هل جاء حفيد عبان رمضان، الدكتور بلعيد بشيئ جديد في كتابه الأخير ”بن بلة، كافي وبن نبي ضد عبان رمضان•• الأسباب الخفية للحقد”، وما مدى صحــــة ما قــاله؟
ما قدمه تهم لا أساس لها من الصحة وعارية من الموضوعية، الغرض منها تغليط الرأي العام فقط ولم يناقش فكرة مالك وإنما أخذ جملة كتبها عن عبان مجتزأة عن سياقها، وهو يتحدث عن بعض فصول حياة مالك بن نبي، ولكنه مخطئ على طول الخط ونستطيع تبيان ذلك، فحفيد عبان تحدث عن أمرين؛ العلاقة بين بن نبي والحركة الوطنية والمرحلة التي قضاها في فرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية وما تخللها من احتلال ألماني لفرنسا• ثم تطرق لعلاقة بن نبي مع القيادة الخارجية للثورة، فبالنسبة للحركة الوطنية، تعرف بن نبي على زعيمها مصالي الحاج في باريس عام 1933 والتقى به رفقة بعض قيادات ”حزب الشعب” من أمثال عيماش وبلقاسم رجف، وذلك في إطار التفكير في الوضع الجزائري ومحاولة إيجاد الحلول لمشكلة الاستعمار• ومالك آنذاك كان يرى أن الحلول التي يقدمها مصالي الحاج والحركة الوطنية لم تكن ملائمة، وكان مالك يعتقد أن مصالي الحاج ناشط سياسي فقط ولم يقدم أجوبة مناسبة على الواقع الذي كان يعيشه الشعب الجزائري ولم ينصب تفكيره على عمق المشكل وأصل الداء؛ فالحركة الوطنية كانت ترى أن مشاكل الشعب الجزائري هي الاستعمار، بينما مالك كان يرى أن الاستعمار ليس إلا عرضا من الأعراض التي أصابت جسم الأمة وروحها هو القابلية للاستعمار؛ مما يعني أن الأمة عندما تتحرر من هذا القيد تستطيع بالضرورة التحرر من الاستعمار ومواجهته• وهذا هو الخلاف الجوهري الذي كان واقعا بين مالك والحركة الوطنية بكل أطيافها في تشخيص الداء• وعلى هذا لما تحدث مالك عن قابلية الاستعمار وقع صخب كبير في أوساط الحركة الوطنية وهناك من راح يقول عن سوء فهم أن مالك يبرر الاستعمار• غير أن هذا الفهم لم يعمر طويلا لسبب بسيط هو أنه كان فهما سقيما بينما كتب للمفهوم الذي أراده مالك الاستمرار لأنه صائب• لهذا قرر مالك مواصلة نضاله وحيدا بتقديم مشروع فكري يترك للأجيال وليس مجرد نزوة عابرة، بل كان مالك يعمل على إيصال الجزائر إلى التجديد الحضاري•
كيف سافر بن نبي إلى مصر؟
عند اندلاع الثورة كان بن نبي في فرنسا وفي سنة 55 انعقد مؤتمر باندونغ، وفي هذه الأثناء ألف مالك كتابه ”وجهة العالم الإسلامي”، غير أن دار نشر ”العتبة” رفضت طبع الكتاب وطلبت منه التراجع عن أفكاره، ما فرض عليه السفر خفية إلى مصر التي كانت دولة مؤسسة لمنظمة الدول الآفرو آسياوية• كما أسست أمانة لذلك، لكن ليس ضد المسلمين، كما يقول حفيد عبان• وكان السادات يرأس الأمانة فاقترح مالك على هذه الأخيرة كتابه فوافقوا على طبعه بالفرنسية• وبالموازاة يتصل مالك بن نبي سنة 56 بالبعثة الخارجية لجبهة التحرير يطلب منها مساعدته على الالتحاق بالثورة لكتابة تاريخها، وهي قائمة وكان سنه آنذاك 52 سنة، غير أن الندّية في أوساط الفاعلين في الثورة حالت دون الرد على مالك• ثم المؤكد أن ثمة من كان يرفض أن تسلط الأضواء على نقاط الظل وخبايا النزاعات الزعماتية في تاريخ الثورة من قبل شخص يحظى بصيت ثقافي ومعرفي ذائع، وعلى هذا الأساس بقيت الرسالة التي بعث بها مالك لقيادة الثورة في البعثة الخارجية في مصر بلا رد•
