مالك بن نبي “ثوريا”

عدد القراءات :2848

بقلم: محمد البنعيادي*

إذا تفحصنا الكتابات التي تناولت مالك بن نبي نجد أن معظمها يضعه ضمن رواد المدرسة الإصلاحية معتمدين على عمله الجاد والدؤوب على محاربة “القابلية للاستعمار”، هذه الفكرة التي تكررت وحللت في جل كتبه، فلقد “كرر مالك هذه الفكرة – فكرة القابلية للاستعمار- في مختلف كتبه وقلما خلا كتاب منها، وأكد عليها في صور مختلفة”.
ولما كان الواقع المتخلف أرضا لذهنية محمد عبده وصورة خلفية لتفكير دفعه إلى مذهب الإصلاح، كذلك قامت (القابلية للاستعمار) عند مالك بالدور نفسه، فكانت نقطة انطلاق في ذهنه وصورة خلفية لتفكيره دفعته مع محمد عبده في مدرسة واحدة هي: المدرسة الإصلاحية”(1)
وقد تجلت مظاهر فكره الإصلاحي – حسب غازي التوبة – فيما يلي:
1. مؤتمر باندونج
الذي تناوله بالبحث والتحليل في “فكرة الأفرآسيوية” كسبيل لحضارة حديثة تنصهر فيها جميع المكونات العقدية والثقافية والاجتماعية في كل من إفريقيا وآسيا. ولقد كان حلما لم يكتب له النجاح لفقدانه أرضية صلبة يقوم عليها ويتحقق من خلالها. ولقد أشبع غازي التوبة الكتاب السالف الذكر نقدا(2) … ضاربا بعدة أفكار مهمة عرض الحائط مع عدم مراعاة بعض الأفكار التي تراجع عنها مالك بن نبي نفسه فيما بعد(3).
2. فكرة كومنولث إسلامي لحل المشاكل العقدية و التخلفية
وفي السياق نفسه نجد د. أسعد السحمراني يضعه في الإطار السابق كذلك، معللا انطلاق خطوات مالك الإصلاحية “من الإسلام الذي يشكل الإطار الحضاري للعالم الإسلامي، وهذه الخطوات تكون في اتجاهين:
1. اتجاه الدراسة الواعية للماضي وفهم منتجاته، لفرزها تمهيدا للالتزام بالإيجابي منها، ووعيا لخطورة السلبي للانفصال عنه وإلغاء أثره في الواقع الثقافي والفكري عامة.
2. اتجاه مستقبلي وملتزم بأطر أحكام القرآن والسنة وسلوك السلف الصالح، مجدد لآيات التطور الاجتماعي في كل المجالات من أجل بناء حضارة الإنسان التي تستنقذ الإنسانية، إن منهاج المشروع الإصلاحي هو حركة تفاعلية تواصلية تلغي السلبية من جعبة التراث وتترك الفاعلية للإيجابية تؤثر في الحاضر”(4).
وفي اعتقادي، أن المبررات السالفة الذكر والتي اعتمدت لتصنيف المرحوم مالك بن نبي داخل التيار الإصلاحي التقليدي، ليست مقنعة أو كافية على الأقل، لأن ما ذكر يمكن أن يشترك فيه الإصلاحي والثوري على حد سواء مثل كون الإسلام المرجعية الأساسية لعملية التغيير، ولهذا سوف أحاول إبراز الجانب الثوري أو فكره السياسي الثوري الذي يستشف بالدرجة الأولى من خلال كتاباته ومقالاته المتأخرة من حياته والتي تميزت – عموما – بالانفعال الثوري. وحتى أتمكن من رصد توجهه “الثوري” لابد من التعرض لمصطلح “الثورة” عند بعض المفكرين كمقدمة لتحديد مفهوم ابن نبي الخاص.

