تناوب الفكر البشري بين قطبي الواقعية والمثالية(منظور مالك بن نبي)

عدد القراءات :4981

أ.د. محمد سعيد مولاي
جامعة هواري بومدين للعلوم والتكنولوجيا – الجزائر
mmoulaydz@hotmail.com

مقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد،
فكثيرا ما تناوب الفكر البشري كتيار دافق بين قطبين اثنين وهما: “الواقعية” و”المثالية”. وغالبا ما يدل مفهوم “الواقعية” على كل ما هو فيزيائي، حسي، مادي، ظاهري وعقلاني، كما أنه بحسب تعبير مالك بن نبي محيط “بعالم الأشياء” أو “الشيئية”. وأما مفهوم “المثالية” فهو يشمل، غالبا، كل ما هو روحي ميتافيزيقي، معنوي، باطني، ويمتاز بالفكرة المجردة كما يُدرك عموما بالحدس والشعور، وهو كذلك وفق تعبير مالك بن نبي كل ما يحيط “بعالم الأفكار”.
ولعل من أبرز المذاهب الفكرية، عند القدامى، التي سادت عبر العصور والأمصار وأثرت تأثيرا عميقا في مجالات الفكر والعلم والدين: ما ذهب إليه كل من أفلاطون وأرسطو وما حصل بين طريقتيهما من جدال أو وصال بصدد المثالية والواقعية.
وقد أدلى مالك بن نبي بدلوه، مساهمة منه في توضيح تلك المسألة، بتحاليله المتميزة، وبضربه لأمثلة متعددة على غرار “روحانية ابن اليقظان وواقعية روبنسون”. فتقدم من خلال ذلك بتوضيحات جلية عن فطرة الانسان، في تمايلها ذات اليمين وذات الشمال بين باطن الأمور وظاهرها.
وتراوح المد والجزر في مجالات عدة كما هو الشأن بين دعاة “الإسمانية والواقعية” أو بين “الثنائية واللاثنائية”. وتعدى ذلك إلى المفاهيم العلمية التي تتراوح هي الأخرى بين الفكرة والواقع، كمثل مصطلح “الزمكان” في مفهومه على ضوء النظريات الحديثة.
وتلك بعض النماذج التي تدل على تناوب الفكر البشري، هذا الفكر الذي ما انفك يتأرجح بين أعماق “الواقعية” وآفاق “المثالية”. ويتجسد ذلك بصفة أكثر دقة وبيانا في انشقاق أهل الكتاب إلى فريقين: فريق منهم أُشربوا في قلوبهم العجل الذهبي فاثاقلوا إلى الأرض وأخلدوا إليها حبا في أموالها وملذاتها. وفريق زهدوا في الحياة الدنيا وابتدعوا رهبانية ما رعوها حق رعايتها، فتاهوا في شعاب الروحانيات وضلوا سواء السبيل.
ولولا رحمة الله تعالى ببعثة “الرحمة المهداة”، لِفَكِّ البشرية من قبضة المتضادين من الفرق، سواء منها ما كان على مستوى الأفكار أو الأديان، وهدايتها إلى الاعتدال في الأمور كلها، للبث الناس أجمعون يتأرجحون بين غلو المغالين وضلال المضلين. وقد جاء في الذكر الحكيم بيان خلاص الانسانية بما فيها الذين عرفوا الحق وزاغوا عنه، فقال تعالى: “لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ” (سورة البينة).
وهذه الورقة عبارة عن محاولة لإبراز ملامح تلك “البينة” من خلال تضارب القرائح قديما وحديثا، كما جاء ذلك في تحاليل مالك بن نبي أو مما أشارت إليه كثير من البحوث والدراسات في شتى المجالات، بداية من الأسس الفكرية في بلاد اليونان التي تربع على عرشها الغرب ومن دعا بدعوتهم من التغريبيين، ونزولا عند انحراف أهل الكتاب عن التوراة والإنجيل فضلوا بين فكي روحانية عرجاء ومادية دهماء، لا مخرج ولا مفر من التردد بينهما إلا بإذن العلي القدير. ولقد افتقدت البشرية بالأمس إلى تلك “البينة” فجاءتها مشرقة بأنوارها، وها هو اليوم انسان “نهاية التاريخ” يبحث عنها من بعد ما أنهكته الفتن والحروب وساد الفساد في عالم الأشياء وعالم الأفكار على حد سواء.
وبالله التوفيق وهو يهدي السبيل.

1-الفكر الغربي بين مثالية أفلاطـون وواقعية أرسـطو
اعتمد أفلاطون في فلسفته على نظرية “الأفكار” أو “المُثل”. فالعالم وفقه ينقسم إلى قسمين:
أ- عالم حسي يتكون من الأشياء الملموسة والمألوفة لدينا وهو يتسم بالتغيير والزوال.
بـ- وعالم معنوي يشتمل على الأفكار البحتة والمثل الكاملة وكلها خالدة وثابتة لا تتغير.
وما من كائن في العالم الحسي إلا وله “مَثل” في العالم الروحاني: ففي تصور أفلاطون، كل من الأشجار والحجر والأجسام وغيرها من الأشياء المحسوسة: إن هي إلا نسخ غير كاملة وغير وفية “للأفكار” المطلقة.
ويضرب لذلك، في كتابه “الجمهورية”، مثال السجناء في كهف معزول ومظلم: فهم يظنون خطأ أن ظل الكائنات خارج الكهف، التي تعكسها نار موقدة على بعض أطراف الكهف، هي حقيقة تلك الكائنات المحجوبة عنهم. فإذا خرج أحدهم من الكهف بدت له الأمور على حقيقتها، على عكس ما كان يتصوره داخل الكهف.
وكذلك الفرق، عند أفلاطون، بين حقيقة الأفكار أو عالم المثل وشبح “الظلال” التي تنعكس عنها أو عالم الأشياء. وبين هذين العالمين خيط متصل أفقيا، ينقسم في وسطه إلى قسمين: قسم سفلي متغير لا نملك فيه عن حقيقة الأشياء سوى فكرة نسبية أو تصورا ما عنها، وقسم علوي تظهر فيه الأشياء على حقيقتها المثلى1.
