إما أن نغير وإما أن نغيَر

عدد القراءات :6113

مالك بن نبي

قبيل رحيله بفترة وجيزة، استقبل مالك بن نبي ثلة من المثقفين السعوديين جاءوا لزيارته في بيته بالعاصمة الجزائر. حدَثهم المفكر حول وضع المسلمين و كيف يرى مستقبل الصراع العالمي و موقعهم منه. ويحس القارئ من نبرات وعبارات المرحوم بن نبي و كأنه يستشعر دنو الأجل و اقتراب الرحيل.
(ن.خ)

افترقنا الآن مع الإخوة السعوديين وكانت الكلمة الأخيرة معهم أننا في فترة خطيرة تقتضي تغيرات ثورية: فإما أن نقوم نحن المسلمين بالتغيير في مجتمعاتنا وإما طبيعة العصر تفرض علينا تغييرات من الخارج – كما هو حاصل باليمن و ظفار وغيرهما -، لأن هذه هي روح العصر، فالذي يجب أن نؤكد عليه أولا وأن تتذكروه دائما: إننا إذ لم نقم نحن بثورتنا فإن التغيير سوف يأتي من الخارج ويفرض علينا فرضا. أعيد هذا لأنه أمر أساسي.

ما معنى الثورة؟
إن التعاريف كثيرة و أحسب أن أفضلها ما كان موضحا للجانب العلمي فنقول: الثورة محاولة تغيير أوضاع معينة بطريقة مستعجلة.
غير أن قولنا: إن الثورة تغيير وإنها مستعجلة غير كاف فيجب أن نقول: إنها عملية هادفة، ويجب أن نحدد أهدافها.
فالثورة تعني ماهي الأشياء التي يجب أن تتغير، وتعني تحديد وسائل التغيير، ثم تحديد أهداف التغيير.
لا ندخل في التفاصيل و لكن نتساءل: ماذا يواجهنا كمسلمين في هذه المرحلة بالذات… في الثلث الأخير من هذا القرن العشرين؟ تواجهنا: حالة عالمية معينة، إلى جانب أوضاعنا الاجتماعية التي يمكن أن نعبر عنها باختصار بكلمة ” التخلف” وكل يدرك ما وراء الكلمة من أبعاد ثقافية و اجتماعية وسياسية.

الوضع العالمي:
إنه وضع خطير …. خطري لأمرين اثنين:
1- خطير في حد ذاته لأنه ربما يحمل في طياته مفاجآت وتغيرات عالمية جذرية و بطريقة لم تعرفها الإنسانية في شتى مراحل تاريخها.
2- خطير لكوننا لا نعلم هل نحن مهيأون لمواجهة هذه التغيرات أم لا؟ ما معنى مهيأون؟
الشرط الأول: الاستعداد لمواجهة شيء هو معرفة الشيء ذاته. وفي هذا وجب علينا القول: إن التيارات الفكرية غير مستعدة، أما القيادات السياسية فبعيدة عن هذا الميدان، لأنها مشتغلة بأشياء تعتقد أنها سياسية. وإني لا أريد أن أدخل في نقاش معهم، وإنما نحن نحاول توضيح حقائق متعلقة بي و بهم و بالإنسانية قاطبة.

الجواب عن السؤال:
إننا غير مهيئين لا سياسيا، ولا فكريا لمواجهة المشكلات التي تعترضنا في هذه المرحلة، وفي هذه الفترة من هذا القرن.