1. في مفهوم الثورة
إن الثورة كانت تعني الغضب والهياج والوثوب في التراث العربي الإسلامي قبل أن تصبح مصطلحا له محدداته في التطبيقات الاجتماعية المعاصرة، كما استعملت بمعنى الفتنة، و”إلى عصر قريب كانت كلمة “النهضة” تستخدم بمعنى “الثورة” لأن “النهوض” يعني “الوثوب” و”الانقضاض”…
ولقد استخدمها هذا الاستخدام جمال الدين الأفغاني وكذلك سعد زغلول في ثورة مصر سنة 1919″(5). وعن جدلية الثورة والتغيير يقول مرتضى المطهري: “هناك كلمة لها عناصر تفتقد إليها كلمة “التغيير”. وتطرأ على حياة البشر تغييرات ولكن ليس كل تغيير ثورة. إذن متى نطلق كلمة “الثورة” على “التغيير”؟ الجواب: إن الثورة تعني حدوث تغير نتيجة لانتفاض البشر وتمردهم على وضع معين، وعندما لا يكون التغيير ثوريا فقد تطرأ بعض التغيرات التدريجية بحيث أن الناس لا يشعرون أنهم يمرون بتغيير رغم أنهم يتغيرون بالفعل. لكن الثورة عمل يتم عن وعي وهي نوع من التمرد يظهر في الإنسان على وضع معين”(6).
في الأدب السياسي الحديث، كلما ذكرت الثورة إلا وقفز إلى أذهاننا في الغالب كونها “علم تغيير المجتمع تغييرا جذريا وشاملا للانتقال به من مرحلة تطورية معينة إلى أخرى أكثر تقدما”(7).
ومهما يكن فقد اختلف علماء السياسة قبل علماء الاجتماع في تحديد مفهوم موحد للثورة مثلها في ذلك مثل الثقافة، لكن ما مفهوم الثورة عند مالك محور حديثنا في هذا المقام؟

2. مفهوم ومرجعية وأركان الثورة عند مالك بن نبي رحمه الله
أ. في مفهوم الثورة عند ابن نبي
في وصيته الأخيرة(8) يتساءل مالك عن معنى الثورة مجيبا:
“إن التعاريف كثيرة وأحسب أن أفضلها ما كان موضحا للجانب العلمي فنقول: الثورة محاولة لتغيير أوضاع معينة بطريقة مستعجلة. غير أن قولنا: إن الثورة تغيير وإنها مستعجلة غير كاف فيجب أن نقول: إنها عملية هادفة ويجب أن نحدد أهدافها، فالثورة تعني، ما هي الأشياء التي يجب أن تتغير وتعني تحديد وسائل التغيير ثم تحديد أهداف التغيير”(9).
ويستمر مالك موضحا تعريفه للثورة قائلا: “إن الثورة ما هي في جوهرها إلا عملية تغيير، غير أن لهذا التغيير أسلوبه وطبيعته، فأما الأسلوب فسيتم بالسرعة ليبقى منسجما مع التنسيق الثوري، وأما طبيعة التغيير فإنها تتحدد في نطاق الجواب على السؤال التالي: ماهو الموضوع الذي يجب تغييره ليبقى التغيير متمشيا مع معناه الثوري؟”(10). ومما سبق، نستنتج أن مجتمعا ما حين يتجاوز درجة التحمل، ينفجر عن طريق الثورة كدلالة على وضع النار على البارود كما يقال، وهكذا تتحرك عجلة المجتمع نحو قدره “ولكن هل إن دفع القوى بعد إطلاقها نحو طريقها هو كل شيء؟ إن تاريخ الثورات في العالم يظهر كم أن مصيرها هش وغير مؤكد بعد انطلاقها”(11)
ب. أركان العملية الثورية الإسلامية
يؤكد مالك بن نبي على علمية العملية الثورية، ويحدد أركانها في ما يلي:
أ – حصول التغيير.
ب – أسلوب التغيير: الكيفية السريعة.
ج – طبيعة التغيير وتحديد الأهداف والمواضيع المراد تغييرها بشكل واضح.
د- تحديد وسائل التغيير.
و- اعتماد العقيدة الإسلامية كأرضية للانطلاق (كما سنبين لاحقا).
هـ- اعتماد المنهج السليم في الحركة الثورية (كما سنبين كذلك لاحقا).
