إخراج المسلمين من التيه أهم من السيطرة على الذرة!!

عدد القراءات :3008

الكتاب: قراءة في فكر مالك بن نبي
المؤلف: د. عبد اللطيف الخياط
عرض: عبد الله زنجير

يبدو أن من الظواهر المألوفة في الحياة الفكرية أن الفكر الأصيل يحدث بين بني عصره صدمة تذهل أكثرهم فتدفعهم إلى النفور والاستنكار قبل أن يبدؤوا بالإقبال عليه أفراداً ثم جماعات، وهذه الظاهرة صادقة فيما يبدو في حق من يفتحون طرقاً جديدة مبتكرة لإخراج الأمم من ركودها. ولعل هذا بالضبط ما حدث لمالك بن نبي.
لقد كانت رحلة شاقة تلك التي قطعها فكر مالك من الأربعينيات حتى ظهر كتابه (الظاهرة القرآنية) بالفرنسية ثم تلاه (شروط النهضة) و(وجهة العالم الإسلامي) وحتى بعد أن بدأت ترجمة كتبه في الخمسينيات. صحيح أن قراءة فكر مالك لا تكفي للخروج من الضياع الذي يعاني منه المثقف المسلم، ولكنها تسير به بالتأكيد أشواطاً نحو ذلك. لقد كان من المفروض الآن بعد نصف قرن من بدء ظهور أفكار مالك بن نبي أن نكون قد انتهينا من قراءة كتبه والتعليق عليها والحديث عنها ثم إبقاء ما يصلح منها وتجاوز الباقي.
ولكن من الإنصاف أن نذكر أنه في العقدين الأخيرين بدأ بعض الناس يعطون مالكاً قدره، فقد بدأت تكتب عنه الكتب والأطروحات، وبدأت تخصص أعداداً من المجلات لإحياء تراثه. إن كتب مالك تترجم في ماليزية إلى اللغة الإنجليزية. ولعل هذا يكون بداية لإقبال الألوف من الناس على قراءة كتبه مرات ومرات.

مالك بن نبي ومحنة المستعمر
كان انطلاق مالك في الأصل لحل مشكلة الجزائر. فقد تفتحت عيونه في عام 1905م وبلاده مستعمرة أبشع استعمار. فالمستعمر الفرنسي يمارس التدمير المادي والمعنوي للقدرات الإسلامية، قام هذا المستعمر المتحضر بالقتل الجماعي، وإحراق المزارع، ومصادرة الأراضي، وتدمير المساجد، وإغلاق الكتاتيب. بل استخدم الفرنسيون أموال الأوقاف لنشر المسيحية بين الجزائريين.
غير أن هذا البلاء الخارجي كان متناسباً مع البلاء الداخلي. فقد سيطرت الطرق الصوفية على حياة الجزائر وبقية المغرب العربي منذ القرن التاسع عشر، حتى بلغ عدد الزوايا الصوفية في الجزائر 349 زاوية، وقد أثقلت الحياة الصوفية بالبدع وكبلت الأفكار بالجمود، وبلغ خضوع العوام للمشايخ مبلغه، وقصدت قبور المشايخ لالتماس الرحمة والبركات.
ولكن تلك الزوايا الصوفية لم تخل من دور إيجابي في الجهاد ضد الاستعمار، فالأمير عبد القادر نشأ على الطريقة القادرية، وهو الذي حقق انتصارات مهمة على الفرنسيين حتى عام 1843م حيث نفي إلى فرنسة، ثم إلى تركية، ثم إلى دمشق.
ثم قام الشيخ عبد الحميد بن باديس بإنشاء جمعية العلماء المسلمين في عام 1931م لمقاومة الذوبان في نمط الحياة الفرنسية، وبقي الشيخ رمزاً وأباً للحركة الإصلاحية في الجزائر حتى وفاته سنة 1940م.
ويمكن للمرء أن يحصل على صورة للحياة الجزائرية إبان نشأة مالك من السيرة الذاتية التي كتبها مالك في مجلدين بعنوان: مذكرات شاهد للقرن. وقد تحدث في هذا الكتاب عن نشأته الفقيرة في تبسة، وتحدث عن ثنائية ثقافته بين المسجد والمصحف القرآني من جهة، وبين معلميه الفرنسيين من جهة أخرى، عرف مالك في صباه حركة صوفية هي الطريقة العيساوية، وعرف تلاميذ الشيخ عبد الحميد بن باديس، ثم رأى الشيخ نفسه في قسنطينة، وحينما سافر إلى فرنسة في عام 1930م لدراسة هندسة الكهرباء كان موقفه مختلفاً عن موقف أي طالب آخر من طلاب المغرب العربي، يصف عمر كامل مسقاوي موقف مالك بن نبي في فرنسا بأنه كان موقف (المستغرب)، أي الدارس للحالة الغربية في أعماقها، هذه الدراسة التي سماها الدكتور مسقاوي (الاستغراب) تقابل (الاستشراق) وهي تحتاج لكفاءة تمكن الدارس من رؤية منابع الفعالية في العالم الغربي، لقد فهم مالك العالم الغربي بجانبيه السلبي والإيجابي، وأعطاه هذا من الحصانة ما جعله بمنأى عن اللعبة السياسية التي يديرها المستعمر.
وكذلك تعرف في باريس على اتجاهات المسلمين المغاربة، وتحمس لبعض الحركات كحركة الوحدة وتعرف إلى ماسينيون وغاندي والأمير شكيب أرسلان، وفيما بعد قضى سنوات عديدة في القاهرة يهتم بنشر فكره باللغة العربية، وفيما بعد صار يكتب باللغة العربية مباشرة، أما أواخر عمره فقد قضاه في بلده الجزائر متفرغاً للفكر حتى وفاته سنة 1973م.