فكأن أفلاطون يرى من خلال تصوره هذا أن الأمور تتصاعد من نسبية الحقائق إلى الحقيقة المطلقة، فلا يدرك الانسان من تلك الحقيقة إلا ما تُلقي عليه من ظلالها. وكل مؤمن يتفحص عن كثب مثل هذا التصور يرى بأن أفلاطون يشير – عن علم أو بغريزته الفطرية- إلى كائن أعلى له كمال الصفات ومطلق الأسماء، يتجلى للعباد من خلال ما يحيط بهم من الكائنات. ولعل هذا التصور هو الذي دفع الشيخ الأكبر ابن عربي بأن يعتبر أفلاطون شيخا له لما توسم فيه من المعرفة اليقينية بأمر التجلي الإلهي.
وكان أرسطو يرى عكس أفلاطون، أن الحقيقة كائنة في الأشياء ذاتها وليست منفصلة عنها، وكل كائن مكون عنده من هيولى (جوهر الشيئ) وصورة متلازمتين لا تنفصلان، كما أنشأ مذهبه وطريقته معتمدا على المعرفة “الواقعية” في مقابل المعرفة “المثالية” التي انتهجها شيخه.
فكان يرى في تحرك الكائنات وتغييرها من حال إلى حال أن ذلك يعود إلى أسباب واقعية ملازمة لتلك الكائنات وليس مردها إلى قوى أو آلهة خارج عن نطاقها. وقد توسع في البحث عن هذه الأسباب فعد أربعة منها:
السبب المادي : كون الشيئ مركب من مواد معينة (كقولنا مثلا: الطين هو السبب المادي في تكوين القدر)، والسبب الشكلي (شكل القدر مقعر)، والسبب الفعلي ( الفاخوري هو صانع القدر)، والسبب الغائي (القدر صالح لحفظ الدقيق أو الحليب ولذلك صنع).
وهكذا فتح أرسطو الباب على مصراعيه لدراسة “الفيزياء”، بمفهومها الأرسطي الواسع، لأجل اكتشاف الحقائق والنظر في ما وراء الظواهر.
يقول أحد المعلقين عليه: “كان أرسطو فيزيائيا بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة. فهو يؤمن بأن الأشياء المادية هي المصدر الأول للحقيقة، وبإمكان الفيزياء وغيرها من العلوم دراسة العالم الفيزيائي واستنتاج الحقائق من ذلك”2.
وقد كان لأفلاطون وأرسطو أثر عميق في أوساط الفكر والفلسفة على العموم، وعند أتباع القرآن وأهل الكتاب على وجه الخصوص3. فهؤلاء وأولئك قد بذلوا جهودا كبيرة في التوفيق بين طرحات الفلسفة اليونانية وحقائق الوحي والإيمان، ومنهم من رفض هذه الفلسفة ومنهم من اعتبرها “خادمة” للدين واستعان بها لفهم التعاليم وتقديم الحجج.

2- مسألة الكليات بين “الإسمانية” و”الواقعية”
عندما نذكر اسما جامعا كمثل جنس “الانسان” على العموم الذي يشمل جميع أفراد البشر، أو كمثل نوع “النبات” الذي يعم كل أصناف النباتات من أعشاب وأشجار، فإننا نعبر بذلك عن “كليات” مطلقة وهي مسألة تحمل اسمها4 قد انشغل بها الورى منذ القدم، وقد عرفها أحدهم5 على النحو التالي: “هل الأجناس والأنواع حقائق موجودة في الواقع أم أنها مفاهيم ذهنية بحتة”6!. أي بعبارة أخرى هل لمفهوم كلي كالانسان “واقع” ملموس منفصل عن الأفراد الذين يشتمل عليهم كزيد وعمرو أم أنه مجرد فكرة ذهنية بلا واقع يذكر؟.
وإذا أردنا تأصيلا لهذه المسألة وربطها بموضوعنا، فبإمكاننا الإشارة إلى مختلف الأقوال التي ذكرت حول ما تعلمه أبو البشرية عن ربه من الأسماء كلها: فهل هو علم على مستوى الأفكار أم هو علم بمسمياته من الأشياء ذاتها من بداية الخلق إلى نهايته؟
وقد نشب، خصوصا عند الغربيين وأهل الكتاب، جدل كبير حول هذه المسألة وذهبت فيه الفرق إلى مذاهب عديدة7 تتراوح بين المثالية “الفكرية المجردة” والحقيقة “الواقعية الملموسة”.
فمن جهة قد أقر مذهب الأفلاطونية، كما رأينا سابقا، بوجود الأفكار أو المثل المجردة عن الأشياء، كمفهوم الخير على الإطلاق وغيره من العينات الكلية (paradigmes). بينما يرى المذهب الأرسطوطاليسي غير ذلك كما وضحه طوما الإكويني: إذ يرفض أرسطو، في نظره، أن يكون للكليات وجود حقيقي خارج الأشياء التي يستنبط الذهن منها تجريده لها.
وامتد الجدل إلى العصور الوسطى ، حيث اعتقد البعض في ما يسمى بمذهب “الاسمانية”8 الذي لا يرى في الكليات سوى أسماء مجردة، بينما كان يرى أنصار مذهب “الواقعية”9 أن الكليات موجودة حقيقة وواقعا، ومنهم من انتهج بين ذلك منهجا وسطا في “المفهوماتية”10.
وكان المسلمون، من قبل ذلك، أمثال ابن سينا وغيره، قد اهتموا بدراسة مسألة الكليات وامتد أثرهم في ذلك على التطور الفكري في الحضارة الغربية11.
وتجدر الإشارة إلى أن معالجة هذه المسألة قد اختلفت باختلاف العهود وطبيعة المعارف فيها. لذا نراها قد تحولت من الجدل حول وجود المثل الكلية أو عدم وجودها بين الأفلاطونية والأرسططاليسية لدى القدامى، إلى البحث في العصر الحديث عن الثوابت الكلية التي تشترك فيها متغيرات واقعية في شتى المجالات. فعلى سبيل المثال تطرح نفس المسألة في اللسانيات على النحو التالي: هل من سنن كلية وراء مختلف الألسن البشرية؟
ولا يزال الانسان يسعى في بحوثه عن هذه السنن بالرغم مما جمعه في ذلك وأوعى. وغالبا ما تسعى هذه الجهود إلى إيجاد كليات ثابتة “على مستوى المبادئ”، لمتغيرات تجري على “واقع الأرض”.

