أسامة خضراوي
سيرة ذاتية غير موضوعية للكاتب
يقول مالك بن نبي: ‹‹…وفي ظهيرة يوم الجمعة أخذت نصيبي من الرفيس وأخذت أقضمه بنهم ولذة، وفجأة سمعت بباب الدار سائلاً ينادي: “أعطوني من مال الله”، ولم أكن عندها أكلت من فطيرتي أكثر من النصف، ومع ذلك بادرت بإعطائها له عندما تذكرت واحدة من حكايات جدتي عن الإحسان وثوابه.››[1]
إن المتأمل لهذه الجمل، يخال نفسه أمام حكاية خرافية أو ملحمة أسطورية، لا تقبل التصديق، لأن أي طفل يستحيل أن يفكر في شخص غير نفسه، لكننا أمام حكاية حقيقة تروي سيرة مفكرٍ ومجاهدٍ وفيلسوفٍ وأديبٍ جزائري اكتوى بجمرة الفكر وبلهيب العلم، غيرته الإسلامية وشهامته العربية الأصيلة، دفعته إلى التعمق والتفكر في أسئلة علمية وجودية صنعت منه الفيلسوف والمفكر والنابغة.
لا يمكن لدارس فكر مالك بن نبي، أن يغض الطرف عن مولده وحياته وشخصيته التي كان لها الدور الكبير في بناء معالم فكره، لذلك يجب أن نمر على حياته مرور الكرام لا مرور البخلاء لأن الكرام إذا مروا استوقفوا، وبذلك نقف وقفة متأنية على نشأته وتكوينه.
مولده ونشأته وتكوينه:
ولد المفكر الإسلامي الجزائري (مالك بن عمر بن نبي) بمدينة قسنطينة عام 1905 م، في عائلة فقيرة، وقد تبناه عمه ليتربى عنده، وسرعان ما توفي عمه فأعادته زوج عمه إلى أبويه، اللذين ارتحلا به إلى مدينة تبسة سنة 1912م عند أخوال أمه، الذين يعملون بالتجارة وببعض الحرف العادية. وظل والده لفترة دون عمل، وفيها عرف مالك طعم الحرمان، الذي سرده في مذكراته شاهد القرن حين يقول:((… ففي العائلة الفقيرة لابد أن يجوع الصغار متى فقد الأب عمله، غير أن أمي كانت تحول دون ذلك بممارستها للخياطة، وبالتالي فهي التي كانت تمسك بكيس النقود الذي كان دائماً فارغاً…))[2].
وكان لحكايات جدته وقع كبير على شخصيته، بسردها الدائم لأهوال فظائع سقوط مدينة قسنطينة بيد الفرنسيين سنة 1837م، وكيف هرّب أهل قسنطينة زوجاتهم وبناتهم بالحبال من أعالي مرتفع سيدي مسيد، كي لا يتعرضن لوحشية جنود الاحتلال.
تلقى تعليمه الأولي في كتاب بلدة تبسة طيلة أربع سنوات، حفظ خلالها عدة أجزاء من القرآن الكريم، والتحق بالمدرسة الفرنسية أثناءها، لينقطع بعدها عن الكتاب، مع احتفاظه بالتردد على المسجد، وخاصة في أيام العطل والجمعة وأيام الصيف، حيث كان أهل تبسة يتوزعون إلى فئتين، فئة تذهب لتأدية صلاة المغرب والعشاء في مسجد سيدي ابن سعيد والجامع العتيق عند الشيخ سليمان بن طيار البيضاوي، وفئة تقصد المقاهي والحكايات[3].
ولما أتم المرحلة الابتدائية ونجح في نيل شهادة التعليم الابتدائية، التي كان لها وقع وتأثير كبير بَيّن على الأهالي، الذين لا يستطيعون إرسال أبنائهم لمزاولة دراستهم الثانوية[4]، انتقل إلى قسنطينة ليواصل دراسته في المرحلة التكميلية للحصول على رتبة كاتب عدل[5]، وكانت هذه المرحلة من أخصب مراحل حياته، حيث التقى فيها بالشخص عبد الحميد بن باديس، وأعلام النهضة الجزائرية العربية الإسلامية الحديثة أمثال الشيخ المولود بن الموهوب، والشيخ محمد بن العابد، اللذين اكتسب منهما العلم الشرعي، ونمَّى ثقافته الإسلامية، كما اكتسب من الشيخ عبد الحميد بن باديس الحماسة والشجاعة والإقدام[6].
وفي هذه الفترة قرأ الكثير من الكتب، ومن أهمها كتابان أثرا في تكوينه ونفسيته، هما كتاب (الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في الشرق) لأحمد رضا، وكتاب (رسالة التوحيد) للشيخ محمد عبده، وارتبط بصداقة متميزة مع المرحوم (حمودة بن ساعي)، كما تعرف على بعض تلامذة الشيخ عبد الحميد بن باديس.[7]
كما اطلع على جريدة ( الإقدام) التي أكسبته قوة عظيمة فقال عنها: ‘‘… فالإقدام وضعت في فكري الحدود السياسية الدقيقة، فكانت تكشف عمليات استغلال الفلاح الجزائري، وقد بلغت درجة لا توصف في هذه الفترة..))[8].
وطيلة هاته السنوات كان يتردد على مدينة تبسة التي أثرت فيه بيئتها تأثيراً منقطع النظير وسم شخصيته وجعلته متمسكاً ومواكباً لمعانات الشعب الجزائري، وبعد نهاية السنة الرابعة من إتمام المرحلة الثانوية ما بين 1924- 1925م، سافر مع صديقه (قاواو) إلى فرنسا بحثاً عن العمل، فذهبا إلى مرسيليا وليون وباريس، ولكنهما أخفقا في إيجاد العمل المناسب فعادا أدراجهما[9].
ثم عاد إلى تبسة، فعمل كمساعد لباش عدل بالمحكمة، وشاهد أثناء عمله ما شاهده من المظالم الاستعمارية، ثم عين كاتبا في المحكمة بـ(آفلو) بالغرب الجزائري، فقال عنها:‘‘… كانت آفلو بالنسبة لي مدرسة تعلمت فيها أن أدرك فضائل الشعب الجزائري الذي لا يزال بكراً، وكانت هذه فضائله بالتأكيد في سائر أنحاء الجزائر قبل أن يفسدها الاستعمار…’’[10].