وضع مشكلة الجزائر في إطارها
عندما انطلق مالك بن نبي في شبابه محاولاً التوصل إلى حل لمشكلة الجزائر كان واحداً من ألوف المكافحين لتحرير بلادهم، ولكن عمق ثقافته وتنوعها أمكنه أن يرى أن مشكلة الجزائر أكبر من أن تحل بالسلاح، فلا يمكن فصل مشكلة الجزائر عن مشكلة العالم الإسلامي، بل إن العالم الإسلامي لا يجوز له أن يحل مشكلته بمنأى عن المجموعات البشرية التي تحف به، بل بمنأى عن بقية العالم.
ولهذا يقول مالك بن نبي:
(ليس من قبيل المصادفة أن نرى (الحاوي) يجمع حوله الأطفال في سمرقند وفي مراكش وهو يلوح لهم بثعابينه، إن معنى هذا أن مشكلة العالم الإسلامي واحدة).
وحينما يضع مالك مشكلة الجزائر في نطاقها فإن حركة الإصلاح التي بدأت عام 1925م تظهر انعكاساً لحركة إصلاح سابقة، وهي دعوة جمال الدين الأفغاني التي انطلقت عام 1868م. في ذلك العام حدث اشتباك في سيابي في الهند بين السكان المحليين وبين المستعمر الإنجليزي، فاتخذ جمال الدين من ذلك الاشتباك مناسبة للبدء بدعوته إلى اليقظة، وقد وصف مالك بن نبي هذه الدعوة بقوله:
(إن صيحة جمال الدين شقت كالمحراث في الجموع النائمة طريقها فأحيت مواتها، ثم ألقت وراءها بذوراً لفكرة بسيطة: فكرة النهوض، فسرعان ما آتت أكلها في الضمير الإسلامي ضعفين)، وأصبحت قوية فعالة، بل غيرت ما بأنفس الناس من تقاليد، وبعثتهم إلى أسلوب حياة جيدة وهكذا فلم يكن النهوض الجزائري إلا صورة لدعوة جمال الدين واستجابة لصيحته، ولكن جمال الدين لم يكن يملك مزاج الداعية المصلح، وإنما كان كل همه رفع بعض المبادئ السياسية التي تعيد للمسلمين تماسكهم، بينما كان تلميذه محمد عبده هو صاحب حركة الإصلاح الحقيقي، لقد كان دور محمد عبده رئيسياً في نهوض العالم الإسلامي ولكن مع ذلك فقد كانت دعوته قاصرة، لأنه ظن كما ظن محمد إقبال أن إصلاح علم الكلام يكفي لنهوض العالم الإسلامي، مع أن الجماهير الإسلامية لم تفقد إيمانها، ولكنها كانت تحتاج إلى دافع داخلي يجعلها تنتصر على ما عندها من خمود.
وقد استجابت الجزائر إلى دعوة الأفغاني ومحمد عبده في عام 1925 عندما قامت جمعية العلماء الجزائريين بحركة الإصلاح بقيادة الشيخ عبد الحميد بن باديس. وقد انطلقت دعوتهم من الآية الكريمة: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الرعد11) يقول مالك في هذا:
(أصبحت هذه الآية شعار كل ما ينطرح في سلك الإصلاح في مدرسة ابن باديس، وكانت أساساً لكل تفكير، فظهرت آثارها في كل خطوة، وفي كل مقال، حتى أشرب الشعب في قلبه نزعة التغيير، فأصبحت أحاديثه تتخذها شرعة ونهجاً، فهذا يقول: لا بد من تبليغ الإسلام إلى المسلمين وذاك يعظ فلنترك البدع الشنيعة البالية التي لطخت التدين، ولنترك هذه الأوثان، وذاك يلح: يجب أن نعمل، يجب أن نتعلم، يجب أن نجد صلتنا بالسلف الصالح، ونحيي شعائر المجتمع الإسلامي الأول).
ولكن فترة الإصلاح كانت قصيرة لأنها لم تكن بصيرة. إن الاستعمار كان أدهى من تلك الحركة، حيث نصب لها شركاً فوقعت فيه. وكان يمكن لحركة الإصلاح أن تحافظ على نفسها لو أنها استمرت على صفائها. ولكن العلماء انشغلوا ببريق السياسة عن إصلاح النفوس، ورافقوا السياسيين إلى مؤتمر عقد في باريس في عام 1936م.
إن انحرافاً صغيراً في فترة البداية الغضة قد يؤدي إلى الموت، إن العلماء قد فاتهم أن الحل ليس في باريس ولا في أي مكان آخر، بل هو في روح الأمة، لقد كان الإصلاح قصير الأمد، فإذا أرخنا لبدايته بعام 1925م فإن نهايته كانت في سنة 1936م يوم عقد مؤتمر باريس.
وهكذا تتالى على الجزائر مجموعة من الأبطال أمثال: عبد القادر، ثم جماعة الإصلاح ممثلة في جمعية العلماء، وإذا كان الأبطال لا يملكون حل مشكلة الجزائر لأنهم لا يملكون سوى بذل أرواحهم في الكفاح ضد المستعمر، فإن جمعية العلماء كان بإمكانها البقاء على دعوتهم وعدم الجري وراء أهداف لا تخاطب ضمير الأمة وروحها. إن الأهداف الخادعة التي جرى العلماء خلفها هي في تعريف مالك (وثنية) تماثل تماماً وثنية الحفلات الصوفية التي كانت من قبل، ولم تتغير إلا المظاهر، والقاعدة التي يطرحها مالك في هذا الخصوص هي: إذا غابت الفكرة بزغ الصنم.
فما هو إذن هذا العمل الذي يجب أن يتوجه إلى روح الأمة وضميرها؟
إن مالك بن نبي يرى أن أول خطوة هي وضع مشكلة الجزائر في مكانها ضمن دورة الحضارة الإسلامية، فقد انقسمت الحضارة الإسلامية، شأنها شأن كل حضارة، إلى ثلاث مراحل: مرحلة الروح: أي مرحلة الإقلاع التي ابتدأت في التاريخ الإسلامي بكلمة (اقرأ) يلقنها جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم، وانتهت بمعركة صفين في سنة 38 للهجرة.
والمرحلة الثانية هي مرحلة العقل: وهي مرحلة تكون دفقة الروح فيها قد توقفت عن التنامي، ولكن أثرها لا يزال باقياً مثلها مثل المحرك الذي يبقى يدور لفترة ما بعد إطفائه، حتى توقفه تماماً عوامل الاحتكاك ومقاومة الهواء، وهذه المرحلة الثانية استمرت من معركة صفين حتى عصر ابن خلدون وسقوط دولة الموحدين في المغرب العربي والأندلس (سنة 667هـ – 1269م).
والمرحلة الثالثة هي مرحلة الغريزة: وهي مرحلة توقفت فيها قدرة الإبداع وحتى قدرة التبليغ، واستمرت من انتهاء دولة الموحدين حتى العصر الحديث. والمسلم الذي عاش في هذه الفترة ولا نزال نرى نموذجه بين ظهرانينا، هو بتعريف مالك: (إنسان ما بعد الموحدين)

