إنّنا نتمنّى رؤية المسلم آتيا للصّلاة لقيمتها، و ليس آتيا إليها كأنّه في عزيمة أو ضيافة. وعندما ينادي المنادي للصّلاة، يترك كلّ شيء، فإذا قضيت الصلاة، و نودي لفضل الله ابتغاه بسرعة أيضا، كي لا يضيِّع نصيبه من الدنيا، فضروريّات الحياة الاجتماعيَّة ضيِّقة مرتبطة بعضها ببعض، و عليه إذا تعطّل مسير بعض الأفراد، تعطّل المسير، و تغيّر المسار كُلُّه. هذه هي العظات الواجب الاتّعاظ بها.
و حديثي إليكم في هاته الدورة الأخيرة يتصل بجانب مهّمٍ جدًّا من عوالم الفكر؛ ففي حديث سابق معكم، تحدّثت عن صلاحيَّة الأفكار و صحَّتها، و أتمنّى من شبابنا بالأخصّ أن لا يخلط بين الجانبين، فهُمَا مستقلّان تماماً، و بالأخصّ في علم الاجتماع، فقد يقوم مجتمعٌ و يتقدّم بأفكار غير صحيحة، و إنّما صالحة في وقتها لظروف معيّنة، و ينهار مجتمع آخر قائم على أساس و فكرة صحيحين، و إنّما لظروف معيّنة أخرى فقدت هذه الفكرة صلاحيتها.
هل تتصوّرون هذا؟
نعم هذا ما أشار إلية رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث مشهور “دولة الظلم تزول و لو كان أهلها مؤمنين، و دولة الحق تدوم و لو كان أهلها كافرين”.
إنّ المقارنة هنا بين كافرين و مؤمنين، بين العقيدة القائمة على أساس و حقيقة متينين، كأن نقول :اثنان و اثنان مجموعهما أربعة، أمّا الدولة الكافرة فهي الدولة القائمة على أساس فكرة مزيّفة، فَنَصِفُ المشركين بأنّ نظامهم قائم على أساس فكرة مزيّفة، كأن نقول :اثنان و اثنان مجموعهما ثلاثة ونصف، أو شيئا كهذا.
و لكنّ وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنّ أصحاب هذه الفكرة إن كانوا صالحين، فإنّ نظامهم سيستمّر، و أصحاب الفكرة الصحيحة اثنان و اثنان أربعة، إِنْ انحرفوا عن الجادّة، و فقدوا الصلاحيَّة فدولتهم منهارةٌ لا محالة. هذا ما أشارت إليه الآية الكريمة [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبُورِ مِن بَعْدِ الذكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالِحُونَ](الأنبياء:105)، فلم يقل عز وجل “المؤمنون” و إنّما “الصالحون”. و تعلمون أنّ الأسلوب القرآنيّ أعجز الأساليب العربيَّة نحتاً و نقشًا، حيث يخصِّص لكلِّ معنى مفردة، وميراث الأرض في الآية منسوبٌ للصّالحين، وليس للمؤمنين.
و اليوم “السوفيات” أصلح منَّا، و ذلك الذي ضيَّعناه ووقع في يد إسرائيل، بصلاح هذا الأخير على ذلك التراب صار يقاومنا و يجابهنا نحن الأمة الإسلامية. إذن الفرق بيِّنٌ بين الفكرة الصحيحة و الصالحة. ومن ثمَّ فالمجتمع المثاليُّ هو الذي يقوم على أساس فكرة صحيحة، و يصلح بها، و هذا لا يمثِّله إلَّا المجتمع المسلم في منشئه؛ حيث كان خفّاقًا بفكرته الصحيحة، عاملاً بها.
و عليه، يجب التحري من الفكرة في جانبين: صحّتها و صلاحيّتها. و اليوم حديثي معكم حول صلاحيَّة الأفكار. و لا فرق بين مبدإٍ مجسَّمٍ في صنمٍ، و آخر مجسَّمٍ في عقل. و يتمثّل هذا المبدأ في “المادّة” و الذي هو مبدأ “السوفيات” أنفسهم …هذا منهجهم الفلسفيّ كما يقولون. فبالرغم من قَرَفِنا و سخريّتنا من مبدإ هاته الامم المادِّيَّة، فعلينا الاعتراف بصلاحهم، و ذلك ظاهرٌ للعيان.