وكان مالك كثير الاطلاع والقراءة في الأدب العربي القديم، وفي كثير من كتب التفسير، إضافةً إلى اطلاعه على أدب المهجر والأدب الفرنسي، كل هذا صقل ذهنه المتوقد وفكره الناقد، فاتسع أفقه وحسه الأدبي، وأصبحت له نظرة منهجية في كل ما يدور حوله، واستطاع مالك بن نبي أن يرصد حركة الاستعمار وقسوته التي أحدثت تغييرات خطيرة في بنية المجتمع الجزائري، كل ذلك كان سبباً _ أيضاً _ في توجيه مسار فكره إلى البحث عن أسباب ضعف وتخلف العالم الإسلامي، ومن ناحية أخرى محاولة البحث عن ايجاد الحلول العلمية والعملية للخلاص من هذا التقهقر والضعف.
مالك بن نبي ومشكلات الحضارة:
إن المتمعّن والمحلّل والدّارس لكتابات المفكر الإسلامي/النهضوي مالك بن نبي – رحمه الله – يتبين بدقةٍ ووضوحٍ الهدف النهضوي الذي نذر حياته له، بخدمته للقضايا الإنسانية العادلة ابتداءً من القضية الجزائرية إلى القضايا القومية الإسلامية وانتهاءً بمعضلات العالم الثالث، فلقد أمضى مالك أكثر من ثلاثين عاماً متأمّلاً يحلّل ويضع شروط النهضة للمجتمع الإسلامي، رغم التعتيم والتهميش الذي مورس ضده حيّا وميّتا، إلا أن فكره بقي حيّا يُقرأ وأفكاره مازالت تنبض بالحيوية والفعالية، تتداولها أجيال ما بعد الاستقلال في الجزائر وفي العالم الإسلامي برمته.
لقد حمل مالك بن نبي هموم وتيه الحضارة الإنسانية، كما حمل هموم التخلف الحضاري لأمته الإسلامية القابعة في التراب، فكان يشخص الأمراض، ثم يقدم أسبابها وعللها، دارساً فاحصاً مجمل تفرعاتها ومظاهرها وأوجهها المختلفة في العوالم الثلاثة التي يعيشها العالم الإسلامي في الأفكار والأشخاص والأشياء محلّلا إياها بمنطق الطبيب الجرّاح، والخبير الاجتماعي، والحكيم النفساني، والداعية الديني.
وفي هذه الدراسة، سنعرج على أبرز القضايا الكبرى التي تطرق إليها مالك بن نبي في حياته الفكرية، والتي نطمح من خلالها إلى التعريف بفكر المجاهد والمفكر والفيلسوف، مركزين في ذلك على أهم القضايا الجوانية – بتعبير المجاهد علي عزت بيجوفيتش – التي اتسم بها فكر مالك بن نبي وهي كالآتي:
القضية الأولى: مشكلة الحضارة
يبرز مالك بن نبي في نظريته أن الإنسان اجتماعي بطبعه، ويسعى دوماً عبر أعماله لتحقيق فطرية الاجتماع الغريزية فيه، ونتيجةً لهذه الميزة الاجتماعية التي ترضي وتلبي حاجياته الفطرية فهو بحاجة دائمةٍ ماسةٍ إلى تحقيق آليات الانصهار الاجتماعي مع بني جنسه، الأمر الذي يدفعه إلى البحث عن وسائل للتفاهم والتواصل اللغوي والفكري والاجتماعي والثقافي…، وبهاته الآليات تتشكل نواة المجتمع.
ولا يقوم المجتمع، ولا يعرف الاستقرار إلاّ بالفاعلية الثقافية، ولا تتحقق الفاعلية الثقافية فيه، إلا بالممارسة والحقن الحضاري. وأيّ تقاعسٍ في عملية الزرع الثقافي الدؤوب في مسيرة وبنية وعمق المجتمع ستجعل من المجتمع مجتمعاّ متخلفاّ/بدائياّ تسوده الهمجية ويحيا بالتخلف والفوضى، ولذلك فقد عرّف المفكر مالك بن نبي الحضارة قائلاً((… إنني أؤمن بالحضارة على أنها حماية للإنسان، لأنها تضع حاجزاً بينه وبين الهمجية…))[11].
وأي غياب للفعل الحضاري/الفردي والاجتماعي سيؤدي بالضرورة الحتمية إلى عدمية الإنسان والإنسانية، وظهور موطن الخلل في عالم الأفكار والأشياء لأن:((… الحضارة هي التي تنقل الإنسان إلى شكل من أشكال الحياة الراقية…))[12].
فالحضارة سِلم وأمان للإنسان والإنسانية، وحماية لكافة حقوقه وحرياته وواجباته وحاجياته، وبها يجد الأمن لمستقبله وحياته، لكونها تستطيع أن تمنحه ضمانات حقيقية وواقعية لوجوده، لأن وظيفتها تكمن في تأمين الحماية للاستمرارية الثقافية والمدنية والحضارية للفرد والمجتمع، وقد ابتهل المجاهد مالك بن نبي إلى:((… أن يكون للمجتمع مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذلك من أطوار نموه. فالمدرسة والعمل والمستشفى ونظام شبكة المواصلات والأمن في جميع صوره عبر سائر تراب القطر، واحترام شخصية الفرد، تمثل جميعها أشكالاً مختلفةً للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه…))[13].
ومهما كانت طبيعة الضمانات التي يقدمها المجتمع للفرد، سواء أكانت صدقةً، أو زكاةً، أو كفالةً، أو إعانةً، أو تعليماً أو تكويناً، فهي أنماط من الضمانات التي تصون أفراد المجتمع لأن حضور الفعل الحضاري في المجتمع هو مقياس حقيقي للمجتمع المتحضر، الذي يتشكل ويتغير عبر الفعل الكرونولوجي للوصول إلى الرقي والازدهار. فالمجتمع التاريخي المتطور هو الذي يصنع الحضارة، وليست الحضارة سوى:((… محصلة تفاعل الجهد الإنساني مع سنن الآفاق والأنفس والهداية، من أجل الترقي المعرفي والروحي والسلوكي والعمراني في عالم الشهادة…))[14].
لأن الحضارة إنجاز خلال الزمن التاريخي، ويشمل هذا الإنجاز كل مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية ولذلك يؤكد مالك بن نبي على فكرة أن الحضارة تولد منتجاتها أو هي التي تصنع منتجاتها، وكل استيراد لمنتجاتها ومعالمها لا يعتبر إنجازاً حضارياً، لأن الحضارة:((… هي نتاج فكرة حية تطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر، الدفعة التي تجعله يدخل التاريخ، فيبني هذا المجتمع نظامه الفكري والثقافي طبقاً للنموذج المثالي الذي اختاره، وعلى هذا تتأصل جذوره في محيط ثقافي أصيل تتحكم بدوره في جميع خصائصه التي تميزه عن الثقافات الأخرى، والحضارات الأخرى…))[15].
وبذلك، يعرف الأستاذ مالك بن نبي الحضارة بالنظر إلى عناصر تركيبها الأساسية، وهي:‘‘ معادلة تركيبها الحدود التالية:{ إنسان + تراب + زمن = حضارة }[16].
