أ.د مولود عويمر
عندما زار وفد من الأكاديميين الأندونيسيين مركز جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الربيع الماضي رفقة سعادة السفير المتوفى منذ بضعة أيام- رحمه الله -، اغتنمتٌ هذه الفرصة الثمينة لأحدثهم باختصار عن تاريخ التواصل بين النخبة الجزائرية والأندونيسية مستفيدا من بعض الصور والوثائق التي كانت بحوزتي، وسلمتٌ نسخة منها إلى السيد السفير عربون محبة وتقدير جمعيتنا العريقة للشعب الأندونيسي الذي برهن في العصر الحديث على قدرة المسلمين على بناء نهضة حقيقية في مختلف المجالات حينما يفعّلون مقوّماتهم الحضارية. وقد رغب إليّ بعض هؤلاء الأكاديميين أن أكتب دراسة عن هذا الموضوع الجديد، فوعدتهم بتحقيق ذلك. عسى أن يكون في هذا المقال بعض الوفاء لهم.
محور طنجة جاكارتا
خلد مالك بن نبي عاصمة أندونيسيا في وقت كان كثير من العرب والمسلمين يجهلون وجود هذا البلد في الخريطة الجغرافية فما بالك بوجود هذه المدينة البعيدة بآلاف الأميال عن مكة المكرمة. إنه أخلدها في المخيال العربي عندما وضعها معلما يحدد جغرافية العالم المتخلف آنذاك، والذي تشمل مساحته نصف الكرة الجنوبي، أطلق عليه: محور طنجة – جاكارتا.
ومحور طنجة جاكارتا هو إطار جديد لإحداث التغيير وإيجاد مكان في هذا العالم الذي تتحكم في مقاليده القوى العظمى بغض النظر عن اختلافاتها الإيديولوجية، والتي تقع كلها في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية، حدده مالك بن نبي بمحور موسكو- واشنطن.
إنه تقسيم يختلف عن كل التقسيمات التي وضعها علماء الجغرافية السياسية أو الاستراتيجية، فكان منطلق بن نبي ثقافيا بالدرجة الأولى وليس سياسيا أو اقتصاديا أو أيديولوجيا كما كان رائجا في تلك المرحلة التاريخية المعروفة بفترة الحرب الباردة، والتي تتسم بالصراع الأيديولوجي بين الشيوعية والرأسمالية.
مؤتمر باندونغ
حضر أشغال هذا المؤتمر الدولي الذي احتضنته مدينة باندونغ في شهر أفريل 1955، تسعة وعشرون دولة، وعدد من الحركات التحررية – منها جبهة التحرير الوطني- تمثل القارتين إفريقيا وآسيا لدراسة مصير الشعوب الافريقية الآسيوية خاصة المستعمرة منها، وبناء جسور التعاون المثمر في المجالات المختلفة بين الدول المستقلة منها.
ويشكل هذا المؤتمر حدثا بارزا في تاريخ الإنسانية في القرن العشرين، ومنعرجا حاسما في سجل العلاقات الدولية، ذلك “أن دخول الشعوب الأفروآسيوية على المسرح قد أعاد الازدواج الجغرافي السياسي بطريقة معينة، ولكن في نفس الوقت أتت هذه الشعوب معها بمبدأ تركيب للعالم، وبإمكانيات تعايش جديد يحمل بوضوح طابع عبقريتها، أعني الشروط الأخلاقية لحضارة لا تكون تعبيرا عن القوة أو الصناعة.”
وعلق عليه بن نبي آمالا كثيرة، وخصص له كتابا كاملا سماه: “فكرة الأفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ”، ولقي هذا الكتاب رواجا واسعا في طبعته الفرنسية وترجمته العربية. يرى بن نبي أن هذا المؤتمر انطلق انطلاقة سليمة “حين جمع عناصر بعض المشاكل العضوية التي تخص الشعوب الأفروآسيوية، وحين عالج اتجاه هذه الشعوب قد أنشأ في الواقع رأس المال الأول للحضارة.”
ويتكون هذا رأس المال من العناصر الثلاثة التي ذكرها بن نبي سنوات من قبل في كتابه “شروط النهضة”: الإنسان، التراب والوقت. حدد له طرق استثماره لتغيير ظروف البقاء لدى الشعوب الأفروآسيوية بعد أن أضاف إليه العامل الأخلاقي الذي يحكم تماسك هذه العناصر الثلاثة.