وهذا يعني أن الظاهرة الثورية لم تخضع بعد لعلم معياري- مادامت لم تخضع لعناصر الثورة وشروطها وأهدافها -، يضبطها ويراقبها، مما يؤدي بالبلاد التي عرفت ثورات إلى أن تجد نفسها – بعد الثورة – في الوضع السابق على الثورة أو أكثر خطورة، أي تجد نفسها في ظل أيديولوجيا سقط من أجلها الأبطال والشهداء دون تعرف على الأفكار التي من أجلها سقطوا، وبالتالي تعود عجلة الثورة إلى الوراء، ولعل الثورة الجزائرية نفسها خير نموذج لذلك.

3. النقد الثوري شرط لنجاح الثورة واستمرارها
لاشك أن الثورة مرتبطة دائما في الأذهان بالمجال السياسي، لكن في الواقع يمكن أن نحدد لها امتدادات في شتى المجالات، وإذا كان مالك قد عالج واقع العالم الإسلامي من خلال العوالم الثلاثة:
عالم الأفكار و عالم الأشخاص و عالم الأشياء، فإن أي ثورة يجب أن تتم في إطار هذه العوالم أي أن الثورة نفسها تصبح متناولة كمشكلة من “مشكلات الحضارة”، وبالتالي يتوجب الحديث عن التغيير الشامل: في مجال الثقافة والفكر بالدرجة الأولى باعتباره الانطلاقة الحقيقية لأي ثورة ناجحة وما سينتج عنه من تغير في عالمي الأشخاص والأشياء.
ومعنى هذا أن السياسة ليست هي الميدان الوحيد للثورة “ففي الاجتهاد ثورة على التقليد وفي الجهاد ثورة على الاستسلام وفي التجديد ثورة على الجمود وفي الإبداع ثورة على المحاكاة وفي التقدم ثورة على الرجعية والاستبداد وفي العقلانية ثورة على بلادة النصوصيين “(12).
وقد يوجد نوع آخر من الثورات “هو الثورات العاطفية أو ما يسمى بالثورات الوجدانية، فقد يحدث أحيانا أن تثور ضمائر مجتمع ما نتيجة لأوضاع معينة”(13)، وإذا عرفنا أن مشروع مالك بن نبي الفكري كله يقوم على الآية الكريمة {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد11) علمنا أن جذور أي ثورة في العالم الإسلامي لا يمكن أن تتم إلا من خلال الحقيقة القرآنية التي تغير النفس كأول خطوة للبناء الحضاري الشامخ، لأن أي تغيير لم يعن بتغيير الإنسان لن يكتب له النجاح،وكما يقول “جيفارا” بأنه إذا لم يعن بتغيير الإنسان فالثورة لا تعني شيئا بالنسبة له. “وبالفعل فالثورة التي لا تحركها هزة تكاد تكون شطحة صوفية فليست بثورة”(14).
إن الإنسان إذا لم يتغير بطريقة جذرية من حيث سلوكه وأفكاره ونمط حياته واستهلاكه فليعلم المتصدون للعمل الثوري ورواده أن الثورة لم تستطع – بعد – الوصول إلى أهدافها، ويستلهم الأستاذ مالك بن نبي أفكاره هذه عن الثورة من الإسلام الذي كان ثورة كبيرة غيرت وجهة التاريخ البشري ببناءاته الأخلاقية والثقافية والسياسية والاجتماعية في المجتمع الجاهلي، بل حتى أسماء معتنقيه كانت – حسب مالك -النمو الثوري في أدق معانيه وذلك عندما كان يقدم المرء مباشرة بعد إسلامه على تغيير اسمه رغم ما يعز في النفس من ذلك، ولهذا يقول:
“إن الثورة الإسلامية تقدم لنا أولا درسا عاليا ربما زهدنا فيه أو تناسيناه في ضبط السلوك … فالثورة ليست كإحدى الحروب تدور رحاها مع العدد والعتاد، بل إنها تعتمد على الروح والعقيدة”(15) التي جعلت المعذبين في ساحات مكة وشعابها شهداء للفكرة الإسلامية الثورية المطاردة من طرف الجلادين.
