رغداء زيدان
في كتابه “الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة” يذكر مالك بن نبي كيف أن الاستعمار يحارب الأفكار الفاعلة في البلاد المستعمَرة بطرق متعددة حتى يتم خنقها ويُلغى أثرها في توعية الشعوب. ومن تلك الطرق استغلال جهل الجماهير وتحريضهم ضد المفكرين الذين يعملون على إنشاء هذه الأفكار ونشرها وتفعيلها بين الناس. وقد يستخدم الاستعمار أطرافاً كثيرة لتحقيق هدفه بعلمهم أو دون علمهم مستغلاً خصلة مترسخة في مجتمعاتنا أفاض مالك بن نبي في شرحها وهي خصلة “القابلية للاستعمار”.
هذا الكتاب الذي وصف فيه بن نبي مظاهر الصراع الفكري وأساليب الاستعمار في هذا الصراع من خلال تجربته الشخصية، وتعرضه هو شخصياً لحوادث عديدة كان هدفها خنق أفكاره ومحاربتها، لأن مراصد الاستعمار تنبهت لخطورتها وأهميتها وعملت بطرق متعددة لمحاربتها، تحدث فيه بن نبي بصورة شديدة التجريد عن تجربته تلك، وتناول موضوعاً شديد الأهمية، وهو الصعوبات التي تواجه المفكر الفاعل في نشر الوعي، وكيف أن الأفكار النهضوية الفاعلة تتعرض للخنق والتشويه لمنع وصولها إلى الناس على يد الاستعمار ومن يستخدمهم لتحقيق غرضه.
ومالك بن نبي من المفكرين الذين مازالت أفكارهم تُعامل بطريقة مجحفة جداً، سواء على مستوى نشرها أم التعامل معها بجدية وبعمق.
تذكرت هذا الكتاب عندما وصلني مقال أرسله مشكوراً الأستاذ محمود الفقي من مجلة “أدب ونقد” بعنوان “الظاهرة القرآنية بين مالك وشاهين وشاكر”، كتبه علي الألفي. حاول فيه الكاتب تقديم وجهة نظره حول كتاب “الظاهرة القرآنية” لمالك بن نبي الذي ترجمه عبد الصبور شاهين وكتب مقدمته محمود شاكر. ولا أدري هل أراد الكاتب من مقاله هذا نقد الكتاب وما جاء فيه من أفكار، أم نقد كاتبه، أم نقد مترجمه، أم نقد كاتب مقدمته، أم نقد هؤلاء جميعاً؟ فقد بدا لي من خلال قراءة المقال أن سهام الكاتب كانت موجهة إلى كل هؤلاء دون تمييز، وقد عمد إلى استخدام أساليب متعددة منها:
1ـ طعن بالكاتب والكتاب: وذلك من خلال الحديث عن ظروف ظهور كتاب “الظاهرة القرآنية” في فترة كانت الدعوة على أشدها لتأييد وجود إسرائيل على الأرض، وكان كتاب مالك كما جاء في المقال مطلوباً لمعرفة رأي الآخر المسلم بصراع الأديان وصراع الحضارات. ولا أعرف حقيقة ما هو وجه العلاقة بين الدعوة لتأييد إسرائيل وكتاب “الظاهرة القرآنية” فالكتاب كان يهدف، كما جاء في مدخله، إلى أن يتيح للشباب المسلم فرصة التأمل الناضج في الدين، وأنه يقترح إصلاحاً مناسباً للمنهج القديم في تفسير القرآن الكريم.
فهو لم يتحدث عن صراع حضارات ولا صراع أديان ولكنه كان يتوجه للشباب المسلم الذي وقع تحت تأثير كتابات المستشرقين حتى صار يتجه للمصادر الغربية حتى فيما يخص معارفه الإسلامية الشخصية سواء أكان هذا بسبب فقر مكتباتنا أم لمجرد التجانس والقرابة العقلية، توجه إليهم بدراسة عقلية منهجية للدين والقرآن للوصول إلى إيمان عقلي راسخ.
2 ـ لم يقتصر كاتب المقال على الطعن بمالك بن نبي وكتابه من طرف خفي كما فعل في حديثه “الملغوم” عن ظروف ظهور الكتاب بل إنه عمد إلى ذكر مقال لمالك بن نبي عن تحريم الخمر في الإسلام وأنه مخالف للطبيعة مما يوحي بأن مالك يعارض تحريم الخمر في الإسلام، وذكر أن مالكاً استدل بواقعة تحريم الخمر وتحليله في أمريكة وأن حديثه هذا مذكور في كتابه “الظاهرة القرآنية” وقد مرره شاهين وشاكر بكل بساطة!. ولا أعرف حقيقة هل “يستهبل” الكاتب القراء أم أنه يعمد إلى أسلوب “لا تقربوا الصلاة”، فمالك بن نبي يذكر في كتابه كيف عالج القرآن مشكلة الخمر وهي مشكلة إنسانية بطريقة رائعة كان لها نتائج اجتماعية باهرة فالبلاد الإسلامية يقل فيها تعاطي الخمور، بينما تعاني الإنسانية من ذلك، وفي مقارنة بين منهج القرآن الناجح في معالجة مشكلة الخمر ومنهج بشري قاصر هو التشريع الأمريكي لتحريم الخمر أورد مالك تجربة التشريع الأمريكي لتحريم الخمر, وبين كيف فشل فشلاً ذريعاً في معالجة هذه المشكلة. ولكن كاتبنا على ما يبدو أراد لنا أن نفهم غير هذا مشككاً بمالك ومتهماً عبد الصبور شاهين ومحمود شاكر بموافقته لأنهما سكتا و”مررا” له هذا الحديث.