إنسان ما بعد الموحدين
هذا الإنسان لم يظهر فجأة، بل هو النهاية البعيدة للانفصال الذي حل منذ معركة صفين التي أزاحت حكم الخلافة الراشدة فحرفت النمو الإسلامي عن طريقه.
يصف مالك بن نبي هذا الإنسان بقوله: (إنه إنسان فقد همته المحضرة، فأعجزه فقدها عن التمثل والإبداع) إنه (يحمل في كيانه جميع الجراثيم التي نتج عنها في فترات متفرقة جميع المشكلات التي تعرض لها العالم الإسلامي منذ ذلك الحين)، (هذا الإنسان لا يزال يوجد بين ظهرانينا، تصادفه في المظهر الرقيق البريء الذي يتميز به فلاحنا الوديع القاعد، أو راعينا المتقشف المضياف، وتصادفه في نصف المتعلم الذي له مظهر الإنسان العصري، بينما تحمل أخلاقه وميوله صورة ما بعد الموحدين).
حينما يبرز مالك مشكلة إنسان ما بعد الموحدين فإن هذا يعكس انتقاده للذين يريدون الإصلاح عن طريق معالجة الأعراض بدل الرجوع إلى العلة الأولى، فهم ينظرون إلى المشكلة على أساس أنها مشكلة جهل أو مشكلة فقر أو مشكلة مرض، ويرون الحلول في وضع العلم مقابل الجهل، والغنى في مقابل الفقر، والصحة في مقابل المرض، دون وضع إطار عام للمشكلة وفق سنن عامة متماسكة بينما القضية حسبما يراها مالك ليست قضية أدوات ولا إمكانات. إنها في أنفسنا، ولذلك نجده يرى مشكلة الإنسان تواجهنا حيثما اتجهنا. وهو يبحث نفس الحقيقة حتى يبتكر مصطلحاً آخر: (معامل القابلية للاستعمار)، صحيح أن الإنسان الأوروبي مصاب بجرثومة (المعامل الاستعماري) حيث إنه لا يرى غير الأوروبي كإنسان، بل يراه كفرد من أبناء المستعمرات، ولكن الاستعمار ليس سبب كل ما حل بنا من نكبات، بل هو نتيجة لتركيب شخصيتنا قبل وصول الاستعمار فالمسلم كان مصاباً بجرثومة (معامل القابلية للاستعمار) قبل وصول المستعمر، والمصاب بمعامل القابلية للاستعمار يطالب بحقه وينسى واجبه، مع أن الحقوق على المجتمع تأتي نتيجة لتأدية الواجبات، فالقرآن الكريم يرجع البلاء إلى النفس لا إلى الغير: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) (آل عمران 165). (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) (الشورى 30).
صحيح أن المستعمر يريد منا بطالة يستغلها بثمن بخس، ويريد جهلاً يستغله، ويريد انحطاطاً في الأخلاق حتى يجد منا وسيلة لمحاربة الفضيلة، ويريد منا أفراداً يغمرهم الذوق القبيح، ولكنه لم يكن له أن ينجح في مساعيه لولا وجود القابلية لدينا للاستجابة له. فالاستعمار كالمفتاح، والقابلية للاستعمار هي العقل الذي يناسب المفتاح، والاستعمار لا يستطيع عمل شيء إلا بوجود أمة مصابة بالقابلية للاستعمار، والإنسان المصاب بالقابلية للاستعمار لم يصنع الاستعمار، بل وجده متمثلاً في إنسان ما بعد الموحدين وحين تحتل القوات الغازية بلاداً لا يكون سكانها مصابين بمعامل القابلية للاستعمار فإن هذا يكون احتلالاً لا استعماراً، مثال ذلك احتلال ألمانية عقب الحرب العالمية الثانية، فقد بقي الألماني ممتلكاً لصفاته التي كانت لديه قبل الاحتلال، ولذلك لم يمض على ألمانية عشر سنوات بعد تهديمها إلا وقد عادت حضارتها إلى ما كانت عليه، فعالم الأشخاص إذا بقي سليماً فعلاً أمكنه إعادة عالم الأشياء حتى بعد زواله بينما عالم الأشياء لا يستطيع بناء عالم الأشخاص.
يمكن إذن أن نفهم هذين المصطلحين (إنسان ما بعد الموحدين) و(معامل القابلية للاستعمار) كلاً منهما على ضوء الآخر. ولكني سأضيف هنا مثالاً جميلاً من أمثلة مالك قد يزيد نظرة مالك إلى الإنسان وضوحاً، وهو مثال (القطرة بعد الخزان).
يصف مالك الإنسان قبل دخوله دورة حضارية، والإنسان بعد خروجه من الحضارة فيشبهه بقطرة الماء التي تدخل خزاناً لتوليد الطاقة الكهربائية، قطرة الماء قبل دخولها الخزان تنطوي على طاقة مذخورة، ثم تخرج هذه القطرة مع بقية القطرات لتدير عنفات توليد الكهرباء، فالقطرة هنا في حالة تأدية دورها المطلوب، بعد أن مرت على عنفات توليد الكهرباء تكون قاصرة عن تأدية العمل نفسه الذي كانت تستطيع تأديته قبل دخولها الخزان، لقد فقدت القطرة طاقتها المذخورة. ولا تعود طاقتها إليها إلا بعد عملية جوهرية كأن ترفع بمضخات إلى مكانها الأول أو بعد أن تخضع لعملية تبخير ترجع بعدها إلى مكانها الأول قبل الخزان. والفرد مثله مثل قطرة الماء قبل الخزان، وداخل الخزان، وبعد الخزان. فقبل أن يدخل الفرد دورة حضارية يكون مالكاً لطاقة مذخورة، وهذه الطاقة تقوم بدورها حيث تتفاعل مع مثل أعلى يؤمن به الفرد ثم يقوم بدوره في بناء حضارة، ثم تضمحل هذه الحضارة وتخلف في نفس الفرد رواسب يحملها في ذاكرته عن أمته الذاهبة، فتكون هذه الذكرى عائقاً دون دخول الفرد دورة حضارية جديدة ما لم يخضع لعملية إعداد جديدة.
فالإنسان له عند مالك قيمتان: الأولى قيمته يوم خلقه الله وكرمه، والقيمة الثانية قابلة للتغيير والتأثر بالتاريخ والظروف الاجتماعية، وهذه قيمته ككائن اجتماعي، وكل تركيز مالك بن نبي على هذه القيمة الثانية في محاولته ليحلل ما يجعل الإنسان فعالاً وما يجعله عديم الفعالية، وهو يضرب لذلك مثلاً بقطعة من الزنك في حالتها الخام أو في حالة مخلفات تلقى في المهملات، وبين قيمة القطعة نفسها بعد أن خضعت لتعديلات صناعية حولتها إلى شيء يثمن لا بما فيها من مادة ولكن بما فيه من عمل.