فالحضارة تشيد من خلال ما يحمله الإنسان من عقيدة وفكر، فيستغل بها التراب الذي يكتنز مختلف ضرورات الحياة، كما يستغل عامل الوقت بتحويله إلى ساعات عمل وإنتاج. فمشكلة الحضارة والتخلف والجهل والتبعية لا نعالجها باستيراد منتجات حضارة قائمة، بل نعالجها بحل مشكلات الإنسان والتراب والوقت.
كما أن عناصر الحضارة لن تجدي نفعاً إذا لم يكن الجامع بينهما هو فكرة الوازع الديني، الذي يسيطر على روح الفرد وحياة الأمة، وبذلك يظل هذا العامل هو المتحكم في سيرها التاريخي، وهذا ما يؤكده مالك بقوله:((… فالحضارة لا تنبعث إلا بالعقيدة الدينية، والحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء، يكون للناس شرعةً ومنهاجاً… فكأنما قدر للإنسان ألا نشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية…))[17].
وإن الفكرة الدينية تبث في روح معتنقيها الأخلاق الرفيعة، ومن بلسم روحها تنتشر وتنبعث حياة المجتمع الفكرة المتطورة، فإذا فقدت الأخلاق تحررت الغريزة، وهنا تنتصر الهمجية وتتقوى، وبذلك تطلق العنان إلى سقوط الحضارة على إثر تحرر الغرائز، فإذا ما تحررت الغرائز في الأفراد وسيطرت عليهم توجهت عقولهم نحو الكم والأرقام، وفق الإنسان قيمته الروحية الحقيقية وصارت الحضارة في يده وسيلة استعمار، ووسيلة اضطهاد وظلم وفساد وضغط، كما يرى بن نبي أن الحضارة تبدأ ببزوغ فكرة دينية فيه، وتسمى هذه المرحلة بمرحلة الروح، وتكون الحضارة في طور الميلاد والنشأة، ثم تليها مرحلة انتشار وتوسع الحضارة، وتسمى مرحلة العقل، لتنتهي إلى مرحلة الغريزة وهي مرحلة الأفول والتلاشي[18].
ومن خلال هذا العرض السريع لمفهوم الحضارة عند مالك بن نبي نتبين أنه قد عرفها من خلال ثلاثة مستويات، فتعريفه لها من حيث تركيب عناصرها، يشير إلى النظرة النشوئية التكوينية، وتعريفه لها من حيث وظيفتها، يشير إلى النظرة الوظيفية، وتعريفه لها من الناحية التاريخية يشير إلى النظرة التاريخية التطورية البيانية[19].
تيمات الحضارة عند مالك بن نبي:
يرى الأستاذ مالك أن الحضارة لا تستقر في مكان واحد في الأرض، كما أنها لا تتمركز في رقعة جغرافية معينة، أو عند شعب معين، بل تسير وتتحرك من مكان لآخر، ومن شعب لآخر:((… لأن الحضارة تسير كما تسير الشمس، فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب، ثم متحولة إلى أفق شعب آخر…))[20].
وتتقاسم حركية قيام الحضارات وسقوطها ثلاثة مستويات نظرية رئيسة كبرى، هي:
1- نظرية حركة التقدم الصاعد للحضارة.
2- نظرية حركة النكوص المتدهور.
3- نظرية التعاقب الدوري.
وتدخل رؤية مالك بن نبي ضمن سياق النظرية الثالثة، التي درست الحضارة كحركة تعاقب دوري سنني، وقد تميزت هذه النظرية بنوعية العلماء والباحثين الذين قدموا قراءاتهم فيها بعمق وموضوعية وإنصاف، وهم:
1-المؤرخ والباحث الموسوعي (عبد الرحمن بن خلدون ت 808 ه/ 1406 م)، الذي يرى أن خط سير الحضارة في أي أمة من الأمم يمر بالمراحل الأربعة الآتية: {مرحلة البداوة، ومرحلة الحضارة، ومرحلة الترف، ومرحلة التدهور}.
2-المؤرخ والباحث الموسوعي (اشبنجلرت 1936 م)، الذي يرى أن الحضارة كائن حي، يولد وينمو، ويكبر ويهرم، ويموت.
3-المؤرخ الموسوعي(أرنولد توينبي)، الذي يرى أن العامل الرئيسي في نمو الحضارة هو التحديات البيئية والجغرافية والبشرية المحيطة بالمجتمع.
4-المؤرخ والفيلسوف (هيغل)، الذي يرى أن قيام الحضارة متوقف على الصراع القائم بين
المتناقضات في نطاق المادة ووسائل الإنتاج[21].
وقد بسط مالك بن نبي كل هذه النظريات التي درست فلسفة قيام الحضارت، ثم عرض لنظريته التي لا تخضع لأسباب طبيعية جبرية، بقدر ما تخضع للإنسان نفسه. مشيراً على أن تطور الحياة الفكرية للمجتمع شبيه بتطور الحياة الفكرية للإنسان في جميع مراحل نموه، فهو كالطفل صغيراً، وكالشباب يافعاً، وكالكهل رجلاً، وكالعجوز شيخاً، وكالإنسان ميت فانياً، ونظريته في الحضارة تتأسس على الخطوات الآتية:
1-الطور الأموي: وهي مرحلة التعامل العشوائي مع عالم الأشياء المحيطة به، دون إدراكٍ لعالم الأشخاص عدا وشخص أمه.
2-الطور ما قبل الاجتماعي: وهي مرحلة التعامل مع عالم الأشخاص المحيطين به، دون إدراكٍ لعالم الأفكار.
3-الطور الاجتماعي: وهو الطور المدرسي وما بعد المدرسي، وفيه يحاول إقامة الصلة بين العوالم الثلاثة في داخله [أشياء، أشخاص، أفكار].
وهكذا تتكون الحضارة: بدءًا من الطور الطفولي البدائي، ثم الطور الاجتماعي بارتباط الأفكار بعالم الأشخاص، فالطور الراشد الواعي حيث يعطي المجتمع القيمة للفكرة المجردة عن عالم الأشخاص والأشياء. وهكذا تكون الحضارة بداوة، فتحضر، فشيخوخة، فانهيار[22].
المجتمع المتحضر في رؤية مالك بن نبي:
إن المرحلة الأولى من مراحل الحضارة هي المرحلة التي تسودها القيم الروحية، وميزة هذه المرحلة هو الالتزام بالمبدأ التعبدي الشخصي، أو التعبد الجمعي( العلاقات الاجتماعية ). فالمبدأ هو مركز الدوران الذي يحققه هدف نشاط الفرد والمجتمع، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أراد أن تكسر علاقة المبدأ في بعض جوانبها لفائدة علاقة العواطف:((والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ))[23].
