شكل فكر مالك بن نبي في فترة من الفترات “طابوها” لا يجرأ أحد على الخوض فيه، في وقت كان يعتمد كقاعدة للتأسيس والبناء في بلدان أخرى، لكن هذا المفكر بدأ ينفض الغبار عنه ليرى النور من جديد… عن هذه العودة وعن أهمية فكر مالك بن نبي، حدثتنا رحمة، أصغر بنات مالك بن نبي، خلال هذا الحوار الذي خصت به جريدة البلاد، كما خاضت في إشكالية الإسلام والمسلمين اليوم ووضع الجالية المسلمة في أمريكا، باعتبارها تعيش في بلد العم سام منذ 23 سنة وعن أشياء أخرى…
هل يمكننا بداية أن نتعرف عن رحمة مالك بن نبي؟
رحمة مالك بن نبي هي ثالث وأصغر بنات المفكر الجزائري مالك بن نبي، ولدت وكبرت في الجزائر، درست الطب بجامعة باب الزوار، ثم سافرت إلى أمريكا بعد زواجي، وهناك التحقت بجامعة كاليفورنيا ودرست الكيمياء الحيوية…
لديك تجربة في تنشيط مناظرات أو حوارات دينية في أمريكا هل يمكننا أن نعرف المزيد عن هذه التجربة؟
لا أقول مناظرات وإنما حوار فكري وثقافي، تعريفي أكثر بالإسلام وتعاليمه السمحاء، فأنا أعيش في أمريكا منذ 23 سنة والواقع هو الذي فرض عليّ الخوض في هذا المجال، سئلت مرة ما هي اهتماماتك، قلت يا ليتني أستطيع اختيار اهتماماتي، فالواقع يفرض عليّ كفرد مسلمين يعيش في كنف محيط أجنبي أن أحمل على عاتقي مسؤولية التعريف بشخصي وبما أحمل من تطلعات وآمال ومن اختلافات وتشابه مع الآخر، أي التعريف بهويتي من أكون؟ وقد بدأت في هذا المسعى منذ أن وطأت أقدامي أرض أمريكا وأحسست بمتطلبات الجالية المسلمة التي أنا جزء منها، وبواجبي تجاهها لتقديم ما أقدر عليه، ثم نمت التجربة وتطورت وأصبحت اليوم أدعى لتنشيط ندوات ومحاضرات.
وكيف تتعاملين مع المسلمين في أمريكا على اختلاف جنسياتهم؟
تتألف الجالية المسلمة في أمريكا من حوالي خمسين جنسية، وهذه أعتبرها نعمة من الله، فنحن في أمريكا نعيش الوحدة الإسلامية كواقع وليس كحلم ونجسد المواطن العالمي.
على ذكر المواطن العالمي، أمريكا اليوم تسعى من خلال العولمة إلى ترويج النمط الأمريكي وجعله السائد في العالم على حساب القيم والخصوصيات والدين، أليس هناك تهديد باضمحلال قيم ومعتقدات المسلم وهو في عقر دارها خاصة بالنسبة للجيل الجديد؟
بالعكس أنا أظن أنه يقوى من الشخصية الإسلامية، بحيث تمحورت المخاوف فيما سبق بالنسبة للجالية المسلمة في أمريكا حول ضياع الجيل الجديد، لكن العكس هو الذي وقع، بحيث شهدنا تمثيلا أقوى للقيم، وأمريكا في حد ذاتها هي نسيج من عدة جنسيات، لذلك من السهل الحفاظ على خصوصيتك ضمن هذا الإطار العام. فعندما حل المسلمون بأمريكا كان هذا الخوف متمكنا.. ماذا لو ضاع ابني؟ ماذا لو تنكر لأصله ولثقافته كمسلم؟ هذا الخوف نفسه كان حافزا على العمل، ففي البيئة الإسلامية الأم تربي بشكل عفوي، أما في أمريكا فالأم تربي وكأنها تقوم بعملية علمية دقيقة، والشباب المسلم في أمريكا لا يعاني من الانفصام في الشخصية، طبعا أنا أتحدث بشكل مجمل، فلا يمكن أن ننكر وجود بعض الحالات التي تنصلت من أصلها، لكن بشكل عام الشباب المسلم أدرك هويته وهو يعتز بها وبما تحمله من قيم.
