لست هنا بصدد استعراض كل أفكار مالك، والتي على جيلي أن يعيد اكتشافها، أو تطبيقها، فلمالك مشروع يتميز بالشمولية، وما قاله عن المرأة مثلا، أو عن الديمقراطية وعلاقتها -أو عدم علاقتها- بالإسلام يستحق أكثر من مجرد وقفة “قراءة وإطلاع”. لكني أحب هنا أن أذكر أن رؤية مالك المختلفة، والتي تمثل منظومة فكرية مختلفة اشتملت على بذور لدراسات يجب أن تكتمل وتؤصل وتكرس وتمنح مزيدا من البحث والمنهجية. لعل أهم هذه البذور هي مقولة مالك عن كون الدين باعثا أساسيا لكل النهضات الحضارية. هذه المقولة لا تزال في طورها الجنيني وتحتاج إلى المزيد من الدراسة المقارنة والتوسع في النتائج والاستدلال بالفوارق ..
لا سادية و لا مازوشية مع الآخر الغربي
وفي خضم الإعصار الذي يجتاحنا ويجعلنا إما منتحرين فكريا أو انتحاريين جسديا أو منحورين سلبيا في خضم هذا الإعصار يقف (مالك) نموذجا فريدا بين مفكري الأمة وروادها –ليس بكونه صاحب مشروع معرفي مختلف فحسب، ولا رؤيته مغايرة لما هو سائد، ولكن لأني أزعم أنه المفكر الوحيد (من بين الرواد على الأقل) الذي وقف على أرضية علاقة صحية مع الغرب.
الكثير من المفكرين، سقطوا في فخ العلاقة الشاذة غير الصحية مع الغرب بين الانبهار والاحتقار، بين القبول المطلق والرفض المطلق ..
ليس سرا نذيعه إذا قلنا أن هذه العلاقة ”الشاذة” بوجهيها هي وباء فكري مستشري تماما في الفكر الإسلامي منذ بزوغ أسئلة النهضة وأجوبتها في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.
بقليل من الإنصاف سيكون ذلك مفهوما تماما. فقد كان لابد لصدمة الالتقاء بالغرب أن تحدث انبهارا مريضا، انطلاقا من معطيات التخلف المروع السائدة .. (أذكر هنا أن وصف بعض رواد الإصلاح للحياة الغربية كان فيه من الوجد والهيام ما يذكر بحالات التجلي التي يذوب فيها المتصوفون )..
ولكن مع الوقت , حدث صدام آخر مع الغرب , خاصة عندما كشر عن أنيابه ومطامعه بوضوح أكثر ، وأحدث ذلك الصدام ، رد فعل معاكس للاتجاه الأول , تمثل في الرفض المطلق لكل ما هو آت من الغرب ، حتى لو كان هذا موافقا لقيمنا الأصلية .. وتمثل ذلك في أدبيات سائدة ومنتشرة ومعروفة ترفض أصلا أن تنظر أو تسمع ما يقوله الغرب لأنه ” جاهلي ” تماما ..
والموقفان في واقعهما , وجهان لحقيقة واحدة تمثل الاستلاب برد فعليه المتعاكسين ، بل إن هذا الاستلاب أحيانا يدخل في علاقة مركبة معقدة تجاه الغرب , تتمثل في علاقة ( حب – كره ) أي أننا نحب الغرب ونحب ان (نكونه ) – لدرجة أننا نكرهه لأننا عاجزين عن ان نكونه ..فيتمثل ذلك في هستيريا جماعية ناقمة على الغرب تحت شتى المسميات والشعارات لكن المنطلق الأساسي يكون هو الغيرة بمعناها المعقد ..إنها علاقة يتبادل فيها السادي والمازوشي الأدوار ، وتظهر على فكرنا ملامح ذلك بوضوح ..
بعيدا عن هذا الشذوذ الفكري كله , المنبهر والمحتقر , السادي والمازوشي ، يقف مالك على أرضية علاقة( صحية ) – خالية من العقد ، ومن المواقف ( المطلقة ) سواء كانت الرفض أو القبول ، على أرضية ثابتة ، لا تشبه أي أرضية وقف عليها الرواد – وقف مالك ليتفاعل مع الحضارة الغربية ومعطياتها وإرهاصاتها ونتائجها .
انه المفكر الذي هضم الحضارة الغربية دون أن يصاب بعسر الهضم أو التخمة أو التسمم أو الإدمان ، لقد تمكن من تمثيلها تماما , واستخراج ما فيها من عناصر مفيدة والتخلص مما غير ذلك.
