الأستاذ مالك بن نبي والصحوة الإسلامية المعاصرة في الجزائر

عدد القراءات :3117

معظم الذين تناولوا مالك بن نبي رحمه الله ركزوا على الجوانب الفكرية والنظرية في شخصية هذا المفكر الكبير الذي يشكل علامة بارزة في تاريخ المسلمين في القرن العشرين، وتكاد تخلو الدراسات والمقالات من ذكر جوانب أخرى لا تقل إشراقا في شخصية هذا الرجل الذي رفض أن يوجه أصابع الاتهام لجهة أخرى خارج دائرة الذات الإسلامية التي أصابتها الغثائية القاتلة للأمم والحضارات.
إن أي عارف بالساحة الجزائرية يدرك وزن العلامة مالك بن نبي رحمه الله كأحد رواد الفكر الإسلامي المعاصر، الذي اعتبر جوهر المشكلة التي يتخبط فيها المسلمين منذ عصر ما بعد الموحدين هي مشكلة الحضارة، وليست مشكلة جزئية محدودة، سواء كانت اقتصادية، أو سياسية، أو تربوية سلوكية، أو حتى عقائدية، وإنما شاملة لجوانب الحياة المختلفة.
وقد أجمع الدارسون والمتتبعون لجذور العمل الإسلامي المعاصر في الجزائر أن مالك بن نبي ليس فقط باعثَ الخط الإسلامي المعاصر وملهمه على مستوى المفاهيم والأفكار ونظرية التغيير ولكن أيضا كمفكر عملي أدرك أن خط التغيير الحضاري المنشود لا يتأتى إلا بتكوين نخبة متميزة ومتشبعة برؤية التغيير السننية فعمل بكل إخلاص على تجسيد هذا المعنى عندما باشر إلى تنظيم ندوات فكرية في بيته أواسط الستينات والتي تشكل الزاوية التاريخية التأسيسية للعمل الإسلامي المعاصر في جزائر ما بعد الاستقلال.
والغرض من هذه المقاربة التأريخية السريعة ليس الإلمام بمختلف المنعطفات التاريخية التي مر بها العمل الإسلامي في الجزائر ولكن الوقوف باقتضاب عند محطة مالك بن نبي رحمه الله كأحد الرواد المتميزين وكأحد المفكرين العمليين، الذين تركوا بصماتهم واضحة في صفحة الشعب الجزائري المسلم إلى جانب رواد جمعية العلماء الاماجد وقادة الثورة التحريرية الأبطال.

