الإقلاع باتجاه حضارة:
التوتر الروحي ، أو الإيمان العميق بالمبدأ الذي يعتنقه الإنسان ، والاندفاع فيه والحماس له حتى يأخذ عليه مجامع نفسه ويملك عليه قلبه ، هو بداية الإقلاع عند مالك بن نبي كما ذكرنا في نهاية المقال السابق ، فلكي نبني حضارة ، أو نعيد دورة الحضارة لابد أن نصل إلى هذا المستوى من الاندفاع في تطبيق الإسلام..
يجب أن تعود شبكة العلاقات الاجتماعية لتربط الـعـوالـم الثلاثة (الأشخاص، والأفكار ، والأشياء) والمقصود بشبكة العلاقات هو الـقـدرة عـلـى التـعـاون والتنسيق بين هـذه العوالم الثلاثة واستخدام الأفكار والأشياء في محلها – المطلوب منها ، والأخـلاق الـعـالـية التي في ظلها يستطيع المجتمع إنتاج حضارته ، والمؤاخاة الحقيقية هي إحدى الدعائم الـرئيسيـة للإقلاع ، فـالـطـاقة الروحية التي دفعت سعد بن عبادة لأن يقول: “يا رسول الله خذ من أموالنا ما شئت، وما أخـذتـه مـنـهـا أحـب إلـيـنـا مما تركت” هي التي جعلت الصحابة يحفرون الخندق حول المدينة بأدوات بسيطة ، وبـأيـام قـلـيـلـة، وهـي الـتـي كانت وراء اعتراف المرأة الغامدية ، وهي تعلم أن عقوبة اعترافها هو الرجم بالحجارة ، وعندما تاب الله على الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فرح المجتمع الإسلامي بأسره، فهو مجتمع متماسك وشبكة العلاقات فيه قوية.
هذه الطاقة ضرورية للبدء ، لأن المسلم الآن قد لا يؤثر بالوسط المحيط به بقدر ما يتأثر هو بهذا الوسط (1).
في المجتمع الإسلامي الأول كانت شبكة الـعـلاقـات الاجـتـماعية على أعلى المستويات ، وعندما أفـل نجم هذا المجتمع في القرون المتأخرة كان مجـتمـعـاً ملـيـئـاً بـالأفكار (الكتب والمكتـبات) ومليئاً بالأشياء ، ولكنها لم تغن شيئاً لأن شبكة العلاقات كانت قـد تـمـزقـت وأصبح عالم الأشخاص عاجزاً عن أي نشاط مشترك ، وهذا هو الذي أشار إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قال: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل”(2).
كيف نعيد الفاعلية للمسلم؟ كيف نؤلف بين العوالم الثلاثة (الأشخاص والأفكار والأشياء) بانسجام وتوازن؟ كيف نعالج أكبر مرض يصيب العلاقات الاجتماعية ألا وهو مرض حب الذات أو تضخم (الأنا) عند الفرد؟.
– لا تـعـود الفاعـلـيـة للمسـلـم إلا بـعـودة ذلك الاندفاع في سبيل إقامة المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية ، ووضع طاقات الـفـرد في أحـسـن حالاتها ، وفي أقصى توترها ، وهذا معنى قوله تعالى “يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ”، وأحـسـن حالاتها أن توضع الطاقات بين حَدَّي الوعد والوعيد ، بين الخوف والرجاء ، فلا يـأس مـن روح الله ، ولا أمن من مكر الله ، وأن تتناسب مع التحدي المفروض عليها فلا هو أكبر منها فتشعر باليأس ، ولا هو أصغر منها فتتساهل وتسترخي ولا تقوم بالجهد المطلوب.
جاء الإسلام فوضع طـاقـات الـعـرب في موضعها المناسب ، فالكرم والشجاعة في الجاهلية كانا للفخر والاعتزاز، فوضعهما الإسلام في سبيل مبدأ ، في سبيل الله ، فالبطولة أصبحت مبرراتها في عالم الآخرة ولم تعد تدور حول (الأنا)(3).