3- منظور مالك بن نبي بين روحانية ابن اليقظان وواقعية روبنسون
من الناس من اقتصر تسلسل الجدل المذكور على ظاهرتي المحيا والممات، فلم يبحث عما وراء هذا أو ذاك من مقاصد وأبعاد، ولم يرض إلا بالحياة الدنيا وتجاهل يوم التناد. فذلك مبلغهم من العلم وقد قال عز وجل: “وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون” (الجاثية 45/24).
فهؤلاء هم الدهرية الذين اقتصروا الطريق، فاتبعوا الظنون وابتعدوا عن طلب اليقين.
لكن الفطرة قد جبلت على حب الاطلاع وعمق النظر، وكثيرا ما ترى الانسان يتساءل عن أصل وجوده: فمن أين أتى؟ وإلام المصير: فإلى أين الذهاب؟، باحثا عن مغزى لحياته وعن دوره وسط الكائنات. وقد يقف عند “اللاأدرية” كما فعل بعضهم12، وغالبا ما غاص في أغوار تلك المسائل بحثا عن أجوبة شافية.
فلطالما وقف الإنسان بين الأرض والسماء، تأخذه الدوافع من الأعماق إلى التأمل فيما حوله من مخلوقات،ة فيرى نفسه كأنه في جزيرة معزولة وسط محيط بلا حدود أو كذرة منثورة في خضم كائنات لا تحصى ولا تعد.
وفي هذا المقام كثيرا ما يحس بوحشة العزلة ويغمره هلع وفزع مما يجري وراء الآفاق ووراء كل الأبعاد. فيتساءل أو تنصب عليه المسائل من كل حدب وصوب، ويتقلب بصره ذات اليمين وذات الشمال وإلى كل مشرق ومغرب، فيقف بصره على اتجاهين اثنين، إذ هو: “إما ينظر نحو قدميه إلى الأرض أو يرفع عينيه في اتجاه السماء”13.
فحينما يمد بصره إلى الأرض، ويخلد إليها مطمئنا بالحياة الدنيا، فهو عندئذ كمثل روبنسون كريزوئي14 الذي رمى به الموج، في يوم عاصف، إلى جزيرة معزولة عن الناس، فكان عليه أن يصب تفكيره كله في البحث عن الطعام وأسباب العيش، وهو في هذا الحال يتفاعل مع “واقعية الأشياء” و يأخذ “بأرضية الأمور”.
وحينما يمد بصره إلى السماء ويتأمل فيما وراءها ووراء كل الأبعاد، فهو عندئذ كمثل حي ابن يقظان15 الذي تعلقت نفسه منذ الصغر بغزالة كانت له بمثابة الأم، يلاعبها ويمرح معها في المراعي والأودية. فلما ماتت شق عليه فراقها، وتساءل عن ماهية المحيا والممات، ثم تصاعد في تساؤلاته عن الروح وما علاها وعن كنه السماوات وما وراءها. فهو في هذا الحال يبحث عن الحقيقة على الإطلاق ويتقلب بصره في السماء، لعله يدرك إلام ترجع الأمور وإلى أين المساق؟.
وهكذا تناوب منظور الانسان منذ القدم بين مثالية الروح وأرضية الواقع، ولا يزال الأمر كذلك في العصور الحديثة مع تغيير في الأساليب والمفاهيم، كما هو الحال بين ما يسمى بالجدلية المثالية والجدلية المادية.
فمذا يُعني بهذين المفهومين في جوهرهما؟.
لقد حظيت فلسفة هيغل16 بتأثير بليغ على الفكر الحديث، وكان ممن تأثر بها إلى حد بعيد هو كارل ماركس17 الذي قلب له الأمور رأسا على عقب.
إذ أن جدلية هيغل هي عبارة عن عملية أو ديناميكية تمضي وفقها جميع القضايا من الأمثل فالأمثل نحو “الفكرة المطلقة” وقد سميت “بالجدلية المثالية”. بينما رأى ماركس عكس ذلك وقال بصريح العبارة أن منهجه الجدلي هو “العكس المباشر”18 لمنهج هيغل وأن “جدلية الأفكار ليست سوى انعكاسا لجدلية المادة”19. لذلك اتخذ من مفهوم الجدلية المادية، مع رفيقة إنقلز20، أساسا ومنبعا لحركة التاريخ وتطور الفكر.
يقول ماو تسيتونغ21 موضحا الفرق بين هذين الإتجاهين: “إن الفيلسوف الشهير هيغل الذي عاش في أواخر القرن 18 وبداية القرن 19، قد أتى بمساهمة عظيمة حول الجدلية، لكن جدليته كانت مثالية […]. وإن ماركس وإنقلز قد أخذا بعين الإعتبار وبروح نقدية، الجوانب العقلانية لجدلية هيغل”22.
واعترف ماركس نفسه بمساهمة هيغل في تعميق مفهوم الجدلية فقال: “لقد أصبحت الجدلية بين يدي هيغل روحية لكن هذا لا يمنع بأنه أول من بين أنواع الحركة العامة للجدلية بجميع خصائصها”23.
وهكذا نرى، في هذا السياق، أن هيغل قد ذهب في تصوراته إلى أقصى حدود المثالية بينما ذهب ماركس في تحاليله إلى أقصى حدود المادية.
فغاص الأول في باطن الأمور حتى لج في أعماقها، وقلب الآخر اتجاه المسيرة فولج في ظاهر الأمور طلبا لأسبابها. وقد أيقن أحدهما أو كاد يوقن، بارتقائه في سماء المثالية، بالذي هو الأول والآخر والظاهر والباطن، بينما جحد الثاني بآيات ربه فانسلخ منها وأخلد إلى الأرض. وكثيرا من أهل الكتاب من اعتنق مذهب المثالية لهيغل بينما وجد أنصار المادية ضالتهم في جدلية ماركس.
