مالك بن نبي .. راهب الفكر رحمه الله

عدد القراءات :5854

أ.د مولود عويمر

تتناول هذه الدراسة جوانب مهملة من حياة مالك بن نبي، وتكشف صفحات من تراثه المجهول الذي يؤكد على نبوغ هذا المفكر الجزائري الذي ترك بصمات واضحة في الفكر المعاصر حينما جدد الرؤية لقضايا الفكر والمعرفة، وحدد مصير الإنسان المعاصر الذي تتجاذبه هموم متصلة بماضيه، وتحديات مرتبطة بحاضره، وآفاق ممتدة في مستقبله.
إن فكر مالك بن نبي يتجدد كلما تواصلنا معه لنكتشف هاجسه الأكبر في تحليل مشكلة الإنسان وصلته بالحضارة من خلال تراثه الذي يزداد ثراء حتى يخيّل إلى قارئه أن حبر قلم هذا الرجل الذي مات منذ أربعين سنة لم يجف بعد نظرا لاكتشاف مستمر لكتبه ومقالاته ومحاضراته المجهولة التي قيّض الله لها من يجمعها ويترجمها وينشرها بأمانة بين الناس.
ولذلك أقول أن مالك بن نبي ولد ليفكر، ويعيش للفكرة، ويموت مفكرا، ويخلد في ذاكرة عالم الأفكار. وسأحاول في هذه السطور أن أشرح هذه المعاني بشكل مختصر.

مالك بن نبي ولد ليفكر
ظهرت علامات النبوغ مبكرا عند مالك بن نبي، وانكشف اهتمامه بقضايا الفكر والإنسان ومشكلات الحضارة وهو مازال لم يبلغ الحلم. وكان صاحب نظرة ثاقبة ونباهة يدرك ببصره ما لا تنتبه له أبصار غيره. ويفقه ما حوله بينما غيره في غفلة ساهون.
كما كان يستفيد من كل ما وقع عليه نظره أو سمعته أذناه ليتحوّل إلى موضوع تأمل وتدبر. وهناك أمثلة كثيرة في هذا الموضوع أكتفي هنا بالإشارة إلى المثال التالي الذي يؤكد ذلك ويدعمه.
حاول مالك بن نبي مع مجموعة من أصدقائه في باريس الإجابة عن السؤال التالي: ” ما هو أهم حدث في حياتك ولمن تنسبه؟”خلال جلسة اعترافات على الطريقة الأمريكية.
وكان جواب بن نبي بسيطا في مظهره لكنه عميق في جوهره. إنها قصته مع قطعة الرفيس، وهي حلوى تبسية تصنع من الطحين والسكر والتمر والزيت. كان يتناولها على عادته كل يوم الجمعة بفضل عمل والدته المضاعف والشاق، فإذا بفقير يقف عند عتب دارهم ليطلب صدقة. ورغم فقر بن نبي وحبه الشديد لهذه الحلوى فإنه آثر المسكين على نفسه بسبب تذكره لحكاية سمعها من جدته تناولت قيمة الإحسان وثواب المحسنين. فهذا السلوك الإنساني الراقي لا ينبع دائما من طفل لم يبلغ عمره إلا 6 سنوات
واستحضر هنا مشهدا شاهدته على قناة تلفزيونية فرنسية يمثل أما رواندية أم صومالية – لا أتذكر الآن- نزعت لقمة خبز من فم صبيها لتأكلها وتتركه جائعا يبكي. إن الجوع والفقر والبؤس لا ينتصرون على البطون الخاوية إلا إذا كانت العقول بالية أيضا !

مالك بن نبي عاش للفكرة
لم يعش مالك بن نبي لذاته وإنما عاش للفكرة وذاب في معانيها. وهكذا لم يتحدث عن نفسه في مذكراته وإنما فضل أن يخاطب قارءه من وراء الحجاب. ولم يتحدث عن الأنا.
وكانت من أهم الأفكار التي شغلت اهتماماته وخصص لها عمره كله الفاعلية والنهضة والحضارة. فلا تجد كتابا أو مقالا أو محاضرة له لم يعالج فيها دور فعالية الإنسان المسلم في تأسيس النهضة والإسهام في البناء الحضاري.
وأؤكد هنا ما قلته في كتابي ” مالك بن نبي رجل الحضارة” الصادر في عام 2007: “لقد عاش المفكر مالك بن نبي للفكرة ولم يعش لذاته، تلك الفكرة التي اكتملت معانيها بموته، حينما أطعمها من روحه لتبقى حية. إنها الفكرة الحية التي تعبّر عن هاجس الفعالية في زمن تخلَّفَ فيه المسلمون، وتقدَّم فيه غيرُهم؛ وترسم لهم معالم النهوض الحضاري الذي نأمل أن يتحقّق في المستقبل القريب.”

