بعد ثلاثة عقود من وفاة مالك بن نبي مترجمه العربي الأشهر د.عبد الصبور شاهين للمجتمع : مشروع مالك بن نبي النهضوي عقلاني منطقي يرسم مسالك النهضة الحضارية ودروبها

عدد القراءات :3650

يعتبر مالك بن نبي واحداً من رجالات القرن العشرين الذين شغلوا أنفسهم بقضايا أمتهم، وسعوا إلى بلورة الحلول والاقتراحات الكفيلة بإخراج الأمة من تخلفها الشامل المركب، ودفعها إلى معانقة العصر بفاعلية، من خلال تقديمه مشروعاً فكرياً متكاملاً، في وقت كان فيه العالم الإسلامي يعارك فلول الاستعمار أو يعيش مخلفاته التي كبلت حركته، وسممت أجواءه الثقافية والفكرية بإفراز نخبة منه حاولت إفهام الرأي العام المسلم أن القوة في اتباع سبل الغرب وتقليد نموذجه الحضاري، وقد وقف بن نبي رحمه الله ضد هذه الدعوات المضللة وصاغ مقولة “القابلية للاستعمار”، مقتنعاً بأن الهزيمة الحقيقية للجيل المسلم وكل جيل استوفى شروطه نفسها هي هزيمة نفسية لا تزول إلا بتغيير ما بالنفس مصداقاً لقوله تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . (الرعد: 11).
وفي إطار مشروعه الفكري العام وتحديد نوعية وطبيعة المشكلات التي يواجهها المجتمع الإسلامي، كرس مالك بن نبي أغلب جهده الفكري لبحث مشكلة نهوض المجتمع المسلم من الهوة الحضارية التي يعاني منها.
واليوم وقد مر على وفاة بن نبي ثلاثون عاماً، نقف أمام فكره وبعض مواقفه ورؤيته الإصلاحية، من خلال حوار مع الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين الذي ترجم ثمانية كتب من كتبه من الفرنسية إلى العربية، ودارَسه وعايشه فترة طويلة من الزمان.

بداية نود أن نتعرف على قصة تعارفك بالمفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله.

