التّربيّة في مشروع مالك بن نبي الحضاري مفهومها ومميّزاتها

عدد القراءات :3866

أ.محمّد بغداد باي
أستاذ بمدرسة مالك بن نبي – باريس

ملخّص:
تهدف هذه المداخلة إلى تقديم قراءة نوعية تربويّة لفكر مالك بن نبي.
إنّ المتمعّن في كتابات مالك بن نبي الفكريّة يمكنه الجزم ـ في التّحليل الأخير ـ بأنّها كتابات في التّربيّة بالمعنى العامّ للكلمة. فإذا كانت هذه الكتابات تتمحوّر حول فكرة الحضارة ومشكلاتها، إذ أنّها تنطلق من الحضارة لكي تصل إليها (فهي تبدأ بالحضارة لحصر هذه المشكلات لتنتهي إليها بغية إيجاد حلول لها)، فإنّها تجعل من الإنسان ـ باعتباره كائنا اجتماعيّا ـ حجر الزّاويّة في عمليّة التّغيير المرتقب، ما دام أنّه هو المطالب بإحداث هذا التّغيير الذي يستهدفه في نهاية المطاف، إذ تنعكس حصيلته الحضاريّة عليه في شكل ضمانات مادّيّة ومعنويّة.
من أجل ذلك، كان لزاما ـ بداهة ـ أن يكون هذا الإنسان هو موضوع هذا التّغيير، بحيث تعمل التّربيّة بدءا على تغيير نظرته إلى نفسه وإلى التّاريخ، من المعنى القدريّ والسّكونيّ إلى المعنى الإراديّ والحركيّ. فعن طريق التّربيّة إذن يرتقي الإنسان من حالة “الفرد” المرتبط بالنّوع الإنسانيّ إلى حالة “الشّخص” الذي يرتبط بالجماعة وبالإنسانيّة برُمّتها ليساهم من ثمّ في تطويرها وتحضّرها.
لكن هذه التربيّة، التي يُعزى لها القيّام بهذه المهام التثّقيفيّة ـ التّحضيريّة، ما مفهومها ؟ وما مميّزاتها التي تجعل منها تربيّة نوعيّة، تخصّ “إنسان ما بعد الحضارة” تحديدا؟
سنتحدّث في هذه الجلسة القصيرة في موضوع هامّ هو التّربيّة. وسنحاول أن نقدّم من خلال ورقتنا هذه قراءة تربويّة لفكر مالك بن نبي. وطبعا ستكون طبيعة هذه القراءة نظريّة، تدخل في باب ما يسمى بفلسفة التّربيّة.
غير أنّ أوّل ما يتبادر إلى الأذهان بمجرّد أن تمّ الإعراب عن القصد من هذه الورقة هو السّؤال التّالي: كيف لنا أن نتحدّث عن موضوع التّربيّة بالنسبة لكاتب لم يترك فيما خلّف من آثار فكريّة ولو سفرا صريحا بشأن هذا الموضوع؟
إنّه لكي نتمّكن من إدراك ذلك يجب، قبل كلّ شيء، أن نتحرّر من تلك الفكرة المستقرّة في أذهاننا، والتي تربط التّربيّة بالطّفل وبالمؤسّسة التّعليميّة وما لحق بها من برامج وطرق ووسائل، وما إلى ذلك.
إنّ التّربيّة المستهدفة هنا تخرج عن هذه الأطر المعهودة، وإن كانت المدرسة والتّعليم جزءا منها. إنّها تربيّة نوعيّة تتعلّق بالإنسان، “إنسان ما بعد الحضارة”، وبوسطه الثّقافيّ والاجتماعيّ.
إذن، فما هي مسوّغات الحديث عن التّربيّة عند مالك بن نبي؟
على الرّغم من أنّ صاحب “شروط النّهضة ” لم يخصّص ولو كتابا من ضمن مؤلّفاته يعالج فيه موضوع التّربيّة بالكيفيّات (المقاربات) المتداولة بين المختصّين وفي الأوساط الأكاديميّة، فإنّ ذلك لا يمنع من اعتبار إنتاجه الفكريّ إنتاجا في التّربيّة.
فعلاوة على أنّ مؤلّفاته لم تأت خاليّة تماما من أفكار تربويّة صريحة1، فإنّ اهتمامه الكبير بالإنسان لا يمكن ألّا يستوقفنا ويدفعنا إلى التّساؤل عن سرّ ذلك.
مالك بن نبي، كما هو معروف لدى من اطّلع على فكره، صاحب مشروع نهضويّ حقيقيّ ومتكامل. وهو يرسم لمشروعه هذا كغاية إقامة حضارة. حضارة تحصّن الأمّة من ويلات الأمم الأخرى، وينعم أبناؤها في كنفها بالأمن والحريّة والعدل والمساواة من خلال توفّر الإمكانيّات التي تسمح لهم بالتّعبير عن ذواتهم وقدراتهم.
هذا الواقع الغائب، أي هذه الحضارة الغائبة هي الدّافع إلى التّفكير في مشكلاتها، بغيّة إقامتها. وغيّاب الحضارة ما هو إلّا غياب لرأس مالها، أي لإنسانها. وعليه، فكلّ سعيّ في سبيل إقامتها هو سعيّ في سبيل تجسيد حضور هذا الإنسان المتخلّف عن التّاريخ، وإنّ إقامتها هو تجسيد لحضوره فيه.
وغيّاب إنسان الحضارة عن التّاريخ ومشاركته الفاعلة في صنع أحداثه، هو خروجه عن إطارها وغربته عنها، وعن ديناميكيّة التّاريخ الإنسانيّ، باعتباره إنسانا غيرَ مؤهّل.
من هنا كانت كلُّ رغبةٍ في الاندماج من جديد في حركة التّاريخ تقتضي بالضّرورة إعادة تأهيل هذا الإنسان. وإعادة التّأهيل هذه لا يمكن أن يُفكّر فيها بمنأى عن التّربيّة.
ولكن، ما هي هذه التّربيّة التي يعزى لها الاضطلاع بهذه المهمّة التّاريخيّة الخطيرة؟ وما هي مميّزاتها؟
لا شكّ أنّها تربيّة نوعيّة في مفهومها، ووظائفها، ووسائلها، وأهدافها المتّصلة بغاياتها، لأنّها نوعيّة في موضوعها الذي هو “إنسان ما بعد الحضارة”، وتحديدا “إنسان ما بعد الموحّدين”.
بيد أنّ هذا الواقع الغائب مع إنسانه، لا ينبغي البحث عنه خارج هذا الواقع الماثل وإنسانه. والبحث عن الغائب في الماثل يقتضي تغيير الماثل وإحلال الغائب فيه، كي يصير الغائب المنشود ماثلا. وبتعبير آخر، إنّ تحقيق الواقع المنشود هو تغيير للواقع المشهود. وهذا يقودنا إلى الحديث عن العلاقة بين التّربيّة والتّغيير.

فماهي إذن هذه العلاقة؟ وما طبيعتها؟ (علاقة التّربيّة بالتّغيير، والتّغيير بالتّربيّة)
ما دام التّغيير، تغيير الأحوال والأوضاع القائمة، هو المستهدف من مشروع بن نبي الإسقاطيّ، فإنّ الحديث عنه لا ينفكّ عن الحديث عن التّربيّة بمفهومها العام. هذه العلاقة الوطيدة تطبع كامل تحليلات مالك بن نبي. ومردّ ذلك اشتراك هذين المفهومين في الموضوع. فمالك بن نبي قد جعل من الإنسان مادّته الأساسيّة التي تتّجه إليها كلّ مجهوداته في التّغيير، باعتبار أنّ الإنسان هو المنشئ للحضارة. وهذه المادّة التي يتمحوّر حولها التّغيير هي الأصل الذي يقوم عليه موضوع التّربيّة، بحيث يُستحال غياب التّربيّة عن الإنسان، لأنّه لا يمكن أن نثق في الطّبيعة وفي نتائجها2، كما أنّه في نفس الوقت «لا يمكن أن نفعل شيئا بدونها3.»