إن المجتمع لا يـتـكـون مـن (كـومـة) أفـراد، بل بعلاقـات معينة بين هؤلاء الأفراد، وإذا أخـذنـا نموذجا من عالم الحيوان فـسنـجـد أنه كلما تعقدت المصلحة كلما كانت الفاعلية أكثر، هناك حيوان يعيش بمفرده ، بعـيدا عن نـظـام الأسرة ، ونشاطه يسد فقط حاجات بيولوجية بسيطة ، فإذا نظرنا بعد ذلك إلى حيوان يعيش في مستوى أعلى من هذا ، فإننا نرى العش الذي يبنيه الطير يعطي صورة للنشاط الاجتماعي في مستوى أرقى ، ولكنه دون مستوى الحيوان الذي يعيش في نظام أوسـع نطاقـاً من الأسرة كالنحل، فإنتاجه هنا يتسم بالفاعلية في صورتين: مادية ومعنوية ، فمن الناحية الأولى نرى أن نشاط النحل ينتج أكثر مـن حـاجات سـربـه، ومن الناحية المعنوية نرى أن هذا الإنتاج يفرض على خليته حـيـاة منظمة خاضعة لقوانين معينة، نجد في هذا المجتمع البسيط ظاهرة تقسيم العمل، وقد تزيد مهامها على عشرة أنواع من العمل(4).
إن الفرد في المجتمع الإسلامي، وبسبب ضعف العلاقات الاجتماعية لا تقدم له الضمانات والـمـبـررات التـي تجـعـلـه يقدم أقصى طاقاته، وكيف يقدمها وهو يرى الأنانية والتنافس البغيض، وقلة الـتـشـجـيع، والأهم من ذلك هو عدم وجود الخبرة الكافية في الـعـلاقـات والانعكاسات التي تنظم استخدام الطاقة الحيوية في مستوى الفرد وفي مستوى المجتمع(5) إن الذي يخطط للنهوض بالمجتمع الإسلامي يجب أن يكون لديه أفكار. جد واضـحـة عن هذه الأمور، كما أن عليه أن يكون خالياً من العقد البيروقراطية التي تنتاب الموظف، ومن أخلاق المغرمين بتملق الرأي العام(6) فعملية بناء كيان اجتماعي ليس بالأمر السهل، لأن العقد النفسية كما يؤكد العالم الأمريكي (مورينو) هي في العلاقة بين الأفراد فيما بينهم وليس داخل الفرد كما يقول (فرويد) (7) وكل علاقة فاسدة بين الأفراد. تولد فيما بينهم عـقــدا كفـيـلـة بأن تحبط أعمالهم الجماعية (8) فالذين يستطيعون ربط العوالم الثلاثة في توافق واتزان هم الذين يستطيعون تحريك القوى جميعاً في حركة دائمـة الـصـعـود ، وهذا بـطـبـيـعـة الحال لا يأتي إلا عن صف وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه (كَـأَنـَّهـُم بُـنـْـيـَانٌ مَّرْصُوصٌ)(9).
توجيه الثقافة:
في هذه المرحلة المهمة من البناء يرى مالك بن نبي أنه لابد من توجيه أمور ثلاثة:
1 – الثقافة.
2 – العمل.
3 – رأس المال.
فالانـتـقـال من حالة الجمود إلى الحركة باتجاه حضارة لا يحتمل التجارب الفاشلة ، والمسلم بسبب عقدة تخلفه يظن أن تخلفه يتمثل في نقص ما لديه من (أشياء) ولا يرده إلى الأفكار (10) بينما الحقيقة أن النشاط يصاب بالشلل عندما يدير ظهره للفكرة ، كما أن الفكرة تصاب بالشلل إذا ما انحرفت عن النشاط ، ونحن لا نستطيع بصفة عامة أن نعتبر عدد الكتب التي تخرجها المطبعة في عام دليلا على الصحة العقلية في بلد معين ، فلا بد من برنامج لتوجيه الثقافة (11).
يعرف مالك بن نبي فكرة (التوجيه) فيقول: ” قوة في الأساس وتوافق في السير ، ووحدة في الهدف ،فكم من طاقات وقوى لم تستخدم لأننا لا نعرف كيف نكتلها ، وكم من طاقات وقوى ضاعت فلم تحقق هدفها ، حين زحمتها قوى أخرى فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد وفي الوقت ، فهناك ملايين السواعد العاملة والعقول المفكرة في البلاد الإسلامية صالحة لأن تستخدم في كل وقت، والمهم هو أن ندبر هذا الجهاز الهائل في أحسن الظروف الزمنية (12 ) .