وكان من أكبر انجازات هذا المؤتمر هو توضيح الرؤية حول طبيعة الاستعمار، وتوحيد الجهود لتحرير الشعوب المستعمرة، ورسم مشاريع للتعاون المشترك في مجالات اجتماعية وثقافية واقتصادية. غير أن بن نبي لاحظ أن المؤتمرين تنقصهم أحيانا شجاعة النقد الذاتي، فبدون المراجعة المستمرة للأعمال المنجزة، وتقييم التجارب السابقة تقييما صحيحا تضعف القدرة على رسم خطط سليمة وبناء مشاريع مستقبلية ناجحة، فهو يقول في هذا الشأن: “كان باستطاعة مؤتمر باندونغ أن يعد نظاما اقتصاديا صالحا لافريقيا وآسيا لو أنه أخذ في اعتباره الفشل والنتائج السلبية لهذه التجارب حيث كان يمكن على الأقل أن يستخرج فائدة من دلالتها المعبرة.”
ورغم إعجاب بن نبي بهذا المؤتمر وما ترتب عنه من قرارات وأفكار التعايش والتعاون بين الدول الأفروآسيوية فإنه لم يتردد في نقد الانحرافات التي ظهرت فيما بعد، وأفرغت الفكرة الأفروآسيوية من جوهرها حتى لم تعد إلا مجرد ذكريات الماضي الجميلة، وقبضت روحها فغدت جسدا هامدا.
أندونسيا ولعنة الدكتور شاخت
تملك اندونيسيا أخصب الأراضي في العالم الإسلامي كما تكسب العراق أخصب الأراضي في العالم العربي. لكن رغم ذلك لم يعرف كل واحد منهما الإقلاع الحضاري المنشود في الخمسينات. والسبب في نظر مالك بن نبي يكمن في خلل المنهج وتعطيل الأفكار. فأندونيسيا فشلت في التحرر من التخلف وتحقيق التنمية في تلك الفترة رغم توفر الوسائل المادية والخبرة الغربية بينما نجحت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك اليابان والصين رغم فقر الإمكانات.
لقد استعانت أندونيسيا بخبرة الدكتور هوراس شاخت وهو عالم اقتصاد ألماني شغل منصب رئيس البنك المركزي في برلين ووزير الاقتصاد، وكان له الفضل في رسم البرنامج الاقتصادي الذي أنقذ ألمانيا وأخرجها إلى عالم التطور. ولما نجحت تجربته في ألمانيا لأنها انطلقت من صميم مقوماتها الحضارية، ووجدت المحيط الثقافي المناسب لها، نادته عدد من الدول الإسلامية كمصر وسوريا وإيران وأندونيسيا ليطبق خبراته على هذه الدول لتخرج هي أيضا من التخلف.
ورغم كل جهود الدكتور شاخت فشلت هذه التجربة لأنه ” لم يأخذ باعتباره هذه المعادلة…المشروع الذي يعد طبقا لأفكار البعض ونقوم بتنفيذه طبقا لوسائل البعض الآخر لا يفضي إلى شيء.”
وأكد بن نبي هذه الفكرة في موضع آخر، فقال: ” فشلت خطة الدكتور شاخت في أندونيسيا حين لم يأخذ بالاعتبار الطبيعة الخاصة لمفجر الطاقة الضروري في خطته، فاختلط عليه الأمر، إذ ساوى حالة اندونيسيا وحالة بلاده ألمانيا.”
أندونيسيا مركز ثقل جديد
يرى مالك بن نبي أن مركز الثقل في العالم الإسلامي سينتقل من البحر المتوسط أي العالم العربي إلى آسيا، ويتجه نحو جاكارتا التي جمعت بين فعالية الإسلام وصوفية البوذية بعدما لم يستطع الإسلام أن يستفيد من روحانية المسيحية والتطور الصناعي الغربي لاتصال الدينين في ظروف استعمارية.