مساع خاطئة نحو النهوض
إن كل سعي للنهوض لا يقوم على تحقيق المكونات الأساسية للحضارة هو في فكر مالك مكتوب عليه الإخفاق والمكونات الأساسية للحضارة هي إنسان يقوم بالعمل، ومادة يستخدمها للقيام بالعمل (وهو ما يسميه مالك التراب)، وزمن يستغرقه العمل وهذه المكونات الثلاثة لا يتحقق الاتحاد الفعال بينها إلا بواسطة عامل مساعد، مثلما يحتاج الهيدروجين والأوكسجين لعامل مساعد حتى يتحدا ويكونا الماء. والعامل المساعد الذي تحتاجه المكونات الثلاثة حتى تنتج الحضارة هو الفكرة الدينية، وحينما تغيب هذه المعادلة عن فكر المجتمعات الوليدة تعتقد أنها تستطيع صنع حضارة بتكديس منتجاتها.
يقول مالك عن العالم الإسلامي: إنه دخل إلى صيدلية الحضارة الغربية طالباً الشفاء، ولكن من أي مرض؟ وبأي دواء؟.. فالعالم الإسلامي يتعاطى هنا (حبة) ضد الجهل، ويأخذ هناك (قرصاً) ضد الاستعمار، وفي مكان قصي يتناول (عقاراً) كي يشفى من الفقر، فهو يبني هنا مدرسة، ويطالب هناك باستقلاله، وينشئ في بقعة قاصية مصنعاً. ولكنا حين نبحث حالته عن كثب لن نلمح شبح البرء، أي إننا لن نجد حضارة.
فالحضارة لا يمكن أن تنشأ بشراء منتجات حضارة أخرى، فهذا مستحيل كيفاً وكماً. مستحيل كيفاً لأن الحضارة يمكن أن تبيعنا أشياءها لا روحها وأفكارها وأذواقها والمعاني التي لا تلمسها الأنامل، ومن ناحية الكم فليس بالإمكان شراء كل منتجات الحضارة. ومن هنا فإن تكديس منتجات الحضارة طريقة خاطئة في إنشاء حضارة.
لقد بدأ العالم الإسلامي واليابان الدخول في محاولة لاكتساب الحضارة في وقت واحد، وفي عام 1868م، فلماذا انتقلت اليابان خلال نصف قرن من مرحلة القرون الوسطى إلى الحضارة الحديثة، بينما لا نجد نفس التطور يحدث في العالم الإسلامي؟ يقول مالك جواباً على ذلك: إن القانون الذي طبقه المجتمع الياباني في سيره ليس هو القانون الذي طبقناه في سيرنا.
فنحن قد مررنا في طريقنا مر الكرام، تستوقفنا الزهور مرة ونتسلى بالطيور أخرى ونصغي إلى صوت أوروبة أحياناً ونشيد البلابل الأوربية. أما الياباني فقد فكر في خطته تفكيراً عملياً، وخطط لها تخطيطاً فنياً.. إنه درس الحضارة الغربية بالنسبة إلى حاجاته.
ويضيف مالك بن نبي في مكان آخر: إن الطالب العربي الذي يعيش في باريس لا يرى المرأة التي تجمع قبضات العشب لأرانبها، وإنما يرى التي تصبغ أظافرها وشعرها وتدخن في المقاهي والندوات. وهو لا يرى الصانع والفنان مكبين على عملهما ليحققا فكرة على صفحة المادة، لأنه.. لم يعد يلاحظ الطاقات الخفية، الطاقات التي توجد القيم الأخلاقية والاجتماعية.. لقد اكتفى الطالب المسلم بقراءة الحضارة، فتعلمها دون أن يتذوقها.
الحل يكمن في الثقافة فإذا كان الأستاذ مالك بن نبي يوجه كل اهتمامه إلى بناء الإنسان الذي سيبني الحضارة فماذا لديه من منهج لبناء الإنسان. وما نوع الإنسان الذي يطلبه. لعل أوضح جواب على هذين السؤالين يكمن في طرح مالك لمشكلة الثقافة.
يرى مالك بن نبي أن حل مشكلة العالم الإسلامي يرتبط بإحداث تغيير في الثقافة، ويستطيع العالم الإسلامي أن يقتبس العلم الأوروبي إذا أراد، ولكنه لا يستطع اقتباس الثقافة الأوربية حتى لو أراد.
فالثقافة هي المحيط الذي يعكس حضارة معينة، إنها جو روحيّ يتنفس فيه أبناء تلك الحضارة. إنها أسلوب الحياة في المجتمع. والسلوك الاجتماعي الذي يطبع تصرفات كل فرد، فإذا كان العلم يخلق علاقات مع عالم الأشياء، فإن الثقافة تخلق علاقات مع عالم الأشخاص، وحينما نشأ مفهوم الثقافة في الغرب أطلقوا عليها اسماً مشتقاً من العناية بالأرض الزراعية.
والوعي بالثقافة وإطلاق اسم عليها شيء حديث. ففي اليوم الذي كانت فيه الثقافة الإسلامية في أوج ازدهارها من حيث الممارسة لم يكن مفهوم الثقافة واسمها قد دخلا حيز الشعور، ويضرب مالك مثلاً كيف دخلت كلمة الثقافة في وعي البشر كما دخلت من قبلها كلمة الزمن بالمعنى الحديث. إن الشعور هو مثل منار موضوع في جزيرة صغيرة ينشر حوله بقعة من الضوء، وكل ما وراء ذلك ظلام. فحينما تلد الفكرة تكون مثل انتقال الشيء من الظلام الواسع إلى دائرة الضوء، وبعد أن ينتقل الشيء إلى دائرة الضوء ويتضح لنا نطلق عليه اسماً، ولهذا فعندما يقول الله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها) (البقرة 31) فليست القضية هنا مجرد إطلاق اسم على شيء، وإنما هي دخول الشيء مجال الإدراك الشعوري، أي إدراك جوانب ذلك الشيء بما يكفي لفصله عن الظلام الواسع وإدخاله دائرة الضوء.
وحتى بعد دخول الثقافة مجال الإدراك الشعوري واكتسابها هذا الإسلام فإن المعرفة بها ظلت تنمو بحيث اقتربت من العلم أكثر. كان عصر النهضة يكتفي بفهم الثقافة على أنها ثمرة التفكير في ميادين الفن والفلسفة والعلم والقانون. أما بعد (أوجست كونت) فقد دخلت الثقافة طور التحليل والتشريح وظهرت تعريفات عديدة، وهاك تعريفين:
التعريف الأول: الثقافة هي كل تتداخل أجزاؤه تداخلاً وثيقاً، ويشتمل على مستويين: المستوى الأول هو مجال العموميات كاللغة والدين والتقاليد، وهذه تكون كالأرض التي تمتد فيها جذور الحياة الثقافية للمجتمع فتطبع كل الأفراد في ذلك المجتمع، وأما المستوى الثاني فهو الأفكار الخاصة الناتجة عن التخصص المهني.
التعريف الثاني: تشتمل الثقافة على مجالين: مجال الثقافة المادية، وهو يشتمل على الأشياء وأدوات العمل والمنتجات.
والمجال المتكيف، وهو الجانب الاجتماعي كالعقائد والعادات والتقاليد والأفكار واللغة والتعليم، ويبدأ تغير الثقافة في مجال الأشياء ثم ينعكس في الجانب الاجتماعي.
وقد اهتم مالك بن نبي شيئاً ما بمناقشة هذه التعاريف، ومن أهم ملاحظاته عليها أنه ليس من الدقة أن نقول: إن التغيير في الثقافة يبدأ في الجوانب المادية ثم ينتقل إلى الجوانب الاجتماعية، فألمانية في عام 1945م كان قد زال فيها عالم الأشياء، ولكن بقي لها عالم الأشخاص بما يحمل من قدرات. وقد نجح عالم الأشخاص في إعادة بناء عالم الأشياء.