و اهتمامنا الكبير كان منصبَّا على إبراز جوانب الأفكار الصالحة، و قلنا سابقا إنّ الإسلام فكرةٌ صالحةٌ، تؤسِّس و تنمِّي مجتمعا ما، و الفكرة الإسلامية سبيل لحضارةٍ إنسانيَّة، و قد تكلّمنا في هذه من قبل. وقد يتبادر إلى ذهن بعض الشباب التساؤل عن صحّة فكرة الإسلام “المتخلفة”، و التي تركت ذات يوم تراثا مجيدا، هل هي فكرة صحيحة؟ لا علينا، سندرس هذا الموضوع:
إنّ علوم التفسير قامت أساسا على جانب من جوانب القرآن و هو الإعجاز. و الإعجاز معناه أنّ القرآن ليس من عند بشر، فإن لم يكن كذلك، فمنبعه ممّا هو فوق الإنسان، تماشيا مع مصطلحات أصحاب الدراسات العليا. فما هي الوسيلة التي نتّخذها لإدراك جانب الإعجاز في القرآن؟ هي نفسها الوسيلة التي وضعت مخطّط كتاب “الظاهرة القرآنية على مبدإ إدراك إعجاز القرآن.
الإسلام لا يتضمّن فقط تنزيل الآيات على خير الرسل، و إنّما يتضمّن جانبين: جانب الوحي، وجانب الشخصيَّة المنزَّل عليها الوحي، وهو نفسه ما أسميته “الظاهرة القرآنية”.
فإذا أردنا أن نشخِّص هذه “الظاهرة” بطريقة منطقيَّة على عناصر مرتَّبة، علينا أن نتصوّرها في قضية أداء الشهادة، بشروط تُدلى أمام القاضي.
لماذا نتّبع هذا الأسلوب؟
ما رأيكم و نحن جالسون، يدخل علينا أحدهم و يقول: إنّي جئتكم الآن من عند الملكة “إليزابيث”. من منكم يصدِّقه؟ و من منكم يكذِّبه؟ 99% سيكذِّبونه، بل و يطردونه خارجا.
وماذا لو أتانا بشرٌ، و قال :”أنا جئتكم من عند الله”. علينا أن نقفل الأبواب لكي لا نسمع مثل هذا التصريح ثانية… أتحسبونه قولاً هيِّنًا؟ . .. إنّ القادم هاته المرّة ليس كالسابق، من عند الملكة “إليزابيث:، بل من عند “خالق الأكوان”؛ فإمّا أنّه مجنون أو… أو… لكنّ يفرض علينا التحرِّي في قضيّته.
هناك احتمالات كثيرةٌ في شأنه؛ إمَّا أنَّه شاهدٌ أراد التلبيس على مستمعيه بفرية ما، و إمّا هو شاهدٌ إلتبس عليه الأمر. إذن يجب علينا التحقيق في الشخص الشاهد أوّلاً، قبل الاستماع إليه. ثم إنّ علينا التحرِّي عنه في الجانب الأخلاقِّي و العقلِّي، ثم التحرِّي حول مضمون الشهادة أخيراً، و هي الشروط القضائيَّة لتَقبُّل الشهادة. ثمّ نضع شهادته في مقياس الميزان العامِّ: هل كلمته هي الأولى و الفريدة من نوعها؟ أم لا؟
و يأتينا جواب القرآن :[قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِنَ الرسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أتُبعُ إلَّا مَا يُوحِى إِلَي وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ] (الأحقاف:9). فهذه حُجّةٌ قَويَّة في المنطق العلميّ، و لو كان النبي صلى الله عليه وسلم أوّل من قال مقولته هاته، فربّما كان فيه لبس، لكن و الحمد لله سلسلة الأنبياء طويلةٌ من عهد نوح إلى سيّدنا محمد عليه السلام، أي لم آت بشيء جديد ابتدعتُهُ، وهذه حجّة قويَّة، تطمئننا من هاته الناحية.