مالك بن نبي مات مفكرا
لقد عمل مالك بن نبي في الإدارة كعادل لدى محكمة آفلو في عام 1927 ثم انتقل إلى محكمة شلغوم العيد غير أنه سرعان ما استقال حتى لا يشارك في قهر إخوانه ومضاعفة بؤسهم وحرمانهم من حقوقهم المشروعة التي يبخسها قانون الأنديجينا.
كما مارس التجارة في عام 1929 فلم يجني منها إلا الخسارة والإفلاس. وحاول أن يكون كذلك مقاولا في تبسة لكنه لم ينجح في ميدان سيطر عليه أرباب العمل الفرنسيين، واستحوذوا فيه على كل مشاريع البناء في المستعمرة.
كما أنه لم يتمكن من الالتحاق بمدرسة الدراسات الشرقية لدراسة الحقوق، لأن الانتساب إلى هذا المعهد الشهير يخضع لشروط سياسية حينما يتقدم إليه الطلبة من المستعمرات. واعتبر مالك بن نبي هذا الإقصاء حرمه من حقه في أن يصبح محاميا للدفاع عن المظلومين الذين شاهدهم بعينيه في محكمة آفلو ومحكمة شلغوم العيد وفي كل القطر الجزائري.
وهكذا يجد نفسه مضطرا لدراسة الكهرباء في معهد اللاسلكي الذي يتخرج في عام 1936 بشهادة المهندس التي لم تسلم له رغم تفوقه ونجاحه العلمي. وتيقن في قرارة نفسه أن مستقبله المهني ليس في فرنسا أو الجزائر المستعمرة وأنه يتعين عليه أن يبحث عن فرصة عمل في إحدى الدول العربية والإسلامية. وهكذا راسل قنصليات المملكة العربية السعودية ومصر واندونيسيا وأفغانستان للعمل فيها كمهندس يهتم بتطوير الطاقة الشمسية بينما تهتم زوجته الفرنسية بتعليم الخياطة للنساء لكنه لم يوفق. فقرر السفر إلى ألبانيا لعله يجد فيها عملا في تخصصه لكنه وجد البلاد في ظروف اقتصادية واجتماعية سيئة فعاد خائبا إلى فرنسا. وقد بلغ به اليأس أن تمنى في طريق عودته انحراف القطار عن مساره ليموت هو ومن معه.
واشتغل بن نبي مدرسا في مركز ثقافي للمهاجرين بمرسيليا (1938) يهتم بمحو الأمية. وسرعان ما أغلقته السلطة الاستعمارية بذريعة عدم امتلاك بن نبي للرخصة بينما يمثل هذا القرار التعسفي معاقبة له على مواقفه السياسية وتوعيته المستمرة للمهاجرين وعدم الاكتفاء ببرنامج تعليم الحروف والكلمات لأبناء وطنه المتعطشين لدراسة كل ما له علاقة بتاريخهم وهويتهم وتحرير نفوسهم وتبصير عقولهم.
كما كتب رواية “لبيك” ومسرحية “المدير الساذج” التي عرضت في افتتاح مؤتمر حزب نجم شمال إفريقيا. وكان إذن بإمكانه أن يصبح روائيا أو شاعرا لكنه مال إلى الفكر الذي يتماشى مع ذوقه وطبعه واهتمامه. لقد كان فشل بن نبي في التجارة والإدارة والبحث عن العمل في مجال تخصصه العلمي نقمة عليه بينما كان ذلك نعمة على الفكر. فتفرغ بن نبي للكتابة والعمل الفكري إلا أن لقي ربه وهو مفكر مرموق.
وإذا كان الفشل يثبط عزائم البسطاء و الضعفاء فإنه يحفز العظماء على خوض المعركة في ميادين أخرى لتحقيق طموحات جديدة. ذلك ما فعله الملهم الأكبر لمالك بن نبي، العلامة عبد الرحمان بن خلدون (1332-1406) الذي هجر السياسة بعد أن فشل فيها فاعتكف 4 سنوات في قلعة بني سلامة بناحية فرندة وألف في مغارته رائعته الخالدة ” المقدمة”. كذلك تفرغ بن نبي للكتابة فألف روائعه: شروط النهضة، مشكلة الثقافة، ميلاد مجتمع …الخ.
وكلما قرأت حياة مالك بن نبي تذكرت دائما المفكرين الألمانيين كارل ماركس(1818-1883) ونوربير إلياس (1897-1990) ربما لشبه بينهم. فماركس اعتكف على البحث والكتابة بفضل المساعدة المالية التي كان يقدمها له باستمرار صديقه الثري فريدريك أنجلز (1820-1895).
كما تفرغ إلياس لتأليف كتابه الضخم ” حضارة العرف” بفضل المنحة التي كان يعطيها له المؤتمر العالمي اليهودي رغم حاجته إلى المال لمساعدة اللاجئين اليهود الهاربين من أوروبا الشرقية إلى إنجلترا أثناء الحرب العالمية الثانية.
كذلك تفرغ مالك بن نبي للكتابة بعد فشله في البحث عن العمل بفضل المساعدة المالية التي تقدمها له جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وصديقه صالح بن الساعي ومنظمة المؤتمر الإسلامي فيما بعد وغيرهم من الأصدقاء الأخلاء والتلامذة الأوفياء الذين يقدرون علمه.
ولقد انتبهت الدول المتقدمة إلى هذه المسألة فوفرت كل الشروط المادية والمعنوية لعلمائها ومفكريها المتميزين ليعتكفوا في مخابرهم أو مكاتبهم للبحث و الكتابة والإبداع في أعمالهم. وهنا أتساءل مع نفسي: هل كان بالإمكان للباحث الفرنسي وعالم الاجتماع ادغار موران أن يبدع ويؤلف كتبا ضخمة يؤسس من خلالها نظريته حول فلسفة المركب أو التعقيد لو لم يكن باحثا متفرغا في المركز الوطني للبحث العلمي؟ بالطبع الجواب هو لا.