وإلى جانب اشتراك كلّ من التّغيير والتّربيّة في الموضوع، فإنّهما يشتركان كذلك في الهدف الذي هو تربيّة الإنسان وتحقيق التّغيير، أي تربيّة الإنسان بما يحقّق التّغيير.
ولما كانت العمليّتان التّربويّة والتّغييريّة مقصودتيْن ـ إذ يتعلّق الأمر عند صاحب “شروط النّهضة” بذلك الاختيّار الإرادي كشرط للتّغيير العّام، لأنّ ما دون ذلك هو “التّغيُّر”4 الذي يفرض علينا من الخارج فرضا، كما هو حاصل اليوم، والذي يرهن وجودنا ـ، فإنّه أينما وجد التّغيير وجدت التّربيّة، وأينما وجدت التّربيّة وجد التّغيير. ومن هنا كانت العلاقة التي تجمعهما هي علاقة تلازم، وتداخل، وتكامل.
وعليه، ومن وجهة عامّة، يمكن اعتبار العمليّة التّربويّة تغييريّةً، ما دامت العمليّتان مقصودتين تستهدفان الشّيء نفسه. فالتّربيّة يُستدل عليها بذلك الأثر المقصود الذي تحدثه في الموضوع الذي مورست عليه ـ حسب تعريف “أوبير” الشّائع ـ ؛ وما هذا الأثر إلّا تحقّق التّغيير المرتجى من هذه الممارسة التّربويّة المقصودة.
وفي الحقيقة، أنّ هذا الأثر المنتظر، الذي هو التّغيير (التّغيير أو التّعديل في السّلوك)، يكون نتيجة ذلك “الفعل” الخارجيّ المقصود الممارس على الموضوع، والذي هو التّربيّة.
إنّ التّربيّة تتّخذ من التّغيير موضوعا وهدفا لها، ويتّخذ التّغيير من التّربيّة وسيلة ومنهاجا.
فالتّغيير يبرز كموضوع وكهدف للتّربيّة ـ مثلما هو الشّأن مع مالك بن نبي ـ من خلال تركيزها على الإنسان كمادّة للتّغيير، واهتمامها بمختلف أبعاده، النّفسيّة والأخلاقيّة، والاجتماعيّة والجماليّة، والعقليّة والعلميّة والعمليّة، وممارسة التّأثير (الفعل) عليها بما يحقّق التّغيير المرغوب منه الذي هو هدف التّربيّة المنشود.
وتبرز التّربيّة كوسيلة وكمنهاج للتّغيير من خلال الممارسة التّربويّة التي تتطّلب انتقاء الأهداف وترتيبها5، واختيّار الوسائل الأكثر نجاعة وانتهاج أفضل الطّرق لإحداث الأثر (التّغيير) المرتقب، وهذا في إطار الاستغلال الأمثل للمتوفّر من الإمكانيّات.
ومن هنا يتّضح، بأنّه لما كان التّغيير الذي ينشده بن نبي ينطوي على مفهوم عامّ واسع يشمل الإطار الثّقافي برّمته، كان مفهوم التّربيّة الملازم له هو الآخر أيضا مفهوما عامّا واسعا، يتجاوز حدود التّربيّة الشّكليّة (المدرسة) وكلّ ما لحق بها من مقرّرات ووسائل وطرق تعليم وما إلى ذلك، ليرتبط بنفس هذا الوسط الثّقافيّ والاجتماعيّ في سيرورته التّاريخيّة وعبر جميع مراحل مشروع إعادة البناء الحضاريّ. هذا ما تؤكّده عبارته: «المدرسة لا تحلّ وحدها مشكلة الثّقافة، لأنّ حلّها يبدو متأتيّا عن شروط أكثر عموما»6. ويتمّ ذلك في ظلّ التّصوّر الحضاريّ العامّ لبن نبي وأهدافه الموجّهة العامّة والمرحليّة الخاصّة.

– فما هي يا ترى هذه الأهداف الموجّهة العامّة؟ وما هي هذه الأهداف المرحليّة الخاصّة؟
التّربيّة بما هي عمليّة إسقاط مستقبليّ (أو استثمار حسب مصطلح التّنمويين)، وبحكم طبيعتها الدّيناميكيّة، لا تعمل في فراغ، بل تحتاج إلى أهداف منتقاة تبرّر وظيفتها. وهذه الأهداف هي التي تحدّد للتّربيّة المواطن أو المراكز التي يجب أن يقع عليها تأثيرُها، بمعنى يوجّه نحوها الفعل التّربويّ، ما دام الهدف تعريفا هو تعبير عن دافع قويّ ورغبة شديدة. ولئن كانت هذه المواطن تمثّل أهدافا نوعيّة أو جزئيّة، فإنّها في الواقع تترجم أنواعا من التّربيّات، وتكون مشتقّة من أهداف أعمّ منها. ولما كانت هذه الأهداف القصوى بحكم طبيعتها الغائيّة تتقاطع مع الغايات التي تبرّر وجود المجتمع كما تبرّر بالمثل استمراريّته، كانت توجَّه على أساسها كلُّ جهوده في النّشاط.

فأين تكمن هذه الغاية الموجّهة؟
لا يصعبّ على كلّ من اتّصل بفكر مالك بني وتأمّله أن يقف عند الغايّة الكبرى التي وجّه كلّ طاقاته الفكريّة والعمليّة صوبها وربط مشروعه بها. وتكمن هذه الغاية القصوى، كما مرّ معنا، في إعادة تشييد البناء الحضاريّ المنهار، وتكريس آليّات حركته عبر الأجيال المتلاحقة، والارتقاء به إلى مستوى آمال وتطّلعات الإنسانيّة، وهذا عن طريق إعادة تشكيل “الإنسان المستقبليّ”7 الرّساليّ، روحيّا، وسلوكيّا، وعقليّا، وعمليّا. ومفردتا “إعادة” و”رسالة” هنا تنطويّان على دلالات عميقة.
ومفاد ذلك أنّ مجهودات مالك بن نبي في التّغيير ترمي إلى تقديم بديل ثقافيّ واجتماعيّ لما هو موجود. هذا البديل يتمثّل في خلق واقع اجتماعيّ لم يوجد بعد8، أي مجتمع تتجسّد فيه سمات التّحضّر، ويجد فيه كلّ فرد من أفراده الضّمانات الضّروريّة، المادّيّة والمعنويّة، لنموّه في كلّ طور من أطوار حياته، هذه الضّمانات التي تمكّن كلّ الفعّاليّات في المجتمع من التّعبير عن قدراتها وإراداتها. لأن، بالنّسبة لبن نبي، المجتمع الذي لا يسعى لأن يكون «مجتمع حضارة فهو معرّض للحرمان من [هذه] الضّمانات (…) وأنّ تحقّق الحضارة يعني تحقيق شروط الحياة»9. وبهذا المعنى تصبح الحضارة تعبّر عن «شكل راقٍ من أشكال الحياة الاجتماعيّة.»10
إنّ العمل على خلق واقع اجتماعيّ وثقافيّ غير موجود أصلا يعرب لدى بن نبي، كما هو معروف، وكما هو الشأن لدى كلّ المنظّرين الكبار للتّربيّة عبر التّاريخ11، عن تقييمه للوضع العامّ المتردّي الذي أصبح يميّز الواقع الماثل للمجتمع المسلم في مرحلته التّاريخيّة الحاليّة ومنذ سقوط دولة الموحّدين. وهذا هو السّبب الذي جعل من فكرة التّغيير عنده هي شغله الشّاغل وهدفه الرّئيس الذي لا مناص من تحقيقه.