لماذا نبحث عن استعدادنا لمواجهة مشاكل العالم؟
الأمر بسيط وهو أن العالم الإسلامي شاء أم كره يعيش هذه المشكلات العالمية. لأن من طبيعة المشكلات العالمية أنها تنعكس على الأجزاء مهما استقلت هذه الأجزاء بذاتها و انكمشت على نفسها: فالأحداث العالمية و المشكلات العالمية يصلنا صداها و تؤثر في حياتنا، وتقدر أقواتنا، فلا بد إذن أن نتجنب سلوك ” النعامة” لأن من يتعمد تجاهل الخطر المحدق به يكون واحدا من اثنين: مستهتر أو مجنون.
بعد هذا التعريف الوجيز لظاهرة ( الوضع العالمي) نرجع إلى أوضاعنا الاجتماعية التي أوجزناها في كلمة التخلف لنتوسع في هذا المفهوم لتسهل علينا فيما بعد المقارنة بين المشاكل التي يعاني منها العالم الإسلامي و المشاكل التي يعاني منها العالم الغربي.
في هذه المرحلة من الحديث، يمكن أن نتساءل: ما هو التخلف؟ إنه مجموعة مشكلا تنا، وهي ذات طابع اجتماعي سياسي و اقتصادي ونفسي إلى حد ما. أما ما يواجه العالم فهي بالأخص مشكلات نفسية.
لاشك أننا إذا تعمقنا في تحليل مشكلاتنا وجدنا فيها نصيبا هاما ذا طابع نفسي، غير أن الغالب عليها هو الطابع الاقتصادي، السياسي و الاجتماعي.

مطالب ماركس تحققت أكثر في البلاد الرأسمالية:
المشكلات العالمية ليست ذات طابع اقتصادي و ليست ذات طابع سياسي إلى حد كبير و لا ذات طابع اجتماعي، لأن المشكلات التي عالجها الفكر الماركسي في متوسط القرن التاسع عشر حلت الآن في كلامنا تناقضا فيجب علينا زيادة الشرح.
لنترك الجانب الفلسفي في الماركسية و نمسك الجانب الاجتماعي، إننا لا نخطئ في الترتيب التاريخي إذا قلنا: إن الماركسية واجهت في منتصف القرن الـ 19 مشكلا ت اقتصادية و اجتماعية، وقد نتج عن ذلك مطالب تجسدت في شعارات ( يا عمال العالم اتحدوا)، اتحدوا طبعا ضد الرأسمالية، يا عمال العالم طالبوا بحقوقكم..
وتجسدت أيضا في توصيات مطالبة الرأسمالية بإعطاء حقوق العمال، في الأرض، و التجمع، و الضمانات الاجتماعية، وعطلة شهر مع المرتب. هذه هي المطالب، ولكن هذه المطالب تحققت أكثر مما كان يتصور ماركس وينتظر.. فقد أصبح الإنسان في العالم الغربي الرأسمالي يتمتع بكل الضمانات الاجتماعية مع شيء من الترف: ضمانات + ترف، وهكذا نرى في هذه الحقبة من القرن الـ 20أن مطالب ماركس ( القرن الـ19 ) قد تحققت في البلاد الرأسمالية بأكثر مما تحققت في البلاد الشيوعية، التي هي بدورها في طريق تحقيقها.. مما جعل حدة المشكلات التي واجهتها الماركسية في القرن الـ19 تزول إلى حد بعيد.