فعالم الأشياء مهم في بناء الثقافة، وكذلك عالم الأشخاص وعالم الأفكار ويشبه مالك العلاقة بين الفكرة والشيء بالذراع والعجلة في الآلات فالذراع يمثل الفكرة، والعجلة تمثل الشيء، فالفكرة هي الجانب المحرك، والشيء يستجيب للحركة، تماماً كما أن العجلة تستجيب لحركة الذراع. ولكن هناك نقطة ميتة لا تستطيع الذراع تجاوزها ما لم تساعدها العجلة بفضل الطاقة المخزونة لديها فالأفكار لها دور، والأشياء لها دور، ولكن كما يظهر من مثال ألمانية فإن مالكاً يجعل عالم الأشخاص وعالم الأفكار مقدمين على عالم الأشياء. فولادة المجتمع تكون في الأفكار، ثم يستخدم المجتمع عالم الأشياء.
والفكرة تلد وتموت، وقد تكون فعالة أو خامدة، وإذا ظهر للمجتمع أن الفكرة قد ماتت ولم يعد لها دور اجتماعي فإنه يتخلص منها، ففكرة حجر الفلاسفة الذي كان الناس يظنون أنه يحول النحاس إلى ذهب، كانت من أكبر الدوافع العلمية في العصر الوسيط، ولكن بعد أن انتهت مهمة هذه الفكرة ماتت على يد لافوازييه. فلكي تؤدي الفكرة دورها ينبغي أن يكون لها رواجها في المجتمع، فآثار ابن خلدون لم تؤد دورها في المجتمع الإسلامي، لأنها لم تأت في الوقت المناسب. وأما تفاحة نيوتن فقد سقطت في الوقت المناسب فقدحت الفكرة في رأس نيوتن، ليس لذكائه فقط ولكن لتهيؤ الظروف الاجتماعية لفهم معناها.
فعالم الأفكار وعالم الأشياء مجمدان إذا لم يرتبطا باهتمام أسمى يحركهما، وهو ما يسميه مالك في مكان آخر الإرادة الحضارية. فلكي تتحقق الحضارة لا بد من وجود إرادة عليا لدى المجتمع توحد جهوده نحو الحضارة.. يقول مالك:
(فحينما يبتدئ السير إلى الحضارة لا يكون الزاد بطبيعة الحال من العلماء والعلوم، ولا من الإنتاج الصناعي أو الفنون، تلك الأمارات التي تشير إلى درجة ما من الرقي، بل إن الزاد هو المبدأ الذي يكون أساسياً لهذه المنتجات).
ويوضح مالك بن نبي فكرته هذه بالرجوع إلى حديث شريف: (مثل ما بعثني الله –عز وجل- به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكانت منها بقعة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها بقعة أمسكت الماء فنفع الله –عز وجل- بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وكانت منها قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ).
ويفهم الأستاذ مالك من هذا الحديث ثلاث مراحل يمر بها المجتمع:
* ففي المرحلة الأولى: يتقبل الأفكار وينشرها ولكن لا يولدها.
* وفي المرحلة الثانية: يولد الأفكار ويبلغها.
* وفي المرحلة الثالثة: يتجمد فيها عالم الأفكار فلا يولدها المجتمع ولا يهضمها ولا ينشرها، وأما المجتمع الإسلامي فكان في عهد الفارابي يبدع الأفكار، وفي عصر ابن رشد كان يبلغ الأفكار، وبعد ابن خلدون أصبح لا يبدع الأفكار ولا يبلغها.
وهناك تقسيم آخر يوضح الحركة المعاكسة، أي يوضح ارتقاء المجتمع حضارياً من مرحلة إلى مرحلة فالطفل يمر في تقدمه العقلي بثلاث مراحل، فهو يبدأ أولاً بتوجيه اهتمامه إلى عالم الأشياء، ثم يكبر وتنمو قدراته العقلية فيتوجه اهتمامه إلى عالم الأشخاص، ثم يرتفع إدراكه فيتوجه اهتمامه بالدرجة الأولى إلى عالم الأفكار، ويطبق مالك هذا التقسيم على المجتمع حيث يتقدم من الاهتمام بعالم الأشياء إلى الاهتمام بعالم الأشخاص، ثم إلى الاهتمام بعالم الأفكار. ولكن التقدم من مرحلة إلى مرحلة لا يحذف المرحلة التي قبلها. بل إن التقدم يعني تفاعل المراحل الثلاث، وأي فساد في العلاقات بين العوالم الثلاثة يولد اضطراباً في الحياة الاجتماعية والعالم الإسلامي لا يزال يعطي عالم الأشياء الدرجة الأولى من اهتمامه.
ولكن إذا كان الأستاذ مالك غير راض عن تعريفات الثقافة السائدة فما هو معناها الذي يرتضيه؟ يفرق مالك بين المعرفة والثقافة بأن الشاب المسلم إذا ذهب إلى أوربا لدراسة الطب فإنه يحصل على نفس شهادة الأوربي، وربما فاقه ذكاء. ولكن هذا الشاب المسلم لا يحصل على فعالية الأوربي، فالفعالية لا تعتمد على منهج الدراسة، وإنما على أسلوب الحياة في المجتمع.
إن هناك مجالاً ثقافياً يعيش فيه ويتنفسه كل الأفراد التابعين لمجتمع الثقافة، فالبدوي يخاطب عمر بن الخطاب بلهجة يرتضيها البدوي كما يرتضيها الخليفة العظيم، إنهما يتبعان نفس الثقافة، وفي عصرنا هذا نجد سلوك الطبيب الإنجليزي والراعي الإنجليزي متشابهين، بينما سلوك الطبيب المسلم والطبيب الإنجليزي غير متشابهين، فإذا شاهد الطبيب الإنجليزي والراعي الإنجليزي مسرحية عطيل لشكسبير فإن انفعالهما يكون واحداً، بينما انفعال الطبيب المسلم والطبيب الإنجليزي إذا شاهدا هذه المسرحية ليس واحداً. أحد الفروق بين ثقافة الإنجليزي وثقافة المسلم مثلاً أن العنصر الجمالي عند الإنجليزي والأوروبي يفوق العنصر الأخلاقي. فالذي يحدد السلوك ليس منهج الدراسة ولكن أسلوب الحياة. وهذا يتصل باللاشعور أكثر من اتصاله بالعقل الواعي.
فالأرض التي تمد الثقافة فيها جذورها تحدد المقاييس الذاتية للفرد، وتحدد الخير والشر، والجميل والقبيح في نظر الفرد، والفرد يستنشق هذه المقاييس عن غير قصد.
والجوانب اللازمة لتركيب الثقافة تشمل: عالم الأشخاص، عالم الأفكار، عالم الأشياء، عالم الظواهر الطبيعية، هذا مع ملاحظة أن قيمة كل من هذه الجوانب الأربعة تتحدد بحسب صلة الفرد بها شخصياً.
وحتى نحقق صلة فعالة بين الفرد وبين كل من هذه العوالم الأربعة نحتاج إلى أربعة عناصر: نحتاج إلى فلسفة أخلاقية، وإلى ذوق جمالي، وإلى المنطق العملي، ونحتاج أخيراً إلى العنصر الفني، أي العلاقة مع عالم الأشياء، وفيما يلي شيء من التفصيل.