تكلمت على اعتزاز العربي بعروبته وإسلامه، بعد أحداث 11 سبتمر وتغير نظرة العالم للإنسان المسلم عامة والعربي خاصة، هل ما زال هذا الشعور بالاعتزاز بالذات العربية موجودا؟ بعبارة أعم ما هو واقع الفرد المسلم وخاصة العربي في أمريكا بعد أحداث سبتمبر الأسود؟
الأحداث إذا نظرنا إليها كنقطة تغير فهي ليست نقطة تغير بالنسبة للفرد المسلم في أمريكا، وإنما هي نقطة تحول بالنسبة لأمريكا بشكل عام، لأن تقلص الحريات لا يمس فقط العربي أو المسلم، صحيح أن بعض المسؤوليات تقع على عاتق الفرد المسلم، بما أن الإسلام هو الذي قرن بهذه الأحداث، بحيث تضاعفت الواجبات والجهود التي يجب أن يقوم بها المسلم للتعريف بنفسه من هو، وهنا أريد أن أوضح أن هناك فرقا بين المؤسسة من جهة والشعب الأمريكي من جهة ثانية، فالشعب الأمريكي يقبل الآخر لأنه أصلا خليط من هذا الآخر.
لكن ما لوحظ مؤخرا هو وجود هجمات شرسة ضد الإسلام ونية مبيتة في تشويه صورة العربي والمسلمين خاصة من خلال وسائل الإعلام؟
صحيح أن للإعلام دور كبير في تكوين نظرة الأمريكي للمسلم، لكن ما زالت هناك مساحة كبيرة للعمل الإيجابي، بالرغم من كل السلبيات، فإذا أخذناها مثلا من الناحية الديمغرافية، اليوم عدد المسلمين في أمريكا أقل التقديرات تقول أنهم 6 ملايين مسلم، فإذا كل مسلم أحتك بخمسة أمريكان، وأعطى صورة جيدة عن الإسلام والمسلمين فمهما روجت وسائل الإعلام لن تجد من يصدقها، ومن ثمة نخرج من التعميم لأن القضية في الحقيقة هي قضية تعميم. وذلك لن يكون إلا بتوعية الست ملايين وتلقينهم كيف يمكن أن يكونوا فاعلين وكيف يعكسون الصورة الحقيقية للإنسان المسلم، ليس بالكلام ولكن بالفعل، لأنه بالفعل فقط بمكن أن نؤثر على الآخر.
هل هذا يعني أنك لا ترين ضرورة للمناداة بحوار الحضارات الذي تبناه العلم اليوم، خلفا لنظرية صراع الحضارات التي أسسها الأمريكي هتنغتون؟
لسنا أحرارا في قبول أو رفض حوار الحضارات، لأن هذا هو التطور الطبيعي للتاريخ، فالعالم ضاق وأصبح قرية واحدة ولا بد من التعايش ولا يمكن التعايش دون أسس للتحاور، لكن التحاور لا يقوم بين قوي وضعيف وإنما يقوم على المساواة في الأسس بالارتقاء أولا إلى مستوى الإنسانية بقبول الآخر.
لكن الإنسان العربي ما زال يعاني من عقدة النقص ورؤية الآخر دائما على أنه الأفضل، كما أن قوة وسيطرة الغرب وعلى رأسها أمريكا حقيقة لا ينكرها عاقل. فكيف يمكن تحقيق هذا التوازن؟
لا بد على العالم العربي من أن يدرك حقيقة ما يملك من قوة، فقوتنا تكمن أولا في تواجدنا الديمغرافي، وثانيا فيما نؤمن به من أفكار، فالقضية هي كيف أرتقي بهذا المسلم الذي يشعر بالانهزام ومنحه الشعور بالاعتزاز، وهذا لن يكون إلا من خلال إحداث تغيير داخلي والاقتناع بأن لدي ما أقدمه للآخر ولدي ما أستفيده منه، هذه قوتي، فالأمر يستدعي تغيير ثقافات وليس الثرثرة والكلام في الفراغ، أقر أن هذا العلاج لن يكون سريعا كما نشتهي، ولكن بخطى صغيرة مع رؤية شمولية نستطيع أن نغير وأن نفرض احترامنا على الآخر.
