خصص مالك بن نبي لإشكالية النهوض كتابا كاملا (شروط النهضة)، حاول فيه معالجة هذه المسألة بمفاهيم ومنظورات مخالفة للمألوف في الكتابات التي سادت قبله. والقارئ لابد أن يفاجئه مبتدأ الكتاب،إذ يلقى أمامه فصلا معنونا ب”دور الأبطال”، حيث يستحضر بن نبي مفهوم البطل في الإلياذة والأوديسة. وهنا لابد أن يهجس بداخل القارئ هذا الاستفهام:
ما دلالة هذه الإحالة على الأسطورة الإغريقية في متن مخصص لبحث شروط النهوض بالعالم الإسلامي؟
أراها التفاتة ذكية من ابن نبي، فالإحالة على شخصية البطل في الأسطورة الإغريقية، إحالة على ذاك الذي يقاتل ويصارع ليس من أجل النصر، بل هو يعلم مسبقا أن مصيره الهزيمة، غير أنه يستمر في القتال. وابن نبي يريد بهذا أن يحيل على تجربة محاربة الاستعمار في العالم العربي والإسلامي، ليؤكد أن قتالنا للاستعمار كان شبيها بقتال الأبطال في الإلياذة والأوديسة الإغريقيتين، أي أنه قتال محكوم مسبقاً بهزيمة البطل، فالأمير عبدالقادر وعبدالكريم الخطابي، هما بطلان خالدان بلا شك، لكن حركتهما التحريرية لم تعالج جذر المشكلة ؛بل ولا في إمكانها أن تنجز هذه المعالجة. لذا يرى مالك بن نبي أن هذه المعالجة لن تبدأ إلا مع جمال الدين الأفغاني.
إن الانتقال من عبدالقادر وعبدالكريم إلى جمال الدين الأفغاني انتقال من السلاح المادي إلى سلاح الكلمة /الفكرة.
فما هي حقيقة هذه الفكرة التي يراها ابن نبي قابلة لأن تؤسس النهضة؟
في تحليله النقدي لمشاريع وأطروحات النهوض التي أنتجها الفكر الإسلامي بدءا من الأفغاني، يلاحظ ابن نبي أن مختلف تيارات الفكر النهضوي لم تعالج المرض، وإنما اقتصرت فقط على معالجة أعراضه. بينما مشكلة النهضة ليست مشكلة سياسية ولا أخلاقية، بل مشكلة حضارية. ولا تتحقق الحضارة إلا بتفعيل شروط إنتاجها، وليس بتقليد أو استنساخ أجزاء من هنا وهناك؛ فالحضارة ليست بضاعة حتى تشترى بأوراق البنكنوت، بل الطريق إليها هو الفعل الإنتاجي.
فكيف يمكننا أن ننجز نحن هذه النقلة الحضارية المنتجة؟
يجيب ابن نبي: إن “كل ناتج حضاري تنطبق عليه الصيغة التحليلية الآتية: ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت”. وبناء على هذا التحليل لتركيب الحضارة يستنتج أن مشكلة النهضة الحضارية تنحل إلى ثلاث مشكلات مترابطة هي: مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت.
فما هي المعالجات التي بلورها ابن نبي في تحليله لهذه المشكلات الثلاث؟
في ما يخص المشكلة الأولى يرى أن أية حضارة تبدأ من الإنسان؛ أما المادة فمهما كان مقدارها وقيمتها تبقى مجرد كم مكدس لا يمكن أن يثمر حضارة إلا بالاستعمال الصحيح لها من قبل الكائن الإنساني. ولذا لابد من نقطة البدء، أي التغيير النفسي ليصبح الإنسان غنيا بأفكاره لا بأشيائه.
أما التراب (أو المادة) فالمشكلة المرتبطة به لا تتحدد بندرته أو بوفرته، بل بكيفية التعاطي معه. وهنا يشير ابن نبي إلى أنه في القرن التاسع عشر كانت مكانة الدول والشعوب تقاس بمقدار مصانعها وأساطيلها ومدافعها ورصيدها من الذهب؛ غير أن القرن العشرين شهد تحولا نوعيا في قياس القوة، حيث لم يعد المعيار شيئياً بل فكرياً.
إلا أن المجتمع المتخلف لا يزال يقيس التقدم بإرجاعه إلى عالم الأشياء. ثم إذا ترقى قليلاً فإنه ينتقل من توثين عالم الأشياء إلى توثين عالم الأشخاص؛ فتجده متعلقا بالقائد الزعيم من دون أن يدرك أنه بذلك يعطل فاعلية الإنسان في المجتمع.
ولا نهضة لمجتمع إلا بأن يكون عالم أشيائه وأشخاصه دائراً حول عالم الأفكار لا العكس.
وفي تحليله “للوقت/ الزمن” يدهشك مالك بن نبي بلغته الفلسفية الشاعرية، حيث يتحدث عن الزمن بوصفه ذاك النهر القديم الذي يعبر العالم بصمت، حتى انه لا يُنتبه إليه، بل تتناساه الحضارات في لحظة غفلتها. حتى إذا وقعت الواقعة وأصبح الوقت شرطا ضروريا للمحافظة على البقاء، أو تحصيل الثراء، أو النعم الفانية تناهى إلى سمع الناس صوت الساعات الهاربة.
جريدة الخليج 16/02/2008