ليس في الأمر تناقضا:
حين نقول: إن المشكلات التي واجهها ماركس في منتصف القرن الماضي حلت في البلاد الرأسمالية، فإن هذا يثير عند الماركسيين ثورة وزوبعة وسخطا. أما بالنسبة لغير الماركسيين الذين ليست لهم خبرة بالموضوع فيرون ذلك تناقضا، غير أنه لا وجود في رأينا للتناقض، يجب فقط أن نحدد المصطلحات أمام هذه القضية. ننطلق أولا من مفهوم ” الحضارة”.
« هي مجموعة الشروط المعنوية المادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر جميع الضمانات الاجتماعية لكل فرد يعيش فيه. وهذا ليس تفسير ” توينبي” ومن شابهه. و العرب يعانون من عقدة إزاء بعض الغربيين، فيتبعون تعاريف ” توينبي” …. يجب أن ندرس مشاكلنا بأنفسنا لأننا نحن فقط نلمسها لمسا، أما ” توينبي: و غيرهم فهم يدرسون و يفكرون فيها و يتصورونها.. أما نحن فنلمسها.
أنا عشت وأعيش هذه المشاكل، فتحديدي للحضارة ليس تحديد ” توينبي” و لا يمكن أن يكون تحديده، كما أنهى لا يمكن أن يكون تحديدي للثقافة كتحديد ” ليفي ستراوس”لأننا نعيش المشكلات والآخرون يفكرون فيها.. فهناك فرق كبير جدا.
وبناء على تحديد مصطلح الحضارة في جانبين:
أ‌- الجانب المعنوي: ” الشروط المعنوية”
ب‌- الجانب المادي” ” الشروط المادية”.
” نجمع هذه الشروط المعنوية بما تدركون لماذا” في كلمة نسميها: الإرادة الحضارية. ونجمع الشروط المادية في كلمة نسميها: الإمكان الحضاري، وإذا تحقق أحد هذين الأمرين فقط في مجتمع فإن هذا المجتمع لا يستطيع أن يحقق الضمانات الاجتماعية لكل أفراده، فلا بد من توفر الشرطين. ونتساءل أين تحققت بوضوح الشروط المادية للإمكان الحضاري، هل تحققت في موسكو أم في نيويورك؟
في نيويورك طبعا… الإمكان الحضاري في نيويورك و باريس.. أكثر منه في موسكو، وهذا أكثر بالأخص ظاهرة انتقال الاتحاد السوفياتي من مجتمع متخلف إلى مجتمع متقدم، وهذا يؤكد أنه كان من الأيسر نظرا لتوفر الجانب المادي حل المشكلات التي واجهها ماركس في خصوص الرأسمالية.
ومن ذلك كله نلاحظ بكل وضوح لا وجود لأي تناقض حققت مطالب ماركس.. ومن يداوي لها أمراضها.
العالم تعدى المرحلة الاتي كان يواجهها ماركس… ولكن نلاحظ شيئا في هذه الرقعة التي تحقق فيها فعلا الإمكان الحضاري وحلت فيها فعلا المشاكل الاجتماعية التي قامت على أسسها الدعوة الماركسية: في هذه الرقعة ظهرت أمراض اجتماعية اجتاحت المجتمع بعد أن حلت القضايا التي طرحها ماركس.
وهذه المشكلة ليست من نوع اقتصادي و لكن من نوع نفسي، ولقد كنت في أول حديثي سحبت عمدا كلمة نفسي لما كنا نتحدث عن الأمراض التي في العالم الإسلامي، حتى تظهر بكل حدتها في الرقعة المتقدمة، ففي العالم المتخلف تكدست المشاكل الاجتماعية الاقتصادية، ولكن في العالم المتقدم انبثقت مشاكل من نوع جديد: مشكلات نفسية. فما هي هذه المشكلات؟
هي بإجمال: حيرة في النفوس، وشعور بعدم الاستقرار. وهذه مشاعر الإنسان المتمتع بجميع الضمانات الاجتماعية.
فإحصائيات الانتحار في العالم أخذت رقمها القياسي في أكثر البلاد تقدما من حيث الضمانات الاجتماعية، فالانتحار يوصف بكونه كارثة وطنية.
نضيف إلى هذه الظاهرة «الهيبي» و المخدرات…فالمخدرات ليست إلا محاولة خروج اصطناعي من المألوف.هو هروب من الواقع، غير أن البلاد التي حققت هذه الضمانات الاجتماعية تعاني مشكلات نفسية، ونريد أن نعرف نتيجة هذا كله.
نتيجة هذا ظهرت منذ أيام في تصريح خطير لنكسون: ” يحطر ببالي الآن مصير اليونان وروما في طور أفولهما. إن الولايات المتحدة سوف تكون أكبر دولة في السنوات العشر المقبلة، ولكنها هل ستكون الأكثر سلامة من الناحية الاجتماعية و النفسية”.
وحذر نكسون من اللامبالاة و الاستقالة من التاريخ.
هذه صيغة المسألة كما يصوغها الواقع، حتى أن نكسون وهو إنسان يواجه مسؤوليات على المستوى العالمي اضطر وفرض عليه الوضع المتدهور: التحذير و التنبيه، وشحذ الهمم.
لنا الحق إذا عندما نقرر أن مجتمعنا الإسلامي يواجه مشكلات اقتصادية اجتماعية حادة جدا مقابل مجتمع متقدم مصنع يواجه مشكلات نفسية حادة جدا أيضا. أما مشكلاتنا فهي نتائج لظروف وليست جوهرية جدا لكن مشكلاتهم أساسية وجوهرية جدا، هذه هي المقارنة.