تعرفت عليه في ظروف تعتبر أقسى ما يواجهه شاب في حياته، فقد كنت آنذاك متخرجا في دار العلوم بالقاهرة، ودارساً في كلية التربية جامعة عين شمس، ومفرجاً عني من السجن.
وشاب في مثل حالتي في ذلك الوقت لم يكن من حقه أن يعمل في وظيفة حكومية، وليس في السوق مجال للعمل الحر، ومعنى ذلك أن الإحساس بالضياع كان يحوطني من كل جانب، وأذكر أني كنت أقرأ في ذلك الوقت كل إعلانات الصحف التي تطلب عاملين، وكان من بين هذه الإعلانات إعلان للجامعة العربية عن حاجتها إلى ملحقين دبلوماسيين، وكنت في مرحلة مبكرة قد درست شطراً من القانون والاقتصاد في كلية الحقوق الفرنسية بالقاهرة، فتقدمت في هذا الإعلان ونجحت، ولكني لم أُعَيَّن، فقرأت وكنت في الفصل الدراسي الأول في كلية التربية إعلاناً للإذاعة المصرية عن حاجتها إلى مذيعين محررين، فتقدمت، وكان من حظي أن أكون أول الناجحين في المسابقة وذلك عام 1957م، ونشرت الصحف الخبر المدهش، وأرسل إليَّ مفتش المباحث العامة آنذاك “القائمقام” العميد أحمد صالح داود بضرورة أن ألقاه، وكنا في الفصل الدراسي الأول، وذهبت ولقيني بوجه متجهم، وقال لي بعد قليل من السخرية والاستهزاء: “إنت عاوز تتسلل للإذاعة من ورانا اسمع يا واد إنت ما لكش عمل في البلد دي لا قبل التخرج ولا بعده إنت عاوز تمارس نشاطك ضد الريس والثورة شوف لك شغله برة”.
وضغط على الكلمة الأخيرة وكررها، وهي كانت تعني عندي الكثير في ذلك الوقت، وخرجت من عنده كاسف البال لا أملك دموعي، منقطع السبيل، لا أمل لي في شيء.
وفكرت في الطريق، وعزمت على أنه ينبغي ألا أيأس، فإن اليأس لا يعرفه قلب المؤمن، لا سيما عندما يكون معه ما يشجعه على عدم اليأس، ولقد كنت أملك ميزة يمكن أن أستغلها، وهي معرفة اللغة الفرنسية، فقلت في نفسي: “لو أنني عملت في حقل الترجمة من الفرنسية إلى العربية لن يستطيع أحد ولا عبد الناصر أن يمنعني من العمل في هذا المجال، واللهِ العظيمِ لن أترك هذا البلد”.
كنت في ذلك الوقت منتسباً إلى كلية التربية من ناحية، وإلى الدراسات التمهيدية للماجستير بدار العلوم من ناحية أخرى، والحمل ثقيل، ولكن الإنسان أحياناً يشعر بأن في وسعه أن ينقل جبلاً من مكانه إلى مكان آخر، وفي ساحة كلية دار العلوم، وأنا ذاهب إلى إحدى محاضرات الدراسات العليا، في يوم من أيام مارس 1957، نادى عليَّ باسمي مَنْ لا أزال أذكره وأحمل اسمه في قلبي، تعرف إليَّ، وأخبرني باسمه: “أنا عبد السلام الهراس من المملكة المغربية”، ثم قال لي: “هل تحب أن تترجم كتاباً؟” لم أكن حدثت أحداً بما دار في نفسي من العزم على الاشتغال بالترجمة؛ ولذلك فأنا ما زلت بعد مرور حوالي نصف قرن على هذه الحادثة مندهشاً لما جرى، ما الذي ساق إليَّ هذا الرجل ليحدثني في أمر حدثت به نفسي، مجرد حديث نفس؟!
لم يكن يخامرني شك في أن الشاب عبدالسلام الهراس الذي ساقه القدر إليَّ لم يكن سوى حامل رسالة الرحمة الإلهية التي أخرجتني من ظلمة اليأس إلى ساحة الفرج، وأغلقت حانوت التحكم في مصائر العباد لتفتح بدلا ًمنه ساحة اللطف والتدبير العلوي الحكيم.
وكانت البداية مع هذه اللحظة في كتاب: “الظاهرة القرآنية” للأستاذ مالك بن نبي، وكان قد هرب من باريس إلى مصر إبَّان إعلان الثورة الجزائرية، حين شعر أن الحكومة الفرنسية توشك أن تلقي عليه القبض، فهرب إلى مصر لاجئاً سياسياً، ومعه مجموعة من كتبه التي كتبها بالفرنسية، ولم يكن يعلم شيئاً عن العربية، وكانت خطته لكي يعيش في القاهرة أن يترجم كتبه إلى العربية، ويعيش مما تدره عليه ترجمتها، هكذا فكر، وهكذا كنت قد فكرت، والتقينا على هدف واحد ونية واحدة وعزيمة واحدة، وكنت في ذلك الوقت في الفصل الدراسي الثاني من كلية التربية، بالإضافة إلى انشغالي بالدراسات العليا بدار العلوم، ومع ذلك فإن الهم الثقيل المزدوِج لم يمنعني أن أخوض غمرات التجربة الأولى في الترجمة، فأنجزت للأستاذ مالك في الترجمة كتابه الأول: “شروط النهضة” وتم طبعه.
ويوم ذهبت لأعرف نتيجتي في كلية التربية كانت معي النسخة الأولى من الكتاب أُزْهَى بها على زملائي وأقراني، ولا أعتقد أن أحداً قد مر بمثل هذه اللحظة من السعادة التي مررت بها، حين وجدتني ناجحاً في كلية التربية، ناجحاً في الدراسات العليا بدار العلوم، ناجحاً في الترجمة، وكان ذلك إيذاناً بأن الطريق صارت معبدة نحو المضي في طريق تحدي القهر الذي فرضه الحاكم الطاغية المستبد عبد الناصر على كل من قال له “لا”، وخالفه في اتجاهه.