وقد سادت هذه التصورات الفكرية والفلسفية في القرن العشرين على وجه الخصوص، فحملت أمما وشعوبا على طرفي نقيض: بين اتجاه ليبرالي “مثالي” واتجاه شيوعي “ثوري” يأخذ بأرضية الواقع.

4- بين الثنـائية واللاثنـائية
من المعتقدات التي سادت في العالم وراجت رواجا بعيدا: مفهوم الثنائية24 في طبيعة الأشياء وجوهر الكائنات. والمقصود بهذا المفهوم أن الكون وما يحتوي عليه إنما يقوم على عنصرين أوليين منفصلين، ويقابله مفهوم اللاثنائية وهو عنوان لمدرسة تقر بأن واقع الأشياء في جوهرها يتألف من عنصر واحد وما نراه من اختلاف وتنوع إن هو إلا تعدد في مظاهر ذلك العنصر.
وكان ديكارت25 من أبرز دعاة الثنائية وضرب لذلك مثل “الروح” و”الجسد” في تركيب الانسان. فقد أكد على انفصالية هذين العنصرين، ويذكر أن أحدهما يعود إلى العنصر الفكري26 وهو “الجانب المثالي” بيبنما يرجع الآخر إلى المادة أو العنصر الممتد27 وهو “الجانب الواقعي”. وفي نظره بإمكان وجود الروح دون المادة ووجود المادة بدون الروح.
ثم طرحت مسألة التفاعل بين العنصرين: من أين لهما أن يتماسكا وبأي وسيلة يتحقق لهما ذلك إن كانت طبيعة كل واحد منهما تختلف اختلافا جذريا عن الآخر؟. فاختلفت الرؤى وعارض سبينوزا28 ديكارت حيث أقر بمذهب اللاثنائية وقال فيه على وجه الخصوص:” لا وجود لشيئ إلا الله. الله أحد ، فلا شيئ غيره في الكون”29.
وتجدر الإشارة إلى أن إشكالية الثنائية قد تشعبت عبر تاريخها المديد في شتى المجالات والميادين، بداية من العهد القديم حيث سادت ثنائية أفلاطون بين عالم الأفكار أو المثل العليا وعالم الأشياء الملموسة التي تمثل صورا ظاهرية لتلك المثل. وتأثرت المسيحية على وجه الخصوص بهذا المنظور، وذلك عن طريق القديس أوغستين30 الذي اعتبر الثنائية المتمثلة في “مدينة الله” أو “مدينة السماء” في مقابل “مدينة الأرض”31 .
ولم تنقطع إشكالية الثنائية بأخذ اتجاهات أو صيغ متعددة في العصور الحديثة وذلك في مختلف العلوم والمعارف. كما هو الحال على وجه الخصوص في العلوم الإجتماعية، إذ هي في صورتها الحديثة قد “نشأت وترعرعت في بيئة الإنسان الغربي الذي يتميز فكره بأُطر معرفية ومنهجية خاصة، ترتكز أساسا على التمييز بين عالم الشهادة وعالم الغيب، بين المادة والروح، بين الواقع والقيمة… تمييزا إقصائيا (أي أن التمسك بطرف يستلزم نكران الطرف الآخر) جعل الباحثين الإجتماعيين في الغرب ومن سار على نهجهم في العالم الثالث يغرقون في مجال لا متناهي من الثنائيات الإقصائية (الموضوعية والذاتية، البناء والفعل، الكلية والجزئية، الوفاق والصراع…)”32.
وهكذا تواصل التناوب الفكري في مد وجزر بين لاثنائية تقر بالوحدة في وجود كُلّه تَجَلّي لمن له المثل الأعلى، وبين ثنائية تفصل “الروح” عن “الجسد” فصلا إقصائيا في ما بين المثالي والواقعي. ثم امتد ذلك التناوب ليعم ثنائيات في مجالات لا تحصى ولا تعد، وقد لا يخلو من ذلك مجال العلوم الدقيقة التي تتميز عما سواها بالدقة في تحديد المفاهيم والصرامة في الاستدلال والبيان، وذلك ما سنحاول توضيحه في ما يلي من خلال مفهوم الزمكان.

5- الزمان والمكان بين الفكرة والواقع
لا شيء ندركه أو نتصوره خارج الزمان والمكان، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على الأهمية القصوى والأساسية لكلا المفهومين.
وقد حظيت هذه المفاهيم بدراسات وبحوث قيمة، من بينها نظرية النسبية التي بينت ارتباط المكان بالزمان ارتباطا محكما، وهو ما يعبر عنه مصطلح الزمكان الذي نُحِت بدمج اللفظين. وما تأكد الإنسان من ذلك إلا من بعد قرون خلت اعتقد فيها أن الزمان والمكان حقائق مطلقة وقائمة بذاتها من غير حاجة إلى غيرها، ثم انقلبت لديه تلك “الحقائق” رأسا على عقب في العصر الحديث.
ودون الخوض في هذه الحقائق العلمية، بإمكاننا أن نتساءل سؤالا جوهريا وأساسيا قد خطر على بال أعلام كثر: فماذا نقصد حقيقة بالزمان والمكان؟ وهل بإمكاننا تحديد معانيهما؟.
قد يبدو هذا التساءل غريبا لأول وهلة، لأن الزمان والمكان من المسلمات التي لا جدال فيها، وندرس تلك المفاهيم في مختلف مراحل التربية والتعليم بدون عقدة ولا تعقيد. ولقائل أن يقول: ما السبيل إلى معرفة الكائنات لو افتقدنا إلى معرفة الزمان والمكان؟.
ومع هذا فقد بدت إشكاليات عويصة في مجال الفلسفة والعلوم حول تحديد مفهومنا البديهي للزمان والمكان. ولا يزال الانسان يسعى جاهدا في المزيد من العلم عموما وعن ذينك المفهومين خصوصا: “وقل رب زدني علما” (طه 20/114).