التوجه الأخلاقي:
إذا تتبعنا ماضي الثقافة وجدنا جذورها دينية، فالدين يجمع الناس وهذا واضح في القرآن الكريم: (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم) (الأنفال 63)، كما أن كلمة الدين في اللغات الغربية تعني الربط والجمع، فحتى نحقق صلة فعالة بين الأشخاص نحتاج إلى المبدأ الأخلاقي، يقول مالك في مكان آخر:
(فحيثما يكون الدين هو الفكر السائد تتحقق عليه شروط الفعالية، ذلك لأن الدين حين يوجد الشبكة الروحية التي تربط المجتمع كله بالإيمان بالله يوجد بعمله هذا أيضاً شبكة العلاقات الاجتماعية التي تتيح لهذا المجتمع أن يضطلع بمهمته الأرضية وأن يؤدي نشاطه المشترك، وهو بذلك يربط أهداف السماء بضرورات الأرض).
ومن المؤسف أن شبابنا اليوم حينما ينظرون إلى المدنية الغربية لا يذكرون أصلها الديني، فجمعية حضانة الأطفال في فرنسة تبدو الآن لا دينية، بينما يعود فضل إنشائها إلى القديس (فانسان دي بول) في النصف الأول من القرن السابع عشر وحتى الراديو ما كان له أن يظهر لولا الرابطة المسيحية، اجتمعت فيه جهود ألماني وروسي وفرنسي وإيطالي وأمريكي، (إن الثقافة لا تستطيع أن تكون أسلوب الحياة في مجتمع معين إلا إذا اشتملت على عنصر يجعل كل فرد مرتبطاً بهذا الأسلوب، فلا يحدث فيه نشوزاً بسلوكه الخاص، وهذا العنصر لا بد أن يكون خلقياً، فإذا تقرر وجود هذا العنصر كضرورة منطقية اجتماعية، فإننا نكون بهذا قد وضعنا فصلاً مهماً من فصول الثقافة، وحققنا شرطاً أساسياً من شروطها وهو المبدأ الأخلاقي).