مالك بن نبي خالد في ذاكرة عالم الأفكار
لا يخلد العالم أو المثقف إلا بما خطته يداه فينتفع به الناس أو بما تركه من تلامذة مخلصين يحيون ذكره أو كسبه من باحثين صادقين يروّجون فكره، أو إقناع مؤسسات بصلاحية تصوراته وأهمية ورؤاه وقيمة نظرياته فتجسدها على أرض الواقع وفي حياة الناس.
فمالك بن نبي خلد نفسه في ذاكرة عالم الفكر بكتاباته وأفكاره التي تكتسح باستمرار ميادين العلم والمعرفة خاصة بعد أن ترجمت العديد منها إلى اللغات الأجنبية. ودخل اسمه عالم الخلود بالدراسات المنجزة حول حياته وفكره في رحاب الجامعات الجزائرية والعالمية.
وأتذكر أنني قرأت في سنة 1998 تقديم الأستاذ عمر كامل مسقاوي لكتاب بن نبي المعنون بـ ” من أجل التغيير” قال فيه أنه أنجز مهمته التي كلفه بها بن نبي بعد أن نشر هذا الكتاب الأخير. واستحضرت في قرارة نفسي الآية الكريمة: ” اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”، وهي التي ختم بها الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم، وحزن يومها الصحابة لأنهم عرفوا أن الوحي قد اكتمل.
غير أنني لم أكن مقتنعا بما كتبه الأستاذ مسقاوي ذلك لأنني أعلم أن بن نبي كان متفرغا للكتابة والعمل الفكري خلال ثلاثين سنة. ولا شك أن تراثه يتجاوز هذا العدد من كتبه المنشورة التي لم تبلغ آنذاك 20 كتابا. وصدق حدسي، فبعد سنوات قليلة نشر تلامذة مالك بن نبي وخاصة الأستاذ عبد الرحمان بن عمارة والأستاذ نور الدين بوقروح نصوصا مجهولة من تراث بن نبي. وصرح تلامذة آخرون كالأستاذ صادق سلام والدكتور خالص جلبي أنهم يملكون وثائق عن هذا المفكر وأنهم عازمون على نشره في الوقت المناسب.
ومن دراساته النادرة أو المفقودة دراسة حول الإسلام واليابان كتبها في سنة 1940 وسلمها للسفارة اليابانية في باريس في إطار مسابقة دولية نظمتها حول موضوع ” الحضارة اليابانية”. ولا ندري ما هو مصيرها. (مولاي، ص 68). كما روى لي الدكتور عبد السلام الهراس في عام 2003 أنه تسلم من يد مالك بن نبي مخطوطا عن المسألة اليهودية، ونظرا لخوفه من أن يقع في أيدي غيره دفنه في منطقة صحراوية ولم يستطع أن يعثر عليه فيما بعد لأنه نسي المكان الذي وضعه فيه.
وبقي الكتاب سنوات مفقودا رغم صيته إلا أن نشر مؤخرا في الجزائر كجزء ثاني من كتابه الشهير: ” وجهة العالم الإسلامي”. وهكذا رفع الستار عن الكتاب الذي عرف قصة شبيهة بكتاب “بروتوكولات حكماء صهيون”.