لنأخذ صورة أخرى للاطمئنان، هي ضمن سلسلة النبي إبراهيم عليه السلام إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فهل كانت هاته الشخصيّات المسمّاة بالرسل و الأنبياء هيِّنة كأحدنا؟ أبدا… إنّها شخصيات عظيمة.
لو تأمّلنا إحدى هذه الشخصيّات، مثلا النبي “armaya” (2) أوحي إليه قبل المسيح عليه السلام بسبعة قرون. إنّنا نذوب إجلالا أمام هاته الشخصيَّة، عند تأمُّل خطواته و محنته مع قومه اليهود، حين خلصوا نجيَّا، و أجمعوا على أن يلقوه في الجبِّ بعدما جفّ ماؤه. ولمَّا أرادوا به ذلك المكر خَشِيَ عليهم، و حذّرهم من غضب الله و مكره، وهو خير الماكرين، فمن يحلل عليه غضَبُ ربِّه فقد هوى، و لكنّهم أتَمُّوا مكرَهم، و ألقوه في غيابات الجبِّ. فلمّا أنجاه الله منه مثل سيدنا يوسف عليه السلام، ماذا كان أوّل عمل قام به؟
اشترى أو أُعْطِيت له “شقالتان” و ذهب بهما إلى كبار قومه اليهود الرهبانّيِين، فطلب منهم أن يتبعوه، و كسرهما على الباب، و قال لهم: “هكذا عرشكم، سيذره ربي قاعًا صفصفا، و لا يسمع لكم حينئذ همسًا، و قد خاب من حمل يومئذ ظلما”، هكذا حال الأنبياء، لو قُطِّعوا إربًا إربًا؛ لن يستسلموا أبدًا، ففي رسالتهم حبُّ الجنة حُبَّا جمَّا.
ألا تذكِّرُكم رائحة هاته القصّة بحياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لمَّا أتت قريش عمّه أبا طالب، و عرضوا على ابن أخيه صلى الله عليه وسلم أن يتنازل عن دعوته على أن يُعطوه الدرجات العلى، و تكون له الكلمة الأولى في مكّة، و يُعطوه مُلكا لا يَبْلَى، ومالاً لا يعدُّ و لا يحصى. فكان جوابه شفاء و هدى: “والله لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى أهلك دونه”. فما عصى محمد عليه السلام ربَّه، وما غوى. لقد لاحظتم أنّ هذه الصورة و الصورة السابقة متماثلتان… الصورة النفسيَّة للأنبياء و الرسل صورة واحدة.
واعترفنا من قريش بفضائل محمد صلى الله عليه وسلم، من أخلاقٍ و عفَّةٍ و أمانة و غيرها لقّبوه بـ “الأمين”، وهذا قبل أن يعلن النبوَّة. و لا ننسى جانب إنسانيَّته المتكاملة، فقد اتَّصف بالعطف و الحنان و الرحمة و الشفقة و الاعتدال و الاستقامة في كلِّ شيء، ممَّا يجعل ساعات العمر في كتابة سيرته لا تكفي.
إذن على مستوى الجانب العقليِّ، قال القاضي: إنَّ الشاهد لا يشوبه لبسٌ، فهو إنسانٌ مستقيمٌ. ولكن ربّما التبس عليه الأمر، لنختبره إذن من الناحية العقليَّة، لعلَّ به خللا أو فتورا أو منحدرات يندفع إليها، فيتقبَّل الأمور بسهولة.
في يوم دفن سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم لابنه ’’إبراهيم‘‘ كسفت الشمس، فظنَّ الناس أنَّها حزنت على موت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم :”الشمس و القمر آيتان من آيات الله، لا تخسفان لموت أحد أو ميلاده”. إذن فعقل الرسول عليه السلام صامدٌ حادٌّ، لا تتغلَّب عليه الشبهات، كما يحدث مع بعض العلماء، الذين تتغلَّب عليه الشبهات العاديَّة، التي تحدث أحيانا، ليس عليهم فقط، بل على كلِّ إنسان.