بيد أنّ التّغيير هذا، وإنْ كان يريده جذريّا، لن يتحقّق في نظره إلّا باستعادة المجتمع لمبرّرات وجوده الأصليّة المؤسّسة على قيّم الرّوح. هذه المبرّرات التي أدخلته التّاريخ أوّل مرّة، وصاغت مرجعيّته الثّقافيّة الخاصّة آنذاك. لهذا نراه يتحدّث عن التّغيير من منطلق “إعادة البناء”.
ويركّز مالك بن نبي في عمليّة إعادة البناء هذه على الخصوصيّة الثّقافيّة للمجتمع، ويوجّهها نحو غاية ساميّة تتجسّد في تبليغ “رسالة عالميّة” أصيلة، تكون محمّلة بمعاني وقيّم الإسلام الخالدة، من سلام، وإخاء، وعدل، ومساواة، وتعاون، وتعايش، …، إلى الإنسانيّة قاطبة، وهي المعاني والقيّم التي افتقدتها وتفتقدها حضارة هذا العصر.
وهذه الرّسالة الحضاريّة التي تحمل في العمق معنى الأمل، للمسلمين ولغيرهم من البشر، هي في الأصل تعبير عن ذاتيّة هذه الحضارة التي عُرفت وتميّزت بها، لأنّها تتأسّس على الجمع الموثّق بين “الصّحة” و”الصّلاحيّة”12، أي بين الصّدق الدّاخليّ للفكرة الدّينيّة التي يؤمن بها المسلمون وتطبيقاتها.
ولا يتوقّف هدف بن نبي عند تحقيق التّغيير الذي ينتهي بإقامة حضارة وبدورها الرّسالي، بل يتجاوزه إلى البحث عن الآليّات التي تحفظ هذا التّغيير من التّراجع والمجتمع من النّكوص. لهذا كان هدفه أيضا هو التّركيز على التّجديد ـ أو بالأحرى التّجدّد الذي ينبعث من الدّاخل ـ المستمر للحوافز والمبرّرات للإبقاء على الحالة الحضاريّة، لأنّ استمرار الحضارة يدلّ على وجود حركة دائبة تخضع في عملها لقانون فيزيائيّ قوامه “الحركة هي التي تؤّدي إلى أسبابها”13. وهكذا تصبح حركة التّاريخ، إذا ما تحقّق هذا الهدف، غير قابلة للحتميّة الدّائريّة14.
– ومن أجل تحقيق هذه الغاية القصوى تتجمّع جملة من الأهداف الجزئيّة فتصوّب نحو الوعي لتنبيهه، والإرادة لشحذها، والضّمير لإيقاظه، والعقل لإعماله، والعضلات لتحريكها. وهذه هي الشّروط الضّروريّة التي يراها صاحب “شروط النّهضة” كفيلة بخلق شروط الفعاليّة لدى إنسان ما بعد الموحدين. وهي الشّروط التي تمكّنه من التّخلّص من مورّثات الماضي السّلبيّة ورواسبه، كما تمكّنه في ذات الوقت من إيجاد ظروف مادّيّة ومعنويّة جديدة تصله بعجلة التّاريخ وجدليّة حركتها الصّاعدة15.
هكذا يستكمل الإنسان المسلم، في نظر مالك بن نبي، شروط استخلافه في الأرض، لأنّه يكون عندئذ قد أحيا في نفسه دواعي السّماء، فربط بذلك الحقيقة الغيبيّة، مصدر مبرّرات وجوده، بحقيقته الأرضيّة، مصدر سعيه ورزقه16. وهو ما يعني تجسيد صدق الفكرة عمليّا الذي يقيه من شرّ انتقام أفكاره المطبوعة.
– هذا، وأنّ ما يلاحظ على هذه الأهداف هو ارتباطها الحميم بتلك الوسائل الأوّليّة، من أجل الاضطلاع بهذه المهمّة التّاريخيّة الخطيرة، والمتمثّلة في القلب، اليد والعقل، باعتبارها وسائل ملازمة للإنسان في كلّ حين، أي مهما تغيّرت ظروفه النّفسيّة – الاجتماعيّة، ما دام أنّ كلّ نشاط يقوم به الإنسان إلّا ويكون مصدره هو دوافع القلب، تحرّكات اليد وتوجّهات العقل17. فإذا كانت أعمال علماء الآثار قد أثبتت علاقة اليد بالعقل، بحيث أنّه كلّما تحرّكت اليد وعملت حرّضت العقل على الابتكار، يبقى أن نضيف ـ لاستكمال فكرة بن نبي ـ دور الإرادة التي تحضّ اليد على الحركة والضّمير الذي يعمل على توجيه ابتكارات العقل فيما يفيد الإنسانيّة ويسعدها لا فيما يضرّها ويتعسها. وهذا الضّمير يستمدّ مقوّماته من عقيدة الفرد التي يؤمن بها.
– ونشير هنا إلى أن جملة تلك الأهداف الجزئيّة أو النّوعيّة تعكسها جملة من التّربيّات التي من بينها:
– التّربيّة الإيديولوجيّة، التي تهدف إلى تنميّة وعيّ إنسان ما بعد الموحدين، وهذا عن طريق إعادة تشكيلها وتفعيلها للجهاز المفاهيميّ المرجعيّ المؤطّر للغايات والأهداف، وللعلاقات الفاعلة والنّشاطات المنتجة في المجتمع.
– التّربيّة الأخلاقيّة، التي تهدف إلى تشكيل “عالم الأشخاص” الذي يُتَسَنَّى من خلاله تشكيل “عالم الأفكار” و”عالم الأشياء”، وهذا عبر عمليّة الإشراط (التّرويض، والتّهذيب، والتّوجيه)18 للطّاقة الحيويّة للأفراد، لتجعل منهم أفرادا مكيّفين، أي “مُتَشخْصِنين” يسمون فوق حاجة النّوع، فيتّصلون بالمجتمع وبالإنسانيّة بمساهماتهم وإبداعاتهم في تقدّم نوعهم.
– التّربيّة الجماليّة، التي تهدف إلى تشكيل الذّوق العام وتجميل النّفس والمحيط، وهذا عن طريق جعل النّفس تستهجن وتنفر من كلّ قبيح وكلّ ما يقرّب منه، في الأقوال والأفعال، والمناظر والأشكال والأصوات والرّوائح، وبالمقابل تستحسن الجميل وتسعى في طلبه.
– التّربيّة الإنمائيّة، التي تهدف إلى القضاء على “ذهانيْ الاستحالة والاستسهال” وكلّ ضروب العطالة عند إنسان ما بعد الموحّدين، وهذا من خلال تمكينه تحصيل الخبرة وإكسابه لمعنى الفعاليّة التي تقوم على الإرادة والانتباه وعلى ربط دوافع العمل بوسائله وأهدافه.
– التّربيّة المدنيّة، التي ترمي إلى تنميّة الحسّ المدنيّ في المجتمع، وخلق الشّعور الدّيمقراطيّ لدى أفراده وتجسيده في سلوكاتهم، وهذا من خلال تعليم هؤلاء الأفراد فن العيش المشترك، القائم على الاحترام المتبادل.
وممّا يجب الإشارة إليه في هذا المقام هو أنّ مجموع وظائف هذه التّربيّات تتداخل وتتفاعل وتتكامل فيما بينها، وهذا لغرض خدمة حقيقة واحدة ألا وهي ممارسة التّأثير على هذا الإنسان، المتعدّد الأبعاد، بما يمكّنه (يؤهّله) من أداء الدّور المنوط به تاريخيّا.