هل تذكر مواقف لها ذكراها وأثرها في نفسك مع الأستاذ مالك؟

لا شك أنني لا أنسى ما دار بيننا في أول لقاء، وكنت قد ترجمت فصلين من كتاب “الظاهرة القرآنية” عن المذهب المادي والمذهب الغيبي، وقرأت عليه الترجمة الأولى، فما سمعت منه سوى لفظين اثنين: “باهي”، و”الله يجازيك خير”، وتعلَّم مالك بعد ذلك العربية على يدي من خلال مراجعتنا للكتاب الأول: “شروط النهضة”، وللثاني: “فكرة الإفريقية الآسيوية”، والثالث: “الظاهرة القرآنية”، إلى آخر الكتاب الثامن: “فكرة كومنولث إسلامي”، وبمناسبة الكتاب الثاني: “فكرة الإفريقية الآسيوية” فقد ترجمته ابتداءً من الإجازة الصيفية بعد ظهور نتيجة كلية التربية حتى ظهر في طبعته الأولى في 28 ديسمبر 1957م، أي أن ترجمة الكتاب وتصحيحه وطبعه وإصداره كان ذلك كله في خمسة أشهر، مع أن الكتاب حجمه كبير، وكنت قد عينت مدرساً للغة العربية في مدرسة السويس الإعدادية للبنين، وفي الثاني من يناير 1958م بعد ظهور الكتاب بثلاثة أيام ذهبت أنا ومالك لتقديم نسخة منه إلى جمال عبدالناصر، وعليه إهداء رقيق مطبوع: “للرئيس الذي يمسك بيده مقود التاريخ” كما قال مالك، ونشر خبر ذهابنا يوم الجمعة 3-1-1958م، وذهبت يوم السبت مع ضوء الفجر إلى السويس لأبدأ يوماً دراسياً جديداً في عملي، وكانت المفاجأة رهيبة ومذهلة أني منعت من دخول الفصل الدراسي، ووقعت على ورقة بالطرد من التدريس، وخرجت منها بين دموع الزملاء وسواد الرؤية المستقبلية، ومضيت إلى القاهرة ولم أعد إلى السويس منذ ذلك التاريخ حتى الآن.
وقد انتهيت بحمد الله من ترجمة ما تيسر لي من كتب مالك بين عامي 1962 و1963م، وذهب مالك إلى الجزائر، وكان كثيراً ما يتردد على بيروت حيث بدأت كتبه المترجمة تنتشر في المشرق العربي، وما زالت حتى الآن.

الاحتلال الفرنسي للجزائر لم يُبق شيئاً من هويتها ولا عروبتها، فهل كان للأستاذ مالك دور في إعادة الهوية الإسلامية والعربية للشعب الجزائري؟

يعد مالك أول وجه ثقافي يطل من شرفة الجزائر على العالم العربي، وكان وجهاً مشرِّفًا، وله جاذبيته الأسلوبية التي لا ينكرها من يناقشه أو يعايشه، ولا شك أن الجزائر والشعب الجزائري لا ينكر أن أثر مالك وكتبه المترجمة في النُّقْلة الحضارية التي حققها هذا الشعب من الفرنسية إلى العربية.
لكن تعريب الجزائر أسهمت فيه عوامل كثيرة، من أهمها البعثات المصرية التي اشتغلت في مجال التعليم بالجزائر؛ حيث كانت ذات أثر حاسم في تحقيق التعريب وعودة الشعب الجزائري إلى أصله، مع تسليمنا بأن الفرنسيين ما زالت بصماتهم مطبوعة على جبين الجزائر حتى الآن.

كان مالك بن نبي معاصراً لعبدالحميد بن باديس، فهل تأثر بدعوته ومشروعه الإصلاحي؟

كان مالك يحبه ويعتبره من العلامات المضيئة على طريق حرية الشعب الجزائري وتربية الجيل الذي قاد الثورة إلى الاستقلال فيما بعد؛ ولذلك فإن هذا الشعب مدين للشيخ ابن باديس وفكره الإصلاحي فيما يتعلق بتحقيق الحرية، فلم يكن لأي عامل آخر كالماركسية أي أثر في الثورة الجزائرية فيما أعتقد، ولا شك أن كل الإصلاحيين الإسلاميين يتماثلون في الأساس والجوهر، وإن اختلفوا في التفريعات والتفصيلات.

نشأ مالك في فترة كثرت فيها الحركات الإسلامية الإصلاحية التي كان ظهورها نتيجة طبيعية لظروف العالم العربي والإسلامي في ذلك الوقت، فهل استفاد من هذه الحركات أو تأثر بأي منها؟