و الرسول عليه السلام وهو يعيش في المدينة، أظهر في كلِّ خطواته ثبات عقله، لا كداعيةِ و رسولِ فقط، بل كمؤسِّس دولة، و باعث حضارة، و مؤسِّس مجتمع بالتخطيط و الهندسة. بتعبيرنا اليوم هو “إنسان مفكِّر”. و عليه فهذا المفكِّر أحكامُهُ صادرةٌ عن جدارة عقليَّة، لا تفاجئها الظروف، و دليلنا في جملة بسيطة إذا قارنّا ما شيَّده هذا النبي من دولة و حضارة، مع ما شيّدته شخصيّات كبرى أخرى.
مثلا “نابوليون” شيَّد إمبراطوريَّة كبرى في أواخر القرن التاسع عشر، دامت بدوام ظلِّه على الأرض، و زالت بزواله. “جنكيز خان” أسّس دولة أكبر من دولة نابوليون، امتدّت من شواطئ “bladi bostok” في المحيط الهادي إلى موسكو و بغداد تقريبا… زالت بزوال ظلِّه من الأرض.
أنتم قبل دخولكم هذه القاعة فئةٌ في رقعة جغرافيَّة من هذه البريَّة، لبَّيتُم نداء الإسلام :”نشهدُ ألّا إله إلّا الله و نشهدُ أنّ مُحمَّدا رسول الله”. هذه الكلمات بسيطةٌ في نظرنا نحن المسلمين، لكن تصوَّروا وقعها على ضمير أجنبيٍّ، كيف يُجِلُّها وقد اخترق ثلاثة عشر قرنًا، و تزيد القرون فيه إشعاعًا و نورًا.
لقد وضع الإسلام اليوم قدميه على أرض أمريكا في أطهر الصور، تلك الأرض التي حُرِّمت عليه طيلة أربعة قرون. و لا تُلُقوا بالاً لما يذاع أو يقال هنا و هناك، من انحراف الزنوج المسلمين فيها، فهذه أيادِ خفيَّة، تريد للإسلام كيدًا. يكفيكم القول إنّه قبل سنة و نصف تقريبا، لمَّا وقعت مسيرة الزنوج و المسمّاة بمسيرة المجاعة ’’la marche de la faim‘‘، لمَّا وصل المتظاهرون إلى العاصمة ’’واشنطن‘‘، رأوا في أعلى صومعة ’’جامعة واشنطن‘‘ علما أسودا، و ذكروا أنّهم رأوا راية سوداء، فيها أحرف عربيَّة… تعرفون ما كان مكتوبا عليها؟… “أشهد ألا إله إلا الله و أشهد أن مُحمَّدا رسول الله”… لقد وصلت إلى أعلى صومعة ’’جامعة واشنطن‘‘.
من وراء هاته المشاهد؟ أليس بعقل جليل؟ بلى إنَّه عقل جليل… عقل جليل. و اختصارا للكلام نقول: إنَّ نظرة لعقل النبي صلى الله عليه وسلم الموزون و أخلاقه العالية تجعلنا نتقبَّل شهادته.
الآن، هل يكفينا هذا كي نتحقّق من صحّة الفكرة القرآنية و الإسلاميَّة؟
لا، لا يكفينا صحّة العقل و الأخلاق، بل يجب علينا أن نتفحّص صحّة مضمون الشهادة نفسها. فماذا قالت هاته الشخصيَّة الجليلة؟
قالت على لسان الله عز وجل:[وَاُوحِيَ إِليَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَنْ بَلَغَ] (الأنعام:19). هاكم القرآن دليل شهادتي. و مادامت شهادته القرآن، فعلينا التحقيق فيه من الناحية اللّغوية و البلاغيَّة. وفي هذا القرن العشرين لا نستطيع أن ندرسه من ناحية الإعجاز اللّغويّ، و لمن سوف ندرسه من نواحٍ أخرى.
مثلا قصّة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم، و قصّة نفس النبي في العهد القديم، فهو موجود حتماً. لنفترض بخصوصها احتمالاتٍ كثيرةً، منها مثلا أنّ هذا النبي محمّدًا أخذ العهد القديم، و هو يتقن العبريَّة كتابةً و قراءةً، و اطّلع على سورة يوسف عليه السلام في شِعْبٍ من شعاب مكّة، مختفيا عن أنظار الناس. لندرس آية أو آيتين منها… انظروا كيف يُفصِّل فيها العهد القديم، و كذلك القرآن الكريم (3).