يمكن لمالك , وحده تقريبا , ان يستشهد بماركس أو هيغل أو نيتشة أو فيورباخ أو كيسرلنج أو انجلز أو توينبي أو شبنغلز دون أن يلعن أو يكفر أو يسجد أو يقف بذهول أمام ما يقولون ..
اعتبر مالك الغرب , تجربة الحضارة الغربية ككل ” نموذجا للدراسة ” لا نموذجا ” للتطبيق ” – لقد هضمها تماما بحيث انه صار قادرا على ذلك ، دونما ادعاء أو أحكام مسبقة . ” نموذج الدراسة ” هو المثل والعبرة والحقل الذي يمكن منه استنباط قوانين الحضارة ومعادلاتها ومنحنيات هبوطها وصعودها : حالها حال الحضارة الرومانية أو الإغريقية أو الإسلامية –التاريخية.
هكذا وقف مالك أمام صرح الحضارة الغربية الشامخ كما نقف أمام منجزات الحضارات الأخرى : أمام الأهرام مثلا ، أو الاكروبولوس ، أو الكوليزيوم : سنعجب حتما أمام الإبداع الموجود في ثنايا هذه المنجزات ، لكننا لن ننسحق أمام قيم تلك الحضارات وأخلاقياتها وثوابتها ، بل قد نعدها مرفوضة تماما بالنسبة لنا ..
كذلك وقف مالك أمام منجزات الحضارة الغربية – دونما عقد خوف أو حب مسبقة .
وكذلك يحتاج جيلي إلى أننن يتعلم من مالك .
تحويل مالك إلى رف من رفوف المكتبة التقليدية
.. وعلي هنا أن أقول إن ظاهرة الاهتمام ( الأكاديمي ) المتأخرة بمالك هي أمر مقلق .
قد يبدو ذلك غريبا , وحري بي أن اعتبر هذا الاهتمام رد اعتبار لرجل طالما عانى من إهمال والإقصاء والعداء طيلة حياته – لكني رغم ذلك أجد الأمر مقلقا وغير مريحا على الإطلاق ..
إني أجد هذا الاهتمام , في أحسن أحواله ، شبيها بالاهتمام المتأخر الذي تلقاه ابن خلدون وشخصه ومؤلفاته بعد قرون من وفاته ، ونقاط التشابه بين الرجلين كثيرة , وأرجو أن لا تكون النهاية متشابهة فأبن خلدون , ضمن إطار عصره وتاريخه وبيئته , أنتج فكرا مغايرا للرؤية التقليدية السائدة آنذاك ,كانت أفكاره المبدعة نشازا ضمن جوقة السائد والمنتشر , كان هو الآخر ” باردايما ” مختلفا للمجتمع للعالم والعلاقات السائدة ، لكن هذا الباردايم لم يكمل تحوله أبدا , لقد انتصر الباردايم السائد ، هزمه التقليديون ، وظلت رؤيتهم هي السائدة ،ولم يفلح فكر ابن خلدون في درء الغروب الذي كان قد بدء يضرب بأطنابه على الحضارة الإسلامية ..
.. ولم يكن الآمر مجرد باردايم لم يكمل تحوله : كان الأمر أكثر من ذلك . فأبن خلدون لم يلتفت إليه أساسا ،أفكاره لم تعرف لا على نطاق واسع ولا ضيق حتى لاحقا بعد وفاته …
لقد اندثرت تماما لعدة قرون ..
وما كنا اليوم نعرف ابن خلدون ولا نقارن مالك به ، لو لا أن الغرب قد اكتشفه منتصف القرن التاسع عشر و احتفى به واكتشفناه مستوردا نحن أيضا ، كما نستورد كل شئ ، واحتفينا به وحضرنا المؤتمرات باسمه والندوات في تكريمه ، ولكن كل ذلك بعد فوات الأوان : كل ذلك بعد أن فات وقت الاستفادة من باردايمه، فكل منظور معرفي يحمل معه زمنه وظروفه ويحمل أجوبة لتساؤلات عصره .. ولا يمكن قسره على عصر آخر او ظروف أخرى بأي شكل من الأشكال .
من اجل ذلك ، أجد نفسي ( متطيرا ) من مقارنة مالك بابن خلدون ..
أخشى أن نفعل به كما فعل بابن خلدون معاصروه ..
أخشى أن يكون باردايما آخر ، يمضي دون أن نستفيد شيئا .