ماذا تكون أو كيف تكون نهاية هذا القرن؟
إن الغيب بيد الله….إننا نقدر من الأمور أبسطها.
لا شك أن التطورات تنبع من هذا وذاك، من التخلف و التقدم الحاصل لمرض الروح و النفس. وكل الأحداث التي سوف يعرفها عالمنا في الثلاثين سنة المقبلة ستكون نتيجة التفاعل بين التخلف المادي ( العالم الإسلامي) و التخلف الروحي ( العالم المصنع).
هذه الصورة المشكلة العالمية بوجهيه: الصنف الاجتماعي و الاقتصادي. ( ونتائجه في المجال النفسي) و الصنف الروحي ( وجوهر مشاكله روحية)، هذه هي الخريطة العالمية التي سيحدث إن شاء الله في نطاقها التفاعل بيننا و بين الآخرين وبينهم وبيننا نحن. نضيف شيئا من ناحية أخرى و هو توضيح لمرحلة تهمنا نحن المسلمين.
«ليظهره على الدَين كله ولو كره المشركون».
كل واحد منا يعرف الآية: « هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون». فهل تحقق؟
هذا الوعد قد تحقق، وفي القرن بالذات وقد يبدو في الأمر غرابة أو عدم وضوح.
عندما نزل القرآن هل كان يتحققوعد الله في انتصار الإسلام على المسيحية و اليهودية و البراهمانية و البوذية و المجوسية، أي كل الأديان الموجودة آنذاك؟ ذلك هو معنى الآية الكريمة على الأقل، نأتي الآن لهذا القرن، وننظر إلى خريطة الأديان و الإيديولوجيات في العالم.
أذكر أرقاما قرأتها في الجغرافيا الإنسانية في صغري، أتذكر أن الديان كانت على النحو التالي:
مسيحية 600 مليون
بوذية 570 مليون
براهمانية 450 مليون
مجوسية: انتهت
اليهودية: 14 مليون
الإسلام 400 مليون
و الشيوعية –عندها– مازالت لم تظهر بعد كدين.
أما اليوم، ماذا لو نظرنا إلى خريطة العالم؟ نجد أن الأديان التي نزلت في حقها الآية زالت كلها: المسيحية مسخها التاريخ، وفي هذا المجال نذكر أننا قرأنا تحقيقا هاما أصدرته إحدى الصحف الفرنسية عنوان هذا التحقيق: ( ألفا سنة… يكفي..) و المقال يحتوي أرقاما و أحداثا عما حصل بأمريكا اللاتينية، فرنسا، إنكلترا، إيطاليا، وألمانيا.
منذ سبعة أشهر حصل ما بين ما حصل ( فضيحة كرالا) وهي مقاطعة هندية سافر عليها أحد القساوسة الطليان، قس يهتم بأمر دينه و متعلق بمسيحيته أراد أن يوجد رهبانا لديره.
ومشكلة الأديرة تشكل أعوص قضية عند القيادة المسيحية لندرة المستعدين لتحمل المسؤولية. حصل أن هذا القس لم يجد لتجنب غلق أبواب ديره إلا شراء بنات فقيرات من هذه المقاطعة الهندية لتلبيسهن القدوس، فكانت الفضيحة التي نشرتها صحيفة إنكليزية و تناقلتها الصحافة العالمية.
المهم أنه لم يبق من المسيحية إلا الهيكل الإداري ( الفاتيكان). أما القاعدة الجماهيرية فقد انتهت، حتى أن الدير لم يجد في أغلب البلاد متطوعين. أما البوذية فقد مسحها ماوتسي تونغ مسحا.
و البراهمانية من علامات محوها فشلها الفظيع في أخطر القضايا المعاصرة التي جابهتها: قضية المنبوذين. وهي القضية التي عرضها غاندي على الضمير الهندي وسطرها في الدستور. غير أنها لم تحل، ولقد أثبت ذلك عجز البراهمانية على مواجهة مشكلة ذات طابع اجتماعي.
أما اليهودية فهي لا تعد دينا بأتم معنى الكلمة. هي سياسة ..أو دين.. أو.. هي دين عنصري لا يطلب من أحد الدخول فيه ولا يبشر.