كان لك اهتمام أيضا بالمرأة وقضايا المرأة، هل يمكن أن نضطلع على رؤيتك في هذا المجال؟
أرى بداية أن أهم شيء هو تصحيح الرؤية لهذا الموضوع، فأنا أرفض ما يردد من مصطلحات حول مشكلة المرأة وقضايا المرأة، كأننا أردنا أن نقنع المرأة ومن حولها المجتمع بأنها مشكلة، في حين يجب النظر إليها في إطار إنساني حضاري، صحيح أن للمرأة خصوصياتها، لكن القضية هي قضية الإنسان في مجمله، وإذا نظرنا للمرأة كمشكل منعزل، سيكون حل هذا الواقع الذي نريد تغييره جزئيا، قد لا يتوافق مع الظروف الاجتماعية والثقافية العامة، حتى والدي كان لديه نظرة في هذا المجال، بحيث يقول أنه إذا أردنا حل مشكل المرأة، يجب النظر إليها أولا على أنها محاولة لرفع مستوى المجتمع ككل.
هذا يدفعنا للحديث عن المساواة بين الرجل والمرأة التي تطالب بها الجمعيات النسوية في الجزائر؟
لست أطالب أحدا أن يمنحني المساواة لأنني أؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد منحني إياها، وهنا يجب أن أوضح أن هناك ثلاثة أنواع من القيم، هناك القيمة الثابتة، وهي تلك التي كرم الله بها عباده، وهذه أنا لا أطالب بها، وهناك القيمة الاجتماعية وتتمثل في كل ما يمنحه المجتمع من تسهيلات وهو ما يسميه ملك بن نبي بالحضارة، ثم تأتي القيمة الذاتية التي تتموقع بين القيمة الثابتة والاجتماعية. واستغل الفرصة هنا للتنبيه لقضية هامة وهي عدم الوقوع في حلقة مفرغة بخوض نقاشات لا تستحق، وإن كانت أساسية، كل ما نمنحها من وقت وجهد وننشغل بها عما هو أهم.
باعتبارك امرأة مسلمة ومتحجبة تعيش في بلد غربي، كيف تنظرين الى القانون الفرنسي القاضي بمنع الحجاب في المؤسسات التعليمية؟
أولا هذا السؤال يتطلب النظر إليه من شقين، إذا قلنا هل يحق لفرنسا كدولة مستقلة أن تصدر قرارا في هذا الاتجاه، الواقع يفرض نفسه، نعم يحق لها ذلك، لكن هل هذا يعني أننا راضين عن هذا القرار، لا، وهل هذا يعني أنه لا يشكل تراجعا في سلم الحقوق والحريات الفرنسي، أيضا لا، هناك سؤال يجب أن تطرحه فرنسا على نفسها وهو، هل هذا القرار يخدم فعلا مصلحتها. أما أنا فلا أعاني أي إشكال من ارتدائي الحجاب في أمريكا، لأن الإنسان الأمريكي بطبيعته يتقبل الآخر، لأنه ليس هناك شعب أمريكي- كما سبق وذكرنا – وإنما خليط من الشعوب، والغريب أن الحجاب يثير الإعجاب في أمريكا أكثر إثارته للذم، عندما كنت أدرس في جامعة كاليفورنيا، كثيرا ما كنت أتلقى عبارات ثناء واحترام. فالقضية هي أن نحترم أنفسنا ومن ثمة نفرض على الآخر احترامنا.
نعود الآن للحديث عن المفكر مالك بن نبي وقبل ذلك هل يمكنك أن تعرفينا بمالك بن نبي كأب وكإنسان؟
ملك بن نبي كان مفكرا في الدرجة الأولى، وأبا في الدرجة الأولى، ولم يكن هناك تعارض بين بن نبي المفكر والأب، ورغم أن عمري لم يكن يتجاوز العاشرة عندما فارقنا في خريف 1973، أشعر أنني عايشته طويلا خاصة من خلال كتاباته.. من المصادفة أنني كنت أكتب قبل أيام عن هذه الفترة التي عايشت فيها والدي، فتذكرت أنه كان شديد الرقة، فرغم عظمة وتعقيد المواضيع التي كان يتناولها بالدراسة والتحليل والنقاش، على غرار قضية قابلية الاستعمار التي أثارها رئيس الجمهورية مؤخرا في خطابه بتلمسان، وغيرها من القضايا، بالمقابل كان لديه حس رقيق جدا أذكر أنه كانت هناك أغنية جزائرية عن الأم، يقول مطلعها “لالة لميمة مشيتي وما جتيش والطريق بعيدة البرية ما تمشيش…” كلما كان يسمعها يبكي كالطفل الصغير هذه الصورة ما زالت عالقة في ذهني، كما أنه كان يعمل بحديث الرسول صل الله عليه وسلم الذي يقول خاطبوا الناس على قدر عقولهم”، فإذا رأيناه مع طفل كان طفلا، وإذا رأيناه مع امرأة عجوز كان مصغيا ومتفهما، فكان يعطي كل واحد حقه. أما بالنسبة لمالك بن نبي كشخص أعتقد أن الجواب على هذا السؤال بشكل أوضح سيصدر عما قريب في كتاب للسيد نور الدين بوكروح، الذي أعتقد أنه أقدر مني على التعريف بمالك بن نبي، لأنه عايشه فترة طويلة امتدت من أواخر الستينات إلى السبعينات، فهذا الأخير بصدد القيام بعمل ذي أهمية كبرى في التعريف بفكر مالك بن نبي وارتباطه بالواقع الراهن وبحياته ليس كولع وإنما كإطار تكوين لهذا الفكر.