فمن المعتقدات التي سادت قديما أن ليس للفضاء “الخالي” المجرد من أي كائن حقيقة فيزيائية تذكر، وقد شاع المثل: “الطبيعة تنفر من الفراغ”. وكان ديكارت، أحد رواد النهضة الحديثة، يعتقد أن الفضاء مرتبط بوجود الأجسام، فلا وجود عنده إلى فضاء خال من الأجرام والجزيئات.
لكن ما الذي يمنع وجود فضاء مستقل عن الأجسام التي تسبح فيه وتملأه، وتقع في مواقع منه معينة تعيينا كاملا ومحدودا بدقة ووضوح؟. لذلك كان الحسن بن الهيثم يرى من قبل أن للمكان أبعاد يوجد بموجبها وهو خلاء مستقل بذاته يحتضن المواد، إذ جاء في رسالته “قول في المكان”: “… فمكان الجسم هو أبعاد الجسم التي إذا جردت في التخيل كانت خلاء… والخلاء ليس بذي مادة ولا فيه مدافعة ، وإنما الخلاء هو أبعاد فقط متهيئة لقبول المواد”33.
وقال نيوتن بعد ذلك بقول ابن الهيثم، إذ كان يرى أن “الحقيقة الفيزيائية” تكمن في وجود مكان وزمان من ناحية ووجود “نقاط مادية”34 من ناحية أخرى تتحرك وتنتقل نسبة إليهما بحيث، كما يقال في هذا الصدد، “لو انقرضت المادة بقي كيان المكان والزمان مثلما يبقى إطار المسرح بعد خروج الممثلين منه”.
وقد استنكر نيوتن رأي باركلاي35 الذي راج منظوره آنذاك عن غرور الناس بوجود الزمان والمكان وجودا حقيقيا. بينما كان الفيلسوف الشهير كانط يميل إلى ذلك المنظور ويرى أن الزمان والمكان من المفاهيم الذهنية البحتة، فلا وجود لهما إلا بقدر ما نتصوره عنهما من خلال أذهاننا وعقولنا.
وعارض صاحب نظرية النسبية36 كانط وقال بإن للفضاء حقيقة فيزيبائية تماما كما فعل من قبله نيوتن مع اختلاف شاسع في التصور والمنظور. فبينما اعتقد نيوتن كما أسلفنا في وجود مطلق ومستقل لكل من الزمان والمكان، أثبت آنشتاين أنهما نسبيان ويرتبطان وافترض بدل الجزيئات أو “النقاط المادية” عند نيوتن مفهوم “المجال” على العموم مثل المجال الحراري أو المجال الكهرومغناطيسي.
وقد انتشر هذا المفهوم الأخير بين العلوم الحديثة كما في علم النفس وغيره37 وكانت قبل ذلك حلقات متواصلة أدت إلى اعتباره وافتراضه.
فقد كان “المجال” معلوما قبل ظهور بحوث آنشتاين، وكان مرتبطا في البداية بمفهوم الكتلة الثقلية38: فحيث لا توجد المادة لا يوجد المجال لأن هذا الأخير وصف لحالة من حالات المادة ولا ينفصل عنها أبدا.
ثم ظهر، في أوساط القرن التاسع عشر، مفهوم المجال الضوئي الذي تستثنى منه الصفات السابقة، إذ ليس للضوء كتلة ثقلية!. فاضطر العلماء إلى اللجوء آنذاك إلى ما أسموه بالأثير39 وهو مفهوم يدل على مادة ثابتة على الإطلاق ومتواجدة في كل مكان ، وأصبح ممكنا عندئذ تأويل المجال الضوئي والمجال الكهرومغنطيسي على العموم كحالات فيزيائية للأثير، أو بتعبير آخر صار يقال بأن الموجات الضوئية تنتقل على الأثير الضوئي وأن الموجات الكهرومغنيطسية تنتقل على الأثير الكهرومغنطيسي تماما مثلما يقال إن الأمواج المائية تنتقل على سطح الماء.
وهكذا أصبح الأثير عبارة عن فضاء ثابت على الإطلاق وإليه تسند حركة الأمواج الضوئية، وقد اطمأنت القلوب لوجود ساكن لتلك الحركة.
لكن ظهرت بعد حين تناقضات كبيرة حول وجود الأثير، فألغي هذا المفهوم كليّة، وتبين مع نظرية النسبية الخاصة لآنشتاين أن الفضاء كائن حقيقي ومستقر يتجسد في امتداد (Continuum) ذي أربعة أبعاد وهو الزمكان وأن المجال هو الجزء الذي لا يتجزأ في وصف الحالات الفيزيائية كلها، فحل هذا الفضاء محل ذاك الأثير في المرجعية والاستقلال لوصف هذه الحالات.
ثم تبين، مع النسبية العامة لآنشتاين سنة 1915، أن فضاء الزمكان ليس ثابتا ولا مستقلا على الإطلاق: فهو لا يخلو أبدا من مجال الجاذبية بمفهومه العام40 كما أنه يرتبط بما يحتوي عليه من مادة و يتأثر بالأحداث التي تجري فيه و يؤثر بدوره على مجريات الأحداث. فالزمكان ليس بساطا ممدودا لا ينثني ولا يتقوس، بل كل جسم يتنقل فيه يؤثر على “تقوسه” وهو كذلك يؤثر على مسار الأجسام41.
يقول في هذا الصدد بعض الأخصائيين: “لقد حل فضاء الزمكان محل هذا الكائن المتواجد في كل مكان (الأثير) وأصبح ذلك الفضاء يتمتع بقدرته على نقل الموجات أو تغيير مساراتها”42.
ولم يتوقف البحث عن مفهوم الفضاء عند هذا القدر، بل تشعب وفق التصورات والنظريات التي توالت من بعد ذلك، خاصة لما انشقت نظرية الضوء أو “النور” في علوم الفيزياء إلى اثنتين:
أ) النظرية الموجية التي تسببت كما أسلفنا في اختلاق مفهوم “الأثير” ثم تعدى الأمر بعهده إلى مفهوم المجال والفضاء رباعي الأبعاد.
ب) النظرية الجُسيميّة43 التي تبين من خلالها أن الضوء يتصرف كجزيء من الجزيئات التي تملأ الكون.