و هذا الدين الجديد: الماركسية؟
غير أننا نلاحظ شيئا و هو أن دينا جديدا بدأ يلقي لونه الأحمر على الخريطة، خريطة الأفكار، وهو الشيوعية. وقد اكتسح لونها رقعة كبيرة من الأرض: الصين، وشرق أوروبا، والاتحاد السوفياتي.
إذا لم يبق حقا على الخريطة كعقيدة إلا الإسلام و الشيوعية، فهما فقط يحركان الجماهير، وهنا يجب أن نلفت النظر لبعض الظواهر: ظاهرة عدم استقرار العقيدة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي.
إنها متصاعدة، و الدليل على ذلك نأخذه من أفواههم: في المؤتمر الـ 21 للحزب الشيوعي السوفياتي في سنة 1956، وهو تاريخ مبكر، صرح خروتشوف بقول غريب ترتبت عليه الأزمة بين الصين و الاتحاد السوفياتي من الناحية النظرية السياسية.
قال خروتشوف: «إن واجبنا تدعيم الطاقة العاملة بالمنبه المادي »، وهذا لم يقله لينين ولا ستالين، ولو سمعا أحدا يقول هذا أو مثله لأعدم في الحين.
ولو سمع ماتسي تونغ بذلك، وهو الوفي لفلسفة لينين تزعزع من حوله الكون وقال لهم: «إنكم كفرتم بالماركسية، لقد خرجتم عن الطريق السوي». ثم كان من المشاكل ما نعرف جميعا..
أخيرا منذ سنة تقريبا وقع تحقيق في الاتحاد السوفياتي تحت إشراف أكاديمية العلوم التي يشرف عليها عالم الرياضيات، عالم الاجتماع، مؤرخ، وكلهم من العظماء كانت نتيجة تقريرهم الذي قدم للثالوث القائد: بودغورني، بريجنيف، كوسيغين: «إن الطاقة المنشئة وقوى الابتكار قد هبطت في كل الميادين»، معنى هذا أن الاتحاد السوفياتي لم يبق في مرحلة الصعود في الدورة الحضارية، فقدأصبحوا يبحثون عن الأكلة الطيبة و القصور و المتع (شبه ما حصل عندنا في فترة معاوية).
أما الصين فهي لا تزال في المنطلق. فهي تحافظ على حدتها، وإن ظهر بعض التخفيف فيها يمكن لنا القول إن المجتمع الماركسي السوفياتي قد خرج من المرحلة الحضارية الأولى وسار شوطا في المرحلة الثانية، وبذلك ابتعد كثيرا عن منابع العقيدة و عن منبع الطاقة الدافعة. ولقد سافرت إلى الاتحاد السوفياتي و تجولت في بعض المدن:موسكو، لينغراد، سمرقند… وشاهدت وضعية الشباب هناك، وضعية لا تقارن بوضعية الشباب في الغرب من حيث الانحلال. ولكن عندي ملاحظات وذكريات خاصة أكدت لي وجود شيء من الفتور. لمست ذلك في بنت وشاب.
البنت كانت خصصت لنا مترجمة. الكلمة الأولى بعد أن تعارفنا و لاحظت منا عطفا و تلطفا، ولم يبق عندها شك أو ريبة في إنسانيتنا، الكلمة الأولى التي انطلقت بها هي: إني أرغب في المجيء عندكم لأعمل. وأظن أنها كانت تحت المراقبة. وفي يوم ما كنا عائدين من زيارة في السيارة، وكانت معنا فطلبت منا أن تنزل لمنزلها لمدة قصيرة فأذنا لها. وعادت ومعها بعض الثمار قطفتها من حديقتها وتكرمت عليَ وعلى الأخ الذي كان يرافقني، وقد لاحظ السائق هذا التصرف.. ولم نرها بعد ذلك اليوم. لوكنا في وقت ظهور الإسلام لقيل فيها بمصطلحات أهل الشرك حين يظهر على الإنسان ملامح الإسلام لقد صبأ !
ثم عوضها بشاب مال إلينا وملنا إليه و لم نغير سلوكنا، فلما اطمأن إلينا بدأ يقدم وساطته في تحويل العملة في السوق السوداء. ولا شك أن هذا خروج وانحراف عن خطة الصعود في الدورة الحضارية، ذلك الخط الذي لا يتصور مثل هذا التصرف.
ثم وقع حديث مع هذا الشاب ونحن نتناول الطعام، وكنا نلاحظ عليه الشغف بالحياة الناعمة وكأنه يأسف أنه ليس في الغرب.
هذه هي الأوضاع الموجودة في العالم: إن الغرب انتهى بشيوعيته ومسيحيته.. إن الأزمة النفسية طغت على العالم المسيحي وبدأت تنهش هيكل العالم الاشتراكي، إذن في نظرة بعيدة المدى للتطور في الثلاثين سنة القادمة – إن شاء الله- سوف تكون المعركة بين الإسلام و الشيوعية.