ولكن، ما طبيعة هذه التّربيّة؟
لئن كانت هذه التّربيّات مجتمعة تركّز على البعد الاجتماعيّ بما يجعلها تدخل تحت ما يسمى بـ “التّربيّة الاجتماعيّة”، فإنّ ذلك لا يعني أنّها تربيّة تضحّي بالفرد في سبيل المجتمع، مثلما هو الشّأن مع النّظريتين الماركسيّة والدّوركايميّة، أو كما زعم الدّكتور علي القريشي في دراسة له حول فكر مالك بن نبي التّغييريّ19.
إنّ هذا الاهتمام، الزائد نسبيّا، بالجانب الاجتماعيّ ما هو إلّا تعبير عن أسبقيّة نسبيّة وليست مطلقة للتّربيّة الاجتماعيّة، وهي أسبقيّة استراتيجيّة يبرّرها الظّرف التّاريخيّ للمجتمع المسلم المتخلّف، وذلك من أجل تحقيق شروط “الإقلاع” الحضاريّ، كون المهمّةَ عظيمةٌ، وهي ليست في متناول الفرد الواحد مهما أوتي من عبقريّة20.
إنّ نظرة بن نبي هذه هي نظرة وسطيّة تجمع بين الفرد والمجتمع، وليست نظرة متطرّفة تركّز على أحد الطّرفين النّقيضين على حساب الآخر، وهو ما يجعلها تنسجم مع فلسفة الإسلام المتميّزة التي تهتمّ بالمجتمع والفرد معا وتعتبرهما قوّتين متكاملتين. هذا ما تعبّر عنه مقولة “الفرد للمجموع، والمجموع للفرد” التي يوظّفها بن نبي في تحليلاته في كتابه الموسوم بـ “ميلاد مجتمع”، والتي يمكن أن تُتّخذ كقاعدة تربويّة تتحقّق في ظلّها النّهضة المرغوبة.
وكدليل على أنّ التّربيّة البنّبويّة، في مفهومها العامّ، تراعي مصلحة الفرد مراعاتها لمصلحة المجتمع هو حالة تحقّق مجتمع الحضارة ـ كما يتصوّرها مالك بن نبي ـ، كمرحلة متطوّرة في مسيرته التّاريخيّة، إذ يأخذ هذا المجتمع كامل معناه عندما يصبح كلّ فرد من أفراده ينعم بجميع الشّروط المادّيّة والمعنويّة التي تساعده على النّموّ في كلّ طور من أطوار وجوده، كما يصبح كلّ فرد فيه قادرا على تحقيق ذاته والتّعبير عن قدراته21.
وهذا معناه أنّ الحضارة إذا ما تحقّقت استفاد الفرد من قيّمها وضماناتها، وبالتّالي استطاع أن يعبّر عن ذاته وكانت لقدراته أصداء22 تحتضنها في مجتمعه. وقدرة الفرد وإرادته لن تتحقّقا إلّا في ظلّ تحقّق قدرة وإرادة المجتمع ؛ وتحقّق قدرة المجتمع وإرادته تتجلّيان في صورة قيّام حضارة.
إنّ توفير هذه الضّمانات من قبل المجتمع يعرب عن مسؤوليّة هذا الأخير إزاء أبنائه، وهو الأمر الذي يتولّد عنه شعور هؤلاء الأبناء بالأمن والعدالة والحريّة. ومن شأن هذا الشّعور أن يتسبّب في تكريس ذلك الجوّ المنعش المبني على الثّقة المتبادلة التي تعدّ إحدى ركائز العمل الجماعيّ المثمر.
هذه المساعدات أو الضّمانات التي يقدّمها مجتمع الحضارة لأبنائه ليست ضروريّة فقط لوجودهم كذوات مفردة، بل هي ضروريّة كذلك لأنّ تحقيق وجود هؤلاء الأفراد يتجاوز في العمق الأخذ الذي يتلقّونه من مجتمعهم (حضارتهم) إلى العطاء الذي يمكن أن يقدّموه له. وعليه، فإنّه على قدر ما تكون هذه الضّمانات متوفّرة تنمو شخصيّاتهم وتتّزن وتتفتّق ملكات الإبداع عندهم.
هكذا يصبح قوام فلسفة مالك بن نبي التّربويّة، الذي هو أحد مميّزات هذه الفلسفة التّربويّة، هو المجتمع والفرد معا، كلّ منهما يعضد الآخر في عمليّة تأثير متبادل تحفظ للمجتمع كيّانه وتضمن استمراريّة حركتهِ ومسايرته الفاعلة للتّطوّرات الحادثة. هذا ما تؤكّده عبارة بن نبي: « … يربط هذا التّبادل شقّين متّحدين ـ وإن كانا منفصلين ـ في وظيفة محدّدة: أحد عضويْها الفرد، والثّاني المجتمع ؛ وهي متّفقة في الوجود مع عمليّة تثقيف».23

– فما هو يا ترى مفهوم هذه التّربيّة النّوعيّة، وماهي مميّزاتها؟
تأسيسا على الاعتبارات السّابقة يتحدّد مفهوم التّربيّة البنّبويّة ليدلّ على أنّها “عمليّة إسقاط تثقيفيّة”، ما دامت أنّها ترمي إلى إيجاد واقع مجتمعيّ متحضّر يصل أفراده بالمستقبل الواعد وبشروط الحياة الكريمة.
أو هي “عمليّة تثقيف متواصلة”. وتتمثّل عمليّة التّثقيف هذه في تلك العمليّة النّفسيّة التي تقوم ـ في أولى مهامها التّاريخيّة المرحليّة ـ بـتركيب عناصر ثقافة المجتمع في بِنيّة شخصيّة الفرد، أي في بنية إنسان ما بعد الموحدين.
وكون التّربيّة هي عمليّة تثقيف يكسبها معنى المنهج الذي بواسطته يتمّ تشكيل وحدة الثّقافة التي تعكس حضارة المجتمع، وذلك عبر تشكيل العوالم المؤلّفة لها وتوجيهها نحو الغايّة التي تُرسم لها.
ويزيد كسبها لمعنى المنهج وضوحا في تشكيل عوالم الثّقافة هذه وتوجيهها، وذلك من خلال عمليّة التّركيب النّفسيّ لعناصر الثّقافة (المبدأ الأخلاقيّ، المبدأ الجماليّ، البعد العمليّ والجانب الفنّيّ، التي تصبح كلّها أهدافا للفعل التّربويّ، أي لتربيّات نوعيّة) وترتيبها وفق ما ينسجم والوجهة التي يختارها المجتمع لنفسه في شقّ طريقه نحو الحضارة.
وعمليّة التّركيب النّفسيّ هذه تدّل على أهميّة الإنسان البالغة بالنّسبة لعمليّة إعادة البناء الحضاريّ. فهي تقوم بتغيير نظرته لنفسه ولأحداث التّاريخ، فيتحدّد بذلك موقفه ومسؤوليّته إزاء وضعه المجتمعيّ ومصيره24. وبهذا تصبح هذه العمليّة مرتبطة بنَاتِجها المتمثّل في تغيّر السّلوك. وهذا يوضّح تماما موقف صاحب “شروط النّهضة” الذي يشدّد فيه على أن توجّه المجهودات نحو البحث عن نظرية للثّقافة تتعلّق بسّلوك إنسان ما بعد الموحدين لا بالمعرفة لديه، بمعنى نحو المعرفة الفعّالة التي تجد فيها الأفكار النّظريّة ظلّا ملموسا لها في الواقع الحياتيّ فتربط بذلك بين الصّحة الذّاتيّة للفكرة وصلاحيّتها الموضوعيّة.