بين الأمير عبد القادر وابن باديس
كان الغزو الاستعماري الفرنسي زلزالا عنيفا أحاط بالشعب الجزائري المسلم من كل جانب وسقطت دولة العثمانيين بسرعة مذهلة تركت جموع الجزائريين دون حماية. وعلى الرغم من خطورة الموقف وانعدام الإمكانيات وضعف الأمة عموما لم يجد الشعب المنكوب سوى القيادات الشعبية التي انطلقت بسرعة لتنقذ الموقف وترفع راية الجهاد وعلى رأسها الأمير عبد القادر بن محي الدين الجزائري، الذي استمر حاملا لواء الجهاد وأسس دولته المستقلة طيلة 17 سنة (1832- 1847). وأهمية تجربة الأمير عبد القادر رحمه الله وحضورها في الذاكرة الجماعية للصحوة الإسلامية المعاصرة نابعة من العوامل التالية:
أولا إنها أطول مقاومة منظمة لجيش الاحتلال وثانيا لان الأمير استطاع ان يؤسس الدولة الجزائرية المستقلة عن الإدارة الفرنسية الاستعمارية وهي تجربة مهمة في سياق التراكم التاريخي لخبرة المجتمع الجزائري وأخيرا لان آلامي قاد المقاومة باسم الإسلام واعتبر مقاومته للاستعمار جهادا في سبيل الله، لأن الإسلام هو الإطار المنهجي الوحيد القادر على تعبئة عموم الشعب.
واستمرت المقاومة الشعبية طيلة القرن التاسع عشر وإن كانت شلت كلها في إحراز نصر حقيقي أمام المستعمر الفرنسي بسبب عدم تكافئ الإمكانات الحضارية ولكن شكلت رصيدا معنويا هائلا تم استثماره لاحقا. ففي 1845 انطلقت ثورة بو معزة في جبال الظهرة وبعدها بسنة ثورة بو زيان في بسكرة والأوراس والحضنة وثورة محمد الحاج المقراني وثورة الشعانبة وغيرها من الصفحات المجيدة. واستمرت هذه الثورات حتى مطلع القرن العشرين ولكن كانت دائما نتائجها متماثلة بسبب التفاوت الكبير في القدرات الحضارية. ثم كان التحول نحو العمل السياسي والثقافي بعد أن أدركت قيادات المجتمع أن التفاوت الحضاري لا يمكن التغلب عليه إلا بتغيير العالم الثقافي للمجتمع مصداقا لقوله تعالى “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” وهذه الآية الكريمة كانت القاعدة الذهبية للحركة الإصلاحية التي استلمت مشعل التغيير مطلع القرن العشرين كما يقول مالك بن نبي رحمه الله.
وفي أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين انتشرت الأفكار الإصلاحية لكبار المصلحين أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ومحمد بن عبد الوهاب وقد تأثر قطاع من الجزائريين المثقفين بهذه النزعة الإصلاحية وعلى رأسهم رواد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أمثال العلامة ابن باديس والبشير الإبراهيمي ومبارك الميلي والطيب العقبي والعربي التبسي وغيرهم من الأعلام عليهم الرحمة والرضوان.
وكان تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في 5 مايو 1931 وقبل ذلك حزب نجمة شمال إفريقيا إيذانا بان الشعب الجزائري قد أخذ زمام المبادرة بيديه. في بيانها التأسيسي ركزت جمعية العلماء على كونها جمعية ذات طابع أخلاقي لمحاربة الآفات الاجتماعية وتسعى إلى فتح المدارس والنوادي والجمعيات. ونجحت نجاحا باهرا ومنقطع النظير ففي ظرف سنتين أصبح لها حضور فعلي في كل مدن الجزائر المعروفة في ذلك الوقت. ولا يسعنا المقام للحديث أكثر عن جمعية العلماء ولنكتفي فقط بذكر مقتطفات من تقرير الحاكم الفرنسي المؤرخ في 16 فبراير 1933 الذي يشير إلى تخوف الإدارة الفرنسية من نمو نشاط العلماء.:”ليس من المقبول التسامح مع الدعاية التي تختفي وراء الإسلام للتستر على توجهات سرية، ولذلك أطلب منكم – والخطاب موجه لرجال الشرطة الفرنسية- مراقبة كل الاجتماعات والمحاضرات التي تنظمها جمعية العلماء برئاسة ابن باديس”. وبالفعل فقد تم التضييق على أنشطة العلماء وتوقيف بعض منابرها الإعلامية في 1934 مما أدى إلى مسيرات شعبية احتجاجية في كل من تلمسان وقسنطينة والتي ضمت 5 ألف إلى 10 ألف متظاهر على التوالي.
ثم كانت ثورة التحرير المجيدة التي انطلقت في الفاتح نوفمبر 1954 والتي انتهت باستقلال الجزائر في 5 يوليو 1961.