رأس ثالث في الصراع!
إن الرقعة التي زال فيها الاستقرار النفسي تقع تحت السيطرة المباشرة للصهيونية، يعني هذا أن كل إمكانياتها الحضارية فريسة للصهيونية.
حدثنا منذ أيام السيد بنوا شملان المؤرخ الفرنسي عن لقاء له مع شخصية كبيرة في وزارة الخارجية الأمريكية قال: قلت له إنكم ( الولايات المتحدة) تساندون ( إسرائيل)، فعقَب عليه المسؤول الامريكي وصحَح: « نحن تابعون لـ إسرائيل و لسنا نساندها».
هذا هو الواقع الأمريكي، فالمساندة تأتي عادة من القوي للضعيف غير أن الحال عكس هذا.
وهكذا يصبح الصراع بين ثلاثة عناصر: الإسلام و الشيوعية و هما العنصران الفعالان وعنصرا التفاعل النفسي و الأخلاقي في العالم. وهو صراع صامت الآن ولعله لن يبقى كذلك. أما العنصر الثالث فهو الصهيونية.

ولكن كيف يتدخل هذا العنصر الأخير؟
الصهيونية من عادتها، ومن 2000 سنة تقريبا، أن لا تتدخل في قضية ما سافرة الوجه، بل تتدخل مقنعة بقناع الديموقراطية، والإنسانية و العدالة، وفي المستقبل نرى أنها سوف تتدخل بقناع المسيحية. لكن لماذا بقناع المسيحية؟ المسيحية أمام قوتين متصارعتين إحداهما توحد الله و الأخرى تنفي وجوده ومنطقيا وجب على المسيحية أن تؤيد الإسلام.لكنها على عكس ذلك تريد الانتصار للشيوعية على الإسلام. شيء يجب على الشباب المسلم أن يدركه جيدا: إن المسيحية تدرك أن الشيوعية غير مستقرة… وأنها لا تنشء و لا ( تخلق) و لا تدعي ذلك لأنها تنفي هذا الجانب، حالة الاستقرار النفسي، فماركس قال املأوا البطون و انتهى كل شيء!!
فالقيادة المسيحية ترى انها خسرت القضية حاليا و لكنها سوف تكسب المعركة إن اكتسحت الشيوعية العالم وانتصبت عليه وذلك لإدراكهم أن الشيوعية لا تهيء حالة الاستقرار النفسي الذي تطمح إليه كل نفس.
أما إذا انتصر الإسلام فإن التاريخ ينتهي و تأتي نقطة النهاية بالنسبة للمسيحية و يتحقق بذلك وعد الآية الكريمة ليس فقط بالنسبة للأديان المعاصرة لظهور الإسلام بل حتى بالنسبة للأفكار التي أصبحت عقيدة و دينا: كالشيوعية.
نفهم من هذا أن الثلاثين سنة القادمة إن شاء الله ستعرف المعركة الطاحنة، المعركة العقائدية بين الشيوعية و الإسلام ( بين الكفر و الإيمان). ولكن تتدخل المسيحية بجانب الشيوعية تدخلا محكما. ولا يعني هذا أن المسيحية لا تقوم مباشرة ببعض الأعمال منها تكسير هوامش دار الإسلام.
فالإسلام مثل القارة الوسيطة ولهذه القارة هوامش فكما لأروبا هوامش مثل إنكلترا و إيرلندا ومالطة وصقلية، لدار الإسلام هوامش مثل الفلبين وإندونيسيا وإفريقيا الوسطى و المسلمين السود في الولايات المتحدة، هذه هي هوامش الإسلام.