وباعتبارها عمليّة تثقيف يجعلها تربية شاملة ومتكاملة: شاملة لكافة شرائح المجتمع وفئاته، للمرأة والرجل، للصغير والكبير، للأمّيّ والمتعلّم، للمواطن والمسؤول، للفقير والغنيّ، … ؛ ولكافة مؤسّساته ؛ ومتكاملة لمختلف جوانب شخصيّة هذا الإنسان بما يحقّق توازنه (روحيّا وأخلاقيّا، وجماليّا، وعقليّا وعمليّا، أي نفسيّا واجتماعيّا وإنسانيّا).
وكونها عمليّة متواصلة أو مستمرّة يمنحها صفة الحركة الدّائمة التي لا تنتهي عند مرحلة معيّنة لمجرّد أنّها حقّقت هدفها المرحليّ. وصفة الحركة هذه تكون ملازمة لصفة أخرى تمتاز بها هذه التّربيّة، ألا وهي صفة المرونة التي تأخذ بعين الاعتبار التّغيّرات الحاصلة جرّاء التّأثيرات التّربويّة المتواصلة في الموضوع الذي يؤثر بدوره في المحيط.
وعندما يتمّ، في مرحلة لاحقة، تشكّل هذا المحيط، الذي يعدّ إطارا حيويّا يحتضن هذا الإنسان، تكون عندئذ الشّروط الموضوعيّة قد تحقّقت، كما تكون “المقاييس الذّاتيّة” قد اتّضحت، وهو ما يعني أن “مفهوميّة” أو إيديولوجية المجتمع قد أعيد تشكّلها. وبالنّتيجة تكون معالم الأسلوب المميّز لهذا المجتمع “الجديد” (الجديد في ثوبه المتجدّد في دمه) قد ارتُسمت، بحيث يصير ذلك الانسجام والتّوافق بين السّلوك الفرديّ والأسلوب العامّ هما السّمة التي تطبع الحياة فيه. عندئذ تقوم التّربيّة بـتجديد وظيفتها، فتعمل على المحافظة على ما تمّ إنجازه من مكاسب، باعتبار أنّ هذه المكاسب هي مسيرة أجيال ونضال أمّة. ويكون ذلك عن طريق ترسيخ وتكريس هذه المفهوميّة بما يضمن تجدّدها واستمرارها. وهنا تغدو وظيفة التّربيّة “تحصينيّة”.
والمقصود بالتّحصين هنا هو حماية هذا التّركيب لعناصر ثقافة المجتمع في نّفسيّات الأفراد من التّحلّل والتّذرّر، وكذا حماية ما ينتجه من مكاسب ثمينة، على اعتبار أنّ هذه المكاسب عامّة للجميع وليست خاصّة بيد فئة معيّنة. وليست تعني المفردة السّكون المثبّط للإرادات والدّاعي لإعادة إنتاج ما هو موجود، بل إنّها تحمل معنى إيجابيّا يكمن في تلك اليقظة وتلك الإرادة الدّائمتين، باعتبارهما تدخلان في السّلوك الانعكاسيّ لما يجب أن يكون عليه المسلم الخليفة الحريّ بهذا التّشريف الذي يتماشى مع التّكليف، واللازمتين أيضا للذّود عن هذا الصرح الحضاريّ المُشَيَّد ضدّ “القوارض”، وضدّ كلّ أنواع الأفكار، “المقتولة” منها و”القاتلة”، بحيث تتمّ مواجهتها بفكر نقديّ بنّاء، جريئ ومتفتّح يعرف كيف يستخرج “أفكاره العمليّة” من “أفكاره المطبوعة” لمواجهة مشكلاته الحياتيّة ومن دون أن يخجل بما يصوغ من مصطلحات خاصّة به تكون قريبة من شعوره ومعبّرة عن واقعه25، ومن غير أن ينجرف نحو التّرف العقليّ الذي يبتعد به عن الواقع الذي تؤلمنا شدّة وطأته علينا وتهدّد وجودنا.
وهذا كلّه يجعل هذه التّربيّة منسجمة مع واقعها المتميّز، لا غريبة عنه لأنّها تنطلق من معرفتها العميقة له. فهي إذن ليست كتلك المحاولات المستوردة التي جاءت لتحلّ مشاكله فزادت من غربته، وبالنّتيجة من تيهه وفوضاه.
ويبقى أن نشير أنّه إذا كانت، من جهة، معرفة التّربيّة هذه لحقيقيّة حال إنسان ما بعد الموحّدين وواقعه تجعل منها تربيّة من أجل الوجود، فإنّ غايتها، من جهة أخرى، المتمثّلة في إقامة حضارة ذات رسالة عالميّة مميّزة، تجعل منها تربيّة من أجل الماهيّة. وهكذا تصبح هذه التّربيّة تربيّة وجود وماهيّة معا، أي تربيّة وجود ماهويّ أو ماهيّة وجوديّة.

لكن، كيف يتسنّى لهذه التّربيّة مواجهة هذا الواقع المرفوض؟
إنّ التّربيّة التي تُسند إليها مهمّة استحضار هذا الإنسان الغائب ووسطه الثّقافيّ، ترتكز عند بن نبي على وظيفة تجديديّة مزدوجة: وظيفة تجديديّة سلبيّة تُبنى على النّقد، فتقيم قطيعةً مع رواسب الماضي ومورّثاته وأفكاره الميّتة ؛ ووظيفة تجديديّة إيجابيّة تُبنى على التّغيير، فتقوم بزرع أفكار جديدة عمليّة ـ مبتكرة ـ، كما تقوم في نفس الوقت بتطعيم النّاقص وتفعيله، وإيقاظ الكامن وتنشيطه، ومن جهة ثالثة، تقوم بتوجيه الموجود ليتمّ استغلاله أحسن استغلال. وإذ تقوم التّربيّة هذه بهذه الوظيفة المزدوجة، فهي في الواقع تسعى للتّأسيس لتقاليد جديدة، وتعمل في نفس الوقت على ترسيخها في نفسيّات الأفراد وعقليّاتهم، ليصيروا بعد تمثّلهم لها أفرادا مكيّفين لا تتنافى انعكاساتهم الفرديّة مع العلاقات الاجتماعيّة26، وهي الحالة النّفسيّة – الاجتماعيّة التي يتجسّد معها المعنى الذي يمنحونه لوجودهم.
وعليه، تصير هذه التربيّة تثويريّة تحريريّة. فهي تثور على هذا الواقع المرّ المرفوض، على عقليّاته المتحجّرة وهياكله الباليّة، من أجل تحرير إنسان ما بعد الموحّدين من أنانيّته وتصابيه، وتحرير المجتمع من أسر تخلّفه وتبعيّته وقابليّته لها.

تعليق قبل الخاتمة:
كيف نبني مجتمعات المعرفة؟
27
هل يمكن أن يتمّ ذلك بمنأى عن التربيّة، بل عن نظرة تربويّة تغييريّة عميقة وشاملة، تبدأ بالمصارحة أوّلا لحقيقة وضعنا، ولإمكانيّات تحرّرنا الفعليّ، إمكانيّاتنا السيّاسيّة والاقتصاديّة (الإنتاجيّة) والعسكريّة والثّقافيّة، قبل أن تباشر (هذه التّربيّة) ذلك العمل الطّويل المضني الذي لا مناص منه إذا ما هي حاولت الاستنهاض بإنسان ما بعد الموحّدين، وتقرّر لديها عند موضوعها اختيّار التّغيير الإراديّ، وحاولت السّعيّ الجاد من أجل التّخلّص من القابليّة للاستعمار واجتثاث بقاياها في النّفس، بدلا من تكريسها سيما عن طريق الأوهام، أي من خلال تلك الأفكار والقناعات التي توهم أصحابها بأنّه بمجرّد تكديس الحواسيب، و”تحصيل العلم”28 (تعلّم صناعة العلم) وحسن استخدام المناهج والمصطلحات المنتشرة خصوصا في الغرب نصير مجتمعات معرفة، وذلك بدون تحقيق الشّروط المسبقة التّربويّة والثّقافيّة لذلك.