لكن يقولون إن الأمين دباغين توجس من بن نبي خيفة لهذا لم يرد عليه؟
صحيح أن حفيد عبان ادعى أن دباغين كان يشك في مالك، والحقيقة أن حفيد عبان يجهل التاريخ والوقائع، وما يهمه هو تشويه صورة مالك بن نبي، والمؤكد أن المسؤولين لم يردوا على مالك للأسباب التي أشرنا إليها، وبن نبي كما التقى مع الأمين دباغين، التقى مع آخرين ويروي أنه لما ذهب للقاء دباغين وجده يتحدث مع شخص آخر، فلما شاهد دباغين مالك بن نبي اعتذر للشخص وقال سأذهب لأتفلسف مع مالك•
وبن نبي رغم أنه لم يكن مناضلا في الحركة الوطنية، إلا أن دباغين وغيره لم يشكوا أبدا فيه وإن كان دباغين ذاته لم يفهم فكر مالك بن نبي، ولعل ذلك ما جعله يقول سأذهب لأتفلسف، ولكن كل هذا لا ينقص من قيمة دباغين ولا بن نبي•
حفيد عبان اتهم مالك بالعمالة للنازية•• ما تعليقك؟
مالك كان من الجزائريين القلائل الذين درسوا الهندسة في فرنسا وتخرج منها عام 35 ومنذ ذلك الوقت لم يجد عملا لا في فرنسا ولا في الجزائر وكان يقتات بالأشغال البسيطة• ورغم الشهادات فمعيشته المادية كانت صعبة جدا وشاقة، وسنة 1939 غادر الجزائر إلى فرنسا، ولما اندلعت الحرب العالمية الثانية كان هناك، وفي جوان سنة 40 احتل الجيش الألماني المدينة التي كان يعيش فيها قرب باريس فأصبحت المدينة دمارا وخرابا خاوية على عروشها، إلا من العاجزين ومن لا يملك وسائل الهروب، غير أن الجيش الألماني فتش عن الفرنسيين الباقين في المدينة ليجبرهم على العمل فدلوه على مالك، لذا قرر الألمان تعيينه مسؤولا على المصالح التقنية• ولما عاد الأمين العام للبلدية رجع وسلم نفسه للألمان، مبديا استعداده للتعاون معهم فعينوه شيخ بلدية، ثم عاد رئيس البلدية ”فيولات” المحافظ السابق للعاصمة وهو يعرف بن نبي، لأنه كان الجزائري الوحيد في تلك المدينة ولما التقى ببن نبي قال له فيولات ”إننا في نفس الخندق”، غير أن مالك رد عليه ”أنا أجبرت وسخرت للعمل أما أنت فعرضت خدماتك”، ويروي بن نبي أن فيولات نظر إليه نظرات ثاقبة وتوعد بالانتقام منه• ولما سقط نظام فيشي أقيل ”فيولات” من منصبه لأنه ماسوني واستبدلوه بشيخ بلدية يسوعي كان شديد الكره لمالك بن نبي، مما كلفه الطرد من العمل فوجد نفسه عاطلا، مما جعل معيشته أكثر قساوة•
لكن مالك بن نبي تنقل إلى ألمانيا، لماذا؟
كان الألمان آنذاك قد جندوا كل رجالهم فاضطروا للإفراج عن السجناء الفرنسيين، لكن مقابل فرنسي آخر يشتغل في ألمانيا فاقترحت إحدى الفرنسيات على مالك أن يذهب لألمانيا للعمل مقابل الإفراج عن زوجها، فوافق بن نبي ولما رآه الفرنسيون مثقفا عينوه مسؤولا عنهم في ”الفيطوهات” المخصصة لهم من قبل الألمان• وفي أواخر سنة 43 عاد مالك لفرنسا، وفي أوت 44 عندما غادر الألمان المدينة الفرنسية، وما إن دخلت القوات الفرنسية إليها حتى سارعت إلى اعتقال بن نبي، بتهمة التعاون مع الألمان وسجنوه ولكن بعد 8 أشهر من السجن أفرج عنه القاضي، لأن ملفه كان فارغا، وفي سبتمبر من نفس السنة ألقي عليه القبض مجددا وذالك بمناسبة عودة العمال الفرنسيين الذين يشتغلون في ألمانيا لعلهم يقدمون شهادات ضد بن نبي بأنه كان عميلا لألمانيا أو أساء معاملتهم، لكن شهادات العمال كلها جاءت في صالح بن نبي فأفرجوا عنه بعد سبعة أشهر دون المرور حتى على المحاكمة ثم عاد إلى الجزائر•