الاستقلال المصادر
في الواقع العنوان أعلاه أخذناه من كتاب الزعيم فرحات عباس رحمه الله وهو يعكس الأزمة الرهيبة التي صاحبت نشوء الدولة الجزائرية الحديثة بعد ليل الاستعمار الطويل.
ولدت الدولة الجزائرية بعملية جراحية قيصرية عن الجسد الاستعماري، وولدت سلطة دولة الاستقلال في بحر من التنافس الشديد بين قادة الثورة. هذه السلطة ولدت مأزومة ومختنقة بتناقضاتها الداخلية الناتجة عن تنافس مختلف الزمر ومراكز القوى داخل الثورة لاستيلاء على مقاليد الحكم، وعلى الأقل الحصول على أكبر قدر من المنافع و الامتيازات المرافقة للحكم.
ولقد عارض كبار جمعية العلماء وعلى رأسهم الشيخ البشير الإبراهيمي التوجه العام الذي سارت عليه الدولة الجزائرية المستقلة حديثا وعبر عن ذلك في بيان مشهور كتبه في 16 ابريل 1964 في ذكرى وفاة العلامة ابن باديس محتجا عن الوجهة التي اتخذتها الدولة اليافعة مما كلفه وضعه في الإقامة الجبرية من طرف نظام أحمد بن بلة.

جمعية القيم الإسلامية
كانت تلك هي الأجواء التي أعقبت الاستقلال، وشعر كثير من الأطراف والمجاهدين بخيبة الأمل، مما دفعهم للتفكير في مسارات تاريخية جديدة لإحداث النقلة النوعية المنشودة بدل الإنشداد إلى النموذج الاشتراكي الذي تبنته السلطة بعد الاستقلال دون وعي تاريخي راسخ، وإنما لمجرد مسايرة الموجة العالمية والتيار السائد.
ففي يناير/جانفي 1964 بادر نخبة من الشباب والمجاهدين بتأسيس جمعية القيم الإسلامية والتي اعتبروها بمثابة إحياء وامتداد لرسالة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، برئاسة المرحوم الشيخ الهاشمي تيجاني طيب الله ثراه (توفي قبل بضعة أشهر فقط). وأسست هذه الجمعية مجلة بالفرنسية سميت التهذيب الإسلامي. وكان من أبرز أعضائها الدكتور الخالدي أحد أصدقاء مالك بن نبي، والشيخ عباسي مدني، والدكتور عمار طالبي وثلة من الرجال الذين كان لهم دور بارز فيما بعد. ومن أهداف هذه الجمعية هي الدعوة إلى القيم الإسلامية الرشيدة، وقد رسمت لنفسها طريق نشر الفضائل الإسلامية، وتقديم الدراسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على ضوء العقيدة الإسلامية.
بيد أن هذه الجمعية سرعان ما توقيف نشاطها في سبتمبر 1966 من طرف السلطة بعد أن أصدرت بيانا تحتج فيه على إقدام حكومة مصر على إعدام سيد قطب رحمه الله، وتم تسليم هذا البيان الاحتجاجي إلى السفارة المصرية في الجزائر.

الندوات الفكرية في بيت مالك بن نبي
ولقد عاد أستاذ الجيل مالك بن نبي رحمه الله إلى أرض الوطن قادما من القاهرة، وأصبح المدير العام للتعليم العالي، وهو منصب آنذاك يعد بمرتبة منصب الوزير حاليا. وفي 1966 شرع في إقامة ندوات ببيته يختار فيها نخبة من الطلبة والمهتمين ويقومون بطرح بعض القضايا ومناقشتها بما فتح الله عليه، مركزا على تمرين الطلبة التحليل والمعالجة المنهجية للأفكار والأطروحات المعاصرة، ونقد مختلف التيارات التغريبية الزاحفة على المجتمع. وقد ركز مالك بن نبي رحمه الله على فئة الجامعيين لما تملكه من سطوة ونفوذ معنوي وأدبي على القطاعات الشعبية وخصوصا في بلد مثل الجزائر خرج منهك القوى من حرب استنزاف رهيبة دامت سنوات. فطلاب الجامعة في ذلك الوقت كانوا يعتبرون محركي المجتمع بكل المقاييس.
وفي نفس الفترة انطلقت دروس وحلقات شرعية في المسجد الكبير في الجزائر العاصمة، وبدأ الجامعيون يحضرون هذه الدروس ويكتشفون جزءا مهما من شخصيتهم الوطنية وتراثهم الإسلامي.