لو نحاول أن نطبّق منهج بن نبي نفسه على ما نريد تحقيقه (مجتمع المعرفة الذي يعبّر في الأصل عن حالة مجتمعيّة جديدة أفرزها في الغرب التّطوّرُ التّكنولوجيّ الذي ليس لنا فيه باع)، نرى بأن مجتمع المعرفة المنشود هذا هو تتويج لمجهودات تربويّة – ثقافيّة طويلة وطويلة جدّا بُوشِر العمل بها في الغرب منذ القديس توما الأكويني ونقده للرّشديّة، واستمرّ مع غاليلي وديكارت وغيرهم، فهي إذن تعبّر عن ظروف نفسيّة واجتماعيّة تجسّد مرحلة حضارة قائمة. هذه الحقيقة ينبغي – في اعتقادي – ألّا تغيب عنّا ونحن الآن نعيش مخاضا عسيرا من أجل تكسير هذه القيود التي كبّلتنا وأسرت عقولنا وقلوبنا ردحا من الزّمن. لهذا أرى أن مجتمعات المعرفة هذه لا ينبغي أن تطلب لذاتها، وإن وجبت مسايرتها ولكن بذكاء، حتى لا يتمّ وضع العربة قبل الحصان كما يقال.
إنّه حتى ولو سلّمنا سلفا بذلك (وجوب بنائها قبل تربيّة الإنسان وتأهيله)، فلا أرى شخصيّا كيف يتمّ بناء هذه المجتمعات؟ أيكون ذلك باقتفاء أثر القويّ الغالب وتبني نماذجه الخاصّة؟ ألم يحن لنا الوقت بعد لتقييم سياساتنا واستراتيجيّاتنا الفاشلة وما انجرّ عنها من عواقب وخيمة أوصلتنا إلى ما نحن عليه من ضعف وتبعيّة وهوان؟! أم هل يكون ذلك بزيادة عدد الجامعات؟ أو ليس لدينا جامعات مجهزة بأحدث الأجهزة والمعدّات29، بل ببعضها من الأجهزة والمعدّات ما لا يوجد في الغرب، ومع ذلك لا نكاد نجد أكثر من جامعة عربية واحدة فقط ـ على ما اعتقد ـ في التّصنيف العالمي ضمن الـ 500 جامعة الأولى30؟!
نقول هذا، ونسارع لنشدّد على القول بأنّنا لسنا أعداءً للتّطوّر المعرفيّ، أبدا! فليس هذا موقفنا، بل كلّ ما نعنيه هو كيف نُصيّر المعرفة التي يولّدها التّطوّر العلميّ ثقافةً تحدّد علاقتَنا بها “مقاييسُنا الذّاتيّة”، وهذه المقاييس هي من صنع التّربيّة التي نؤمن بها.
إنّه عندما نريد معالجة موضوع صعب وشائك كهذا، ينبغي أن نعيش معالجته كـمعاناة وكـقلق، مثلما هو الشّأن مع مالك بن نبي في بنائه لمشروعه الحضاريّ هذا في كامل تفاصيله، ونحذر من كلّ انزلاق نحو التّرف العقليّ ومتعة التّجريد والانصيّاع وراء النّقد من أجل النّقد (وما أكثر محترفيه)، بحجة أنّه يجب أن نقول جديدا وأن لا نعيد ما قد قيل لأنّه اجترار، حتى وإن كان للتّكرار فوائده التّربويّة التّعلميّة.

وختاما:
فطريق “الخلاص” يكون في اعتقادنا من هنا. هذا الطريق الذي نرى بأن لا مناص من سلوكه في سبيل إعادة إقامة البناء الحضاريّ المنشود. فالتّربيّة من خلال قراءتنا لفكر مالك بن نبي هي القادرة ـ كما نرى ـ على إيجاد هذا العالم الثّقافي المفقود وتكريسه عن طريق البعث في أوصاله لآليّات تجدّده، أي إخراجه من حالة القوّة إلى حالة الفعل والمحافظة عليه من التّحلّل.
إنّه ولاشكّ طريق صعب جدّا، شاقّ وشائك. غير أنّه الأسلم والأنجع نحو الاستقلاليّة والسيّادّة الفعليّة لا المزيّفة، لأنّه يتعامل مع الجواهر لا مع العوارض. فلقد تأكّد بعد مرور عدّة عقود من الزّمن عدم جدوى الحلول التّجزيئية، لأنّها حلول آنيّة ترقيعيّة تفتقد النّظرة العميقة الشّاملة.
وإنّ عدم اعتبار هذه النّظرة الكليّة، والإصرار على انتهاج نفس الإستراتيجية ونفس الفلسفة القائمة في كثير من المجالات على استنساخ مضامين فكريّة غريبة وأحيانا معاديّة وعلى تبنّي سلوكات وتقاليد أجنبيّة
مثلما هو حاصل سيما في المجالين التّربوي31 والثّقافيّ32 عندنا، وبدون مراجعةٍ عميقة للذّات ومصارحتها، وكذا بدون استقراءٍ للظّروف النّفسيّة – الاجتماعيّة للمرحلة التّاريخيّة، لا يعتبر فقط هدرا للجهد والوقت والمال، بل وأيضا تمويها للمشكلات الحقيقيّة ومن ثمّ مضاعفتها بما يزيد الوضع تعقيدا واختناقا. والأدهى والأمر هو استمرار اللامبالاة بخطورة الوضع الذي يرهن وجودنا ؛ وهذا ما يُلاحظ، يا للأسف، من خلال سلوكاتنا الصّبيانيّة اللّامسؤولة ومسايرتنا السّلبيّة للأوضاع التي تغيب معها الرّؤية الواضحة والإرادة الطّيّبة، فتجعلنا عاجزين منفعلين نتلقى تأثير الأحداث لا فاعلين نؤثّر فيها.
ومن هنا تحديدا، تبرز أهميّة المدخل التّربويّ – التّحضيريّ (التّثقيفيّ)، أي خاصيّة النّوعيّة التي تمتاز بها التّربيّة البنّبويّة، في حلّ معضلاتنا التي ليست هي سياسيّة ولا هي اقتصاديّة، على أهميّة السياسة وأهميّة الاقتصاد البالغتين معا، بل المعضلة تكمن في الإنسان الذي يعهد إليه تدبير شؤون السياسة وتسيير أمور الاقتصاد، كما تعهد إليه مهمّة بناء وإدارة مختلف مؤسّسات المجتمع بما فيها التّربويّة – التّعليميّة والتّثقيفيّة.
وإذا كان هذا يفيدنا في شيء، فإنّه يجعلنا نطرح فكرة التّأسيس لنظريّة تأصيليّة في التّربيّة خاصّة بإنسان ما بعد الموحّدين.