.. وأكثر ما يخيفني في الاهتمام الأكاديمي , هو أن جلها يعامله كما لوكان مفكرا إصلاحيا آخرأ – يقارن بغيره من الإصلاحيين – وهذا يقتل أهم ما في مالك : يقتل روح الثورة في فكره . يقتل روح الرؤية الأخرى المغايرة . يقتل وجه القمر الآخر الأكثر روعة والذي لا نراه ..
معاملة فكر مالك بهذا الشكل يسلب منه واحدة من أهم نقاط تميزه : انه بحد ذاته بذرة لمشروع نهضة متكامل – لا يمكن أبدا ان نضعه كرقعة على ثوب الفكر التقليدي السائد..
انه نسيج مختلف تماما ، ومعاملته كرقعة لا تفرق كثيرا عن اللا مبالاة والصمت .. وقد تكون اشد قسوة من العداء ..
في دار حقه هناك ، نعند من لا يضيع عنده حق احد ، لا يحتاج مالك إلى شئ من كل هذا.
انه لا يحتاج الى كتابة المقالات عنه ، ولا البحوث الأكاديمية , ولا حتى إعداد رسائل الماجستير والدكتوراه عنه ..
انه لا يحتاج الى المؤتمرات ، والندوات ، وحفلات العشاء التي تقام تحت شعار تكريمه والاحتفاء به ..
بالنسبة له :كل ذلك لم يعد يعني أي شئ . انه لا يحتاج ( منا ) إلى أي شئ ..إنما نحن نحتاج إلى أشياء ..
بعد إعادة الاكتشاف : التفعيل
لا يحتاج جيلي إلى محض ” إعادة اكتشاف ” لمالك . أو ” إعادة قراءته ” وأكيد لا يحتاج إلى ” إعادة الاعتبار له ” .
يحتاج جيلي إلى أن ” يفعل ” مشروع مالك – الذي هو مشروع النهضة الأكبر من أن تختصر بمالك بن نبي أو أي اسم آخر لأنها نهضة ترتبط أصلا بنبي الإسلام و برسالته عليه الصلاة و السلام_ إلى أن يكمل الدرب ، إلى ان يساهم في عملية تحول الباردايم التي لم تكتمل ..أن نمضي قدما في ذلك المنهج المختلف في التعامل مع النصوص ، عبر قراءتها عبر العالم ، بدلا عن قراءة العالم بها..
لنعترف : ترك مالك بذرة عظيمة المواصفات ، لكن ذلك لم يكفي لنمو الشجرة المرجوة .. فالتربة قتلها الإهمال وتصحرت وصارت مفككة لا تحوي ماءا ولا تنبت نباتا ،لم تمر غيمة منذ قرون ، ولم يهطل مطرا ولم يكن هناك حتى سراب ..بذرة مالك عظيمة فعلا ,لكنها تكاد تموت . تحتاج الى تهجين وتحسين , تحتاج إلى ( طفرة جينية ) لاستحداث صفات جديدة مقاومة وتحتاج التربة إلى إصلاح . في الحقيقة إنها تحتاج إلى ما هو أكثر من إصلاح . .تحتاج إلى استبدال . تحتاج إلى تربة جديدة يمكن للجذور تنمو فيها وتمتد فيها وتتشابك لتأخذ كل الأوكسجين الذي تحتاجه ..
..ونحتاج أيضا إلى أن نخطط للحصول على الماء لسقي هذه البذرة ، نحتاج الى خطة استسقاء تشتمل إلى ما هو أكثر من مجرد صلاة استسقاء ، تهدف إلى تحويل كل ذرتين هيدروجين وكل ذرة أوكسجين إلى ماء يسقي تلك البذرة ..
.. ونحتاج بعد ذلك إلى السماد الذي يحافظ باستمرار على حيوية التربة : إنه تلك المركبات العضوية التي تمد البذرة بمختلف العناصر والمركبات – أنها بمثابة التلاقح الذي يمنحه الاختلاف والرأي الآخر ، الناتج من الأمثلة ( الحضارية ) الأخرى ..
.. كل ذلك تحتاجه تلك البذرة .
إنها ليست مجرد بذرة ، إلا اذا أصررنا على أن نراها متروكة تحتضر في الأرض البوار ، بينما نتأمل نحن في صفاتها ومواصفاتها وسلالتها وكل قابلياتها الكامنة , ثم عندما تموت تماما ,نحملها الى المتحف ونضمها الى بقية البذور الميتة التي تركناها تموت في الأرض الخطأ والجو الخطأ والظروف الخطأ ،ثم شيعناها بالتكريم والاحتفاء الذي لن يحييها ولن يحيي الارض الموات … لا توجد بذرة باردايم تنمو وحدها ، إنما هي مسؤولية أجيال..
