دور الفعل النهضوي فى البناء الحضاري

عدد القراءات :3094

توطئة :
” ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الاجتماعى. و فى كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم على وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، باعتباره مصدرا للطاقة.”هذا ما قاله مالك بن نبي من حوالي نصف قرن و قد ارتأيت الانطلاق من هذا التصور و الاستعانة به في تحرير هذا البحث . فالمسلم في أيامنا هذه، لا يزال يعانى من خلط في المفاهيم و ضبابية المصطلح ، كيف يكون الإيمان طاقة و كيف له تفعيل هذه الطاقة و كيف له أن يذهب إلي الفعل مباشرة دون مواربة ؟ أسئلة جد حيوية في توقيت زمني صعب و فريد.

1- الفعل ابتداء :
الإيمان في ذاته، فعل ذات أهمية قصوى. ترجمان هذا الإيمان هو الفعل، لهذا ما يسبق الفعل هو ما وقر القلب، و من ثم تتجسد النية فعلا.
لماذا ذهب المفكر الإسلامي الراحل مالك بن نبي رحمه الله إلي الطاقة التي يمثلها الإيمان في ذات الإنسان ؟ لأن الكائن العاقل كالسيارة عندما تمتلئ وقودا بإمكانها التحرك و المحرك لدى الإنسان المسلم هو طاقة الإيمان المودعة فيه و التي تحمله على القيام بمجموعة أفعال تأتى تجسيدا لنيته، تفكيره و تدبيره. استشعار الله في أنفسنا و في الآخرين يملأنا رغبة في التصرف وفق تصور معين، نختلف فيه عن بقية البشر. فعملية التعبئة التي يعرفها المسلم المؤمن دون سائر الناس هي من نوع خاص، تمنحه يقينا و قوة و رؤية صائبة، فيأتي تحركه وفق هذه المعطيات. فالفعل هو مظهر إيمان و تقوى الإنسان، كيف نحكم علي إسلام العبد لولا سلوكه ؟ و كيف تنبني الحضارة لولا تخطيط محكم متجسد عبر مشروع حضاري أعملنا فيه العقل و حملناه قيمنا و فعلناه بإيماننا. و الفعل أقسام :

1- الفعل الرتيب: يكاد يكون آلي، ألفناه من شدة التكرار، فالمجموعة الإنسانية ملزمة بالقيام بأفعال متشابهة يوميا، أي كان الظرف أو المكان. و هذه الأفعال من فرط الاعتياد عليها، وصفت بحركات عادية يقوم بها صاحبها لتحقيق مآرب مألوفة كاللبس و الأكل و المشي و النوم و الاستيقاظ. و هذا الفعل لا يشترط تفكير طويل، نقبل عليه بفعل العادة مرة و بفعل الغريزة تارة أخرى.

2- الفعل الفعال: و هو الذي يصنع الحدث و الحضارة في آن، لا لبس فيه و لا ارتجال، يأخذ طريقه إلى التنفيذ بعد دراسة و تخطيط و موازنة و له أهداف بينة. و لهذا الفعل فعالية عملية، تحمل الشخص و الجماعة على التفاعل و الإبداع.

3- الفعل الفاعل الإيجابي: و يقترن هذا الفعل بنسبة عالية من الفعالية، فيصيب هدفه و الفائدة التي نجنيها منه إيجابية و ذات مردود آني. يعتمد هذا الفعل التغيير و البناء في آن، ينطلق من واقع معين مستهدفا تغييره، و يضفى نسبة كبيرة من الإيجابية على الإنجاز في طور تحقيقه. فالتغيير عادة ما يصعب أمام عناد العادة و أثرها، يركن الإنسان إلي السهل بحكم العادة، و كسر هذا الإطار يستوجب درجة فائقة من إعادة التركيب و تفعيل الإرادة الذاتية للشخص، فترك أو تحويل معطي ما على أرض الواقع يستلزم إيمان بضرورة التحرك و فعالية في الإنجاز و دقة في الأداء.