مالك بن نبي وتأسيس مسجد الجامعة
يعد تأسيس مسجد الجامعة المركزية محطة تاريخية هامة في انطلاق الحركة الإسلامية المعاصرة. وتتضافر الروايات التاريخية الشفهية على أن فكرة مسجد الجامعة كانت من بنات أفكار مالك بن نبي رحمه الله، حيث وجه الشباب الذين كانوا ملتفين حوله أواخر الستينات إلى ضرورة العمل داخل الجامعة وفتح مسجد هناك.. وبعد أن حاول الشباب ذلك والتقوا بالمسئولين اقترحوا عليهم بناء مسجد خارج الجامعة يكون أوسع وأكبر.. ففرحوا بهذا الاقتراح وعادوا مهللين لمالك بن نبي.. ولكنه قال لهم، وهو المتبصر بقضايا التغيير ويعرف الثغور التي أوتيت منها أمة الإسلام عندما انحرفت نخبتها وأصبحت علمانية جاهلة بدينها.. قال لهم كلمة تكتب بماء الذهب:” جحر في الجامعة خير لكم من قصر خارجها”..
وقد تأسس بالفعل هذا المسجد وافتتح في سبتمبر 1968 وقد قام بتأسيسه مجموعة من رواد ندوة مالك بن نبي رحمه الله نذكر منهم الأساتذة الفضلاء، عبد العزيز بوليفة (الذي كان طالب صيدلة)، محمد جاب الله (الطب)، عبد القادر حميتو، وعبد الوهاب حمودة حفظهم الله وغيرهم من الرواد الأوائل.
وفي نفس السنة أي 1968 عاد أوائل الطلبة الجزائريين الذين درسوا في الولايات المتحدة الأمريكية، نذكر منهم الدكتور عبد الحميد بن شيكو (دكتوراه في الفيزياء)، والدكتور محمد بوجلخة (دكتوراه في الرياضيات). وقد اكتسب هؤلاء العائدين تجارب ثرية في الغرب خصوصا إذا علمنا أنهما من مؤسسي اتحاد الطلبة المسلمين في أمريكا الشمالية وأعطوا بخبرتهم الإدارية دفعا للجهود الدعوية العفوية غير المنتظمة في صيغتها الأولى مع مالك بن نبي. وقد كان دور هؤلاء بارزا أيضا بحكم مناصبهم الجامعية التي حصلوا عليها باعتبار أنهم من أوائل إطارات الدولة الجزائرية المستقلة.