وحتى تستطيع الثورة الحفاظ على شبابها وعطائها وديمومتها وتحقيق أهدافها – وبالإضافة إلى ما سبق ذكره – رصد مالك بعض الأخطاء والتعثرات التي يمكن أن تلحق بالثورة وذلك كتنبيه وتحذير لكل الثوريين الحقيقيين من الغرور الذي يصيبهم – ربما – كلما استطاعوا تحويل سلطة سياسية من أيد لأخرى أو إعادة تنظيم الإدارة وأجهزة العدالة وتغيير العملة وتعديل النظام الاقتصادي، لأن هذا كله ليس إلا مظهرا من مظاهر الثورة لا غير. يقول:
“إن لكل ثورة منهجها يتضمن المبادئ التي تسير عليها كما يتضمن فحوى القرارات التي ستمليها عليها ظروف الطريق”(16).
إن المنهج ركن ركين لكل ثورة، وكلما تخلت عنه كانت مرشحة للتراخي بل وللسقوط في كثير من الأحيان ولو على المدى البعيد، إذ “أننا إذا لم نحفظ في عقولنا وقلوبنا مقدمات ومسلمات الثورة فلن نفقد (عقالا) فقط بل نفقد الروح الثوري ذاته.. والثورة قد تتغير إلى (لا ثورة) بل قد تصبح (ضد الثورة)”(17). إنه ينبغي للثورة – لتفادي الإبهام – رسم إطار واضح لموضوع التغيير بعيدا عن الغموض والضبابية لأن أي انحراف متوقع، وربما تترك الثورة مكانها – دون علم منها – لتشبه ثورة تستبدل الكم بالكيف وتشبه التغيير بالتغيير الجذري الضروري.
ويركز مالك على ما سماه “النقد الثوري” كعلاج دائم المفعول لتصحيح مسار الثورة وحمايتها من كل الآفات التي يمكن أن تصيبها أثناء الطريق، لأن التغيير لا يكون في الأمة الإسلامية بحاكم يسقط، ولكن بشعوب تصنع الحضارة والثقافة والفكر. وكما يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله “نحن في حاجة إلى عمل واسع وعميق ولابد أن نتحسس كياننا وجماهيرنا وقضايانا حتى نعرف أغلاط أمتنا ونداويها وعندئذ سيكون الحاكم منا “كما تكونون يولى عليكم” … لأن الظلم لا يتغير من تلقاء نفسه و لا يتغير بالأماني التي تداعب أحلام الكسالى ولا بشعوب تفلسف أمورها، إنما تتغير الأوضاع حسب قوانين المولى عز وجل، والأمم إذا أصلحت نفسها وغيرت قوامها فلابد أن تنصلح … لا تنتظر الأمة أن فرعون يستقيل، إنما يتغير فرعون عندما يوجد موسى ويربي شعبا”(18).
إن عملية النقد أصبحت أمرا لا مفر منه، يفرضه الواقع والمنطق بل والشرع أيضا وخاصة في علاقة هذا النقد والنقد الذاتي بالفلسفة الثورية بأجمعها “فالثورة حين تخشى أخطاءها ليست بثورة وإذا هي اكتشفت خطأ من أخطائها ثم التفتت عنه فالأمر أدهى وأمر. وفي هذا الصدد نذكر قول ماركس: يجب دائما أن نكشف الفضيحة عندما نكتشفها حتى لا تلتهمنا”(19).
إن العزوف عن النقد الذاتي يؤدي إلى هبوط الروح الثوري وتصبح المتاجرة بالقيم الثورية على قدم وساق، وهكذا تكثر الأخطاء “العضوية” التي لا تمحوها إلا الثورة، أما الأخطاء البريئة الخفيفة فيمكن أن يمحوها الزمن فقط.