4- الفعل المنفعل: و هو عبارة عن ردة فعل و هذا ما نعيش عليه هذه الأيام، نحسن الانفعال دون جدوى تذكر. فالانفعال غالبا ما يكون ذاتيا لا ينم عن تدبير أو تحضير، و عادة ما يأتي اعتباطا عفويا كرد عن فعل ما أو موقف ما.
و الفعل الذي يعنينا هما الفعلين الثاني و الثالث و هما متكاملان، يستدعى الثاني المنظار الحضاري الذي من خلاله نستطيع أن نحدد الوجهة المنتقاة و يشترط الثالث ثقافة تضع الأدوات اللازمة للذهاب إلي المشروع. فالفعل تعبير عن إرادة و رؤية الإنسان و في فعل التوحيد، نري الإنسان المسلم خاضعا خضوعا تاما لله الواحد الأحد و هذا التسليم بوحدانية الخالق يفترض إفراده بالعبودية الكاملة، و من ثم تغدو عملية البناء موجهة لله سبحانه. فالاستخلاف مهمة من امتلأ بنور الإيمان و بلغ يقينه درجة التفاعل مع المحيط، التفاعل الذي نرمى منه إقامة المجتمع المسلم السليم و المزدهر. فالفعل يخرج من دائرة الشخص ليصطبغ ببعد شمولي، فالمسلم لا يريد الخير لنفسه فقط بل إلي كل إخوانه في العقيدة و في المستوي الثاني إلي كل إخوانه في الإنسانية و في صلاح الفرد صلاح الأمة. يتعدى فعل المسلم المؤمن إطاره العادي ليشمل و يلتحق بسائر الأعمال و الأفعال الصادرة عن ملايين من الأفراد، و لكي يتخذ هذا الفعل بعده الحضاري لنا أن نربطه بتصور سابق يلتصق بالتوحيد أولا و بالعبودية ثانيا و بالفلاح ثالثا. ماذا نريد لأنفسنا و للآخرين و كيف نتمكن من توحيد الصفوف بإخراج العمل الجماعي في ثوب التوحيد الفاعل ؟ لنا أن نتمثل جيدا هذه الحقيقة ” يكون استشعار الله في اتقاء غضبه و سخطه و في اقتفاء سبيله و في الرجاء في مرضاته .” و كلا الفعلين الفعل الفعال و الفعل الفاعل الإيجابي يصبان في مسار محدد، مسار النهضة المفضية إلي تحقيق العبودية لله .