وكذلك قوله تعالى لمن أرادوا أن تكسر علاقة المبدأ في بعض جوانبها لفائدة الحسابات الظرفية: “وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ”[24].
وقد نبه الأستاذ مالك بن نبي إلى أن مرحلة الروح تطبع المجتمعين بطابعين مهمين هما:
1- خنوس الأنا الذاتية، وانسجامها مع المسار العام للمجتمع.
2-انسداد الفجوات الاجتماعية وغياب الفراغ الاجتماعي.
وفي هذه المرحلة تكون كل الملكات ( الغرائز، العقل ) تحت سيطرة الروح، فإذا ما أفلتت الروح، وظهرت بوادر الفتور، انتهت مرحلة التألق والإشعاع، لتبدأ مرحلة لها ميزاتها الخاصة وهي مرحلة العقل، حيث تكون جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة العقل، متجهة نحو المشكلة المادية. وتصبح مرحلة العقل مرادفة للحسابات الشخصية والأنانية والمصلحة، وتمزق الجوانب الاجتماعية من خيوط شبكة العلاقات كما حدث في معركة صفين32 ه[25].
ثم تحصل بعض التفككات الروحية في الفرد وفي روح الجماعة والمجتمع بانفصال الأساس المعرفي عن البعد الثقافي، وبانفصال الأساس الإيماني عن البعد السلوكي، وتبدأ مرحلة الغريزة المتحررة من وصاية الروح والعقل، ويسود المرض الاجتماعي، وتظهر آثاره في علاقات الأفراد وأخلاقهم، فيكون تضخم الأنا وانتفاخها، وتتحلل شبكة العلاقات الاجتماعية عندما يسترد استقلاله وسلطته في داخل الجسد الاجتماعي. وتميل الكفة في هذه المرحلة إلى التشيئية، ويسود قانون الكم والعدد.. ويسود المجتمع الانحطاط، وينتهي المجتمع، ويخرج عن الحضارة، ويعود الإنسان إلى مستوى الحياة البدائية، ولا يعود الإنسان والتراب والوقت عوامل حضارة، بل تصبح عناصر خاملة لا صلة بينها.
وهذه الظاهرة الحضارية لا تمس الأمة الإسلامية فحسب، بل تتعداها لكل الأمم والشعوب الأخرى لأن((… التجارب التاريخية العامة تؤكد أطوار الحضارات هذه، ولا تكاد حضارة ما تشذ عن هذه القاعدة…))[26].
وانطلاقاً من نظرية الأطوار العمرية للإنسان عند مالك بن نبي فإن المجتمع المتحضر هو المجتمع الذي بلغ عمر الفكرة، وتتمثل هذه الفكرة في جملة عوامل معنوية ومادية تتيح لهذا المجتمع أن يوفر لكل فرد من أفراده جميع الضمانات والضوابط الاجتماعية اللازمة لمواصلة عملية التحضر. لأن الحضارة هي: القدرة على القيام بوظيفة أو بمهمة معينة تخدم تقدم ونمو المجتمع. ووضع الأستاذ مالك بن نبي شروطاً لتحضير المجتمع، وهي:
1- انتصار عالم الأفكار السليمة على الأفكار الميتة والمشوشة.
2- وضوح وأصالة المنهج المتبع في تنمية الفرد والجماعة.
3- انعدام فاعلية عقدة القابلية للاستعمار.
4- تفاعل مجموع الأشخاص مع ضروب التراب ومجموع الأزمنة في تفاعل معاجلة الناتج الحضاري [إنسان+ تراب + زمن = حضارة].
وحتى يحقق المجتمع رقيه الحضاري لابد من حل إشكالات الحضارة الثلاث والسيطرة عليها، وهي:[مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت].
ولحل مشكلة الإنسان يجب توجيه وضبط العوامل الثلاثة المنوطة بنجاحه، وهي:
مشكلة الإنسان:
1- توجيه الفكر والثقافة للإنسان المتحضر، وذلك بتشبيعه وريه بأبعادها الأربعة [الدين والخلق، والتذوق الجمالي، والعلم، والتمكن الصناعي والتكنولوجي].
2- توجيه قيم العمل الجماعي في الإنسان لصناعة الإنسان الكائن المتحضر.
3- توجيه ووضوح سياسة المال لخدمة الكائن المتحضر.
ولتبيين الفرق بين العلم الحقيقي القادر على نقل الإنسان لدائرة التحضر يبين الاستاذ مالك أن الإسلام وفر المناخ والنفسي والروحي والاجتماعي المناسب لنمو العلم وازدهاره.
فالقرآن الكريم لم يحمل أسرار صناعة الذرة أو غزو الفضاء، ولكنه بث آياته روح وحركية العلم، على العكس من التوراة التي ابتدأت في سفر التكوين على توضيح الظاهرات المادية، والإنجيل الذي استفتح على عملية تجسيد الأقانيم الثلاثة، فإن القرآن الكريم بدأ بالعلم والحث عليه، وبذكر أدواته ومناخه الملائم[27].
مشكلة التراب: وهنا يبدو أثر وفاعلية الإنسان ككائن يسعى للتحضر لتحريك التراب الجامد وتحويله إلى منجزات حضارية.
مشكلة الوقت: وهنا يتجه الإنسان لتبيين تأثيره في الاستفادة من الوقت. وهكذا يصبح حل مشكلات الحضارة يعني دخول المجتمع في مرحلة التحضر[28].
القضية الثانية: مشكلة الثقافة
إن الحديث عن الثقافة في المجال العربي، وعلى مستوى الفكر الإسلامي، دون التطرق والاقتراب من مالك بن نبي، هو نكران لجهد وتعب وأرق مفكر وفيلسوف شغل نفسه بالتنظير والتقعيد لهذا المفهوم، الذي ظل مهووساً ومسكوناً به، ولم يفارقه الاهتمام به طيلة حياته وإسهاماته في هذا الصدد، هي الأكثر حضوراً وأهميةً على مستوى الدراسات الفكرية الإسلامية.
ومالك بن نبي هو فيلسوف ذو لحن عربي، استطاع أن يبلور نظرية الثقافة، وينفرد ويُعرف بها في العالم العربي، وهي النظرية التي اكتسبت شهرة بين المؤلفين الذين ظلوا يرجعون إليها، ويعرفون بها في كتاباتهم.