كانت عند مالك فكرة عن الحركة الوهابية، وكذلك كانت عنده فكرة عن حركة الإخوان المسلمين، لكني كنت ألاحظ أن بعض أفكاره عن الإخوان يشوبها الخطأ والتشويه؛ ولذلك تدخلت في ترجمة كتابه: “وجهة العالم الإسلامي” في تعديل فكرته عنهم، وقد كانت شديدة الانحراف والظلم، والسبب في ذلك أنه لم يكن قد عاش في زمان الإخوان، بل كان متأثراً بما كتب عن الحركة أيام عبد الناصر، وهي كتابات مغلوطة وظالمة، والذين يقولون عن الإخوان ما يقولون في هذه الأيام ويصدرون أحكاما جزافية على الحركة هم في الواقع متعسفون؛ لأن الإخوان منذ عام 1948م وحتى الآن في حرب مستمرة مع الأمريكان و”إسرائيل” وأتباعهما، ومع ذلك فإن جوهر الحركة لم يتغير رغم عوامل البلاء المستمر، ومن المؤكد أن تقدير الإنسان المسلم لهذه الحركة تقدير عميق لا يتأثر بالأحكام الماركسية ولا العلمانية التي يصدرها بعض الكتاب الطفيليين الذين يتعيشون من وراء هجاء الإخوان.
وعلى الرغم من ذلك ستبقى حركة الإخوان المسلمين أعظم الحركات تعبيراً عن الحقيقة الإسلامية، وأقل الحركات تعلقاً بالتفاصيل والجزئيات والفرعيات، وأعمق الحركات تأثيراً في وجدان المسلمين في العالم، فهم الذين قاتلوا في أفغانستان، وهم الذين حرروا شعوباً كثيرة في العالم الإسلامي، وحافظوا على الوجود الإسلامي ماثلاً منتصب القامة أمام العوامل المعادية والتيارات الهدامة؛ ولذلك فإني أعتقد أن حركة الإخوان هي أصدق الحركات تعبيراً عن الأمل في بقاء الإسلام وفي انتشاره، ولو عاش حسن البنا مزيداً من العمر لحقق للأمة الإسلامية مشروع الوحدة الكبرى بجهاده وإخلاصه.
ونعود إلى الأستاذ مالك فأقول: إنه في تقديري صنع نفسه بنفسه، ولم يتأثر بأي من الحركات التي كانت شائعة آنذاك لكنه كان عميق التقدير للشيخ بن باديس.

نموذج الثقافة الغربية أو الغريبة عن الإسلام في نظر البعض دائماً هناك حساسية بين الإسلاميين وبينه، لكن شخصيات مالك بن نبي في الجزائر، وسيد قطب في مصر، وعلي شريعتي في إيران هي في الحقيقة نماذج عملية أثبتت غير ذلك، كيف ترون ذلك من خلال ثقافة كل منهم وما انتهى إليه؟

لكل واحد من هؤلاء الثلاثة أسلوبه الخاص به؛ فمالك متأثر بطريقة التفكير الغربية الفرنسية، وعلي شريعتي له روافده الشيعية في البيئة الإيرانية، وسيد قطب روافده إخوانية سجونية حيث قضى وقتاً طويلا ًمن حياته في السجن، فكلٌّ له طابعه الخاص، لكن الهدف واحد والرسالة واحدة.
وأعتقد أن مالكاً لم يكن لديه صفات الزعامة، إنما كانت عنده صفات المفكر، أما سيد قطب فكانت له صفات الزعامة لكنه لم يدرك فرصتها قبل أن يكون نزيل السجن بشكل دائم، وأما علي شريعتي فكانت بيئته في تقديري بمثابة السجن أيضاً من حوله، حيث حالت بينه وبين المجالات الأخرى مثل مجالات أهل السنة.
وهناك أمر عجيب في كل منهم: مالك كان مهندسا في الكهرباء، وسيد قطب كان متخصصاً في الأدب والنقد، وعلي شريعتي كان متخصصا في علم الاجتماع، إلا أنه جمعهم هدف واحد، وغاية واحدة هي غاية النهضة والإصلاح والفكر الإسلامي.
وأمر آخر أنبه عليه من خلال هؤلاء الثلاثة بالذات، وهو أن ثقافتهم الإسلامية والعربية بحكم البيئات التي نشأوا فيها لم تمنعهم من الاطلاع على ما عند الغرب والاقتباس منه بما لا يتعارض مع مبادئ العروبة والإسلام؛ فسيد قطب تعلم كثيراً في أمريكا، وحصل على الماجستير من هناك، ومالك عاش في فرنسا جل حياته ما عدا فترة اللجوء السياسي والثورة، وعلي شريعتي هو الآخر اقتبس من الثقافة الغربية كثيراً، وهذا دليل على أن الفطرة الإسلامية دائماً تغلب كل العوامل الطارئة، والواقع أن أنموذج الأستاذ مالك دليل قاطع على ما أقوله الآن، حيث إن سفره وإقامته في فرنسا هذه الفترة جعلت منه شخصية إسلامية كأنها نبتت في بيئة إسلامية.