ملتقى التعرف على الفكر الإسلامي
وبعد بضعة أشهر أي في ديسمبر 1968 أقيم الملتقى الأول للتعرف على الفكر الإسلامي في ثانوية عمارة رشيد (بن عكنون) بسعي من الأستاذ رشيد بن عيسى. وقد شارك فيه نخبة من المفكرين والأساتذة الذين استجابوا لدعوة مالك بن نبي لما يملكه من رصيد وروابط ثقافية، رغم محدودية الإمكانات آنذاك.
وفي السنة الموالية أي 1971 استولت الحكومة على ملتقى التعرف على الفكر الإسلامي، ورغم ان العملية كانت مبنية على حسابات سلطوية ضيقة حتى لا تسمح بوجود منابر مؤثرة يشارك فيها كبار المفكرين والعلماء من مختلف أرجاء العالم الإسلامي، ولكن كان ذلك الاستيلاء منحة ربانية لأن ملتقى التعرف على الفكر الإسلامي أصبح الجزء الأساسي من برنامج وزارة الشؤون الدينية ومحور نشاطها السنوي، بقيادة الوزير الراحل مولود قاسم نايت بلقاسم رحمة الله عليه الذي أعطى دفعا لمشروع الملتقى، لأن إمكانيات الدولة تفوق إمكانيات الأفراد مهما كانوا مخلصين في خدمة قضيتهم.
ولقد استمر هذا اللقاء السنوي الوطني ما يزيد عن عشرين سنة إلى أن تم توقيفه مطلع التسعينات، لأن رؤوس العلمانيين اعتبروه مؤسسة شعبية إسلامية ممولة من خزينة الدولة وخدمت التيار الإسلامي، وليس خطاب السلطة الديني.
وجهد وزير الشؤون الدينية والأوقاف، مولود قاسم نايت بلقاسم رحمه الله وجزاه عن الشعب الجزائري خير الجزاء، في حشد الإمكانيات والميزانية الضخمة لإنجاح هذا الملتقى سنويا، وطبع أعماله وتوزيعها بالدينار الرمزي تعميما للفائدة على جمهور الشباب الذين فاتهم حضور أشغال الملتقى مباشرة. وقد ضم له نخبة من رواد مجسد الجامعة المركزية إلى وزارة الشؤون الدينية، الذين كانوا يشتغلون في لجنة الملتقى ويقومون بتحضير أشغاله وتنظيم لقاءاته سنويا. وكان لهذا الملتقى فضلا عن النشاط الرسمي، نشاطات موازية ليلية في الأحياء الجامعية والثانويات والمساجد والقاعات العامة. وهذا الملتقى المبارك الذي بدأ مبادرة محدودة ومتواضعة مع مالك بن نبي رحمه الله، أصبح من أشهر الملتقيات العالمية ويحاضر فيه كبار العلماء والدعاة والفلاسفة والمستشرقيين، ويتمتع جمهور الحاضرين بمطارحات مختلفة بروح علمية سامية.
وفي هذا الملتقى تعرف شباب الجزائر وربما قبل غيرهم من الشباب في كثير من بلاد المسلمين بجمهور الدعاة والعلماء الذي سجلوا أسماءهم في النصف الثاني من القرن العشرين. ومن فاته حضور الجلسات أو بعدت عليه الشقة فما عليه سوى انتظار كتب الملتقى التي تطبع فيها أعماله، ويتم توزيعها على المكتبات العامة ومكتبات الثانويات والجامعات والمساجد، فعمت الفائدة وكثر النفع وانتشرت الصحوة الواعية في مختلف الأرجاء. والمتابع المنصف يستطيع أن يلمس أثر ذلك الملتقى وتلك المحاضرات والجلسات الطيبة مع الدعاة والمشايخ وكذلك مع أساتذة الفكر والفلسفة وكبار المستشرقين، أمثال المستشرقة الألمانية الفاضلة زغريد هونكه صاحبة شمس الله تسطع على الغرب، والفيلسوف البارع رجاء جارودي، والعلامة أبو الحسن الندوي، والمشايخ الدعاة القرضاوي والغزالي والبوطي.. والأساتذة نور الدايم حاطوم، وعبد العزيز الحبحابي، وأبو السعود وغيرهم من الأساتذة والمشايخ والدعاة واللغويين والشعراء والمستشرقين وأساتذة الفلسفة..
وأثر هذا الملتقى السنوي كان عظيما أيضا باعتبار أنه ملتقى متنقل من مدينة إلى أخرى ومن عاصمة ولاية إلى أخرى، بحيث أن أهم المدن الجزائرية قد احتضنت أشغاله على الأقل مرة واحدة، وعلى كل شخص أن يتصور الأثر البالغ لمثل هذا الحشد من الدعاة والمشايخ الذين يستمروا بقاءهم لأزيد من أسبوع وكثير من شباب المدن المجاورة يقومون باستضافة الدعاة والعلماء إلى مدنهم وقراهم ومداشرهم، في أجواء احتفالية ربانية ساهمت في إنضاج الصحوة الإسلامية وتحويلها إلى حالة شعبية جماهيرية.
ومن الإنجازات التاريخية بمقاييس تلك الفترة التي تحققت هي بث محاضرات ملتقى التعرف على الفكر الإسلامي على شاشة التلفزيون لفترة قد تصل لنصف سنة وهذا أسبوعيا، تعرض فيها العديد من المحاضرات وقد كان التلفزيون أهم وسائل التثقيف في تلك السنوات، وكانت عملية البث التلفزيوني لمحاضرات الملتقى بمثابة جامعة شعبية.