2- التكريس العملي للعبودية :
طاعة الله و رسوله الكريم محمد صلى الله عليه و علي آله و سلم من علامات العبودية الخالصة لله. و لا تتأتي هذه الطاعة و القلب و العقل غافلان عن التوحيد و عن إفراد الخالق بالعبودية و الربوبية. فالإقرار بوحدانية الخالق لا تكفى لوحدها، فما يجب أن يتبعها وعى تام بوجوب الرجوع إلي الله في كل شيء، في الصغيرة و الكبيرة، في العامة و الخاصة، جماعات و أفرادا. ذكرنا مالك بن نبي بأمر كثيرا ما نغفله في هذه العقود الأخيرة، المسلم ليس في حاجة إلي دعوته إلي الإسلام، فالمسلم و المسلمون من المحيط إلي المحيط يعلمون أن للحياة خالق و أن محمد رسول الله و خاتم أنبياءه عليهم الصلاة و السلام، و نراه يؤمن بالميعاد و الجنة و الجحيم و الملائكة و الكتب السماوية و لكن هذا الإيمان لا يعدو أن يكون إقرارا بحقائق مطلقة، هل يستشعر مسلم زماننا الله في حياته، الاستشعار الذي يدفعه إلى التحرك طواعية تسليما له ؟ طبعا لا و إلا كنا الآن فعليا خير أمة أخرجت للناس.
فأن يستشعر الإنسان المسلم خالقه بحيث يصبح منفذا لإرادته تعالى في الأرض، هذا أهم حافز له كي يتوجه إلي الفعل الخلاق التوحيدي مضمونا و شكلا. طاعة الله و رسوله هذا المفهوم التعبدي إن تحول إلي قناعة و سلوك منظم و جاد كفيل بأن يجعل عملية التحضر، عملية في متناولنا. فالذات الإنسانية الفاعلة قادرة على تغيير مجرى الأحداث، و هذه الذات إن كرست فعل العبودية إلي مشروع نهضة، تكون قد اكتسبت فعالية قصوى في ظل تصور عقائدي إيجابي لدور الإنسان المسلم. فالفعل لوحده لا يمثل إنجازا، يوميا نقوم بأفعال و لكن لم تقدمنا هذه الأفعال خطوة نحو مرادنا، فالنفس الإنسانية إن لم يكن لها باعث قوى على التحرك بشكل فعال في الواقع، يتعذر عليها البروز و من ثم التميز. و الباعث كما سبقنا إليه مالك بن نبي رحمه الله هو تعبئة النفس بوجود الله و هذه التعبئة لها من التأثير و من السلطان على الإنسان ما يجعله يسعى إلي العمل بذكاء و اقتدار. فالمجتمع المسلم على مدى قرون عانى تهميش الجهد الإنساني و تعطيل ملكة الخلق و الإبداع و هذا راجع أساسا لضعف الوازع الديني و تسلط الأهواء. فنقيض التوكل على الله هو التواكل، و فلسفة التواكل هذه استبدت بالناس لمئات السنين مما جعل مهمة المصلحين الدينين في نهايات القرن التاسع عشر ميلادي مهمة معقدة و دقيقة. فالمسلم الذي أورث جزيرة صقلية نظام توزيع المياه و المعمول به إلي أيامنا هذه هو غير المسلم الذي استقبل حملة نابليون بونابرت مبهورا مندهشا بالمستوى الحضاري لهؤلاء الغزاة. فالفارق بين، بين ذاك المسلم و مسلم العهود الأخيرة.
و هذا الفرق الشاسع حدث نتيجة التحول السلبي الذي عرفته درجات الإيمان في ذات الإنسان المسلم و انحدار الحضارة الإسلامية من جراء انتشار الاستبداد و الهجمة الاستعمارية الشرسة. و تدنى الوعي الحضاري أنتج حالة من الذهول و التواكل، تبعه خفوت و تكاسل في طلب العلم ، و جنح الناس الي العيش الفيزيائي، همهم منحصر في كيفية إيجاد المأكل و الملبس و الإقامة، مما أدى إلي ضعف المسلمين، فحتى التململ الذي شهده العالم الإسلامي عبر حركات الاستقلال لم يشكل جوابا مقنعا لمشكلات الحضارة التي ظلت تمثل أهم عائق في وجه صعود المسلمين ثانية إلي مسرح الأحداث العالمي.
كيف يعاد تفعيل إيمان الفرد و الجماعة ؟ بإيصالها بالمعين الأول و الأخير و هو الله تعالى و هذا لن يتم في غياب رؤية واضحة للأهداف و تعطيل للصيرورة الحضارية، فالصيرورة التاريخية معلومة. بقي تعاملنا مع فعل التفعيل نفسه. خلق حركية دينية تؤسس لفعل العبادة الخالصة و نعنى بالعبادة الخالصة، التصور الصحيح لمهامنا في هذه الدنيا التي هي دار عبور لدار البقاء. لزمن طويل أدرنا ظهورنا للأسئلة المحورية، تهربا منا من مسؤولية صياغة مصير مستقل، فالمصير السيد وليد عمل و إخلاص في العمل، في المفهوم الإسلامي العمل عبادة، و لا يتسنى للعمل أن يتجسد في أرض الواقع دون شروط معينة منها تحديد الهدف الذي نرمى إليه، عقد النية في القيام به ثم الشروع فيه، فالفعل الإرادي هو تمثيل لإدراك الإنسان المسلم و مستوى وعيه بالواجبات المترتبة عن فعل العبودية لله.