وعليه، نقول في الأخير، بأنّه إذا قرّرنا أن نلتقي والتقينا فعلا33 لبلورة نظريّة حقيقيّة في التّربيّة لتجاوز إنسان ما بعد الموحّدين، نكون عندئذ قد قبضنا على الحبل العاصم ووعينا بعمق خطورة التّربيّة البنّبويّة ودورها التَّحضُريّ ـ ما دامت الثّقافة هنا قد تحوّلت عندنا بفعل التّربيّة من نظريّة في المعرفة إلى نظريّة في السّلوك34 ـ ؛ أمّا إذا كان غيرُ ذلك، فهذا معناه بأنّ إنسان ما بعد الموحدين ما زال قابعا فينا أو ما زلنا قابعين فيه، وما أحوجنا عندئذ لتربيّة بنّبويّة لإخراجه منّا أو للخروج منه، ولإبعاده عنّا والابتعاد عنه.
فإذا كان هذا المطلب عظيما، فذلك لأنّ الوجود عظيم، ومن ثمّ توجّب أن يرتقي العمل إلى مستوى هذا المطلب35.

الهوامش:
ـــــــــ
1 – انظر الفصلين الموسومين بـ “فكرة التّربيّة الاجتماعيّة”، و”الشّروط الأوليّة للتّربيّة الاجتماعيّة” في كتاب ميلاد مجتمع.
J. Leif & G. Rustin, Philosophie de l��éducation, T1, Ed. Delagrave, Paris, 1984, p. 128–2-
Olivier Reboul, La philosophie de l��éducation, Ed. P.U.F.? 2° éd., Paris, 1990, p. 22. -3
4-“إمّا أن نغيِّر أو أن نغيَر” هو موضوع الوصيّة التي أدلى بها مالك بن نبي في بيته، بالجزائر العاصمة، لطلبته قبيل وفاته. وقد قام بتسجيل هذه الوصيّة السّيد عبد الله بوفولة ونشرها فيما بعد بمجلة “العالم”، في عددها 244، الصّادر في 15 أكتوبر 1988. والوصيّة تأكيد لما خطّه الكاتب في أربعينيّات القرن المنصرم (سنة 1949) في مؤلفه “Les conditions de la renaissance ” عندما كتب: «Tout le sens de l��histoire est en effet dans cette alternative : mission ou soumission.»
5 -ترتيب هذه الأهداف يكون حسب الأولويّات التي تتطلّبها المرحلة ووفق إستراتيجية للتّغيير مدروسةٍ بدقّة.
6 – مالك بن نبي، القضايا الكبرى، دار الفكر (الجزائر) ودار الفكر (دمشق)، ط1، 1991، ص 74.
7 -“الإنسان المستقبلي” هو عنوان كتاب لمؤلّفه الدّكتور عبد القادر بوعرفة، الصّادر عن دار الغرب للنّشر والتّوزيع، وهران – الجزائر، 2001.
8 – مالك بن نبي، مشكلة الثّقافة، دار الفكر، دمشق – سورية، ط. 4، 1984، ص 38.
9 – مالك بن نبي، تأمّلات، ط. 3، 1977، ص. ص. 61 – 62.
10- مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، دار الفكر، دمشق – سوريّة، 1986، ص. 18.
11 – هكذا هو الشأن مع جون جاك روسو وأميل دروكايم، ومع غيرهما.
12 – لاحظ كثير من المهتمين بحضارات الشّرق الأقصى بأنّ “حضارة الساموراي” و”حضارة الكونفوشيوس” معا لم تتمكّنا من تقديم للإنسانيّة جديد نوعيّ متميّز تميّز حكمتيْهما الشّرقيّتيْن، كما بدا ذلك مُتوقّعا في بداية نهضتيْهما، بل إنّ طابع حضارتيْهما لم يختلف عن طابع حضارة الغرب المادّيّة! فهل هذا معناه أنّ الإسلام هو وحده الذي لا يزال محتفظا بهذا الطّابع المميّز المخالف والمأمول؟
13 – ميلاد مجتمع، ص. 20.
14 – انظر مقدّمة مالك بن نبي لكتاب جودت سعيد، حتى يغيّروا ما بأنفسهم، مطبعة زيد بن ثابت الأنصاريّ، دمشق، ط. 6، 1984، ص.ص. 9 – 10.
15 – دليل تأهيله تعكسه تحديدا قدرته على ابتداع أفكاره العمليّة، التي يواجه بها ظروفه التّاريخيّة الخاصّة، انطلاقا من أفكاره المطبوعة.
16 – نفس المرجع، ص. 73.
17 – تأمّلات، مرجع سابق، ص. 34.
18 -فكرة التّرويض تجد مبرّرها في كون هذه الطّاقة الحيويّة هي طاقة بدائيّة غريزيّة طائشة تتّصف بالجموح، لا تعرف الحدود ولا تعترف بها. كما أنّ فكرة التّهذيب تجد هي الأخرى مبرّرها في كون هذه الطّاقة متوحشة أصلا. وعلية يكون التّهذيب الأخلاقيّ بما ينطوي عليه من مسحة جماليّة فعلا تحضّريّا. أمّا فكرة التّوجيه، فتكمن في حسن تصريف هذه الطّاقة الذّاتيّة، المدمّرة العمياء باتّجاه موضوعات خارجيّة تعكس فيها إبداعاتها وتساميها.
19 -د. علي القريشيّ، التّغيير الاجتماعيّ عند مالك بن نبي، الزهراء للإعلام العربيّ، القاهرة، ط1، 1989، ص278 وما بعدها.
20 -القضايا الكبرى، مرجع سابق، ص. 41.
21 -نفس المرجع، ص. 42.
22 -يسجل في مجتمعاتنا اليوم، ومنذ أكثر من عقدين، هجرة رهيبة بل نزيف للأدمغة! فكلّ العناء الذي تكبّدته هذه الدّول منذ استقلالها من أجل تكوين هذه الطّلائع وجدته دول المركز سائغا للاستهلاك من أجل إدارة دواليب مؤسّساتها.
23 -مشكلة الثّقافة، مرجع سابق، ص. 43.
24 -تأمّلات، مرجع سابق، ص. 126.
25 -في هذا الصّدد يقول بن نبي:« … إنّ الوقائع لا تُلغى بفضل الألفاظ التي نختارها، فلكلّ مصطلحاته. فإذا كان ماركس يفضّل استخدام مصطلحات أخرى فهذا أمر يخصّه هو، أمّا نحن، فالذي يهمّنا ليس المصطلحات وإنّما الواقع الاجتماعيّ الذي تعكسه هذه المصطلحات.»، من كتاب “في الحضارة وفي الإيديولوجيّة”لمالك بن نبي، قيد الطّبع، ترجمة وتعليق محمّد بغداد باي.
ما يجب الإشادة به في هذا المقام هو تلك المجهودات (الاجتهادات) التي يقوم بها الاقتصادي الجزائري بشير مصيطفى، جامعة الجزائر، لإيجاد حلول لبعض المشكلات الاقتصاديّة المزمنة التي تعاني منها الجزائر، وذلك عن طريق اقتراحه لفكرة “الحلول المبتكرة”، كفكرة إنشاء “صندوق الزّكاة” لتمويل المشاريع التّنمويّة لدى الفئات المعنيّة. هذه “الحلول المبتكرة” هي ما يدخل ـ في نظري ـ فيما أسماه مالك بن نبي بـ “الأفكار العمليّة” التي تواجه بها الأجيال ظروفها التّاريخيّة الخاصّة، على اعتبار أنّها أفكار مشتقّة من أفكار المجتمع المطبوعة. عاين، على قرص الـ DVD، تلك الندوة التي نُظمت في 21 مارس 2011، بقاعة المحاضرات لجريدة الشّعب ـ الجزائر، من قبل مركز أمل الأمّة للبحوث والدّراسات الإستراتيجية، حول موضوع: “التّغيير المنشود في الجزائر وأولويّاته”
ملاحظة: قد تحدثت مع الأستاذ مصيطفى بشأن هذه الفكرة التي تبنّتها وزارة الشّؤون الدّينيّة وشرعت في تطبيقها، وأفادني محدّثي بأنّه ربّما كان من اللائق وضع كلمة “بنك” بدل كلمة “صندوق”، نظرا للالتباس الذي أحدثته كلمة صندوق لدى النّاس الذين لم يتمكّنوا من تجاوز ما تعوّدوا عليه، أي الصندوق الذي يوضع في كلّ مسجد، في حين أنّ مفردة “بنك” توحي بشيء آخر غير ذلك.