ومازالت هذه النظرية تجذب الاهتمام، وتستوقف نظر الباحثين والمشتغلين في حقل الثقافة والدراسات الثقافية، وذلك لأهميتها وطبيعتها المتميزة من جهة، ولقلة ونذر وشح السالكين في هذا الميدان كتابةً وفكراً من الثقافة العربية الإسلامية من جهة تانية، ولكون هذه النظرية من النظريات المبكرة والجديدة في مجالها من جهة ثالثة لأن:((… المسألة الثقافية هي المدخل الضروري لعملية البناء الحضاري، على اعتبار أن الحضارة هي محصلة تفاعل الجهد الإنساني مع سنن الآفاق والأنفس والهداية، وهذه السنن لا يمكن أن يصل إليها الإنسان، إلاّ عبر عالم ثقافي سليم ومنسجم وفعال، يتيح له امتلاك منهج البحث عنها، والوصول إلى إدراك آليات عملها من جهة، ومنهج الاستفادة منها في تحقيق الترقي الحضاري المنشود من جهة أخرى…))[29].
مفهوم الثقافة عند مالك بن نبي:
ينطلق تعريف مالك بن نبي للثقافة من نقد المنظور الرأسمالي القائم على الفردانية، ومن المنظور الشيوعي القائم على الجماعية، ثم يبرز خطأ تركيز بناء مفهوم الثقافة على الفرد أو الجماعة فقط يبين مفهومها في الإسلام، القائم على تركيب أربعة عناصر أساسية هي:((الأخلاق، الجمال والذوق، المنطق العلمي، الصناعة والتكنولوجية))، ومكمن العلاقة القائمة بين هاته العناصر الأربعة في زمن فاعل يصنعه الإنسان نحو التحضر هي الثقافة.
فالثقافة هي علاقة عضوية في سلوك الفرد، وأسلوب الحياة الاجتماعية، وهي نظرية في السلوك الاجتماعي، وليست نظرية في المعرفة[30].
وعرفها مالك على أنها:((… مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لاشعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه…))[31].
نستشف من هذا الكلام، أن مالك بن نبي يرى أن الثقافة فلسفة وقيم خلقية فردية واجتماعية تؤثر في تكوين وتنشئة الفرد منذ الطفولة، بحيث تصبح نمطاً لصيقاً بحياته، ووشماً مميزاً لسلوكه، يصنع بها كل دقائق حياته، وفق النمط الذي تشكل فيه. وبذلك فهي:((… المحيط الذي تتشكل فيه كل جزئية من جزئياتنا.. وهي تتمثل بوظيفة الدم في جسم الإنسان، فهو يتركب من الكريات الحمراء والبيضاء، وكلاهما يسبح في سائل واحد هو – البلازما- ليغذي الجسد، والثقافة في ذلك الدم، الذي في جسم المجتمع، يغذي حضارته، ويحمل أفكار الصفوة، كما يحمل أفكار العامة والخاصة. وكل هذه الأفكار منسجم في سائل واحد من الاستعدادات المتشابهة والاتجاهات الموحدة والأذواق المناسبة…))[32].
فالثقافة إذن هي: المحيط الفكري والنفسي والاجتماعي والأخلاقي والروحي..، الذي يحتضن الوجود الإنساني في المجتمع، ويدعمه بالخبرة المعرفية والسلوكية والأخلاقية والجمالية..، وفي هذا المحيط تتشكل طباع، وشخصية، وذوق الفرد الثقافي، محكومة بالسنن النفسية والآفاقية. فالثقافة إذن: نظرية في العرفة، ومنهج في السلوك وطريقة في العمل والبناء[33].
تيمات المنظومة الثقافية:
تتشكل المنظومة الثقافية عند الأستاذ مالك بن نبي، من أربع تيماتٍ أساسية وهي:
1- التوجيه الأخلاقي لتكوين نمط الصلات الاجتماعية الراشدة.
2- التوجيه الجمالي لتكوين الذوق العام السليم.
3- المنطق العلمي لتحديد أشكال النشاط العام.
4- الصناعة أو الفن التطبيقي الملائم لكل نوع من أنواع المجتمع[34].
وسنتطرق إلى هذه التيمات الاصطلاحية لمفهوم الثقافة عند مالك بن نبي بالتدريج وهي:
1- المبدأ الأخلاقي:
فطرية الاجتماع غريزة أصيلة في الإنسان، والمجتمع المتحضر هو الذي يطبع ويهدي هذه الغريزة ويرفع من مستواها بالأخلاق ليتجنب الفوضى والاضطراب، وأهدى القيم الأخلاقية المتنزلة على الأنبياء، لأنها تهدف إلى ربط الأفراد بعضهم ببعض، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى مخبراً عن المهاجرين والأنصار:{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[35].[36]
والارتقاء بالأخلاق والسلوك الإنساني هو الهدف الأساس للحضارة، وقد جاء رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلّم، ليتم مكارم الأخلاق ليعلو ويسمو بها الإنسان إلى درجة يتميز فيها عن باقي المخلوقات. ولذا فالثقافة عند مالك بن نبي نظرية في السلوك والأخلاق أكثر منها من أن تكون نظرية في المعرفة المجردة[37].
وبذلك فالعنصر الأخلاقي يقوم ببناء وتشييد عنصر مهم من عناصر الحضارة، والإنسان هو الذي يتحكم في الأشياء والتراب في الزمن تحكمه وتنظمه الأخلاق، وبالتالي الجانب الأخلاقي هو المحدد الرئيسي لاتجاه المجتمع بشكل عام.
2- الذوق الجمالي:
يرى ابن نبي أن الجمال له تأثير في الروح الاجتماعية، ويشرح هذه الفكرة بقوله:(( إن الأفكار هي المنوال الذي تنسج عليه الأعمال، وهي تتولد من الصور المحسة الموجودة في الإطار الاجتماعي فتنعكس في نفس من يعيش فيه، وهنا تصبح صوراً معنوية يصدر عنها تفكيره، فالجمال الموجود في الإطار الذي يشتمل على ألوان وأصوات وروائح وحركات وأشكال، يوحي للإنسان بأفكاره ويطبعها بطابعه الخاص من الذوق الجميل أو السماجة المستهجنة. فبالذوق الجميل الذي ينطبع فيه فكر الفرد، يجد الإنسان في نفسه نزوعاً إلى الإحسان في العمل، وتوخياً للكريم من العادات))[38].
وبذلك، يعتبر بن نبي أن الذوق الجمالي من أهم التيمات الحيوية في مكونات الثقافة، لأنه حسب عزمه يحرك الهمم إلى ما هو أبعد من مجرد المصلحة ويحقق شرطاً من أهم شروط الفعالية، لأنه يضيف إلى الواقع الأخلاقي عند الفرد دوافع ايجابية أخرى.
وفي كتابه (مجالس دمشق) يشير ابن نبي إلى هذا العنصر داعياً الثقافة إلى تمنحنا الذوق الجمالي، وتنمي فينا هذا الذوق، بشرط أن لا نظن حسب زعمه بأن الإسلام قد أهمل أو زهد في هذا الجانب، وذلك لترتيب شؤون مجتمعنا، لأن في رأيه أن النشوز إذا كان يحدث في المستوى الأخلاقي، فهو يحدث أيضاً في المستوى الجمالي[39].
