعماله مخطوطة لم تنشر. ويمكن اعتبار أهم أعماله هي: “الظاهرة القرآنية”، و”وجهة العالم الإسلامي” و”شروط النهضة” و”مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”.

ثائر موطَّأ الأكناف
يقول علامة فاس ومؤرخها الدكتور عبد السلام الهراس – وهو ممن عايشوا مالك بن نبي في نفس المنزل بمصر- إن مالكا كان متواضعا بسيطا في حياته وعلاقاته الشخصية: “مالك بن نبي كان يعيش معنا بسيطا جدا، البساطة التامة، كان عندما بدأ يتلقى النقود على كتبه، ويدفع حظه في البيت، فنحاسبه كما نحاسب بعضنا، فيخضع لنا ولا يرى في ذلك غضاضة. يقول: هل أساعدكم؟ فنقول: لا، ثم يثق فينا ثقة كبيرة”. لكن مالكا كان عزيز النفس أبيًّا يعرف قيمة الفكر والعلم الذي يحمله. وكان فيه شدة وفورة غضب أحيانا، تجعل رفقاءه يتجنبونه حتى يهدأ غضبه. لكنه إذا لم يكن غاضبا فهو موطأ الأكناف، رقيق القلب، شديد الوفاء لرفقائه. يقول الهراس: “ما أعتز به هو أن مالك بن نبي أبى أن يودِّعني في الدار بالقاهرة، عندما أتممت دراستي (ليسانس) وعزمت على العودة إلى المغرب. فأبى إلا أن يودعني في بورسعيد على باب الباخرة .”

حامل همِّ النهضة
يمكن إجمال الجهد التجديدي لمالك بن نبي في مجالين: مجال الدراسات القرآنية ومجال فكر النهضة. ففي الدراسات القرآنية ابتكر مالك –بالتوازي مع الدكتور محمد عبد الله دراز الذي قدم له كتابه “الظاهرة القرآنية”- منهجا جديدا للبرهنة على أصالة الرسالة القرآنية، يعتمد التحليل المنطقي والتاريخي أكثر من التحليل البياني اللغوي. وفي مجال النهضة كتب مالك جل كتبه، وهو ما نركز عليه هنا .
لقد قدم مالك بن نبي إسهامات جليلة في تجديد الفكر الإسلامي المعاصر، وتنقية المنبع الفكري الذي استمدت منه حركة النهضة منذ ختام القرن التاسع عشر. وأصبحت بعض المصطلحات التي نحتها مالك على كل لسان. ومن ذا الذي لم يسمع بمقولاته حول العلاقة بين “الاستعمار” و”القابلية للاستعمار”؟ والصلة بين “الأفكار الميتة” و”الأفكار المميتة”؟ ومراحل تطور الحضارة الإسلامية من “طور الروح/الصعود”، إلى “طور العقل/الامتداد”، إلى “طور الغريزة/الانحطاط”؟
وقد توصل مالك بن نبي إلى أن أزمة المجتمع المسلم هي أزمة منهجية عملية في الأساس، وأن التحدي الرئيس الذي يواجه المسلمين هو تحدي النهضة. وصاغ نظريته في التغيير الاجتماعي على أساس مبدأ الفاعلية. وقد أخذ مالك على بعض حركات الإصلاح التي ظهرت في العالم الإسلامي مطلع القرن العشرين إغراقها في الحديث عن العقائد المجردة على طريقة علم الكلام القديم، وتفريطها فيما دعاه “الفكر الفني الذي يعجل بحركة التاريخ”. ففقدت هذه الحركات رسالتها ودورها التاريخي، كما يقول مالك، لأن “المسلم لم يتخل مطلقا عن عقيدته ، فلقد ظل مؤمنا .. ولكن عقيدته تجردت من فاعليتها، لأنها فقدت إشعاعها الاجتماعي … وعليه فليست المشكلة أن نعلِّم المسلم عقيدة هو يملكها، وإنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها، وقوتها الإيجابية، وتأثيرها الاجتماعي. وفي كلمة واحدة: إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم على وجود الله ، بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده .”

من عبده إلى إقبال
وحين قارن مالك بين منهج محمد عبده ومنهج محمد إقبال اكتشف الفرق بين المدرستين: مدرسة كلامية تتعامل مع المشكلة الإسلامية في الإطار الذهني المجرد، ومدرسة عملية تهدف إلى تغيير جوهر الإنسان ومحيطه الاجتماعي. وقد كتب مالك عن ذلك يقول: “إن المدرسة الإصلاحية [بقيادة الشيخ محمد عبده] صاغتها بلغة علم الكلام، بينما صاغها إقبال في مصطلحات أخرى، حين نبَّه على أن المطلوب ليس العلم بالله، ولكنه – في أوسع وأدق معانيه– الاتصال بالله. ليس المطلوب مفهوما كلاميا، ولكنه انكشاف للحقيقة الخالدة، وبحسب تعبيره هو: (تجلي هذه الذات العلوية)”. ولذلك لا عجب أن المدرسة الإصلاحية بقيادة عبده “ظلت تعاليم تهدف إلى تخريج متخصصين بارعين، أكثر مما تتجه إلى تكوين دعاة مخلصين” حسب تعبيره. والمتخصص البارع الذي لا يحمل هما ولا رسالة، إنما يغذي وقود الجدل على حساب العمل .
وقد ذهب مالك بنْ نبي إلى أن المدرسة الإصلاحية كان في وسعها أن تؤثِّر في مسار المجتمعات الإسلامية تأثيرا أكثر إيجابية “لو أنها استطاعت أن تقوم بتركيب أفكارها، وتجميع عناصرها، لتوحد ما بين الأفكار الأصول التي ذهب إليها الشيخ محمد عبده، وبين الآراء السياسية والاجتماعية التي نادى بها جمال الدين، الأمر الذي كان سيؤدي حتما إلى طريق أفضل من مجرد إصلاح مبادئ العقيدة .”
وكان إقبال قد شدَّد على أن النفوس المؤمنة إذا لم يشفها تدبر القرآن واستنطاقه بمنهجية عملية، فلا الذوق الصوفي (الكشف) بمغن عنها، ولا الجدل الكلامي (الكشاف) بنافعها. يقول إقبال في ديوانه: “جناح جبريل :”
نفسٌ إذا القرآن ما انتفعت به لا الكشف ينفعها ولا الكشَّافُ
والسر في هذا التشخيص الذي اتفق عليه إقبال ومالك وغيرهما من خيرة العقول المسلمة، هو أن علم الكلام – الذي رمز إليه إقبال بكتاب “الكشاف” للزمخشري- يزيِّف المشكلة الإسلامية من أساسها، كما دلت عليه التجربة التاريخية للمسلمين “حيث لم يكن المتجادلون يبحثون عن حقائق وإنما عن براهين” كما يقول مالك. ذلك أن “علم الكلام لا يواجه مشكلة الوظيفة الاجتماعية للدين”، وهي جوهر أزمة المجتمع المسلم الآن، ومن أجل استرجاعها ظهرت الحركات الإصلاحية المعاصرة، بل يشغل الناس بالجدل حول أمور غيبية لا مجال لحسمها من الناحية العلمية، ولا تترتب عليها ثمرة عملية .
رحم الله مالك بن نبي.. منظر النهضة الإسلامية .

المصدر : 4nahda.com

Comments (0)
Add Comment