فظهرت على إثر ذلك ثنائية44 على طرفي نقيض بين الخصائص الموجية والجسيمية للضوء، إذ هي خصائص متناقضة في ما بينها تناقض المحسوس بالملموس، كمثل الظمآن يرى أمواجا من السراب يحسبها ماء صائغا للشراب حتى إذا أتاها لم يجدها شيئا.
ثم وجد مخرج لتلك الثنائية، بعد فترة من الزمن، وذلك على يد لويس دوبروغلي45 بإنشائه لما يسمى بنظرية الميكانيكا الموجية46. فاتحدت النظريتان السابقتان وأطلق على الجزيئات اسم “الموجُزَيئات”47 للدلالة على تماسك الصفتين الموجية والجسمية في العناصر الأولية للكائنات.
وتبين، مع نظرية الكوانطا، أن هذه العناصر الأولية، كالفوتون أو الكهروب، ترتبط بالطريقة التي ننظر إليها: فهي تتصرف تارة مثل الجزيئ وتارة مثل الموجة. مما يدل على أن اللغز الذي طرحته ثنائية “الموجة والجزيئ” لا يزال خفيا مستعصيا بالرغم مما حظي به من دراسات حثيثة وبحوث متواصلة.
كما تبين أنه يستحيل تعيين موقع الجزيئات الأولية في “المكان” إذا علمنا حركتها وسرعة تنقلها عبر “الزمان” والعكس صحيح. ولا نرى من تلك العناصر، مهما كان النظر إليها دقيقا، إلا أشباحا من “الموجزيئات” كمثل صورة فوتوغرافية على صفحة الجريدة: إذا حاولنا تدقيق النظر إليها فلا نرى منها إلا نقاطا سوداء تتخللها نقاط بيضاء، مبعثرة هنا وهناك بلا ترتيب بينها ولا معنى يذكر لها، فإذا ابتعدنا قليلا عن الجريدة تماسكت تلك النقاط وظهرت ملاح الصورة.
فكذلك الأمر إذا نظرنا إلى الكائنات وغصنا في أغوارها.
وكذلك مفهومنا للمكان والزمان في رحاب نظرية الكوانطا: إن الفضاء بأبعاده الأربعة مركب في أساسه من الجزيئات الأولية أو “الموجزيئات”، ولا ينفصل عنها، كما أننا لا نملك صورة عنه إلا بقدر ما يتركب في أذهاننا من علاقات كلية بين تلك “الموجزيئات” الأولية، مثلما ندرك ملامح الصورة الفوتوغرافية من خلال نقاط منتثرة.
يقول في هذا السياق أهل الاختصاص: “إن الكهارب وغيرها من الجزيئات الأساسية: ليست موجودة داخل المكان والزمان، بل إن الزمان والمكان معا هما اللذان يوجدان بواسطتها”48.
فكأنما نقرأ من جديد، من خلال هذا التصريح البليغ، ما كان يعتقده كانط حول التصورات الذهنية للمكان والزمان. ونرى عندئذ أنه كلما أمعنا النظر في تلك المفاهيم استعصت معرفتنا لها حق المعرفة وتراوحت بين الفكرة المجردة والواقع الملموس!.
مما جعل أحد الأخصائيين يقول في هذا السياق: “لم تبلغ البشرية في ما مضى ما بلغته الآن في سباقها إلى المبادئ التي تنوط بجوهر وأعماق الأشياء، ولكنها ليست الأشياء”49.
فهل في ذلك تناقض “ثنائي” بالمفهوم الديكارتي أم “لا ثنائي” بمفهوم ابن عربي، حيث يقول50:
إنما الكـون خيـال وهو حق في الحقـيقة
والـذي يفهم هـذا حاز أسرار الطـريقة
يقول غوس51، في رسالة له بعث بها إلى أحد أصدقائه52، بعد اكتشافه لهندسة أخرى غير الهندسة الإقليدية التي باتت فريدة في وصفها للفضاء طيلة قرون مديدة:
“لقد أصبحت متيقنا أكثر مما مضى بأنه لا يمكن إثبات ضرورة الفضاء الإقليدي في وصف الفضاء الحقيقي: فليس ذلك [البرهان] في متناول العقل البشري ولا في صالحه. ولعلنا في حياة أخرى غير التي نحياها الآن سنتمكن من إدراك طبيعة الفضاء الذي بات بعيد المنال”53.
وهكذا نرى مما سبق أن الفكر البشري ما انفك عبر مختلف مراحله التاريخية يغوص تارة إلى أعماق “الواقعية” ويحلق تارة أخرى في أجواء “المثالية” بكل ما تحمله هذه المفاهيم من معان وأبعاد.
وفي ذلك جدلية منتشرة في مختلف مجالات العلم والمعرفة، وهي ليست عقيمة بلا جدوى ولكنها خصبة ذات أهمية كبرى، إذ تدعو إلى البحث المتواصل عن الحقيقة المطلقة وتنادي كل من ألقى السمع وهو شهيد بالرجوع إلى الحق تبارك وتعالى: “أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون” (قرآن كريم).
وإن الأمر في النهاية مرده إلى الجدل بين الإيمان والإلحاد الذي تنجلي معالمه وأبعاده من خلال انشقاق أهل الكتاب إلى فريقين: فريق شرب من العجل الذهبي فمال إلى حب الذهب وأخواته وتاه في الأرض طلبا للاستعلاء على عرش الماديات، وفريق ابتدع الرهبانية وعزل الدنيا فما استطاع رعاية غلوه في ذلك والشيئ كما هو معلوم إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده فضلوا بذلك ضلالا بعيدا.

6- المنهج الوسطي بين الفريقين من أهل الكتاب
للإيمان درجات كما أن للإلحاد دركات، ومن أعلى الدرجات إلى أدنى الدركات تتواصل حلقات الإيمان والإلحاد. كمثل الطيف الكهرومغنطيسي الذي يمتد من الأشعة الكونية وما فوقها إلى أمواج الراديو فما دونها، والذي يتضمن أنوارا تسعى بين أيدي المؤمنين وظلمات تغمر وجوه الكالحين، كما يشتمل على أنكر الأصوات مثل صوت الحمير وعلى أحسن المزماير مثل مزامير داود.