3- المنطق العلمي:
يشير مالك بن نبي على أن النقص الذي يعاني منه الإنسان المسلم ليس منطق الفكرة، وإنما منطق العمل والحركة، فهو لا يفكر ليعمل، بل ليقولا كلاماً مجرداً، وأكثر من ذلك أنه قد يبغض الذين يفكرون تفكيراً مؤثراً، والسبب يعود:((… لافتقادنا الضابط الذي يربط بين الأشياء ووسائلها، وبين الأشياء وأهدافها، فسياستنا تجهل وسائلها، وثقافتنا لا تعرف مثلها العليا، وفكرتنا لا تعرف التحقيق…))[40].
فالمنطق العلمي يعني أن يكون المجتمع ديناميكياً فاعلياً، فيستغل ما لديه من طاقات وإمكانيات ووسائل، وأن لا يدع الفراغ ينخر وقته، بل يستثمر الفراغ في أمور تعود عليه بالنجاح والنفع.
وفي كتابه ( مجالس دمشق) يشير ابن نبي إلى أنه يقصد بالمنطق العلمي الفعالية، لكنه يفضل تسمية المنطق العلمي بوصفه مصطلحاً ينسبه لنفسه، وظل يعرف به حسب قوله منذ ربع قرن[41].
4- التوجيه الفني أو الصناعة:
يعتقد ابن نبي أن المبدأ الأخلاقي، والذوق الجمالي، والمنطق العلمي، هذه التيمات لا تكوّن لوحدها شيءً من الأشياء حسب عزمه، إن لم تكن في أيدينا وسائل معينة لتكوينه، والعلم أو الصناعة، كما في تعبير ابن خلدون هو الذي يمنحنا تلك الوسائل، ويكون عنصراً هاماً في الثقافة، لا يتم من دونه تركيب عناصرها وتحديد معناها، ويدخل في هذا المفهوم كل الفنون والمهن والقدرات وتطبيقات العلوم، وهذه العناصر الأربعة هي التي بإمكانها أن تساهم في تحديد الثقافة وتركيبها وتحويلها إلى أسلوب حياة في أي مجتمع.
وعملية تحويل العلوم النظرية إلى مهن، وفنون، وصناعات عملية يدوية وتقنية إلى حيزها العملي التطبيقي، واستغلال الطاقات والقدرات والمواهب والإمكانات في العمل الصناعي ركن مهم في تكوين مفهوم الثقافة عند مالك بن نبي، لأن الصناعة وسيلة لكسب الأفراد ووسيلة للمحافظة على كيان المجتمع واستمراره ونموه[42].
ومن هنا نتبين أن مشكلة الحضارة هي مشكلة الثقافة، وإصلاح المنظومة الثقافية أساس لحلول مشكلات الحضارة. وإذا كانت شبكة العلاقات الاجتماعية سوية بين أفراد المجتمع، وإذا ما تكون للمجتمع عبر التاريخ قيم أخلاقية تحافظ على تماسك وانسجام أفراده معاً، فسيعيش متسقاً ضمن جو محكم من النظام والجمال والذوق، بحيث تشكل لأفراده منطلقاً أدبياً وعملياً يتفاعلون من خلاله بفاعلية ما يملكونه من طاقات ومواهب وإمكانيات فيبدعون أعلى وأقصى ما يمكن من الفوائد والوسائل المتاحة لهم، فيحولون كل هذه القيم النظرية والأخلاقية والجمالية الذوقية إلى صناعات ومهن وإنتاج سلعي، فإذا فعلوا ذلك أمكنهم حل مشكلة الثقافة، ومن ثم حل مشكلة الحضارة، ومن ثم التوقيع على صفحات التاريخ وتأكيد الشهود الحضاري[43].
وبمثل هذا البناء المحكم، يمكن القول أن هذا التركيب للثقافة وتحديدها بهذه العناصر الأربعة، يمثل جوهر ولب النظرية الثقافية لمالك بن نبي، والتي يصبو من خلالها إلى تحقيق معالم الشهود الحضاري للأمة الإسلامية.
القضية الثالثة: مشكلة الأفكار
أخذت قضية الأفكار حيزاً مهماً من تفكير واشتغال الأستاذ مالك بن نبي – رحمه الله-، وقد بين بشكل مستفيض أهميتها ووظيفتها وخطرها، من الناحيتين النظرية والتطبيقية، لأنها تشكل مرآةً يرى بها الآخر شخصيتنا ومستوى تفكيرنا ليحكم من خلاله علينا إما بالسلب والإيجاب، لأنها تشكل علامة صحة لتقدم الأمة أو تخلفها، ومقياساً دقيقاً لنضجها أو تخلفها أو لتطورها الحضاري.
ذلك أن التفوق الفكري والنظري الواعي لدى أمة من الأمم سيصاحب حتمياً بتفوق عملي تطبيقي في مختلف مجالات الحضارة الإنسانية، والدليل الأكيد على ذلك انتصار الفكرة الإسلامية القرآنية في الجزيرة العربية التي أعقبها انتصار حضاري شامل لتلك الأمة المتخلفة[44].
والأفكار إما أن تكون ذات مصدر إلاهيٍ تأتي عن طريق الوحي، أو تكون من نتاج تأثر العقل البشري بالوحي، فينتج فكراً دينياً، أو تكون من إنتاج العقل البشري المحض الذي يصل إلى الحقيقة عندما يسعى لتأكيد وظيفته في الحياة وهي عملية إنتاج الأفكار، ولهذه الأفكار على تنوع مصدرها وظائف ومهام هي:
1-اليقظة والنهوض والإقلاع:
كثيراً ما نسمع ونقرأ عن مجتمعات تعيش في حالة خمول وتخلف، تسودها البدائية في التصرفات والأفعال، ويحكمها الجمود في العلاقات، حتى تتداركها العناية بنزول فكرة حية ناضجة((… ذلك أن هناك مرحلة يكون فيها المجتمع بدائياً، فقير الوسائل، فإذا ما أدركته فكرة جوهرية تستقطب روحه، اندمج في دورة التاريخ، واندمج جهده اليومي نحو مثل أعلى، يجعل لأفكاره دوراً وظيفياً…))[45].