الثقافة مصطلح حديث النشأة وهي مرادفة لكلمة (Culture) الإنكليزية ، ويستخدمها كثير من الناس بمعنى (العلم) ولكن مدلولها أوسع من العلم، وقد عرفها مالك بن نبي بأنها “مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته وتصبح لا شـعـوريـاً الـعـلاقـة الـتي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه”(13) فهي المحيط الذي يشكل فـيه الـفـرد طـباعـه وشخـصـيته ، وهي المحيط الذي يعكس حضارة معينه ، والتعلم جزء من الثقافة ، وعندما يصبح الهدف هو الحصول على شهادات فنحن بـإزاء مـرض اسـمـه (التعالم) ونحن قد نجد رجلا يحمل شهادات عالية ولكن ليس عنده فعالية وقدرة على حل المشكلات ، بينما نجد رجلا آخر مثله في بلد آخر عنده هذه القدرة بسبب الثقافة التي تلقاها منذ صغره ، فالثقافة نظرية في السلوك أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة ، هذه الـثـقافة كيف نوجهها؟ كيف نركبها من أجزائها حتى تؤتي ثمارها؟ الشرط الأول لتحقيق مشروع ثقافي هو الصلة بين الأشخاص ، وهاهو القرآن يعطينا! فكرة عن أهمية هذه الصلة “لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ “ فأساس كل ثقافة هو بالضرورة (تركيب) و (تأليف) لعالم الأشخاص طبقا لمنهج تربوي ، أي أننا نريد للثقافة أن تكون وظيفة ، لبناء جيل مسلم تقوم على أكتافه الحضارة الإسلامية ” فالتعليم الفرنسي في الجزائر لم يمنح الجيل الجزائري الفعالية لأن الثقافة لا تشكل على مقاعد الدراسة ، واكن ضمن مجموع الإطار الاجتماعي الثقافي الذي يحيط بالفرد ، والمدرسة عامل مساعد من عوامل الثقافة ، ولكننا نخطئ في تقدير وظيفتها عندما نعتقد أن في إمكانها أن تحل مشكلة الثقافة وحدها”(14).
العناصر اللازمة للثقافة:
في مجال توجيه الثقافة لابد من التحديد السلبي أو تصفية أسباب التدهور والانحطاط ، ثم يأتي بعد ذلك التحديد الإيجابي ، وإذا كانت عملية التصفية قد قام بها البعض أو أنه من السهل القيام بها ، فإن التحديد الإيجابي لعوامل الثـقافة هو المهم ، والعناصر التي يؤكد عليها مالك بن نبي هي:
1- عنصر الأخلاق لتكوين الصلات الاجتماعية.
2 – عنصر الجمال لتكوين الذوق العام.
3 – منطق عملي لتحديد أشكال النشاط العام.
4 – التقنية أو (الصناعة) حسب تعبير ابن خلدون.
أولاً – توجيه الأخلاق:
ونعنى بالأخلاق: قوة التماسك اللازمة للأفراد ، هذه القوة التي استطاعت بناء المجتمع الإسلامي الأول ، حتى كان الرجل يعرض على أخيه المناصفة في كل شيء ، وبعض هذه الأخلاق كانت من أسباب بناء المدنية الغربية ، والشباب اليوم ينظرون إلى هذه المدنية في يومها الحالي ويضربون صفحاً عن أمسها الغابر ينسون أنه لولا صلات اجتماعية خاصة ما قامت هذه الصناعات ولما قام هذا العلم ، ونظرة إلى جامعة من جامعاتهم ترينا أن أساسها كان دينياً قامت به جمعية خيرية دينية ، بل إن كلمة دين عندهم (Religion) تعني في أصلها اللاتيني الربط والجمع(15).
ثانيا -المنطق العملي:
إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة أو العقل المجرد، فهذا متوفر فهي بلادنا، ولكن ينقصه منطق ،العمل والحركة ، كيف يصرف المسلم وقته؟ كيف ينفق أمواله؟كيف يستغل علمه؟ مع الأسف إن جزءاً كبيراً من حياتنا يذهب عبثا ، فالمسلم أحيانا لا يفكر ليعمل بل لـيـقــول كلاماً مجرداً، بل اكثر من ذلك، فهو أحيانا يبغض الذين يفكرون تفكيراً مؤثراً، ولـنـنـظـر إلى الأم التي تربى ولدها فهي إما أن تبلده بمعاملة وحشية ، وإما أن ترخي له العنان وتتميع معه ، إن الوهن والسخف يطبعان منطق قولها(16).