26 -ميلاد مجتمع، مرجع سابق، ص. 66.
27 -فكرة مجتمعات المعرفة هذه وردت في الإشكاليّة العامّة للملتقى.
28 -لم يضع مالك بن نبي العلم، أو الصّناعة بالمفهوم الخلدوني، في المقام الرابع من حيث التّرتيب أثناء حديثه عن مقوّمات برنامجه التّربويّ للثّقافة هكذا جزافا، ذلك لأنّ العلم، على أهميّته، يخصّ الجانب الفنيّ المتعلّق بـ “عالم الأشياء” الذي لا ينبغي أن يطغى على “عالم الأفكار” ومن ثمّ على “عالم الأشخاص”، خشية من أن يفقد الإنسان ماهيته كإنسان. هذه الماهيّة التي تبدو أنّ حضارة العصر المادّيّة قد سلبته إياها، إذ أصبح تابعا لما أنتج ولا يقوى عن الاستغناء عنه! …
29 -طبعا هذه الأجهزة مقتنيّة من الخارج وليست من ابتكاراتنا التي تترجم احتيّاجاتنا، وهو ما يوحي بفكرة التّقليد العقيم ومن ثمّ بفكرة التّكديس التي تعكس “عقليّة الشّيئيّة” التي أصبحت توسم “إنسان ما بعد الموحّدين” والتي ندّد بها بن نبي منذ أكثر من نصف قرن. وخير دليل على ذلك تلك المكدّسات المتزايدة الموجودة بمنطقة الخليج والتي لم تنتج إلّا أتباعا ؛ حتى أنّه في بعض هذه الدّول أصبحت اللّغة العربيّة مهدّدة نظرا لتزايد عدد الأجانب، ممّا فرض الإنجليزيّة كلغة للتّعامل والتّواصل. وأمام هذه السّياسات المنتهجة وهذه الوضعيّات غير المسبوقة، وجد مواطنو هذه الدّول سيما في الإمارات العربيّة المتّحدة، الذين أصبحوا أقلّ عددا من الأجانب، أنفسهم مجبرين على تعليم أطفالهم اللّغة الإنجليزيّة لمواكبة التّطوّرات ـ مثلما يتحجّج المسؤولون هناك ـ وهو ما تسبّب في تدني مستوى اللّغة العربيّة عند هؤلاء الأطفال، بل لم يعد الكثير منهم ينطق بها حتى مع أهاليهم. أنظر صحيفة “لولوند ديبلوماتيك” (Le Monde diplomatique)، ماي 2010.
ملاحظة: في الحقيقة أنّ كثيرا من هؤلاء المسؤولين والأولياء على حدّ سواء لا يكترثون كثيرا للوضع ويعتبرون الحديث بالإنجليزيّة والتّحكّم فيها مؤشّرا على “التّحضّر”! وإنّ الأمر ليس بالغريب بالنّسبة لدوّل المغرب العربيّ، وخصوصا عندنا في الجزائر مع اللّغة الفرنسيّة. إنّ هذه الصورة المؤسفة لتعبّر عن أحد أشكال “القابليّة للاستعمار” والمتمثّل في الاستلاب اللّغويّ والثّقافيّ. فإن لم تكن أنت أيها العربيّ تؤمن بلغتك، لغة قومك وأجدادك ولغة الدّين الذي تؤمن به، وقدرتها على رفع التّحدّيات التي هي من صنع إرادتك، فمن غيرك يؤمن بذلك!
30 -وحتى هذه الجامعة توجد في أواخر التّرتيب. تصنيف سنة 2009 (من الذّاكرة).
31 -من الأمور المضحكة المبكٍيّة أنّ وزارة التّربيّة، عندنا، عندما بادرت بإصلاح المنظومة التّربويّة وقامت بتغيير المقرّرات التّعليميّة، حدث من بين ما حدث، أن قام مفتّشون للطّور الابتدائي، الصّف الخامس، مادّة التّاريخ، باستنساخ كتاب التّاريخ المقرّر تدريسه في فرنسا! وممّا يبعث على الاستيّاء أنّ الكتاب الذي يدرسه الأطفال الفرنسيون يتحدّث عن فكرة “تمجيد الاستعمار” ويروّج لها. ونُقلت العبارات المعبّرة عن هذه الفكرة حرفيّا إلى العربيّة، وطبعت ألاف النّسخ من الكتاب قبل أن يُكتشف العار وتقوم الوزارة بإلغاء الكتب وسحبها. والأشدّ غرابة في هذه الواقعة أنّها تزامنت مع توتّر العلاقات بين البلدين بسبب قانون “23 فبراير 2005” المسنون من قِبل فرنسا والقاضي بتمجيد الاستعمار!
32 -في عزّ الأزمات والمظاهرات المندّدة بتضاعف البطالة، ونقص السّكن، وغلاء المعيشة، وكثرة التّهميش، و…، تقوم وزارة الثّقافة عندنا، من جهتها، بتنظيم مهرجان دولي للموسيقى الكلاسيكيّة (“العالميّة” كما يقولون!) الذي كلّف المليارات. وكأنّ الجزائر في أمسّ الحاجة إلى موسيقى كلاسيكيّة ومهرجان دولي لحلّ مشكلات مواطنيها المتفاقمة! ولقد قمت شخصيّا بمساءلة أحد المقرّبين من الوزارة عن ضرورة تنظيم مهرجان كهذا ومدى مواءمته للظّرف من ناحية، و”لثقافتنا” من ناحية أخرى، فقال لي بدون مواربة: “صراحة، لا”!
33 -قد يدلّ ذلك على وجود “الإرادات الطّيبة” التي يشير إليها بن نبي بـ”الإرادة الحضاريّة” والتي يجب أن تتقدّم “الإمكان الحضاريّ”.
34 -لتكن هذه الفكرة قاعدة لقيّاس مقدار التّغيّر الفعليّ الحاصل في إطار الزّمن ـ بفضل مفعول التّربيّة ـ في سلوكاتنا الفرديّة والجماعيّة.
35 -أمام وضعيّة تاريخيّة حضارية كالتي نعيشها اليوم، لا شيء يغني عن الجهد الأصيل، الجاد المتواصل، والمنظّم الهادف. وإنّ الحديث عن وصفات أو حلول جاهزة مستوردة هو مجرّد هراء ليس إلا. لهذا السّبب تقدّمت “التّربيّة الإيديولوجيّة” كلّ أنواع التّربيّات الأخرى. والقصد من ذلك هو أهميّة هذه التّربيّة البالغة التي يجب أن تصاحب كلّ أنواع التّربيّات المذكورة في أدائها لوظائفها. وهو ما يعني أنّ هذه التّربيّة تمثّل “الخلفيّة” أو “الرّابط الخفيّ” الذي يمنع تعارض الأهداف المرسومة ويعزّز مفعول المجهودات المبذولة.

الملتقى الدولي: مالك بن نبي و استشراف المستقبل
من شروط النهضة إلى شروط الميلاد الجديد
في إطار تظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية
تلمسان 12 ـ 13 ـ 14 ديسمبر 2011 م
17 ـ 18 ـ 19 محرم 1433 هـ

Comments (0)
Add Comment