ذلك لأن الافكار تشكل حدوداً واقية للمجتمعات، فالأفكار الدينية تحد من خطر الغريزة، وتربط الطاقة الحيوية بدور نبيل في المجتمع، وفي حركية التاريخ، فالفكرة الإسلامية نجدها قد طوعت الطاقة الحيوية في المجتمع العربي الجاهلي ليصبح مجتمعاً متحضراً. وهذه الإيديولوجية الشيوعية تخرج سكان مدينة ( ستالينغراد) من بين ملايين القنابل المشتعلة، وركام الأبنية المحطمة، ووحشية وجاهزية الجيش الألماني… ليوقفوا زحف الجيش النازي الزاحف على مدينتهم خلال الحرب العالمية الثانية، بل شكلت نقطة محورية مهمة في تراجع المد النازي عن العالم بأسره. وهذه الفكرة المسيحية تخرج أوربا إلى مسرح التاريخ في قرن البعث الحديث[46].
يشير هنا، مالك بن نبي إلى أن عمق الفكرة الدينية هو القدرة على تغيير الإنسان، ووضع جل الإمكانات والطاقات الحيوية واستثمارها في عملية النهوض والإقلاع الحضاري، فتجعل من كل القيم الدينية قيماً أخلاقية عملية تحكم المجتمع، وتحدد طبيعة علاقاته ببعض، وقد بين بن نبي عملية التحول في المجتمع بأنه:((… على عتبة حضارة ما، ليس هو عالم الأشياء الذي يتبدل، بل بصورة أساسية عالم الأشخاص على أساس ميثاق جديد منزل كالقرآن الكريم…))[47].
ونخبة القول، أن هذه الأفكار الدينية رغم أنها تفقد فعاليتها داخل المجتمع، فإنها تحتفظ بقوتها الدافعة، وهذا الوضع جسدته الحضارة الإسلامية بعد عصر الموحدين، وما رافقه من تدهور وانحطاط وتخلف حضاري/فكري، وقد مكنتها تلك الأفكار الكامنة من مقاومة العدوان وتحقيق الاستفلال، ومعاودة المضي نحو النهضة بحزم وقوة لا نظير لها. أما الأفكار التي تريد تغيير عالم الأشياء والمقتنيات، فإنها غالباً ما تصدر عن العقل البشري الذي يمكن أن يصيب تارة ويخطئ تارة أخرى.
2- مقياس الغنى أو الفقر الاجتماعي:
يشير الأستاذ مالك بن نبي إلى حقيقة اجتماعية مهمة، لها علاقة حقيقية ووطيدة بغنى وفقر المجتمع نحو:((… لا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من أشياء، بل بقدر ما فيه من أفكار…))[48]، يبن هنا بن نبي على أن القوة الحقيقة للأمة، تبرز في امتلاك للأفكار الحية والبناءة، التي تساهم في السيطرة على عالم الأشياء، وتسخير مالها من وسائل في خدمة تلك الأفكار الحية، مؤكداً على هذه الحقيقة بقوله:((… ولقد يحدث أن تلم بالمجتمع ظروف أليمة، كأن يحدث فيضان، أو تقع حرب فتمحو منه عالم الأشياء محواً كاملاً، أو تفقده إلى حين ميزة السيطرة عليه، فإذا حدث في الوقت ذاته أن فقد المجتمع السيطرة على عالم الأفكار كان الخراب ماحقاً، أما إذا استطاع أن ينقذ أفكاره فإنه قد أنقذ كل شيء، أذ أنه يستطيع أن يعيد بناء عالم الأشياء…))[49].
لأن الثروة التي لا تشترى ولاتباع هي ثروة عالم الأفكار، والعالم الإسلامي منذ تعثره الحضاري يملك الأشياء والوسائل، ولكنه للأسف يفتقر إلى عالم الأفكار والإبداع، ففقره إذن في فكره لا في وسائله، لأن:((… المجتمع المتخلف ليس موسوماً حتما بنقص في الوسائل المادية، وإنما بافتقاره للأفكار يتجلى بصفة خاصة في طريقة استخدامه الوسائل المتوفرة لديه، بقدر متفاوت من الفاعلية…))[50].
والملاحظ على العالم الإسلامي أنه يتمتع بأراض واسعة وخصبة جداً وهي أفضل وسيلة لإقلاع مجتمع متخلف من مرحلة البدائية إلى مرحلة أخرى[51].
والأمر مثله بالنسبة للمجتمعات الإسلامية التي تمتلك ثروات طبيعية وباطنية غنية ومتنوعة، ولكنها للأسف تفتقر إلى الصناعات التدويرية المتطورة، ولذا فهي تتخلص من ثرواتها إن صح التعبير، لغياب عقل يفكر في تكرير هذه الثروات والاستفادة منها بشكل كبير، في حين نجدهم يقتصرون مقابل ذلك باستيراد المنتجات المدنية الغربية التي تعكس عالم الأفكار المتطور لدى الإنسان الغربي المتحضر.
وهذا ما يبين مدى قيمة الأفكار في عملية الإقلاع الحضاري، لأنها هي التي تقوم بتغيير الإنسان من حال إلى أحوال، بشرط أن تكون هذه الأفكار حية بناءة حديثة لا قاتلة ولا مميتة، أو مية لا روح فيها. فهي على العكس تعمل على تهديم وتخريب آثار الأفكار الحية، هذان النوعان هما:
1-الأفكار الميتة.
2-الأفكار المميتة أو الأفكار القاتلة.
أما الأفكار الميتة فهي الأفكار التي انحرفت عن مثلها العليا، وهكذا أغلب أفكار إنسان ما بعد عصر الموحدين[52].
لأن كل فكرة فقدت فعاليتها في عالم الأشخاص، ولم تتجسد في عالم الأشياء تصبح بالضرورة فكرة ميتة لا قيمة لها، والأفكار الميتة هي التي تجعل المجتمع رخواً ليناً هيناً لانتعاش عقدة القابلية للاستعمار والخضوع لسيطرة الغير. وهي أشد خطراً على المجتمع من الأفكار القاتلة، لأن:((… كل مجتمع يصنع بنفسه الأفكار التي ستقتله، لكنها تبقى بعد ذلك في تراثه الاجتماعي أفكاراً ميتة تمثل خطراً أشد من خطر الأفكار القاتلة، إذ الأولى تظل منسجمة مع عاداته وتفعل مفعولها في كيانه من الداخل، إنها تكون قاتلة ما لم نجسر عليها عملية تصفية، وهي التي تكون الجراثيم الموروثة الفتاكة التي تفتك بالكيان الإسلامي من الداخل، وهي تستطيع ذلك لأنها تخدع قوة الدفاع الذاتي فيه…))[53].
وبالتالي فإن العادات والتقاليد الرجعية والممارسات الدونية، والشخصيات الإقطاعية، وكل الأمراض الاجتماعية التي نجدها حاضرة بقوة في صميم العالم الإسلامي، إنما هي ممثل حقيقي للأفكار الميتة، لأنها هي التي تجعل العالم الإسلامي خاضعاً لعقدة القابلية للاستعمار.