التوجه الجمالي:
إن الصورة القبيحة لا توحي بالخيال الجميل ولا بالأفكار القيّمة، ولا يمكن فصل الخير عن الجمال، فحينما يحاط الفرد بالذوق الجميل يتولد عنده نزوع إلى الإحسان في العمل. والجمال يظهر في كل شيء، وفي ذوقنا في الملابس والكلام وأساليب الضحك، إن مجموع المظاهر وأنواع السلوك هي المحيط الذي يصنع فيه العمل، إنه الإطار الذي تصنع فيه أي حضارة، وهكذا فإن أقل نشاز يؤثر في سلوكنا.
وإذا كان المبدأ الأخلاقي يقرر الاتجاه العام للمجتمع بتحديد الدوافع والغايات، فإن ذوق الجمال هو الذي يصوغ صورته، فالمبدأ الجمالي من أهم العناصر الحيوية في الثقافة لأنه يحرك الهمم إلى أبعد من مجرد المصلحة، وهو في الوقت نفسه يحقق شرطاً من أهم شروط الفعالية في الفرد والمجتمع، كما أن التذوق الجمالي سوف يوجد المناخ الدافع للإنجاز في العمل وغرس العادات الإيجابية في جميع المجالات.

المنطق العملي:
يعني بالمنطق العملي ارتباط العمل بوسائله ومقاصده، وذلك حتى لا نستسهل صعباً ولا نستصعب سهلاً، ويمكن أن نعرف المنطق العملي بأنه طريقة التعامل مع الزمن.
إن العقل المجرد متوافر في العالم الإسلامي، غير أن العقل التطبيقي الذي يتكون في جوهره من الإرادة والانتباه يكاد يكون معدوماً، فحينما ننظر إلى تصرف المسلم بوقته نجده متخلفاً عن غيره من الأمم، مع أن القرآن الكريم يعلمنا: (واقصد في مشيك) (لقمان 19) فالمسلم المعاصر لا يفكر ليعمل بل يفكر ليتكلم.

التوجه الفني:
أي العلاقة مع عالم الأشياء، وهذا يشمل كل العلوم التطبيقية والمهن والقدرات وحتى الراعي يحتاج إلى أن نعلمه الطريقة الصحيحة للقيام بعلمه.
فحينما تتحقق هذه الجوانب الأربعة من الثقافة يكون قد تحقق لدينا ثقافة صحيحة، ويتجه سلم القيم الاجتماعية والسلم الاجتماعي في نفس الاتجاه. من الأسفل إلى الأعلى، أي تكون المراكز الاجتماعية موزعة بحسب الدرجات الثقافية، وأما حين لا تتحقق الثقافة الصحية فإنه يحدث لدينا أزمة ثقافية. وهي حالة يتوقف فيها المجتمع عن الضغوط على الفرد حتى لا يصدر عنه أي انحراف، ويتوقف فيها الفرد عن إنكار الأخطاء، وهذا ما نبه إليه الحديث الشريف حول إنكار المنكر، وإن أعمال الفرد تنطلق في حال الأزمة الثقافية دون ضابط ويتخبط المجتمع في التقوقع والهروب من المسؤولية.

شبكة العلاقات الاجتماعية:
يعود اهتمام مالك البالغ بالثقافة إلى أنها الوجه الداخلي للحضارة، فكل ما نراه من مظاهر الحضارة يعود إلى التركيب الثقافي الذي يمنحه المجتمع لأفراده، أما حينما تنتقل أشياء الحضارة إلى جزء آخر من العالم فإنها لا تنشئ حضارة، فالعالم الإسلامي صار لديه الكثير من أشياء الحضارة، ولكن مشكلات التخلف بقيت راسخة القدم داخله.
وحينما نتحدث عن بناء الفرد من وجهة نظر مالك فيجب أن نضيف بعداً آخر إلى بنائه، وهو علاقة الفرد مع بقية المجتمع، فمالك يفرق هنا بين الفرد والشخص، فالإنسان هو مبدئياً فرد له طاقات محددة، ولكن بعد أن توظف هذه الطاقات في نطاق عمل المجتمع يصبح هذا الفرد شخصاً.
فكل ما هو مرغوب لنا جميعاً من نجاح اقتصادي أو صناعي أو غيره يرجع إلى العلاقات. إن كل عمل حسي نشاهده في المجتمع هو مظهر خارجي، ولا معنى لهذا المظهر الخارجي إلا بحسب العلاقات التي توحد العلاقات الاجتماعية وتنظمها. هذه العلاقات التي تصنع التاريخ، يذكر مالك مثلاً كيف أن ألمانية بعد أن خسرت الحرب خطط لها اقتصادي هو الدكتور شاخت كيف تعود إلى فعاليتها، وفعلاً نجحت خطته في فترة وجيزة. ولكن نفس تخطيط الدكتور شاخت فشل في إندونيسية لأنه لم يأخذ في الحسبان السياق الثقافي المناسب. وهذا السياق الثقافي هو الذي يتحول إلى رأس مال رمزي وفكري قابل للنماء والازدهار.
يستشهد مالك بن نبي هنا بالحديث الشريف: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) فهذا الحديث يصور المجتمع عندما تكون شبكة علاقاته في أقصى نموها ففي مجتمع عدد أفراده مئة يكون للفرد علاقات بتسعة وتسعين شخصاً، يهتم أن ينال الخير كلاً منهم وأن يدفع الضر عن كل منهم، وأما الحالة المقابلة، حينما تبلى شبكة العلاقات الاجتماعية تماماً، فإن المجموع الكلي للعلاقات بين الأفراد يكون مساوياً للصفر.
وتكون العلاقات الاجتماعية فاسدة عندما تصاب الندوات بالتضخم، فيصبح العمل الجماعي المشترك صعباً أو مستحيلاً، إذ يدور النقاش حينئذ لا لإيجاد الحلول للمشكلات، بل للعثور على أدلة وبراهين.
إن تحصيل الإنجازات الحضارية مرتبط مباشرة بمقدار فعالية العلاقات الاجتماعية وبمقدار سلامة بناء الأفراد، فإذا عدنا الآن إلى معادلة بناء الحضارة:
الحضارة = إنسان + تراب + وقت
فإن العنصرين الثاني والثالث، أي الجانب المادي والزمن، يكتسبان الأهمية حينما يصبح الفرد مؤهلاً للقيام بالرحلة الحضارية، يقارن مالك مثلاً بين تصرف جمعية مسلمة في الجزائر بمواردها المالية وبين جمعية يهودية، فالجمعية المسلمة أنفقت أكثر المال على المظاهر، والجمعية اليهودية أنفقت المال على بناء قدرات الأفراد، ففي هذه الحال لا يحق للجمعية المسلمة أن تشكو من قلة الموارد المالية، وإنما هناك خطأ في إدراك المكونات الحقيقية للعمل الناجح.