أوّلاً: العهد القديم:
جاء فيه :”وَسَكنَ يعقوبُ في أرضِ غُربَةِ أبيه، في أرض كنعان، هَذِهِ مواليدُ يعقوب. يوسف إذ كان ابن سبعة عشرة سنةً، كان يرعى مع إخوانه الغنم، وهو غلامٌ عند بني بَلْهَة و بني زُلْفَة امرأتيْ أبيه. و أتى يوسفُ بنمِيمَتِهم الرديئة إلى أبيهم. و أمّا إسرائيل [أي يعقوب عليه السلام] فأحبّ يوسف أكثر من سائر بَنِيهِ، لأنّه ابن شيخوخَتِهِ، فصنع له قميصًا ملوَّنًّا” الإصحاح: 3،1
ثانيا: القرآن الكريم:
يقول الله تبارك و تعالى في سورة يوسف عليه وسلم :[الر تِلكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنا أَنزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصَ بِمَا أَوْحَيْنَا إِليْكَ هَذَا القُرآنَ و إِنْ كُنْتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلْينَ] (يوسف:1-3). الروح و النفس في القرآن أجلُّ من العهد القديم… الجلالة ظاهرةٌ من خلال الآيات.
نواصل مع العهد القديم:
“و رأى إخوتُهُ أنّ أباه يحبُّهُ على جميع إخوته، فأبغضوه، ولم يستطيعوا أن يكلِّمُوهُ بمودّة. ورأى يوسف حلما، فأخبر به إخواته، فازدادوا بغضا له، قال لهم: اِسمعوا هذا الحلم الذي رأيتُهُ؛ رأيت كأنّنا نحزم حزما في الحقل، فإذا حزمتي وقفت ثمّ انتصبت، فأحاطت حُزَمُكُم بحزمتي، و سجدت لها. فقال له إخوته: أتُرّاكَ تملك علينا أو تتسلَّط علينا؟ و ازدادوا أيضا بغضا له بسبب أحلامِهِ و أقوالِهِ، و رأى أيضا حلما آخر، فقصَّه على إخوته، وقال :رأيت حلما أيضا كأنّ الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا ساجدة لي. و لمَّا قصَّه على أبيه و إخوته، و بَّخه أبوه وقال: ما هذا الحلم الذي رأيته؟ أَتَرانا نأتي أنا و أمك و إخوتك فنسجد لك إلى الأرض؟” الإصحاح:4،11. أنظروا موقف يعقوب بعدما سمعه من ابنه ثار وغضب.
و لنعد للقرآن الكريم: [إِذْ قَالَ يُوسْفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَمسَ وَالقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ. قَالَ يَا بُنّيِ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشيْطَانَ للِإْنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ] (يوسف: 5،4).
عالم آخر تماما، وشتّان بينهما :[وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِّمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] (يوسف:6). لو أنّ محمّدا صلى الله عليه وسلم نقل هذا من العهد القديم، فهل تكون له هاته البلاغة، كما في الآيات القرآنيَّة المتلوّة الآن؟ والله لن يأتي بمثله ولو اجتمعت معه الإنس و الجنّ.
دعنا نذهب إلى قضيَّة أخرى، وهي علم المجاز في القرآن ’’métaphone dans le coran ‘‘، ولنأخذ الآية 39 من سورة النور: يقول الله تبارك وتعالى :[وَالَّذينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةِ يَحْسَبُهُ الظمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ الله عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَالله سَرِيعٌ الْحِسَابِ] (النور:39). لو نحلِّل هذه الآية بتحليل العلماء، و نذكر عناصرها، نقول إنّها لوحةٌ زيتيَّة، أنزلت مثالا ترعيبيَّا، يشبه محيط النبي عليه السلام و طبيعته التي يعيش فيها.
