مالك بن نبي كان أمة واحدة براعة فكرية ومهارة تحليلية

عدد القراءات :2517

الأستاذ محمد البشير مغلي
جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية — قسنطينة

حديثنا عن المرحوم الأستاذ مالك بن نبي وعن تقييمه لإنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي صعب مستصعب، لأنه حديث عن مهندس درب وجرَّاح مرن، جند جميع طاقته وخبراته في طاق الدعوية لخدمة الإسلام والمسلمين، وعلاج الفكر الإسلامي من الأمراض الفتاكة، وتطعيمه بالأمصال الإنعاشية والوقائية . كما نذر حياته لترشيد الوعي الإسلامي وتحفيزه على النهوض برسالته مرة أخرى، لأنها رسالة سماوية خالدة، ولكن ولئن كبت يوما كبوة طالت أو قصرت، فإنها لا تنقضي بانتهاء الدورة الحضارية فالحضارة قد تزول ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) ولكن الرسالة يجب أن تدوم . آلت السماء على ذلك .

مزايا الصنعة التكوينية
فهو إذن حديث عن مهندس كهربائي ساعده تكوينه على هندسة عالم الأفكار والنفوذ إلى أغواره . وكما أن الكهرباء تفيد الإضاءة والإنارة من ناحية فإنها من ناحية أخرى تعرض الأشخاص إلى مخاطر الالتهاب والاحتراق والقتل، مورثة الأضرار والظلام الدامس .
وكذلك الأفكار : فيها النير المضيء المكهرب الواثب، وفيها الحالك المظلم الداكن الذي يورث بصيصه التعتيم في الفكر والحضارة بدلا من أن يمزق سجوف الظلمة الفكرية فيها . وعندئذ تكون الكوارث والمصائب غبر بعيد عن أصحابها . وفرق بين مهمة الكهربائي ووظيفة المهندس .
فأول ما يتبادر إلى الذهن من مهمة الكهربائي في عرفنا، أنه يقوم بتصليح الأسلاك وإعادة الشحن وكذلك التيار الكهربائي إلى مجراه الطبيعي من أجل إعادة الإضاءة وسلامتها . وأما المهندس فهو ذلك الذي يهندس ويصمم لتصليح الخلل والإنارة ويخطط للشحن الكهرطيسي وينبه إلى الأخطار ويضع الفواصل المنية العازلة، الرئيسية ويتمتع بقدرة على التسيير المنظم واحتواء التعطل الكامل ويتحكم في الطوارئ حين الالتهاب أو الانطفاء مثلا ..