ولا شك أن مراسلات بن نبي كثيرة، وهي قادرة على كشف جوانب مجهولة من حياته ومساعدة المهتمين بتراثه على فهم مواقفه من قضايا كثيرة خاصة ما تعلق بعلاقاته مع خصومه من السياسيين والمثقفين أو حياته الشخصية. وفي هذا السياق، أطلعني صديقه الليبي الدكتور محمد رفعت الفنيش على مجموعة من الرسائل التي كتبها له بن نبي، وذلك أثناء لقائنا في تلمسان بمناسبة ملتقى دولي نظمته وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في ديسمبر 2011. حول فكرمالك بن نبي.
وشاءت الأقدار أن أكتشف بدوري نصوصا غير معروفة نشرها بن نبي في مجلات عربية أو ألقاها كمحاضرات في مناسبات علمية. وقد نشرت بعضها في كتابي “مالك بن نبي رجل الحضارة”. ووجدت مؤخرا أثناء رحلتي إلى المغرب مقالات كتبها بن نبي في مجلة فكرية اسمها ” الشراع” تصدر في إقليم تطوان يشرف عليها أحد مريدي بن نبي في القاهرة عندما كان طالبا بجامعتها، وهو الأستاذ محمد شهبون، بالإضافة إلى مجموعة من الدراسات والمقالات المنشورة في الجرائد والمجلات المغربية حول مالك بن نبي
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا كان فكر مالك بن نبي عالميا وحيويا كما وصفناه في هذه الدراسة، فلماذا لم يتحقق على أرض الواقع إذن، أم أنه فكر عقيم غير قابل للتطبيق؟
والجواب هو أن كل فكرة تحتاج إلى من يتبناها و يحوّلها إلى عمل ملموس. والفكر البنابي النهضوي ينتظر من يجسده على أرض الواقع. وكان بن نبي نفسه مؤمن في قرارة نفسه أن المشاريع الكبرى لا تتجسد إلا إذا اجتمعت إرادتان: قلم العالم وسيف السلطان.
إنها الفكرة التي استخلصها من تجربة القائد عبد المؤمن بن علي والعالم المهدي بن تومرت اللذان أسسا دولة الموحدين. وهي الفكرة التي استنبطها أيضا من تأسيس الدولة السعودية التي توحدت فيها السلطة السياسية التي تمثلها أسرة آل السعود والسلطة العلمية والدينية التي تمثلها أسرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (آل الشيخ). وتجسدت بعض أفكار بن نبي في ماليزيا حينما تبناها الحكومة الماليزية واستفادت منها في مسيرتها التنموية.
هذه هي الأفكار الأساسية التي أردت أن أعالجها في هذه الورقة، وفي رحاب هذا الملتقى العلمي المنعقد إحياء للذكرى الأربعين لوفاة مالك بن نبي، راجيا أن تساهم في إثراء نقاش بناء يساعد على استيعاب الفكر البنابي بالإحاطة بحفرياته وتتبع مساراته والاستلهام من إبداعاته لاستكمال الرؤية الواضحة، واستنهاض الهمم من أجل الانتقال من التكديس إلى البناء، ومن شروط النهضة إلى الميلاد الجديد.

* محاضرة قدمها الكاتب في ملتقى “الفكرة عند مالك بن نبي” الذي نظمه مركز الرؤية للدراسات الحضارية يومي 25 و26 أكتوبر 2013.

Comments (0)
Add Comment