وقد جاء في الذكر الحكيم مثل الأولين بين أنصار الإيمان وأنصار الإلحاد. كما وردت فيه نماذج عديدة عبرة للآخرين، منها على وجه الخصوص ما جرى لأهل الكتاب في العهود الخالية وما لذلك من آثار بالغة في العصور الحديثة.
ويتعين علينا في هذا السياق ذكر ما جاء عن أهل الكتاب لإلقاء الأضواء على كثير من الاتجاهات العقدية أو الفلسفية وإدراك الخلفيات التي تقف من وراء بعض كبرى المجريات الحاضرة.
6 . 1- أهل الكتاب بين فريقان
لقد كانت سفينة نوح عليه السلام فيصلا بين عهد خلا منذ آدم عليه السلام وبين عهد جديد شهده من نجا على متن تلك السفينة ومن تناسل عنهم وانتشروا في الأرض من بعدهم. وكان إبراهيم من شيعة نوح عليهما السلام، فاتخذه الله عز وجل خليلا وجعله أبا للمسلمين: “ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل” (الحج 22/78).
وكتب الله عز وجل في ذرية إبراهيم عليه السلام النبوة والرسالة، فكان من سلالته بنو إسرائيل الذين فضلهم الله أيما تفضيل وأصبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة وأرسل إليهم موسى عليه السلام لنصرتهم من فرعون وجنوده وهدايتهم للإيمان والعمل بالتوراة، ثم انحرفوا إلا المتقين منهم وآثروا الحياة الدنيا على الآخرة وأحبوا المال حبا جما، فأشربوا في قلوبهم العجل الذي صنعه السامري من الذهب. قال عز وجل عنهم: “وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمتين”(البقرة 2/93).
ثم أرسل المولى عز وجل إليهم المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام وأنزل معه الإنجيل ليردهم إلى رشدهم ويهديهم سبل السلام، لكنهم كفروا بنعم الله عليهم وقست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة وهموا بقتل المسيح عليه السلام فأنجاه الله منهم ورفعه إليه: “وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم “(النساء 4/157). وكان من أتباع المسيح الحواريون الذين انتصروا لله: “فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون” (آل عمران 3/52). فكان منهم النصارى الذين وقعوا في شبهات التثليث وابتدعوا رهبانية لم تكتب عليهم: “ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون” (الحديد 57/27).
وهكذا انشق أهل الكتاب إلى فريقين:
فريق منهم آثروا الحياة الدنيا: “ولتجدنهم أحرص الناس على حياة” (البقرة 2/96)، واثاقلوا إلى الأرض والتصقوا بها. وكانوا أكثر التصاقا وتمسكا بالذهب الذي ابتلوا به (وما يليه من فضة وكل نفيس)، فتداولوه جيلا بعد جيل على مدى أحقاب وأزمان، وتمكنوا بمهارة ومكر من السيطرة على أرباب المال والأعمال وبسط نفوذهم عبر مؤسسات دولية على المعمورة كلها، ولايزال أمرهم كذلك في عصرنا هذا.
وفريق منهم زهدوا في الحياة الدنيا واعتزلوا لذاتها مما أحل الله للعباد، وقالوا بأن ملك الله في الآخرة، واعتقدوا أن ما لقيصر فهو لقيصر وما لله فهو لله.
وهكذا اختلف الناس على غرار هذين الفريقين: أحدهما يغوص في أعماق الماديات والآخر يهيم في أعالي الروحانيات.
وإن كثيرا من المذاهب والطرائق، على مستويات فلسفية أو علمية منذ أفلاطون إلى هيغل كما سبق، قد انتهجت بدرجات متفاوتة مناهج بين ذينك الفريقين. مما يدل على أن الزيغ والضلال قد يكونان في عالم “المثالية” المتطرفة كما يحصلان في أرض “الواقعية” المادية.
6 . 2- المنهاج الوسطي
فكان من رحمة الله عز وجل أن بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، من سلالة إبراهيم عليه السلام، وجعله خاتم النبيين وأنزل معه القرآن لهداية البشرية جمعاء إلى الوسطية بين غلو هؤلاء وأولائك: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا” (البقرة 2/143)، وبين أن ذلك منهاج إبراهيم عليه السلام الذي زاغ عنه أهل الكتاب: “ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ” (الحج 22/78).
ولولا فضل الله عز وجل في بعثة المصطفى رحمة للعالمين لضل الناس أجمعين، جيلا بعد جيل إلى يوم الدين، بين تيه في غياهب الروحانيات ولج في غيابت الماديات.
وترى اليوم تكالب شرار المعمورة في محاربة هذا المنهاج الرباني كما كانوا يصنعون ذلك بالأمس. فهم يسعون بشتى الوسائل للطعن في رسول الله وهو خير البرية، وتحريف كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والنيل من أعراض الذين يأمرون بالقسط من الناس، والمساس بمقدسات دين القيمة التي إنما هي منارات للبشرية جمعاء.
لكن الذي بعث بخاتم النبيين وأنزل الفرقان هدى للعالمين، يقول وهو أصدق القائلين: “يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون” (الصف 61/8).

خلاصة
بهذا يتبين أن الفكر البشري ما انفك عبر مختلف المجالات ومنذ غابر الأزمان، تتراوح أطرافه بين مد وجزر وبين أخذ ورد، تارة ترميه الأهواء إلى السباحة على ظاهر “الواقعية والأرضية” فهو عندذ يثاقل إلى الأرض فيذوق ملذاتها وفتنها، وتارة تدفعه الرياح يحلق في أجواء “المثالية والروحانية” وغالبا ما تخونه أجنحة الغلو فتنكسر وتهوي به إلى الهاوية.
وإن أبعاد هذا التناوب المتصل إنما تبلغ مداها الأقصى بين دفتين اثنتين، تتمثل إحداهما في شراب بني أسرائيل للعجل الذي صنعه لهم السامري من الذهب، وتتجلى الأخرى في الرهبانية التي ابتدعها النصارى وغلوا في أمرها غلوا كبيرا فما استطاعوا أن يرعوها حق رعايتها.