توظيف التخصص لخدمة الرسالة
فإن اعتبرنا الآن الأسلاك بمثابة الأفكار والشحن بمثابة الحوافز والتيار بالاتجاهات الفكرية أو الصراع الفكري، والإضاءة مثلا بالفعاليات، والحقل الكهربائي بالحقل الفكري، والفواصل العازلة بقواعد الصراع …صار من اليسير علينا أن نفهم كيف برع هذا المهندس المحنك في توظيف تخصصه العلمي من أجل أن يَخْبَر عالم الأفكار ويطلع على خصائصها ويكشف عن دقائقها بل ويتعامل ويتفاعل مع ذراتها وجزئيتها الخفية ( والله يصيب برحمته من يشاء ) هذا عن المهندس بالتكوين .
وأما عن الجراحة والتشريح فقد كان يمارسها في ميدان متشعب عصي للغاية .
تارة على الأحياء والأموات، الحضارات الزاهرة والحضارات الآفلة، وأخرى على الأفكار الميتة والأفكار القاتلة .
ورابعة على الاستعمار وقابلية الاستعمار، وكذالك على صراع الأشخاص بما فيه عالم الأشياء وعالم الأشخاص وعالم الأفكار .
ولا جرم أن جراحة الأبدان أيسر بكثير من جراحة الأفكار وتنصيب قدامه القامات المريضة والهامات البلية فيعاين العلة ويجرح مضربها فيسيل منها الداء وقد يقطعها أو ينتشلها أو يداويها فالمعطيات كلها متوفر لديه كما ترى .
وأما جراحة الأفكار فأعوص لأنها لا تخضع للمقاييس الثابتة ولا تعرف المعايير الدقيقة ولا ترتبط بتخصص معين وهي قابلة للمغالطة واللف والخداع والتوجيه .مجالها فسيح للصراع وتيارات الجارفة لا تحصى، داؤها أخطر من العلل البدنية، لأن هذه الأخيرة لا تؤدي إلا بأصحابها المعلولين. أما هي فتقتل أمة وقد تأتي على أجيال بأكملها وقد تتسبب في انهيار حضارة كاملة . ولذا فمهمة الطبيب الجراح أهوان بكثير من مهمة المفكر الجراح أي الناقد الخبير الواعي . فالطبيب الجراح وقته محدود “بمدة الجراحة ” و أداوته جاهزة ومرض العليل مشخص لا لبس فيه وجسمه ماثل بين يديه محدود على طاولة الجراحة والأضواء الكاشفة مسلطة عليه والعلة كما قدمنا معروفة ” مجغرفة ” بالإضافة إلى أن الهدف محدد والتجربة نفسها متكرر و المساعدين يحوطونه من حوله والجراح مطمئن للعملية والنتائج معروفة سلفا والعواقب متوقعة.
على حين أن وقت المفكر الجراح غير محدود إذ هو دائم التجنيد والرصد ملتزم جانب الحذر واليقظة : العلة ليست دائما معروفة ولا العليل، والشبهات كثيرة والنوايا والمقاصد ملفوفة والعوامل المؤثرة عديدة، والعلل مركبة تركيبا مخططا ومن قبل مهندسين مختصين في الصراع الفكري والحضاري والسياسي، الأهداف غير ظاهرة والعواقب مبهمة إلا من القادة الماكرين . والذي يجلي هذه البراعة النوعية في الصنعة الفكرية ويبرز هذه الحنكة النقدية النادرة والخبرة العلمية بالأدواء الفكرية متناوله لقضايا الغرب وعلاقاته بالشرق والأثر المترتب عنها.

منهجه في نقد إنتاج المستشرقين
الملاحظ أنه ولا هو يتولى الرد على ادعاءات المستشرقين ولا هو يدحض افتراءاتهم أو يفند ميولهم فهذه الردود تصدى لها نقاد مسؤولون وأدباء مخلصون ومؤرخون غيورون على دينهم وحضارتهم ولكنهم يعملون مع ذلك في مجال محدود وهو التصدي للرد، كل في ميدان تخصصه و هو كما ترى أمر لا محالة مطلوب ومحمود في حد ذاته إلا أن المرحوم، وإن كان قد تخصص بعض جهوده للرد العلمي على مزاعم المستشرقين وأخطائهم، نلفيه يعمد إلى إجراء تقييم عام لإنتاجهم، محللا تارة، مستشهدا ومبرهنا تارة أخرى، منتهجا الأسلوب المقارن أحيانا، راكنا إلى التحقيق والتجربة أحيانا أخرى، متفرسا مستطلعا أنباء التاريخ وسننه مرة، مستخلصا العبرة مرة أخرى، مستخرجا نظرية يوما، مسطرا قاعدة عامة يوما آخر، تفيد في التوقيعات أو التخدير أو المواجهة أو في شتى الفعاليات .

..مميزات منهجه ..
من أبرز مميزاته حرصه على حصانة الفكر الإسلامي وأصالته وصفاته وصفائه وفعاليته .. إنه يريد فكرا فعالا منتجا حضاريا نموذجيا راقيا في الطليعة.
كما يريد فكرا نافذة عمليا طليقا لا تعلق به عالقة ولا تشوبه شائبة، وهذا إخاله بعدا من أبعاد التوحيد يحققه المرحوم بالفعل في ميدان تخصصه فنيا وعمليا.
كما كان رحمه الله، يتسم بحساسية مرهفة تجاه أحابيل العدو الذي كان يسميه بـ ” الآخر l

Comments (0)
Add Comment