هناك عودة ولو أنها تبقى محتشمة لفكر مالك بن نبي على الساحة الثقافية الجزائرية بعد تغيب طويل، ما رأيك؟
مالك بن نبي كان يقول قبل وفاته أنه سيعود بعد 30 سنة، وهذا ما حدث فعلا، بعد ثلاثين سنة من رحيله نظم حوله ملتقى في 2003 بفندق الأوراسي، لكن الاهتمام بمالك بن نبي بدأ في التزايد في أواخر الثمانينات، حسب اطلاعي، حيث نظمت أول ندوة بجامعة وهران سنة1989، والعودة لفكر مالك بن نبي أصبحت واقعا يفرض نفسه، بعدما أثبتت الأفكار الأخرى إفلاسها في الساحة، فنحن اليوم نواجه مشكلة كيف نخوض العولمة التي أضحت حقيقة واقعة وبن نبي تحدث عن العولمة وأعطانا بعض الرؤى التي تمنح التوازن بين الخصوصية والانفتاح، بحيث كان يؤمن بأن الحداثة والعولمة ممكنة في إطار إسلامي، فهو قدم هذا التناسق الذي نبحث عنه. تحدث أيضا عن قضية الثقافة وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية التي تطمح إليها كل الدول، مؤكدا بأن تحقيقها لن يكو إلا بتطور ثقافي مواز، مشددا على أهمية بناء الثقافة الصحيحة.
ألا تعتقدين كذلك أن تغير السياسات كان له دور أيضا في عودة الحديث عن بن نبي؟
بن نبي نفسه كان يدرك أنه لا بد من تغير في الصميم حتى ترى أفكاره النور، لأن التداعيات الموضوعية اليوم جعلت صحة تحليله ونظرته تبرز جليا، بالإضافة إلى جهود البعض الذين ساعدوا على إحيائه من جديد.
وما موقفك من التكريمات –على قلتها- التي خص بها بن نبي مؤخرا بما فيها الملتقى الدولي الذي نظم في 2003؟
أريد أن أوضح نقطة وهي أن بن نبي لم يسع أبدا للتكريم، كان يبحث على ما يقدمه وبما يمكن أن يخدم به وطنه، ثم دينه وبعدها العالم ككل، لأن فكره تجاوز حدود الزمان والمكان، ولكن الحمد لله هذا الاهتمام بفكر مالك بن نبي أراه خدمة لمالك بن نبي، تحدثت عن ملتقى 2003 الذي لم أدعى إليه، قبله نظم في 1991 أول ملتقى دولي حول والدي بماليزيا، ومؤخرا نظم ملتقى في قسنطينة بمناسبة مئوية مولد مالك بن نبي، ونأمل أن تكون هناك نشاطات أخرى تعرف ببن نبي، خاصة وأن أول ما ينطق اسم مالك بن نبي يقال المفكر الجزائري.
رغم أهمية فكر بن نبي، نجده غائيا عن البرامج الدراسية في الجزائر بما فيها الجامعات، في حين نجده حاضرا في العديد من دول العالم بما فيها أمريكا وألمانيا؟
غياب فكر بن نبي من الجامعات والمدارس يعود إلى حالة الإقصاء العام التي طبقت على مالك بن نبي وفكره في فترة من الفترات، ونحن في طور إعادة النظر في المناهج حتى نبني -كما ذكرنا- ثقافة من أجل تنمية تكون منسجمة مع إطار العالم الجديد، أنا أرى أنه يتحتم علينا إدراج فكر بن نبي في برامج التعليم الثانوي والجامعي، وهذا يرجع طبعا لقرارات رسمية، فالسلطات لا بد أن تنظر في هذا الاتجاه، خاصة أن هناك اعترافا رسميا بمكانة فكر بن نبي في الساحة الجزائرية.
________________________________________
*
نشر الحوار في يومية البلاد الجزائرية.