فجاءت بعثة المصطفى (ص) رحمة للعالمين، لنشر منهاج الوسطية والإعتدال في كل المجالات، ولولاها لضل الناس أجمعين، جيلا بعد جيل إلى يوم الدين، بين مد وجزر لا ينتهي ترددها وبين أطراف متطرفة لا ترى إلا نقيضها وإذن لا تهتدي أبدا.
وصل اللهم وسلم على الرحمة المهداة، خاتم النبيين وأشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الهــوامش:
1- “Plato:”The Allegory of the Cave and The Divided Line
2 Morris Kline : “Mathematics: The Loss of Certainty”, p.17
3 أمثال ابن رشد في الإسلام ، وطوما الإكويني في المسيحية وموسى ميمونيد في اليهودية: بحثوا في الانسجام بين العقل والإيمان والتوازن بينهما.
4 هي “مسألة الكليات” (querelle des Universaux)
5 بورفيري (233-309 : Porphyry) في مقدمته لمنطق أرسطو
6 Porphyry’s Eisagoge : introduction to the Categories of Aristotle (third C.)
7 يوجد إحصاء لمذاهب الكليات في: J John of Salisbury, Metalogicon tr. Daniel D. McGarry. Berkeley, 1955.
8 الاسمانية (Nomonalisme)، من أنصارها: روسلين (J. Roscelin 1050-1124)
9 الواقعية (Realisme)، من أنصارها القديس انسلام (Saint Anslème de Canterbury 1033-1109)
10 المفهوماتية (Conceptualisme) ، من أنصارها أبيلار (P. Abélard 1079-1142).
11 انظر تفصيل ذلك في: The Medieval Problem of Universals, in: Stanford Encyclopedia of Philosophy
2 اللاأدرية التي عبر عنها شاعر المهجر إيليا أبو ماضي في الإجابة عن تلك الأسئلة بقوله: لست أدري
13 مالك بن نبي، مشكلة الأفكار، البينات، الجزائر.
14 إشارة إلى قصة روبنسن كريزوي (Robinson Crusoë)، للكاتب: دانيال دو فوي (Daniel deFoe 1660-1731)، وإلى قصة حي بن يقظان للكاتب: ابن طفيل الأندلسي (ت. سنة: 581هـ/1185م )، ذكرهما مالك بن نبي في المرجع السابق للدلالة على الموقفين المتناقضين في الإنسان بين مثالية الأفكار وواقعية الأشياء.
15 انظر إلى المصدر السابق
16 هيغل (F.Hegel : 1770-1831 )
17 كارل ماركس (K. Marx:1818-1883)
18 كارل ماركس (K. Marx) : الرأسمال
Le Capital, Postface à la 2ème édition allemande. Editions Sociales
19 المصدر السابق
20 إنقلز (F. Engels: 1820-1895 )
21 ماوو تسيتونغ (Mao Zedong: 1893-1976)
22 Mao Zedong: Oeuvres Choisies, T. 1, p. 252
23 كارل ماركس (K. Marx) : الرأسمال
24 dualisme
25 روني ديكارت (R. Descartes): 1596-1650 Méditations,
26 res cogitans (cogito, substance pensante)
27 res extensa (substance étendue)
28 سبينوزا (Spinoza): 1632-1677
29 سبينوزا: Nothing exists but God. God is one, that is, only one substance can be granted in the universe. Ethics, I.14
30 القديس أوغستين، Saint Augustin (354-430) évêque d’Hippone (Annaba, Algeria)
31 Cité de Dieu – Cité Terrestre
32 علم الاجتماع من التغريب إلى التأصيل، ر. ميموني… دار المعرفة. الجزائر. ص 22
33 الحسن بن الهيثم: قول في المكان، مخطوط مكتبة الفاتح بإستمبول رقم 3439 ف3.
انظر كذلك في: ٍتراث العرب في الميكانيكا، رجلان شوقي
34 points materiels
35 القديس باركلاي (Bishop Berkley : 1685-1753)
36 La Relativité, Albert Einstein. pbp,Editions
37 مثل نظرية : Gestalt Theory ، التي تعتبر الظواهر السيكولوجية جملة وليست مجزءة
38 masse pondérale
39 ether
40 انظر: La Relativité, Albert Einstein. pbp,Editions
41 انظر لمحة مبسطة عن ذلك في: S. Hawking: A Brief History of Time, p. 44
42 l’étrange histoire des quanta , Seuil 1981 :B. Hoffmann & M. Paty
(1967,1947-59, Points sciences, n. S26. Paris), p.: 42
43 Théorie Corpusculaire
44 تسمى هذه الثنائية ب: dualité onde-corpuscule
45 لويس دوبروغلي: (Louis de Broglie: 1892-1987)
46 أسس لويس دوبروغلي لنظرية الميكانيكا الموجية (mécanique ondulatoire) من خلال أطروحته التى قدمها سنة 1924 بباريس، وبين فيها أن الجزيئات المادية تتصرف كأمواج، وقد أثبتت التجربة ما ذهب إليه على يد الباحثين دافيسون وجرمار (Davisson-Germer Experiment). فأصبح ينظر إلى الجزيئات بصفتيها الموجية والجسيمية معا وصارت تسمى تعبيرا عن ذلك بالموجزيئ: موج + جزيئ
(ondicule: onde+corpuscule)
47 انظر المصدر السابق
48 l’étrange histoire des quanta , p. 190 :B. Hoffmann & M. Paty
49 ترجمة لقول الفيزيائي رولان أمناس (Roland Omnès):
Jamais auparavant l’humanité n’était parvenue aussi loin dans la conquête des principes qui atteignent au cœur et à la moelle des choses, mais qui ne sont pas les choses.
نقلا عن جريدة LeMonde بتاريخ 23-08-05، وضمن مقالة لـ Jérôme Fenoglio بعنوان:
1905,l’année des tournants, Einstein fait éclater la Physique
50 ابن عربي ، ولد في 560هـ/1165 م
51 غوس (F. Gauss). 1777-1855
52 رسالة بعث بها غوس إلى صديق له Heinrich W.Mbers سنة 1817
53 نقلا عن: Morris Kline , “Mathematics: The Loss of Certainty” p. 87

Comments (0)
Add Comment