معرض للكتاب الإسلامي
ومرة ثالثة أيضا وباقتراح من مالك بن نبي رحمه الله ينظم مسجد الجامعة لأول مرة سنة 1971 معرضا للكتاب الإسلامي في الحي الجامعي لبن عكنون بالجزائر العاصمة، وكان ذلك إيذانا ببداية انتشار الثقافة الإسلامية وتعرف الشباب على الخطاب الإسلامي، وفي نفس الوقت دخول البعد التنظيمي الواعي بنفسه بشكل أكثر دقة وتخطيط. كما قام مسجد الجامعة بتأسيس مجلة فرنسية بعنوان ما ذا أعرف عن الإسلام؟ (Que sais-je de l’islam) وبالرغم من أن أعدادها لم تتجاوز العشرين عددا ولكن لم يكن يخل بيت من بيوت رواد الحركة الإسلامية من تلك الأعداد التي بارك الله فيها. ونفس السنة شهدت بعث العمل الإسلامي في الجنوب الجزائري عن طريق رواد مسجد الجامعة، وبدأت عملية فتح المساجد في الثانويات التي كانت بمثابة الجامعات في أيامنا هذه، بما كانت تزخر به من جدية وحيوية وديناميكية في أنشطة الشباب ومعارض فكرية ولوحات تعريفية بالالتزام الإسلامي. كما أن مسجد الجامعة في ذلك الوقت المبكر من الوعي الإسلامي والالتزام الحركي لم يهمل البعد العالمي في مناشطه وسجل حضوره منذ 1972 بإظهار الاهتمام بقضايا الأمة الإسلامية. فلقد شهدت تلك السنة النزاع المسلح بين باكستان والهند فقام مسجد الجامعة، وهو الغطاء التنظيمي/الإداري الذي كان ينشط من خلاله هؤلاء الرواد الأوائل بمساندة باكستان وجمع التبرعات وتسليمها للسفير الباكستاني بـالجـزائـر.
كما انطلقت الهيئة المشرفة على مسجد الجامعة في تنظيم الورشات الثقافية والعلمية أثناء العطل الجامعية في الأرياف والمدن المختلفة والتي يقوم بتأطيرها كوادر الجامعة، والشباب الملتفين حول المساجد الجامعية ومساجد المعاهد المتخصصة.. وكان يقوم بمهام محو الأمية وتقديم الخدمات الطبية وغيرها من المناشط العامة التي كان لها تأثير كبير في الأوساط الشعبية في تلك السنوات المتميزة بالبراءة، وسلامة فطرة الناس وإقبالهم الشديد على التدين والالتزام بمجرد فهمهم الفكرة الإسلامية، واستيعابهم لأبجديات التغيير الإسلامي الهادئ.