إن الثورة الإسلامية كانت دائما – ومنذ نشأتها – تعمل على ضبط سلوك المسلم ونبذه الماكيافيلية وممارسة النقد والنقد الذاتي الذي يضمن تصحيح المسار الثوري واستمراريته عن طريق تنقية الصف من كل الطفيليات والميكروبات التي يمكنها أن تهدده من الداخل.فالثورة الإسلامية، ومن خلال غزوة أحد – مثلا – كانت تؤمن بأن الغاية تتأثر بالوسيلة – خلافا للسياسات الوضعية الوضيعة – ولذلك لم يسمح الرسول صلى الله عليه وسلم – قائدها – بانضمام متطوعين غرباء عن الثورة باعتبارهم مجرد مرتزقة لا يشدهم إلى الثورة إلا مصالحهم المادية وليس النفحة الروحية. إذن فالثورة لا يصنعها إلا الثوار ذوو العقيدة الراسخة والروح التواقة إلى الأجر العظيم الذي ينتظرها في الآخرة.ولقد ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أروع مثل في التصدي لمحاربة النقد وفتح بابه، وهو ذلك الراعي للغنم الذي جعل الإسلام منه خليفة مؤمنا.
إن التشبث بفضيلة النقد الثوري و بالفكرة الثورية ضروري بالنسبة للثوريين الحقيقيين “لأن الثوريين المزيفين لا يتوانون عن استعمال سلطة الأشياء وإغرائها ضد الأفكار”(20).
إن المتأمل في تاريخ الثورات يستطيع استنتاج أن فشل أو نجاح ثورة ما رهين بما تحتفظ به أو تضيعه في الطريق من محتواها. “فالثورة لا ترتجل، إنها اطراد طويل يحتوي ما قبل الثورة والثورة نفسها وما بعدها”(21) لكن الخوف كل الخوف من أن يولد هذا الاطراد منذ البداية على شكل ثورة مضادة مقنعة في محاولة لاحتلال مراكز استراتيجية قبل أن تحتلها ثورة أخرى أصيلة، يندس فيها – منذ البداية، مجموعة من الانتهازيين وأصحاب المصالح.
ويمثل مالك على ذلك بتساؤله: كيف يمكن أن نتصور “تلاشي وانطفاء ظاهرة المندسين تلقائيا في داخل الثورة الفلسطينية، بينما يبدو بجلاء منذ الآن(22) أنها لن تتلاشى قبل أن تزهق روح الثورة”(23).
وكأن مالكا كان ينظر بعين المستقبل لما آلت إليه أمور الشعب الفلسطيني والذي تباع قضيته وأرضه في “المزاد العلني تحت غطاء مؤتمرات السلام” و”مفاوضات السلام” ومجموعة من الشعارات أثبتت الأيام والوقائع عدم جدواها.
لهذا ركز مالك على المطالبة بإحكام الرقابة على “الخمائر” المحقونة داخل ثورة ما من طرف الاستعمار والاستكبار وخبرائه وعملائه داخل العالم الإسلامي، هذه الطفيليات التي مثل لها مالك بأولئك الفرديين الذين عادوا للظهور بعد وقف إطلاق النار غداة الثورة الجزائرية، واصفا إياهم “بالذئاب” و”الضباع” التي تريد اغتنام الفرص قبل تصفية مشاكل الاستقلال الطوباوي “الخيالي” ومشاكل البنية القاعدية، على حين غفلة من أولئك الجزائريين الذين كانوا “يحاربون الفرنسيين على أنهم كفار صليبيون…. وللأسف، الثورة يخطط لها الإسلاميون وينفذها الفدائيون، ويسرقها المرتزقة. ولقد سرقت ثورة الجزائر، ولكن هاهي الجزائر عائدة إلى الإسلام من جديد”(24) إن شاء الله رغم كل الصعاب التي تمر بها اليوم.
وفي تطور الثورة الإسلامية “يرى مالك بن نبي في محاربة أبي بكر لأهل الردة وما نعي الزكاة موقفا ثوريا يجب أن نستخلص منه العبر الكافية والدروس الضرورية لكل ثورة مقبلة”(25).