وحدة الأصل الإنساني:
كانت نظرة مالك إلى صنع التاريخ أنه حركة جمعية تشارك الأمم في صنعه. ولذلك فإن حل مشكلة الجزائر ينبغي أن ينظر إلها ضمن نطاق أوسع من نطاق الجزائر، إن الجزائر جزء من العالم الإسلامي، والعالم الإسلامي جزء من آسية وإفريقية، في نطاق يسميه مالك محور طنجة –جاكرتا، ومحور طنجة – جاكرتا جزء من العالم. وكل هذه الإطارات لا بد منها لكل من أراد التغيير.
ابتكر مالك في حديثه عن تقسيم العالم مثالاً أورده في كتاب فكرة الإفريقية الآسيوية، واستخدمه فيما بعد كذلك. يتخيل مالك أن زائراً من كوكب آخر طار فوق الأرض مرتين. في المرة الأولى طار فوق الجزء الشمالي من الكرة الأرضية، من واشنطن إلى طوكيو، في المرة الثاني طار فوق الجزء الممتد من طنجة إلى جاكرتا، هذا الزائر الغريب لا يرى إلا ظواهر الأشياء، لا يعرف لغات الناس ولا عقائدهم ولا تقسيماتهم العرقية.
إن هذا الزائر سيرى المشهد متشابهاً في رحلته الأولى من واشنطن إلى طوكيو، إن تنظيم الوقت، وحركة الناس، والمصانع، وحركة المقاهي في الليل، متشابهة، وفرقة الباليه القادمة من موسكو تجد جمهوراً مشابهاً للجمهور في باريس، إن المشهد يعكس نموذجاً من البشر متشابهاً، وفي رحلته الثانية من طنجة إلى جاكرتا، وهو المحور الذي يغلب عليه العالم الإسلامي، سيرى الزائر الغريب مدن الأكواخ في ضواحي الدار البيضاء مشابهة لمدن الأكواخ في ضواحي بومباي، ويرى الوقت لا شكل له، والجماهير لا تشعر بالساعات الضائعة، فالإنسان لم يفرض إرادته هنا إنه يجد نموذجاً آخر من الإنسان متشابهاً ومختلفاً عن النموذج على محور واشنطن – طوكيو.
إن على أهل محور طنجة – جاكرتا أن يكون لهم عمل مشترك. كانت شعوب هذا المحور قد بدأت العمل على أساس معاداة الاستعمار، ولكن مالك بن نبي يرى أن هذا الهدف يجب أن يتغير الآن. فوثبة الشعب لا يمكن أن تنطلق من الحقد، على الاستعمار، إذ أن الحرمان والحقد يشلان كل جهد خلاق، إن فترة معاداة أوروبة لا ينبغي أن تطول، وإنما على شعوب المنطقة أن تتجه إلى البناء الاجتماعي. أن نتحدث عن الواجبات بدل الحديث عن الحقوق، صحيح أن الاستعمار مدان أخلاقياً، ولكن سوطه المؤلم أخرج الشعوب من رقادها وبدائيتها.
لقد نظر الأوروبي خلال الفترة السابقة إلى بقية العالم لا على أنهم بشر حقاً، ولكن على أنهم أبناء مستعمرات، وكذلك نظر أبناء هذه الشعوب إلى أنفسهم أنهم متخلفون. فالاستعمار لا عمل له إلا بوجود القابلية للاستعمار لدى الطرف الآخر فهذه ثنائية لا نزال نعيشها مقابل الغرب.. وحين يتخلص الإنسان على محور طنجة – جاركتا من هذه المشكلة فإنه يجبر الأوروبي على الارتفاع بضميره إلى مستوى الإنسانية.
وإذا لم تكن معاداة الاستعمار هدفاً مناسباً يوجه تحرك دول إفريقية وآسية فما المبدأ الذي يجب أن تتحرك صوبه؟ إن اليابان قد اختارت النموذج الغربي عن قصد منذ عام 1868م. ولكن دول آسية وإفريقية لا تتحرك وفق نظرية، وهذه مشكلتها، ويقترح مالك مبدأ السلام لتتجه صوبه دول هذا المحور، إن هذا المبدأ أرقى من السلام القسري الذي رضخ له الغرب حيث كان سلاماً فرضه خوف الأطراف بعضها من بعض بينما مبدأ السلام هو أرسخ من ذلك ويعتقد مالك أن القرآن الكريم كان يهدف إلى ذلك المبدأ حين قرر: (لا إكراه في الدين) (البقرة 256)
ويريد مالك أن ينفي المسلم من ذهنه فكرة السيطرة التي ورثناها من فترة التوسع الإسلامي، إن مبدأ السيطرة ينافي الآية القرآنية: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين) (القصص 83).
وهكذا فإن علينا حسبما نفهم من مالك أن نرى أنفسنا على ثلاثة مستويات، على مستوى العالم الإسلامي، ثم أن نفكر على مستوى دول آسية وإفريقية لأن نموذج الإنسان متشابه على هذا المحور، ثم أن نفكر على مستوى الإنسانية لأن كل العالم الآن هم ركاب في قطار واحد بحيث يرتبط مصير بعضهم ببعض.

أخيراً: مالك والفعالية!
لقد كان من أهمّ ما توجهت إليه بحوث مالك بن نبي أن يزيل من وجه المسلم ما يمنعه من الفعالية، وهو يتحدث في هذا السياق، إن المستشرقين يريدون منا أن تدور بحوثنا في نطاق بعيدة عن مشكلاتنا الحقيقية، فكتاب (زيغريد هونكه) (شمس الله تسطع على الغرب) قد يفرح المسلم كثيراً لأنه يمدح الإسلام، ولكنه في نظر مالك مخدر يصرف المسلم عن البحث الجاد في مشكلاته، وحتى عمل طنطاوي جوهري في التفسير هو في نظر مالك بن نبي جهد جبار لا جدوى منه، إنه تكديس للمعلومات وعلمانية عقيمة، إنه عملية تعويض يفر بها المفسر من معالجة تحدي الحضارة الغربية والغرب نفسه لم يصل إلى حضارة الذي نراه من خلال جهود أفراد كدسوا المعلومات، ولكن من خلال جهود أفراد طرحوا طرقاً جديدة للسير من أمثال كالفن وديكارت.
هنا نرى كيف أن مالك بن نبي كان حاداً في نقده للإنتاج النظري الذي لا يتصل بعمل ما ولا يزيد قدرة المسلم على أخذ زمام المبادرة وفرض إرادته على صنع التاريخ، فالبحث النظري الذي لا يهدف إلى شيء عملي هو جهد مدان عند مالك. بينما هو أصبر الناس على البحث الجاد الهادف إلى كشف ما يعيق المسلم عن أخذ مكانه في العالم، إن مالكاً في هذا يشبه الطبيب المتقن الذي يتصف بالصبر في بحثه عن التشخيص الصحيح. بعكس المريض أو أهل المريض الذين يتصفون بقلة البحث النظري، فإننا يجب أن نعرف ماذا ندين، فالبحث في النظرية النسبية ونظرية (الكوانتوم) بدأ أولاً وكأنه بحث نظري لا جدوى منه، ولكن هاتين النظريتين أثمرتا السيطرة على الذرة وثورة الإلكترونيات وأظن أن إخراج المسلمين من التيه أهم من السيطرة على الذرة وأهم من ثورة الإلكترونيات وهذا ما يجعل فكر مالك حياً اليوم.

* كاتب سوري

Comments (0)
Add Comment