ثالثا: الذوق الجمالي :
إذا كان المبدأ الأخلاقي يقرر الاتجاه العام للمجتمع بتحديد الدوافع والغايات ، فإن ذوق الجمال هو الذي يصوغ صورته ، وهو شيء مطلوب فوق الضروريات والحاجيات ، وعندما ذكر الله سبحانه وتعالى خلق النجوم وغاياتها ذكر منها (الزينة) “ولَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمـَصـَابـِـيـحَ وجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ” وكذلك عندما ذكر خلق الحيوانات “ولَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وحِينَ تَسْرَحُونَ” وقد ورد في الحديث “إن الله جميل يحب الجمال” وذلك في معرض رد الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الصحابي الذي سأله عن اللباس الحسن والنعل الحسن هل هذا من الكبر فالذوق الرفيع من العناصر الإيجابية في الثقافة ، فالتناسب والتناسق في الأشكال والأشياء يعطي للإنسان راحة نفسية ، والمنظر القبيح المتنافر لا يوحي بأي خيال جميل ، وقد كان الرسول – صلى الله عليه وسلم- من أزهد الناس ولكنه كان ينفر من ألوان معينة ، ويشجع الناس على النظافة والاهتمام بالمظهر الحسن وخاصة في المساجد وأيام الجمع والأعياد.
إن تربية الذوق الحسن في الأمة هو جزء من ثقافتها ومؤشر على درجة ثقافتها.
رابعاً – الصناعة أو (التقنية):
عرَّف ابن خـلـدون الـصناعة بأنها: ملكة في أمر عملي فكري (17) وهذا تعريف دقيق لما يسمى الآن (التقنية) فهي تحتاج إلى العلم والممارسة اليدوية حتى ترسخ مع الزمن وتصبح (ملكة) كما عـبـر عنها ابن خلدون ، وهذه الصناعة لا تكون إلا في مجتمع متحضر ، لأن المجـتـمـع الـبـدائي يحتاج إلى أمور بسيطة لا تحتاج لتقنية ، فوجودها يدل على درجة الـتـحـضر والـعـلـم ، فلابد أن يكون في المسلمين فئة تتقن هذه (الصناعة) وتبدع فيها مما يناسب الإسلام والحضارة الإسلامية، وتبتعد عن شرور سيطرة (الآلة) على الإنسان، وهذا يحتاج لمجـلـس للـتـوجيه الفني ليحل نظرياً وعملياً المشكلة الخطيرة للتربية المهنية تبعاً لحاجات البلاد(18).
وإن الإمكانيات في البلاد الإسلامية لتسمح بتكوين القيادات التي تشرف على طريقة تنفيذ هذه (التقنية) وأن تخضع لثقافة المسلم وذوقه المتميز . هذه العناصر التي يرى الأســـتــاذ مـالـك بـن نبي أنها من مكونات الثقافة وأنها تحتاج لتوجيه معين لاشك أنها تصلح لكل مجموعة بشرية أو لكل أمة تبحث عن ثقافتها الخاصة ، وكأن مالك استلهم هذا التحديد من علماء الاجتماع والحضارات في أوربا ، وكـان الأولى أن يـذكــر زيادة على هذا العناصر الخاصة بالثقافة الإسلامية، إن عنصر الأخلاق مثلاً أو الذوق الجمالي يتبعان عقيدة المسلم وتصوراته الخاصة ، فهل يقال للمسلم يجب أن يكون عندك ذوق في الموسيقى أو النظر إلى فن التصوير؟! لاشك أن للمسلم خصوصياته في هذا المجال…
** يتبع **
المصدر : مجلة البيان
الهوامش:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مالك بن نبي: ميلاد مجتمع/105.
(2) سنن أبي داود 4/111.
(3) تأملات/38.
(4) المصدر السابق/32.
(5) ميلاد مجتمع /72.
(6) المصدر السابق /107.
(7) المصدر السابق /41.
(8) ميلاد مجتمع/42.
(9) المصدر السابق/70.
(10) مشكلة الثقافة/71.
(11) المصدر السابق/67.
(12) شروط النهضة/117.
(13) مشكلة الثقافة/71.
(14) آفاق جزائرية/99.
(15) شروط النهضة/134.
(16) السابق/147.
(17) مقدمة ابن خلدون 2/935
(18) شروط النهضة/149.