ومعنى ذلك أن صانعي الثورة – ومنهم أبو بكر رضي الله عنه – قد عضوا على مبادئها بالنواجذ احتراسا من الانحراف عن المسار وخشية ظهور “ثورة مضادة” بزعامة المرتدين تفجر الثورة من الداخل، هذه الثورة الحقيقية التي كانت دائما تشق طريقها بموازاة مع أخلاقيات نفثها الإسلام في النفوس من أجل تزكيتها وفي المجتمع متجلية في العدالة الاجتماعية والأخلاق الحميدة والمساواة … إلخ.
وقد لخص مالك أخلاقية الثورة في “إعطاء الإنسان مع الحفاظ على كرامته” عكس الثورات الأخرى التي أعطت الإنسان – وهذا نادر – مقابل كرامته.
وقد تمحور النقد الثوري الذي دأب مالك على التأكيد عليه للحفاظ على الثورة وضمان نجاحها واستمراريتها حول:
1. تحليل القابلية للاستعمار كخلفية فكرية ومفهوم نفسي.
2. وقوفه في وجه من كانوا يرفضون النقد في الثورة الجزائرية بدعوى استفادة الاستعمار من ذلك.

4. واجبات الثورة
1. أن تحمي نفسها من سائر المحاولات التخريبية التي يكون فيها أصحابها سلطة جانبية في وطن ثوري، يؤثرون فيها حتى لحساب الخارج بما في أيديهم من وسائل السلطة.
2. الثورة في حاجة إلى أخلاقيات صارمة.
3. الثورة في حاجة إلى النقد والنقد الذاتي.
4. علم الاجتماع ملزم في البلاد التي دخلت في عصر ما بعد الثورة، أن يطرح السؤال أمام كل من تشتم منه رائحة الأمر الغريب الشاذ(26).
ولا يفوت مالكا – أثناء حديثه عن الثورة – أن يشير إلى بعض التجارب غير الإسلامية التي حظيت باحترامه بأنها “احترام الجهد البشري المتعاون” لكنها مع ذلك أبعد ما تكون علاجا لحالة اجتماعية تحاول الخروج من مأزقها – كما يقول – وهي حالة العالم الإسلامي عامة، يقول: “ولكننا مع ماركس ولينين اكتسبنا في هذا الميدان معلومات دقيقة وتقنية ثورية تلم بجوانب الثورة من مرحلتها التحضيرية إلى مرحلة الإنجاز ومنها إلى مرحلة الحفاظ على الخط الثوري”(27) لكن الماركسية لم تستطع الحفاظ على خطها الثوري، وأكثر من ذلك فقد أصبحت في متحف التاريخ غير مأسوف عليها.
العمل الثوري – وخاصة في العالم الإسلامي – تعترضه عقبات ضخمة تستلزم أشرف التضحيات وأطهر البطولات لأن “إغراء الفكر الثوري كبير لكي يتخذ طريق السهولة، وهذا أخطر إغراء يتعرض له الزعماء وقادة الجماهير ؛ فإذا جاء بعد ذلك عصر الجهد البنائي والمهام الموضوعية وجدناهم متحيرين في أهدافهم، محبوسين في ميكيافيليتهم، مختبلين في منطقهم الذي كان من الجائز أن يكون مؤثرا فعالا في مرحلة الاضطراب، ولكنه يصبح باليا متأخرا غير فعال عندما يشارفون اختبارات مشاكل البقاء والتوجيه”(28).

5. جدلية الحقوق والواجبات في المفهوم الثوري
وتتجلى هذه الجدلية- والتي غالبا ما يغفل عنها أصحاب المشاريع التغييرية -في قولته الجامعة المعبرة:

“فلو أننا لعبنا خلال الحقبة الثورية بمفتاح “الحقوق” فسيكون من الصعب علينا أن نستخدم فيما بعد مفتاح الرجل الذي يرضى بالمراهنة على اللعب بمفتاح “الواجبات” منذ البداية، أما الأنبياء فإنهم جميعا قد ارتضوا هذا الرهان حين دعوا الناس إلى طريق الجهد والكفاح والكمال والتقدم. ولكن الزعماء السياسيين يتعرضون لمخدر “الحقوق” حين يدعون الشعوب إلى طريق السهولة الذي يقودها أحيانا إلى الكوارث الاجتماعية وإلى المغامرات السياسية(29) “مما يؤدي إلى تكريس الفوضى والتخلف.