ومع باردايم ” الاسلام الحضاري “- هي مسؤولية جيلنا ..
فكيف إذن ؟
كيف يمكن جيلنا (يفعل ) فكر مالك , ويساهم في تحول الباردايم ؟ .
بالمزيد من الدراسات ؟ بالمزيد من الندوات ؟. بالمزيد من المقالات والتحليلات – التي دعونا نعترف بمرارة ، لا يقرأها غير كتابها و أصدقائهم و بعض جيرانهم – ..
لا حل ، في رأيي ، غير أن يدخل هذا الجيل في خضم المعادلة ، ضمن عنصرها الأهم ” الإنسان ” .
مرة اخرى، يبقى السؤال : كيف يمكن لجيلي الذي حمل عبء حضارة الانحطاط كلها أن يتقمص دور الإنسان الفاعل في معادلة الحضارة ؟
كيف يمكن لجيل تعلم وتدرب ليكون ” إنسان القلة ” و ” إنسان المنتصف” ان يتحول ليصير فاعلا ، ويحطم قيوده بنفسه ..
هذا مما لابد منه “.. ما بأنفسهم .. ” – بأنفسهم ..لابد لنخبة من هذا الجيل أن تبدأ ذلك .. تبدأ بتغيير ” الإنسان ” في داخلها ، وبالذات لن يبدأ التفاعل ، إلا بأول خطوة ذكرها مالك في تغيير هذا الإنسان وتوجيهه ..
انه عقل هذا الإنسان ، أفكاره .. ثقافته ..
الخطوة الأولى : لا مفر من الصدام ..!
لن يتغير هذا الإنسان ما لم يتغير فكره . لن تتوقع أي ولوج لمعادلة الحضارة ما لم تحدث ثورة في فكر هذا الإنسان .. ثورة شاملة ، ثورة كاملة .. ثورة بكل ما في الثورة من معاني ..
ولكي تحدث هذه الثورة لا مفر من الصدام : كما قال مالك بالضبط ،لا مفر من إحداث قطيعة مع كل ما يشدنا إلى السلبي من ماضينا ، مع كل ما أوصلنا إلى ما وصلنا إليه من الحضيض والانحطاط . لا مفر من الصدام مع موروثات السلبية والكسل والخدر والخرافة واللاعقل مهما تنكرت هذه خلف نصوص دينية ، تحصنت بالقداسة وتخندقت خلف الأسوار الشائكة والحقول الملغومة للموروثات والبديهيات والمكرسات الاجتماعية ..
.. لن نتحرك قيد أنملة ما لم يحدث هذا الصدام . لا إقلاع باتجاه حضارة المستقبل دون أن نقطع قيودنا التي تشدنا إلى ماضي السلبية والخدر والانحطاط ..بعض ماضينا كان عظيما و بعضه كان سلبيا.. لكننا ارتبطنا بالسلبي و تمسكنا به و تركنا الايجابي يفلت من بين أصابعنا…
لا شئ سيحدث في معادلة الحضارة بلا صدام حاد وصريح وواضح مع ما هو سلبي من الفكر السائد . لا تحول سيحدث في الباردايم دون صراع القديم والجديد ,دون دفع الناس بعضهم لبعض ، دون “ أهديكم سبيل الرشاد “” بمواجهة ” نتبع ما ألفينا عليه آباءنا “..
لا مفر من إنجاز التحول ، إلا ان نكف عن مجاملة القديم ، لا مفر إلا ان نكف عن اللف والدوران ، ونسمي الأشياء بمسمياتها ، ونقول للشرير إنك شر محض – بمعزل عن الألقاب التي تسبق اسمه وتمنحه الهالة والهيبة حول رأسه ،علينا ان نقول للعقلية التي قتلت العقل فينا أن ترحل ، بل علينا أن نجتثها ، مهما كانت مسلحة ومصفحة بأسماء ” ألائمة الأعلام ” الذين أدوا دورهم – في عصرهم- مشكورين ، و انتهينا ..
كفانا مجاملة ورياء ، كفانا لفا ودورانا – لم نعد نملك ما نخاف عليه ، لقد وصلنا إلى حيث لا يبدو أنه هناك درك أسفل منه في الانحطاط ..ولابد لنا أن نواجه أنفسنا ، والآخرين ، بهذه الحقيقة ..