بالمناسبة فقد نشرت دار الفكر رواية جميلة لمالك بن نبي بعنوان “لبيك حج الفقراء” يصف فيها توبة رجل سكّير ورحيله لأداء فريضة الحج، ففي هذه الرواية ذات الأحداث البسيطة، استطاع مالك أن يقدم لنا وصفاً للمجتمع الجزائري ببساطته وأصالته ومحافظته على هويته وتراثه ودينه رغم كل المحاولات الفرنسية لطمس هذه الهوية وحرف الشعب عن فطرته وإنسانيته.
3 ـ وكذلك فعل الكاتب في “أدب ونقد” في استشهاداته أو بالأحرى “اعتراضاته” الأخرى على ما ورد في كتاب الظاهرة القرآنية، فمرة يعمد إلى بتر جملة من سياقها لتعطي معنى مختلفاً عن حقيقتها، كما فعل عندما بتر عبارة مالك الذي كان يتحدث عن نظرتين مختلفتين للظاهرة الدينية: واحدة ترى أن الإنسان حيوان ديني بشكل فطري وغريزي وبسبب استعداد أصيل في طبيعته، وأخرى تقول إنه اكتسب هذه الصفة إثر عارض ثقافي مفاجئ لدى مجموعة بشرية معينة شمل مفعوله الإنسانية كلها. وكان يقول بأن التناقض في النظرتين السالفتين ليس “قائماً بين الدين والعلم على غرار ما يوحي به بعضهم، إذ إن العلم لم يبرهن على عدم وجود الله أو وجوده، كما نسلم بذلك مبدئياً، بل النزاع هنا بين دينين، بين الألوهية والمادية، بين الدين الذي يسلم بوجود الله وذلك الذي (افترض) المادة.”
وبالتأكيد فإن مالك لم يقصد ما أرادنا الكاتب أن نفهمه من (اقتباسه المبتور) من كلام مالك بل هو يقارن بين مذهبين، ويحاول الوصول بقارئه إلى قناعة عقلية راسخة. لكن على ما يبدو فإن كاتب المقال يريد أن يُفهم غير هذا ليحقق غايته في الطعن بمالك وشاهين وشاكر.
4 ـ من المضحك حقيقة أن يلجأ الكاتب إلى أسلوب “استهبال” القارئ مرة أخرى وذلك عن طريق نفس أسلوبه السابق “بالاقتباس المبتور” الذي يعتقد أن يكفي لكي “يخدع” القارئ ويصيب “هدفه” من مقاله ذاك في تشويه صورة مالك و”شريكيه”: شاهين وشاكر، فالاقتباس “المبتور” الذي اكتفى فيه الكاتب بنقل عبارة “هناك مشكلة .. فإن النظرية المادية لا تقدم أي تبرير لهذا الازدواج الذي يعد شرطاً لوظيفة التوالد الحيوانية” يقول فيه مالك شارحاً النقص في المذهب المادي: “هناك في الواقع مشكلة جديدة تخص وحدة النوع التي لا يمكن أن تُرى في الفرد، وإنما في الزوج، الذكر والأنثى، ولذلك فإن النظرية المادية لا تقدم أي تسويغ لهذا الازدواج الذي يعد شرطاً لوظيفة التوالد الحيوانية”. وقد عمد الكاتب إلى بتر الكلام ثم علق عليه بطريقة مضحكة وساذجة، لكنها بنفس الوقت تجعلني أؤكد أن غاية الكاتب من مقاله ذاك غاية غير شريفة ولا نزيهة بالمرة، ويستطيع القارئ الكريم أن يفهم مراد مالك من كلامه، فهو كلام واضح لا تناقض فيه ولا عبث كما أراد كاتب المقال أن يقول.
أعتقد أن القارئ الكريم يستطيع بالعودة لكتاب الظاهرة القرآنية أن يكتشف بنفسه كيف أن كاتب المقال تابع بأسلوبه نفسه بتر عبارات مالك، وتأويل كلامه وحمله على غير غايته وهدفه، في انتقاداته التالية، مما يجعلني أكتفي بما أوردته في الرد على ما قدّم في مقاله، ومع أنه رد مختصر لكني وجدت أن الانشغال بتعريف القراء على أفكار مالك على حقيقتها لهو أجدى من تضييع الوقت في الرد على اتهامات مغلوطة ومكشوفة، فالكاتب استخدم أسلوباً واحداً فاقتطف كلمات وأنطقها غير مرادها، مستخدماً أسلوب التحريض والتشكيك بمالك وعقيدته وأفكاره، وكأنه يريد أن يقول لنا ابتعدوا عن مالك وأفكاره.
وأعتقد أنه يحق لنا التساؤل ما هو هدف الكاتب من هذا التشويه المتعمّد لأفكار كاتب كمالك بن نبي يعد من أهم مفكري النهضة، الباحثين في شروطها؟ هل هو فقط للانتقاص منه ومن مترجم الكتاب مثلاً عبد الصبور شاهين؟ أم للتشكيك فيه وفي كاتب ومفكر كمحمود شاكر؟
حقيقة لا أستطيع التخمين، ولا أقول إلا رحم الله مالكاً ذلك الفدائي الذي قاتل وحيداً ومازال يقاتل بأفكاره الفاعلة التي لن تموت ما دام هناك من يقرأ بنزاهة ويبحث بصدق وتجرد بعيداً عن أهواء شخصية ساذجة أو خبيثة.
منقول من http://assala-dz.net