3 – الفعل أساس النهضة :
تقتضى أمانة الإيمان أن يكون تعاملنا مع ظروف و مجريات الحياة من زاوية الفعالية، فقضية النهوض حضاريا مرتبطة ارتباطا عضويا بمدى تجاوبنا مع شرط حيويي ألا و هو اقتران الفعل بتصور شامل للنهضة. فنحن جزء لا يتجزأ من صيرورة تاريخية و حضارية لها خصوصيتها و طابعها المتفرد، و هذا التفرد هو ميزة الإسلام الذي لم يقمع الإنسان أو قيده. على خلاف ذلك اتسم هذا الدين بتكريم الإنسان و منحه من الحقوق و المهام ما رشحه لأن يكون بامتياز المستخلف الكريم لله عز و جل في الأرض.
افتقد الإنسان المسلم في العصور الأخيرة الشعور بالانتماء إلي أمة قدست طلب العلم و أعلت من شأنه بحيث صار طلبه فريضة دينية، كما جاء في الحديث النبوي الشريف ” طلب العلم فريضة على كل مسلم و مسلمة” و إلى جانب افتقاد المسلم لشعوره بالانتماء فقد عانى و لا يزال من تغييبه للبعد الحضاري في فعل عيشه و هذا التغييب كان السبب الرئيسي في تراجع المسلمين عن طلب أسباب السعادة و الازدهار، مما جعل مجتمعاتنا تنكفئ على نفسها لا تشارك دول العالم في بناء عالما أكثر عدلا و تقدما.
يحيا الفرد المسلم ضمن المجموعة و يعمل بلا رغبة حقيقية في التأسيس لوجوده حضاريا، فعمله يقوم به بمعزل عن الشروط الضرورية المواكبة لهدف التحضر. فهم الفرد أو المواطن منحصر في سد حاجياته الفيزيائية، إنه لا يسعى لطاعة الله في طلب العلم و إفادة غيره من المسلمين و غير المسلمين، نراه يشكو وطأة الغزو الثقافي و الهيمنة الاقتصادية و السياسية و العسكرية للغرب و لكنه في أرض الواقع
لا يعمل على مواجهة عمليا هذا الغزو. فالمجتمع المسلم و بالنظر إلي حالة الاستلاب التي يعانيها منذ نهايات الجلاء الأجنبي عن أراضيه، يعيش وفق أنماط حياتية معادية لدور الدين في حياة الفرد و الجماعة. و بعزل الدين عن وجدان و عقل العامة، يكون المسلم قد أضاع البوصلة التي بفضلها يستطيع أن يحدد مساره و اتجاهه في هذه الحياة. فالدين الإسلامي أكبر و أشمل و أعمق من أن يكون مجرد طقوس و مراسم، وضع هذا الدين منذ أكثر من ألف و أربعمائة سنة الأسس التي بمقتضاها يتمكن المجتمع المسلم أن يرقى إلي نظام حياة مثالي. فقد قرر الإسلام منذ ما ينيف الألف سنة أن سعادة المجموعة الإنسانية و فلاحها في الدنيا يتوقف على مدى مراعاتها لعاقبتها في الآخرة. فمصيرها الأخروي يتقرر إذن في الدنيا، فما نزرعه في الدنيا، نحصده في الآخرة شرا أم خيرا. و بناءا على هذا المعطى المعلوم، لنا أن نعيد النظر في الهدف من وجودنا، و مسائلة أنفسنا، أي حياة نريد أن نحيا ؟ و هل هذه الحياة التي نعيشها حققت لنا الأهداف المرسومة في ديننا الحنيف ؟ و إذا ما كانت الإجابة بلا، فالسؤال الآتي هو ماذا عسانا أن نفعل لنصبغ وجودنا بصبغة الإيمان الفعلي و الإيجابي ؟ أظن أن أول خطوة علينا القيام بها هي إعادة النظر في إيماننا التقليدي، فنحن بالمفهوم النبوي ( نسبة إلى مفكرنا مالك بن نبي رحمه الله) لسنا في حاجة إلى تعلم عقيدة نمتلكها أو كما جاء على لسانه ” ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الاجتماعى…” فما نحن في حاجة إليه حقا أن نحول هذا الإيمان التقليدي و الذي توارثناه أبا عن جدا إلي طاقة هائلة تدفعنا إلي الأمام، فنصبح نستشعر الله في أنفسنا ابتداء و في كل شيء من حولنا. و لكي نتمكن من تحقيق ذلك علينا بالتحلي بصفة أخلاقية رفيعة و قيمة جدا ألا و هي الصدق، فعلينا أن نصدق مع أنفسنا و مع خالقنا، فلنا أن نؤمن بصدق و أن نخلص النية و أن نصدق مع بعضنا البعض ، و أن نلتزم الاستقامة الأخلاقية التي هي مفتاح النجاح الدنيوي و الأخروي. و من دون الصدق و الاستقامة سيظل إيماننا ضعيف لا يغير ما في أنفسنا من ركود و جمود و خمول و تبلد إلي جد و حزم و سعى دؤوب في النهوض.
فإيمان الفرد بالواحد الأحد هو الطاقة الدافعة لإرادته نحو الصيرورة الصحيحة ، فلا تحقيق للذات المسلمة بدون تفعيل هذه الطاقة التوحيدية قولا و فعلا.