.. ولعل صدام القديم والجديد ، يشعل شرارة ذلك التحول بدفع دوران تلك العجلة المتوقفة منذ قرون ، لعل الصدام مع القديم يدفع بأول قطعة دومينو ، تجر وراءها التفاعل المتسلسل كله..
حزام ناسف ..من نوع آخر..
.. ولن يكون ذلك سهلا بطبيعة الحال ، فالقديم يدعي القداسة وهو محصن خلف النصوص الدينية بتأويلاتها المحددة ويمتلك كل أدوات الهجوم والدفاع التي جعلته قادرا على الصمود عبر القرون ، أسلحته المعروفة: التكفير والإخراج من الملة والاتهام بالمروق من الملة والتفسيق والتبديع ، وطبعا هناك تهم العمالة ونظرية المؤامرة العتيدة ، عدا عن الإهمال والحرمان من جنة المسالمة الاجتماعية والطرد من القطيع الذي يتوهم الأمن و الأمان بينما الذئب يتربص كل حين..
كل ذلك سيكون بالمرصاد لكل من يجرؤ على الصدام مع القديم ، ويحاول أن يسقط قطعة الدومينو الأولى في درب تحول الباردايم ، لكن جيلا بلغ من يأسه أن ينتج شبابا في عمر الزهور يتحزمون الموت ويخطون – أحيانا – في درب العبث واللاجدوى ، عليه الآن أن ينتج مفكرين بنفس الجرأة : مفكرين يتحزمون فكرهم الثوري الذي ينسف تلك الروابط التي أودتنا إلى ما وصلنا إليه ، مفكرين يقدمون فكرا بديلا ومغايرا – لدرجة انه يبدو في الوهلة الأولى أشبه بمحاولة انتحار و لكنهم يضيئون بفكرهم هذا الدرب نحو الحضارة الأخرى , نحو “ الإسلام الحضاري “.. وليس مهما هنا أن يكون هناك توقيع مالك على كل ما سينتجه هؤلاء ، فأمام عالم الأفكار الحقيقية ، لا يكون الأشخاص إلا وسائط نقل..
نعم , لقد أنتج فكر اليأس و السلب شبابا انتحروا ، والآن على فكرنا أن ينتج شبابا يفكرون بنفس الجرأة , وبدلا من ” النسف الدموي “ الذي لا يهدف إلا إلى الانتقام و لا يخلف إلا المزيد من الموت ، يجب أن يكون هناك نسف حضاري لأفكار ، وأوثان وأركان لهيكل متداعي و آيل للسقوط ..
.. إنه النسف الذي يسبق البناء ، النسف الذي يمهد لأسس جديدة ، وكل ذلك جزء من تلك السيمفونية غير المنتهية التي تركها مالك بين أيدينا لنتم حركاتها ونبدأ عزفها ..
سيمفونية “الإسلام الحضاري “..
لا تشعل شمعة ..!
يقولون عادة لنا ، مهدئين ، وهم يحاولون كبح ثورتنا ، وما يتصورونه مراهقتنا ونزقنا ” بدلا من أن تلعن الظلام أشعل شمعة ” ..
حسنا جدا . ربما هذا صحيح في الأحوال الاعتيادية ، هناك تكون الشمعة هي الحد الفاصل بين الظلام والنور ..
ولكن ماذا لو كانت الظلمة بحرا هائجا سيطفئ شمعتك اليتيمة ، ماذا لو كانت عاصفة وإعصارا هائلين شمعتك لن تقيد ولا حتى للحظة واحدة ..
.. لقد وصلنا إلى هنا . وصلنا إلى هذه النقطة بالذات ، حيث الظلام تاريخ ممتد ، ومحيط هائج ، وإعصار هائل ..
بملء فمي أقول ، بأعلى صوتي اصرخ ،فلنلعن الظلام بأعلى أصواتنا .. ولكن لا جدوى من إشعال شمعة ..
هذه المرة علينا أن نشعل النار في كل ما يحترف إبقائنا هكذا ..فريسة للآخرين و فريسة لأنفسنا..
ومن يمتلك عود ثقاب ، عليه أن لا يضيعه من أجل شمعة قدرها الانطفاء .
و لكن عليه أن يستعمله من اجل الحريق…
وحده الحريق سيضئ ظلمتنا..و ينير دربنا الحضاري..درب النهضة ..نحو ذلك النور الذي كانه عليه الصلاة و السلام..
الحريق. الحريق. الحريق..
فمن سيفعل أولا؟