إذن لماذا اتهمه عبان رمضان؟
لأن مالك في كتاباته عن الثورة اعتبر أن عبان رمضان كان قد خان المبدأ الذي قامت عليه الثورة الجزائرية• وبالمناسبة، فإن بن نبي لا يعرف عبان رمضان معرفة شخصية والتهمة التي وجهها له ليس فيها شيء من الشخصية والذاتية ولا من معاني الانتقام، بينما حفيده أراد الانتقام من بن نبي بالترويج للتهم الكاذبة حتى ينال من مصداقية هذا المفكر الكبير•
هل فهم حفيد عبان ما كتبه بن نبي وكيف تفسر كثرة التعليقات التي جاءت دفاعا عن مالك؟
لم يفهم ما كتبه، ربما وقف عند العبارات ولم يغص إلى روح النص حتى يفهم المقصود من ذلك، وإلا فمالك أفنى حياته يحارب الاستعمار بفكره وقلمه ونظرياته بشكل، كما سبقت الإشارة إليه يترك بصمات واضحة ومؤثرة عبر الأجيال، لهذا لا أدل على صحة ما كتبه مالك والأفكار التي أخرجها للوجود من عودة انتشار فكره بعد عقود من الزمن على كتابتها، بل أعيد له الاعتبار حتى في الأوساط الرسمية، لأن المسؤولين فهموا أن الجزائر لا تزال في مأزق وفي طريق مسدود فأجبروا على إعادة النظر في كتابات مالك، والآن شهرة الرجل أكبر من أن يتم الحديث عنها، كل هذا يمكن أن يفسر كثرة التعليقات التي نشرت للدفاع عن بن نبي في مختلف المواقع الالكترونية بخصوص التهمة التي وجهها له حفيد عبان• وأقول لك أيضا إن صورة مالك تغيرت وأعطيك شهادة المرحوم عبد القادر جغلول، وتعرفت عليه في 2005 في إطار إعادة نشر بعض كتب مالك بن نبي، وقال لي بالحرف الواحد إن مصطفى الأشرف قال له ”لا تقرأ لبن نبي لأنه لم يكن صالحا وكان يشتغل مع النازية”، وأنا في ذلك الوقت كنت قد كتبت مقالا أرد على هذه التهمة الكاذبة، ونشرت بعض وسائل الإعلام ردي على الأشرف•
لماذا حذر مصطفى الأشرف من مالك بن نبي؟
السبب في هذا هو أن بن نبي كان مفكرا باتجاه إسلامي، وهذا الاتجاه وبهذا البعد الفكري الواعي والمزدوج اللغة لم يكن مقبولا في العشرية الأولى للاستقلال، ثم إن بعض المثقفين الجزائريين عارضوا بن نبي بسبب مصطلح القابلية للاستعمار الوارد في كتبه دون أن يفهموها•
لكن لماذا استهدف مالك دون غيره ممن جندوا في الجيش الفرنسي؟
يمكن أن نعتبر موقف حفيد عبان رد فعل انفعالي بعيد كل البعد عن النقاش الأكاديمي والفكري، فهناك من جُند مع ألمانيا كالمرحوم العقيد محمدي السعيد وهذا لا أحد يمكن أن يتهمه بالعمالة، وهناك بن بن بلة أطال الله عمره، وهناك مصطفى بن بولعيد وهو من أكبر رموز الثورة، كان مع بن بلة وحاربوا في الجيش الفرنسي وعلقت لهم نياشين، ولا أحد يمنك أن يشكك في إخلاصهم للوطن، فلماذا يتهم مالك دون غيره؟•
هل استهدف مالك عبان الإنسان والمجاهد؟
بن نبي لم يقدح في عبان الإنسان، لأنه لا يعرفه شخصيا، بل انتقد الفكرة والإيديولوجية وسلط الضوء على المخاطر التي تعرضت لها الثورة، لأن الثورات الحقيقية بما فيها الثورة الجزائرية تعيد بناء العلاقات والقيم الإنسانية فالثورة الحقيقية هي تلك التي تعيد هيكلة العلاقات بين الإنسان والإنسان الآخر، وهذا ما فعلته الثورة الجزائرية على مستوى الإنسان الجزائري حين أعادت صياغة هذه القيم على مبدأ الأخوة فالمصطلح المعتمد الأخ المجاهد، والثورة الفرنسية أعادت صياغة الإنسان على المواطن والثورة الشيوعية أعادت بناء العلاقة على الرفيق• أما الثورة فكانت على الأخوة كأحد الأبعاد الوطنية الإسلامية، فمالك، وجد أن مؤتمر الصومام وقع في انحراف ولكن ليس في الكفاح والخيانة بمعنى الإبقاء على المستعمر ولكن بكسر الفكرة الإسلامية وإبعاد البعد القداسي في الثورة واستبدلوه بالبعد ”العلماني”، فأصبح الأخ المجاهد جنديا، وعبان وأمثاله لم يكونوا يعرفون جوهر الإسلام وروحه• وفي رأي مالك، فإن عبان كان هدفه تأسيس جمهورية جزائرية كالجمهورية الفرنسية، والإسلام يكون على الهامش وهذا هو المقصود من الخيانة عند مالك في كتابه مشكلة الأفكار وفي والنموذج الموجود آنذاك•
هل قصد عبان الانحراف أم وقع في ذلك خطأ؟
عبان وقع في ذلك عن قصد إيديولوجي، ولكن الخيانة لم يكن المقصود بها أن عبان كان ضد استقلال الجزائر، فبن نبي اعتبر أن الأفكار الفلسفية التي جاء بها مؤتمر الصومام جاءت من الخارج، أي خارج أبعاد الهوية الجزائرية وما ذهب إليه مالك مبني على جملة من المؤشرات في مسيرة عبان، ويحيل مالك على الجهات الخفية التي كانت تعلم أن الجزائر ستستقل مهما كان الأمر فاتخذ قرار إبعاد الإسلام عن الاستقلال، لأن بقاء الاستعمار كان مستحيلا• وعبان ألغى المبادئ الإسلامية بذكاء دون أن يذكر الإسلام ولا يبرر ذلك، لأنه لو فعل لعارضه بن مهيدي• لذا تحدث عبان عن تنظيم الثورة وليس إلغاء البعد الإيديولوجي للثورة وكسر قداسة الثورة وبعدها الإسلامي• في روسيا مثلا الجندي عندما ينادي من هو أعلى منه مرتبة يقول مثلا الملازم الرفيق العقيد الرفيق، وهذا حفاظا على قداسة البعد الإيديولوجي الشيوعي ولم يحل ذلك دون تطور الجيش الروسي وتنظيميه، وبن نبي قال هذا الأمر بعد الاستقلال ومن دبر اغتياله لم يكن بناء على النتائج التي توصل إليها مالك بن نبي• الذي وقع ـ كما يقول الماركسيون ـ هو تحالف موضوعي وتقاطع مصالح بين الأوساط الفرنسية المفكرة والمدبرة في الخفاء والمتمسكة بزمام الأمور وبين عبان، دون أن يدرك هذا الأخير ذلك بالضرورة والجانب الفرنسي لم يكن مجنسا والقرارات ليس بالضرورة تكون قد اتخذت على مستوى المؤسسات الرسمية الفرنسية•
على ماذا بنى مالك بن نبي حكمه؟
مالك كما سبق أن أشرنا إليه اعتمد على عدة مؤشرات، من بينها القضاء على الكثير من المجاهدين الذين ينتمون إلى التيار الوطني الإسلامي، وهؤلاء كانوا متمركزين كما هو معلوم في العاصمة والأوراس وهؤلاء تم القضاء عليهم بين 55 و57 والذي تحدث عن هذا المرحوم أحمد لغواطي، ثم هناك اغتيال مصطفى بن بولعيد بشكل لايزال يثير الكثير من التساؤلات في مارس 56 وهو كان ضد مؤتمر الصومام، كل هذا يبقى مجرد أسئلة تطرح، الذي يهمنا أن الانحراف موجود ونقاط الاستفهام موجودة لأن مالك لا يملك وسائل للتحقيق وإنما يعتمد على منهجية تقوم على قراءة ذات معايير دقيقة جعلته يصل إلى ما وصل إليه بشأن مؤتمر الصومام، ومالك لم يتحدث عن عبان فقط، بل حتى عن جورج حبش وذلك لتسليط الضوء على كيفية الانحراف بالثورة ومتى يقع ذلك ومالك لم يكن منافسا لعبان، وإنما ليوجه الضمير الجزائري في إطار فكري أكاديمي بعيدا عن إدانة عبان•
المصدر: جريدة البلاد العدد 3730 (1 مارس 2012)