أما الأفكار القاتلة المميتة فهي الأفكار المستوردة من المدنيات الأخرى، أو من كل فكرة فقدت عمق هويتها، ومقوماتها الثقافية، بعدما فقدت جذورها[54].
والمثقف الذي يحمل الأفكار الميتة تجعل منه وعاء لقبول الأفكار القاتلة أكثر من غيرها، وهكذا عقلية فرد ما بعد عصر الموحدين، فهي ل اتبصر غير الأفكار التافهة المنحطة، ولا تستورد غير الدونية أيضاً، وتكون النتيجة الانحلال والانحراف والتحلل، وهذا ما يشير إليه بن نبي في أفكار ما بعد عصر الموحدين قائلاً:((… فكذا مرقص، وكذا مقهى، وكذا كلية، وكذا برلمان= تحللا تاما… فأوروبا إذن تعطينا عناصر تحلل الأخلاق والمجتمع… لأننا بأفكارنا الميتة لا نرى أفكارها الحية المحيية…))[55].
ومن باب الإنصاف والاعتراف، بجهود المجاهد مالك بن نبي، استشرافه لحلول قضايا عصرنا الإشارة إلى مشروعه عن فكرة كومنويلث إسلامي.
محاولة للختـــم:
ونخبة القول، لعلنا بهذه الإشارات نكون قد أعدنا النقاش والتدارس لفكر المجاهد والفيلسوف الجزائري مالك بن نبي، الذي حمل هموم وتيه الحضارة الإنسانية عموماً كما حمل هموم التخلف الحضاري لأمته الإسلامية، فكان يشخص الأمراض، ثم يقدم أسبابها وعللها، دارساً تفرعاتها ومظاهرها وأوجهها المختلفة في العوالم التي يعيشها في العالم الإسلامي، في الأفكار والأشخاص والأشياء، وأختم هذه الدراسة بمقولة الأستاذ محمد المبارك في تقديمه لـ “وجهة العالم الإسلامي”: ((… إن مالكاً يبدو في كتابه هذا وفي مجموع آثاره لا مفكراً كبيراً وصاحب نظرية فلسفية في الحضارة فحسب، بل داعياً مؤمناً، يجمع بين نظرة الفيلسوف والمفكر ومنطقه، وحماسة الداعية المؤمن وقوة شعوره، وإن آثاره في الحقيقة تحوي تلك الدفعة المحركة التي سيكون لها في بلاد العرب أولاً وفي بلاد الإسلام ثانياً أثرها المنتج وقوتها الدافعة، وقلما استطاع كاتب مفكر أن يجمع كما جمع، بين سعة الإطار والرفعة التي هي موضوع البحث، وعمق النظر والبحث، وقوة الإحساس والشعور.
أنا لا أقول إنه (مالك بن نبي)، ولكن أقول إنه ينهل من نفحات النبوة، وينابيع الحقيقة الخالدة…))[56].
الهــوامش:
___________
[1] مالك بن نبي، مذكرات شاهد للقرن، إشراف ندوة مالك بن نبي، دمشق دار الفكر، ط الثانية 1994، ص19.
[2] انظر: مذكرات شاهد القرن، ص 19، مرجع سابق.
[3] نفسه، ص 53، بتصرف.
[4] انظر: مالك بن نبي مفكراً إصلاحياً، أسعد السحمراني، ص14.
[5] انظر: مذكرات شاهد القرن، ص 48.
[6] نفسه، ص66.
[7] نفسه، ص 66- 67.
[8] نفسه، ص 99.
[9] انظر: مذكرات شاهد القرن، ص 153.
[10] نفسه، ص 174.
[11] النجدة، مالك بن نبي، ص 5 نقلا عن: مالك بن نبي مفكراً إصلاحيا، ص 143.
[12] مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ص 19.
[13] مالك بن نبي، القضايا الكبرى، ص 43.
[14] الطيب برغوت، موقع المسألة الثقافية في إستراتيجية التجديد الحضاري عند مالك بن نبي، ص 10.
[15] مالك بن نبي، مشكلة الأفكار، ترجمة محمد عبد العظيم، ص 49.
[16] مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ص 29.
[17] مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 75.
[18] نفسه، ص 98- 99.
[19] آمنة تشيكو، مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي و وارنولد توينبي، ص 111.
[20] مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 73.
[21] مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ص 54. و شايف عكاشة، الصراع الحضاري في العالم الإسلامي، ص 54,
[22] شايف عكاشة، الصراع الحضاري في العالم الإسلامي، ص54.
[23] حديث (( لو أن فاطمة…)) رواه البخاري في كتاب الحدودو، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، رقم 6788، ج 4، ص 229. ومسلم في كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود، حديث رقم 1688، ج 3، ص 1315، وغيرهما.
[24] سورة المائدة: 9.
[25] يزيدرمرم، نظرية الدروة الحضارية عند مالك بن نبي ، جريدة الشروق الثقافي، العدد 15، 11/11/1993م، ص 13. و ميلاد مجتمع، مالك بن نبي، ص 40.
[26] مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 79.
[27] انظر: مالك بن نبي: إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، ص 34.
[28] انظر: مالك بن نبي: شروط النهضة، ص98- 99. ووجهة العالم الإسلامي، ص 31-40. ومشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص 7-18. والصراع الحضاري في العالم الإسلامي، ص 24-72.
[29] موقع المسألة الثقافية من استراتيجية التجديد الحضاري عند مالك بن نبي، ص 13.
[30] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص 90 -91.
[31] نفسه، ص 74.
[32] نفسه، ص 78.
[33] موقع المسألة الثقافية من استراتيجية التجديد الحضاري عند مالك بن نبي، ص 14.
[34] مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 132.
[35] سورة الأنفال: 63.
[36] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص 79.
[37] مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 124.
[38] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص 82.
[39] مالك بن نبي، مجالس دمشق، ص 110.
[40] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص 86.
[41] مالك بن نبي، مجالس دمشق، ص 111.
[42] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص88.
[43] مالك بن نبي مفكراً إصلاحياً، ص 132.
[44] مالك بن نبي مفكراً إصلاحياً، ص 132.
[45] مالك بن نبي، مشكلة الأفكار، ص 8.
[46] نفسه، ص 40-48، بتصرف.
[47] نفسه، ص 48.
[48] مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ص 37.
[49] نفسه، ص 37.
[50] مالك بن نبي، ميلاد مجتمع ، ص 36.
[51] نفسه، ص 37.
[52] انظر: مالك بن نبي، في مهب المعركة، ص 129.
[53] انظر: مالك بن نبي، في مهب المعركة، ص 131.
[54] مالك بن نبي، مشكلة الأفكار، ص 153.
[55] انظر: مالك بن نبي، في مهب المعركة، ص 133- 134.
[56] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص 11.
مركز نماء للبحوث و الدراسات