سأسوق دليلا آخر؛ يقول الله تبارك وتعالى :[أَوْ كَظُلُمَاتٍ فيِ بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ من فَوْقِهِ مَوْجٌ من فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضِ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ] (النور:40). هل هاته الصورة من الجزيرة العربيَّة؟ والله لعلّها من المحيط الأطلنطيّ فما فوق؛ فالبواخر في تلك المناطق تتقدّم بالأبواق من أجل سماعها، و السبب تلك الظلمات في مسارهم. فصورة الآية إذن ليست من البيئة العربيَّة و لا من نواحيها، مهما تعمّقنا فيها، و حتّى لو قدَّرنا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى البحر الأحمر، فهو ليس في شكل صورة الآية، فهذه لها خصائص، و القرآن كلّه خصائص وعبر.
المفكِّر الإنجليزي الحرّ –كما يسمّونه- طوماس كارليل، عند قراءته للقرآن بكى، ثمّ قال :[انفجَرَ هَذَا من الطبيعة ذَاتِهَا]، لأنّه لم يستطع فعل شيء، فقال مقولته هاته.
أمام هاته الدلائل الأخلاقيَّة و العقليَّة، و أمام مضمون القرآن –كما عبر عنه كارليل-، نقول :إنّهم لن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
هناك تعقيبٌ فيما يخصّ القضاء و القدر، فقد ذكرت تصحيحين في عصرنا الحالي:
التصحيح الأوّل من طرف المسيحيِّين؛ إذا أنّهم اكتشفوا أنّ الإسلام ليس هو الدين الوحيد الذي يتضمّن آياتٍ قدريَّة تتحدّث عن القدر، و لكنّ الأناجيل و التوراة تشتمل على آيات قدريَّة، ليست أقلّ تعطيلا من الآيات القرآنيَّة، و استشهدنا في ذلك بقول ’’ويل غرداي‘‘ وهو مسيحيّ، وأيّ مسيحيّ. هذا من جهة، ومن جهة ثانية استشهدنا بقول اقتصادّيِ نحن لا نحبّه، و لكن نقدّره، وهو “ماكسيم رودينسون” في كتابه ’’الإسلام و الرأسماليَّة‘‘، ذكر فيه أنّ سبب تخلُّفنا هو الآيات العقليَّة القدريَّة الموجودة في القرآن، وقال إنّ الأناجيل و التوراة تشتمل عليها أيضا، و لكنّها لم تتسبّب في تعطيل المسيحيِّين، و لم تكن يوما حائلا دون تقدُّمِهِم، و لا يقبل أن تكون هي السبب في تخلفُّنا، و ذكر أنّ الذي نتج عن هذه العقليَّة القدريَّة هو أوضاعنا الحضاريَّة المتدهورة، وليس العكس العقلية القدرية هي السبب في أوضاعنا المزرية.
وهنا سأصحِّح خطأ تاريخيّا وقع فيه السيِّد ’’إحسان عبد القدُّوس‘‘ صاحب مجلة ’’روز اليوسف‘‘. ذكر في إحدى مقالاته الصادرة سنة 1958 أنّ التقدّم هو التصنيع، و ظهور طاقة الكهرباء بهذا وطئ الإنسان الفضاء… و الدليل على الاعتراض يلتقط من أذن إلى أذن، أوَّلاً الشيء المسمّى بالحضارة و التقدّم عنده هو مفهومٌ مبتورٌ، يقترن بحدثٍ آخر. ومع هذا، فبروز ظاهرةٍ جديدةٍ يجب أن لا يُخفى مع هذا، فبروز ظاهرةٍ جديدةٍ يجب أن لا يُخفِي علينا الظاهرة الأساسيَّة.
وفيما يخصّ ما قال الأخ : من أنّ الغرب تقدّم لمَّا فصل الدين عن الدولة أو لمَّا تخلّت هذه الأخيرة عنه، نقول: لو وقع ذلك لماتت أوروبا؛ لأنّ المسيحيَّة هي شجرتُها، وفروعها كثيرةٌ، وما تزال هذه الشجرة تُنبِت ثمارًا مسيحيَّة بحتة، و إلى يومنا هذا.