4- بعد الخلاص فى الفعل التوحيدى :
فى المفهوم المسيحى أو الإنجيلى فكرة الخلاص تلح بإلحاح على أذهان رجال الكهنوت المسيحي بينما مبدأ الخلاص في ديننا يتلخص أساسا في هذا المعطى :” لا سبيل لنا لتخليص أنفسنا من ربقة المادة و الشر إلا بالفرار إلي الله .” و الفرار إلي الله لا يجب أن يؤول على أنه موقف سلبي يطلب من صاحبه الزهد في الدنيا ، بعيدا عن مثل هذا التأويل يجب أن نفهم بأن الفرار لله يتم بطاعتنا له و بعبادتنا له العبادة الإيجابية المباركة. لهذا يتعين علينا فهم المغزى العميق للفعل المؤسس لحضارة الإسلام. فالمجتمع المسلم الذي نرنو إليه منذ انقطاع الخلافة الإسلامية باستشهاد سيدنا على رضى الله عنه على أيدي الخوارج هو نموذج مجتمع ابتعث من أجل بناءه ما يناهز الإثنا عشر ألف نبي و رسول و كان محمد صلى الله عليه و سلم خاتم الأنبياء و الرسل و إليه أوكلت مهمة وضع اللبنة الأخيرة على صرح هذا البناء الكامل و الذي نسميه دولة و مجتمع الإسلام.
فنحن في فعل عبادة الله نطلب أسباب الرزق و الرقي الحضاري ، و هذا منتهى العبودية لله الواحد الأحد. فالإنسان المسلم بإقباله على فعل الاستخلاف واع تماما بأنه لا يملك شيء من الدنيا سوى إيمانه التوحيدي، و لا يصح إيمانه لولا خشيته لله و تقواه. و يترتب على الفرد و المجموعة المسلمة أن يجدوا في طلب أسباب الرقى لأن رسالة الإسلام هي رسالة الكمال. فازدهار الحضارة الإسلامية قام أولا و قبل كل شيء على جهد الخاصة و العامة، فئة تخطط و تبحث و فئة تنفذ و تتقن و على كاهل الفئتين كانت تقع مسؤولية الحفاظ على كيان أمة وحدها الإسلام على اختلاف أجناسها و دويلاتها، فالمرابطون في شمال إفريقية و العباسيين في بغداد و السلاجقة في آسيا الوسطى لم يمنعهم اختلاف كياناتهم أن يمثلوا قوة حضارية كان ينظر لها باحترام و رهبة. متى أدرك مسلم هذا الزمان ضرورة تفعيل وجوده و دوره يكون قد خطى خطوة عظيمة نحو سيادة المصير، فالعمل هو العلامة الفارقة في حياة الحضارات، و قد قضت سنة التدافع أن يحكم التنافس و التباري علاقة الأمم ببعضها البعض و لن يتأتى لنا هذا بدون اعتماد الفعل البناء و الخلاق كفلسفة حياة. فما يجب أن نعيه أنه لا بد لنا من تحويل طاقة الإيمان إلى مسلك نهضوي ينتشلنا من حالة التبعية و الضعف إلى حالة يقظة و عمل حثيث. أوكل لنا الله العلى القدير مهمة الاستخلاف و القيام بأعباء هذه المهمة يفرض علينا التعاطي العملي مع مشكلات النهضة و تبنى النظرة العقلانية المتوافقة مع قيمنا الروحية و العقدية. يعتز المسيحي العلماني بقيمه المسيحية، فلا بد لنا من جهتنا مقابلة القيم المسيحية بقيمنا الإسلامية، فمنظومة القيم هي التي تحفظ للأمة شخصيتها و كيانها و تماسكها. صارت التنمية هما كونيا و فعل النهوض فعل مصيري، التقصير في القيام به جريمة لا تغتفر و كمسلمين و إلي جانب ضرورة التحضر موكولة إلينا مهمة تبليغ الرسالة و أهم ما في هذه الرسالة تهذيب طلب العلم و تحصينه أخلاقيا.
فطموحنا الشرعي في التنمية و التطور إن لم ندعمه بفلسفة عمل صارمة، ستستغرق عملية النهوض قرونا نكون قد أضعنا فيها فرص عديدة في نهج درب مغاير لمعايير مادية أصبحت تهدد سلامة بقاء الجنس البشرى .أعود لأؤكد على أهمية الفعل في حياة الفرد و الجماعة، و الفعل هو التجسيد المادي المباشر لإيمان المجتمع ككل. و الخيارات محدودة أمامنا، فإن لم نركز في مناهج تعليمنا على تكوين و تخريج الفرد الصالح الفاعل، سنصطدم آجلا أم عاجلا بنماذج خائرة سلبية. فالخلاص الدنيوي و الأخروي محكوم بمدى فهمنا لطبيعة الطاقة الكامنة في توحيدنا و الإيمان هو الرأس المال المؤسس لحركة النهضة الإسلامية. و مالك بن نبي رحمه الله، أيقن بشكل جيد ضرورة تفعيل طاقة الإيمان للذهاب إلى صيرورة حضارية سليمة و فاعلة.

Comments (0)
Add Comment