6. مالك والتحليل الاجتماعي للثورة: سوسيولوجيا الثورة
لقد استطاع مالك تجاوز كثير من المدارس الاجتماعية في تناوله لسوسيولوجيا الثورة وذلك عندما استوحى وجهة نظره في اجتماعية الثورة من الإسلام ذاته بعد أن استوحى منهجه في تحليل الحضارة والتنمية والاقتصاد والسياسة من الإسلام(30) ويمكن حصر محاور تحليله لاجتماعية الثورة فيما يلي:
* تحليل النموذج الأسمى للثورة المتمثل في الثورة الإسلامية بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
* تحليل أخلاقيات الثورة كأساس رئيسي سيساهم في انطلاق ثم استمرار ثم حماية الثورة.
* تحليل الطرق التي يتبعها الاستعمار في إحباط الأفكار الثورية (طرق التأهيل للقابلية للاستعمار).
* تحليل مفهوم الثورة والنقد الثوري.
* تحليل الثورة المضادة.
* تحليل النقد والنقد الذاتي.
* الدعوة إلى قيام علم اجتماع خاص بمرحلة الاستقلال(31).

الهوامش
________________________________________
* رئيس تحرير جريدة المحجة المغربية
(1) غازي التوبة، الفكر الإسلامي المعاصر، ص: 56، ط 3 / 1977 دار القلم بيروت، لبنان.
(2) نفسه، ص: 57 وما بعدها.
(3) مالك بن نبي، فكرة الأفرسيوية (مقدمة الطبعة الثانية) طبعة 1981، تصوير 1986 دار الفكر سوريا
(4) د. أسعد السحمراني،مالك بن نبي “إصلاحيا “، ص: 183، ط 2 / 1986، دار النفائس – بيروت / لبنان.
(5) د. محمد عمارة، مسلمون ثوار، ص: 14.
(6) مرتضى المطهري: الله في حياة الإنسان، ص: 41.ترجمة جعفر حشمتخواه – طبعة 1989، مكتبة الجديد،تونس
(7) د. محمد عمارة: مسلمون ثوار، ص: 13.
(8) الوصية منشورة في مجلة العالم، ع: 244/1988.
(9) د.عبد اللطيف عبادة: صفحات مشرقة، ص: 131.
(10) مالك بن نبي: بين الرشاد والتيه، ص: 49.ط 2 /1988 تصوير 1991، دار الفكر سوريا
(11) مالك بن نبي: مشكلة الأفكار، ص: 119.
(12) د.محمد عمارة، م.س، (الغلاف).
(13) مرتضى مطهري، م.س، ص: 44.
(14) مالك بن نبي: بين الرشاد والتيه، ص: 51.
(15) نفسه، ص: 15.
(16) نفسه، ص: 16.
(17) نفسه، ص: 16.
(18) مجلة العالم، ع: 134، حوار مع الشيخ محمد الغزالي رحمه الله.شتنبر 1986
(19) بين الرشاد والتيه، ص: 18.
(20) مشكلة الأفكار، ص: 93.
(21) بين الرشاد والتيه، ص: 14.
(22) كان ذلك سنة 1960، بتاريخ صدور الكتاب ” مشكلة الأفكار …”
(23) العالم، ع: 134، ص: 39 في حوار مع الشيخ محمد الغزالي رحمه الله.
(24) العالم، ع: 134، ص: 39 في حوار مع الشيخ محمد الغزالي رحمه الله.
(25) د. عبد اللطيف عباده، صفحات مشرقة، ص: 90.
(26) نفسه، ص: 104.
(27) بين الرشاد والتيه، ص: 14.
(28) فكرة الأفرسيوية، ص: 106.
(29) نفسه، ص: 107.
(30) صفحات مشرقة، ص: 85.
(31) نفسه، ص: 89.

Comments (0)
Add Comment