الحضارة تمشي برأس قطاِرهَا الذي سحبها من الوهلة الأولى، وفي طريقه لا بدّ أن يصادف أشياء طارئةً، فتختلط علينا الأمور، وبتغيُّرِ لونِهِ نَحسِبُهُ تغيّر… لا، أبداً… إنّه القطار نفسُه، سواء انطلق بفكرة المسيح أو بفكرة موسى أو فكرة مُحمَّد صلّى الله عليهم أجمعين… في ظلِّ المعابد تنشأ الجامعات، وليس العكس… الجامعات الأولى نشأت في مساجد الإسلام، كالقيروان و الأزهر و الزيتونة، فلا يمكن فصل الدين عن الحضارة، إذن فاعتقاد إحسان عبد القدوس خاطئٌ.
نتوقّع أن تنشأ دورةٌ حضاريَّة إسلاميَّة جديدةٌ شاملة للإنسانيَّة هاته المرّة، لماذا للإنسانيَّة؟
لأنّها فقدت كلَّ الأنفاس الحضاريَّة الأخرى، و هذه الحضارة العصريَّة الأخيرة أتت بما لا يعلمه إلّا الله من طاقات للتّخريب؛ فظهرت في المجتمعات الغربيَّة مصطلحاتٌ جديدةٌ –كما يسمِّيها أهلها أنفسهم- من مثل مصطلح “مجتمع استهلاكّيٌ”، و هي في الحقيقة شتيمةٌ لهم؛ لأنّها لا تغذّيهم روحيَّا، وإنّما توفِّر لهم الأمور الثانويَّة كالسيارة و…و… ولعلّ الساعة تقوم حينها إذا انطلقت هذه الحضارة الإسلاميَّة الشاملة…
نختم موضوعنا عن صحّة العقيدة الإسلاميَّة، فنقول: لماذا فقدت هاتِهِ الحضارة الإسلاميَّة صلاحيَّتها؟
و الجواب: لأنّ ممثّلِي الإسلام تخلُّوا عن مبادئهم، فحوَّلوا مسار قطار الإسلام. ونتساءل مرّةً أخرى :هل يدوم هذا أبد الدهر؟
و الجواب :لا، بل يجب تكوين المجموعة التي تبعثُ المجتمع من الحضيض إلى الحظِّ، و سميَّت هاته الحالة في محاضرة بلبنان “ظروف حالة الإنقاذ”؛ حيث بدأ هذا المجتمع يشعُرُ أنّ كيانه مهدَّد، و هي إشارةٌ لبداية نجاته، و بداية انطلاق طاقاتٍ في داخله، تستطيع أن تصنع المعجزات.
أمّا المجتمع الذي لا يشعر بكيانِهِ فهو مجتمعٌ نباتيٌّ، يأكل النبات فقط، و يكتفي به، فيصير مجتمعًا يأكل القوت، و ينتظر الموت… هذه هي رسالته في الحياة.
الهـــــــــــوامــش:
ـــــــــــــــــــــ
1 – هذه الندوة مسبوقة بندوة مخصصة لإجابة على أسئلة جمهور الحاضرين، و لكننا قدمنا ندوة الكتاب على الأسئلة لتعلقها بالندوة السابقة، التي ناقشت مضمون كتاب “الظاهرة القرآنية” بين الشيخ بيوض والأستاذ مالك بن نبي.
2- بالعربية يقال له: أرمياء. يمكن التوسيع في سيرته من خلال المصادر التاريخية، و تحدث عنه مالك بن نبي في كتاب الظاهرة القرآنية. انظر ص93، ، منه في حديثه عن الظاهرة النفسية عند النبي أرمياء طبعة 1987 التي قدم لها د/محمد عبد الله دراز.
3 – فصل الأستاذ مالك في كتابه الظاهرة القرآنية على نحو أكثر عمقا. انظر ص211 وما بعدها.
المصدر:
كتاب(ندوات ميزاب في الثقافة والحضارة والمجتمع )
مجموعة من ندوات سمعية للمفكر مالك بن نبي تم تنزيلها برمجت بمناسبة زياراته إلى منطقة ميزاب في ماي 1968 و أوت 1969 و سبتمبر 1970