قال بن نبي في هذا التحول الآسيوي: “لقد انتهى تركز العالم على شواطئ البحر المتوسط … وأصبح العالم الإسلامي يخضع لجاذبية جاكارتا، كما يخضع لجاذبية القاهرة أو دمشق. وهذا الانتقال إلى مرحلة آسيوية، لابد أن يحدث نتائج نفسية وثقافية وأخلاقية واجتماعية وسياسية، سيكون لها أن تتحكم في حركته وفي مستقبله، بل في تشكيل الإدارة الجماعية لهذا العالم أولا وقبل كل شيء.” ويضيف متفائلا: ” فنهاية العهد الذي تركزت فيه الجاذبية الإسلامية على البحر الأبيض المتوسط، تسجل تحرر العالم الإسلامي من معوّقاته وقيوده الداخلية.”
ما هي الشروط التي أقنعت بن نبي على هذا الرأي الذي عارضه عدد من المفكرين كما سنوضّحه لاحقا؟
إنه يجيب عن ذلك قائلا أن الدول الإسلامية الموجودة في آسيا مثل باكستان أو أندونيسيا هي ” بلاد جديدة فتية يتفوّق فيها جانب الفكر والعمل على جانب العلم التقليدي المغلق؛ وإن العالم الإسلامي لقادر هنالك على تجديد نفسه، فيتحول إلى طاقة ناشطة، ويتعلم طرق الحياة.”
وهناك ميزة اجتماعية أخرى نبّه إليها بن نبي ” جوه الاجتماعي الجديد ليس مؤلفا من طبقات، بل هو شعبي على أوسع نطاق، وسيجد نفسه هنالك ملزما بأن يتكيف وعبقرية الشعوب الزراعية، واستعدادها الفطري للعمل، بما يبشر بتركيب جديد من الإنسان والتراب والوقت، وبالتالي: قيام حضارة جديدة.”
أما بالنسبة للفرد أو الإنسان الأندونيسي صانع هذه النهضة الجديدة، فقد وصفه بن نبي في هذه الصورة الجميلة: ” الرجل في جاوة دقيق الحس، يحترم النظام والتنظيم، وهو مغرم بتعميق جزئيات الأشياء، فهو بذلك رجل مادي إيجابي ذو طاقة ضخمة، وهو أيضا رجل عملي، ماهر في صنعته، ذواق لشتى أنواع الفنون.”
أما المفكر محمد المبارك فإنه يعتقد أن الثقل يبقى في العالم العربي، مسقط الرسالات السماوية ومهد الحضارات المختلفة، فقال: ” على تقديري للنهضة الرائعة التي تبدو في أندونيسيا وبعض البلاد الآسيوية الإسلامية، أرى أن العالم العربي مكانته ووظيفته الحيوية في قلب هذا العالم الإسلامي، وأنه أوتي القدرة على التوفيق بين القيم المادية والروحية، وإقامة التوازن بينهما، وأنه بحسن تفهمه للغة القرآن الكريم ولرسالة الحياة الجامعة بين المقاييس المادية والروحية، والجهد المادي والخلقي، لا يزال محط الأمل وموضع الرجاء، دون أن ينقص ذلك من قيمة الشعوب الإسلامية الأخرى، ومن خصائص عبقريتها.”
هذه هي باختصار نظرة مالك بن نبي لأندونيسيا في تجربتها التنموية وفي ديناميكيتها الاجتماعية وفي علاقتها بالنهضة المعاصرة، وهي نظرة ثاقبة تدل على معرفة دقيقة بتاريخ هذا البلد المسلم المغمور في العالم العربي، وبتركيبته الاجتماعية ونفسية الإنسان الأندونيسي الذي صوّره هذا المفكر الجزائري في أحسن تصوير.
ولعل القارئ يتساءل هنا: هل زار مالك بن نبي أندونيسيا واطلع بنفسه على إنجازاتها، واحتك بنخبتها، فكتب عنها على ضوء مشاهداته، أم أنه سافر إليها فقط عبر الكتب والجرائد والمجلات؟
لقد تلقى مالك بن نبي دعوة من جمعية نهضة العلماء في بداية يناير 1966. وقد سافر يوم 27 يناير إلى جاكارتا عن طريق باريس. لكن اليوميات التي كان يسجّل فيها بن نبي خواطره وذكرياته لم تزد شيئا عن خبر سفره. وربما سنعود مستقبلا إلى زيارة بن نبي إلى أندونيسيا إذا حصلنا على وثائق جديدة حول هذا الموضوع.