حرق مسجد الجامعة
وبالرغم من هذا النهج السلمي بدأت المضايقات من بعض فلول اليسار وتعرض مسجد الجامعة المركزية في العاصمة في بداية 1973 إلى الحرق، حيث التهبت النيران في القاعة المخصصة للنساء، و بدأوا بحرق مصاحف وضعت على الطاولة و ذلك قبل السادسة صباحا، و لكن رعاية الله حالت دون مقصدهم، فلم يلتهب كل المسجد..
وكتب الراحل بن نبي على اثر هذا الحدث افتتاحية مؤثرة في مجلة “ماذا أعرف عن الإسلام” الفرنسية رقم 9 (Qsji) تحت عنوان ” الكتاب المحفوظ” وبعد أن ذكر تكفل المولى تبارك وتعالى بحفظ لكتابه، أضاف يقول: “إن حرق بعض المصاحف، في مسجد الجامعة، من طرف مجنون أم مجرم مسير، يعتبر أمرا جزئيا و مبتذلا (banal) إذا أرجعناه إلى السلسلة التاريخية لكل المحاولات التي استهدفت القرآن، التي فشلت كلها.. لم تفشل فقط، و لكن من منظور آخر، فهي نافعة بحيث تعتبر تحديا للضمير الإسلامي، و نتيجة ذلك فإن طلبة مسجد الجامعة، بدلا من أن يصيحوا و يتباكوا، فقد نظموا أسبوع القرآن الكريم (بالحي الجامعي بالقبة ENS) ابتدأ بصلاة الجمعة بالجامعة، صلاة جمعت عددا غفيرا لم ير قبل هذا الحدث.
والأستاذ مالك بن نبي نفسه لم يسلم من المضايقات، بل تعرض إلى اعتداء سنة 1973 حيث تعرض له إثنين أو ثلاثة فضربوه قرب منزله حتى أغمي عليه وتركوه مرميا في الطريق دامي الوجه، فاقد الوعي، لولا رحمة الله به أن جاء بعض الناس و ذهبوا به إلى المستشفى. وبعد هذا الاعتداء الغادر نـُظمت مداومة في بيته من أجل حمايته، فكان الطلبة يتناوبون على حراسته في بيته، وفي إحدى الليالي بينما كان الطلاب المداومون على حراسته يدرسون الكهرباء و بالأخص المحولات الطاقوية، قال لهم رحمه الله: ” إن وظيفة المسلم تجاه مجتمعه هي مثل وظيفة المحول، يمكن تحويل طاقة كامنة في القرآن ويبعثها في النفوس في المجتمع”.
وبعد مرض دام بضعة أشهر توفاه الأجل عليه رحمة الله، وصليت عليه صلاة الجنازة في المسجد الذي أسسه، مسجد الجامعة يوم 31 أكتوبر 1973، و تبعه عدد غفير من المسلمين إلى مقبرة سيدي امحمد..
كتب عنه الأستاذ رشيد بن عيسى كلمات تأبينية نشرت في العدد العاشر من المجلة يقول فيها: “كان لمالك بن نبي إيمان الغزالي، و الاتساع الثقافي لابن خلدون و التوتر البروميتي لجمال الدين الأفغاني، و عزم حسن البنا. ينتمي مالك إلى سلسلة المفكرين و المجددين مثل رشيد رضا، و محمد إقبال و ابن باديس، حيث كان تلميذهم و موصلا لجهدهم.
وفي فراش مرضه في المستشفى، حينما استفاق قليلا، أخبرته بأن العرب قد انتصروا على أنفسهم وعلى عدوهم في حرب بدر 1393 المسماة بحرب رمضان 1973 (أي ضد اليهود)، فأجابني باطمئنانه المعهود و بكل يقين: “سنتغلب عليهم”.
وجدت في يوميات مالك بن نبي الشخصية كلمات كتبها قبل وفاته بعنوان “إني أحيي نهايتي…”. جاء فيها: “إني أشعر أكثر فأكثر، في هذه السنة التاسعة و الستين من حياتي بشعور ارتياح- و إني كرجل على ظهره حمل ثقيل، يشكر المولى تعالى أن وفقه على نقل الحمل أبعد و أطول ما يمكن، و لكنه ينتظر وقت وضعه. إن حياتي كانت ثقيلة الحمل، وقرب السبعين من عمري فإني أستشف نهايتي بارتياح….” رحمه الله برحمته الواسعة.
توفي مالك بن نبي بعد أن وضع أسس البناء وقد نمت الدعوة وأصبحت واعية بنفسها أكثر وتدرك مهامها بأوضح سبيل وطريق.

بقلم : يوسف بوعجيلة

منقول عن موقع الشهاب

Comments (0)
Add Comment