يعتبر بن نبي دارساً للقضاء، ومتخصصاً في الهندسة الكهربائية، فما سر هذا التحول في حياته من الكهرباء إلى هموم النهضة ومغارم الإصلاح ؟

هذا الموضوع ثار مرة بيني وبينه عليه رحمة الله، وذلك حين سألته: أنت تعلمت في كلية الهندسة لتكون مهندساً في الكهرباء، فما الذي دفعك إلى طريق الاهتمام بقضايا النهضة والحضارة؟ فقال لي فيما أذكر الآن : “إنني بعد أن أصبحت مهندساً في الكهرباء رأيت أن أمتي بحاجة إلى مهندس للأفكار أكثر من حاجتها إلى مهندس للكهرباء، فعكفت على دراسة كتب التاريخ والفلسفة والاجتماع لأحقق ما رأيت أنني أستطيع أن أقدمه في بلدي ولأمتي العربية والإسلامية”.
ولذلك يعتبر مالك نموذجا فريداً في هذه الطريق الوعرة.

لكل مفكر أو مصلح مصادره التي يستفيد منها، ومرتكزاته التي ينطلق من خلالها، فما أهم المصادر التي اعتمد عليها مالك في مشروعه الحضاري؟

لو نظرت إلى الجو الذي عاشه في باريس لوجدت أنه قد ترامت في مجاله أصداء الحركة الإسلامية المجاهدة، لا سيما تلك الحركات التي أسهمت في العمل العسكري خلال الأربعينيات، وقد كان هذا تجسيداً لما يملأ واقع العالم الإسلامي من إمكانات مادية وإنسانية، ولا بد أن مثل هذا قد أثر على فكر مالك، وإن اختلف المنهج بينه وبينها، بالإضافة إلى أنك لو قرأت في كتبه لوجدت منطلقاته ومرتكزاته إسلامية أيضا، فهو ينطلق نحو الفاعلية في العقيدة الثقافة ومقاومة الاستعمار والقابلية له وتغيير الواقع عموماً من قول الله تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (الرعد: 11).

الأمة الإسلامية اليوم تحتاج إلى كثير من المشروعات النهضوية الحضارية؛ لاستعادة مكانتها وريادتها، ففي رأيك ما مدى حاجة الأمة إلى المشروع الحضاري لمالك بن نبي؟

مشروع مالك بن نبي النهضوي مشروع عقلاني ومنطقي يصلح درساً للشباب يتعلمون منه مسالك النهضة الحضارية ودروبها، لكن في هذا المشروع نقطة ضعف هي أن مالكاً لم يكن يمثل قيادة فكرية جماهيرية، بل كان منحصراً في ذاته، ربما ألجأه إلى هذا الانحصار قدر كبير من الوسوسة والشك فيمن حوله، فلم يكن يثق كثيراً بأحد إلا بضعة أفراد تبين له من خلال المواقف المختلفة أنهم ليسوا عملاء للاستعمار، ولا يمثلون اتجاهاً استعمارياً إلى اغتياله، وهذا هو مجمل تقديري وتقريري عن الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله.

المصدر : مجلة المجتمع الكويتية العدد: 1564
بتاريخ : 16 أوت 2003م

د. عبدالصبور شاهين
ولد في القاهرة 18 مارس 1929م، كان والده عالماً أزهرياً، دخل الكتاب فحفظ القرآن، التحق بالأزهر، ثم تخرج في دار العلوم عام 1956م، وتدرج في المناصب العلمية حتى أصبح أستاذاً غير متفرغ للدراسات اللغوية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة. تنوعت ثقافته بين أزهرية وفرنسية، وشارك في العمل السياسي من خلال مجلس الشورى المصري عام 1987م، كما اشتغل في مجال الدعوة إلى الله، وكان له نشاط بارز في الخطابة، وأوذي في سبيل الله، فاعتقل من مارس 1955 إلى فبراير 1956م، ثم منع من الظهور في التليفزيون الذي كان من أوائل العاملين فيه، كما منع من الإذاعة، والخطابة. له نشاطه ومجهوداته ومؤلفاته الإسلامية والفكرية واللغوية.

Comments (0)
Add Comment