ومن الملاحظ أن المسيحية تبذل مجهودات كبرى وبالأخص بعد سفر ( بولس السادس) للشرق الأقصى، فبمجرد ما رجع بدأت المذابح في سيلان و إندونيسيا ( أنظر كتاب غارة تبشيرية على إندونيسيا)، فالعملية التي تقوم بها المسيحية مزدوجة، عملية توجيه للمعركة وقطع الهوامش حتى لا تزيد دار الإسلام في الامتداد. الفكرة القومية العربية لا تحل القضية.. وبقدر نجاحنا في الداخل يكون نجاحنا في الخارج. نعود الآن للمسألة الثانية، نقر بأن الثلاثين سنة المقبلة حاسمة ستكون أخطر مرحلة في تاريخ الإنسانية لأنها سوف تتجمع فيها السلطة الروحية حول منبع واحد إما شيوعية أو إسلاما، ولا فائدة في التذكير بالدور الذي تلعبه المسيحية أي الصهيونية المقنعة.
وينبغي على العالم الإسلامي أن يعرف و يعي معنى هذه المرحلة الخطيرة في العالم و بمقتضى معنى هذه المرحلة يتجه لمشكلاته الحقيقية التي يعيشها في عقر داره، وأن نجاحنا في المعركة العالمية سوف يكون بقدر نجاحنا في معركتنا الداخلية.
و حل هذه المشكلات لا يمكن إلا على أساس حضاري، أما الحل السياسي فلا يمكن، وكل الحلول الأخرى غير مقبولة، فكرة القومية العربية لا تحل القضية أبدا و لقد بدأت تتكون عندنا بعض الخبرة على النطاق الوطني.
إن حل المشاكل لا يمكن أن يكون في مجال قطري، فلو أردنا لتشبه ببلجيكا لما استطعنا لأننا لو فصلنا بلجيكا عن أوروبا لانهارت وسقطت.
إن مشاكلنا لا يمكن أن تحل في نطاق قطري، ولقد أراد بعضهم أن يعوض القطر بحدود القومية فظهر أن القومية وضعت حدودا أخرى وبدَدت طاقات أخرى في القطر الواحد كانت متجمعة قبل ذلك. هذا أصبح بعثيا وذلك ناصريا…
لم يبق إلا شيء واحد وأظن أن الفكر الإسلامي بدأ ينضج عند الشباب و غير الشباب هو أن القضية بالنسبة لأي مجتمع قضية حضارية أساسا ثم تصير و تتجزأ إلى قضايا قطرية و جهوية. نحن إذن نطالب بمواجهة المعركة الكبرى التي ستؤول نتيجتها إلى تلوين الخريطة بلون عقيدة واحدة، إما الإسلام أو الشيوعية ومن ورائها المسيحية. وعندما نقدر شروط انتصارنا في هذه المعركة نراها موقوفة على معركة داخلية لحل قضية التخلف على أساس حضاري، وعندها يهيأ الظرف الملائم كي يستطيع العالم الإسلامي دخول المعركة العالمية مصفى من عقده النفسية.

كلمة أخيرة:
هذه هي الوصية التي نتواصى بها، وأشعر وأنا أتحدث إليكم بأني أوصيكم بشيء خطير لأننا لا نراه بل نحن مشغولون بمشكلات أخرى. والقيادات الثقافية لا ترتفع لهذا المستوى، فهي لا تزال في محيط ضيق وإن ارتفعت أصبحت وحدوية تنادي بالوحدة العربية. نتواصى بهذه الحقيقة ونعمل بمقتضاها وعلى كل واحد أن يصحح ما سمعه مني ويكمل ما نقص في حديثي لأني اختصرت و لم أدخل في التفاصيل…
ولقد كنت وصيت الشباب المسلم في كثير من البلدان بهذه الوصية… و الله يؤيدكم و السلام عليكم.

Comments (0)
Add Comment