أطوار المعرفة والتثاقف مع مالك بن نبي

عدد القراءات :2639

الذين تعرفوا على مالك بن نبي، وجدوا أنهم تعرفوا على مفكر إسلامي من طراز مختلف، تميز عن معظم المفكرين الإسلاميين المعاصرين، وترك تأثيرا مهما في اتجاهات النخب الفكرية الدينية في المشرق العربي، لكنه لم يعرف على نطاق واسع, ولم تكن له تأثيرات واسعة على النخب الفكرية والدينية في منطقة الخليج والجزيرة العربية، التي كانت بأمس الحاجة للانفتاح على خطابه الفكري، وما زالت الحاجة قائمة إلى هذا اليوم, وتتأكد مع ضرورة البحث عن روافد جديدة للمعرفة لتجديد وإنماء ثقافتنا المعاصرة. وقد كانت لي تجربة ثقافية مع أفكار وكتابات مالك بن نبي، مرت بأطوار ثلاثة من العلاقة والتثاقف، وتحددت فيها بعض وجهات النظر، وجدت من المفيد الحديث عنها. الطور الأول: طور المطالعة في مرحلة الدراسة والتحصيل العلمي كان لي برنامج مكثف في المطالعة، مررت فيه على مؤلفات العديد من المفكرين الإسلاميين، والمعاصرين منهم بالذات، وحينما وصلت إلى مالك بن نبي وجدت أنني أمام مفكر مختلف لا يكاد يشبه أحداً في خطابه ومنهجه ومصطلحاته ومعادلاته، من المفكرين الذين مررت عليهم من قبل. كما وجدته مفكرا لا يكرر نفسه في الآخرين بالطريقة التي نلاحظها بين غيره من المفكرين. فبدأت بالاقتراب منه ومتابعته، والتوغل أكثر في تكوين المعرفة بأفكاره ومفاهيمه وأطروحاته، خصوصاً بعد أن وجدته مسكونا بهاجس النهضة والحضارة، وكيف تستعيد الأمة حضارتها في هذا العصر؟. وكيف تستأنف دورتها التاريخية من جديد؟. فهو المفكر الذي جعل من مشكلة الحضارة قضية القضايا لديه، واعتبر في مفتتح كتابه الشهير شروط النهضة،”إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها”. ولأنني في تلك الفترة كنت متعلقاً بفكرة الحضارة، وهي الفكرة التي ساهمت في تأكيد هذا الاقتراب من ابن نبي الذي يعد من أبرز المفكرين الإسلاميين ارتباطاً واشتغالا بفكرة الحضارة، كما شرح ذلك في حوار معه نشرته مجلة الشباب المصرية سنة 1971م، بقوله:”إن المشكلة التي استقطبت تفكيري واهتمامي منذ أكثر من ربع قرن وحتى الآن هي مشكلة الحضارة.. فالمشكل الرئيسي بل أم المشكلات التي يواجهها العالم الإسلامي هي مشكلة الحضارة، وكيف تدخل الشعوب الإسلامية في دورة حضارية جديدة”. وبعد فترة قصيرة من هذا الاقتراب، اكتشفت أن ليس من السهولة التعامل مع مؤلفات ابن نبي كغيرها من المؤلفات الأخرى، وأنها بحاجة إلى مزيد من الانتباه والتركيز لهضمها واستيعابها، وتعميق المعرفة بها، لأنها كتبت بطريقة الأدب الصعب. الأمر الذي تطلب مني مضاعفة الجهد والتركيز، بدل أن يكون منفراً وممانعاً من التواصل والاستمرار كما حصل عند البعض، خصوصاً الذين يتعاملون مع المطالعة بمنطق الهواية أو التسلية، أو الذين يبحثون عن السهولة والبساطة. لذلك فقد بقيت أرجع من وقت لآخر لمؤلفات ابن نبي, وبالذات كتبه(مشكلة الثقافة) و(شروط النهضة) و(مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي). والذي حفزني على هذا التواصل والاستمرار هو إصراري على فهم منطق الأفكار عند ابن نبي، وتعميق المعرفة بتلك الأفكار التي كنت أصنفها على المنحى الحضاري في الفكر الإسلامي، وهو المنحى الذي حاولت الانتساب إليه، والانتماء إلى حقله ومجاله. يضاف إلى ذلك أنني وجدت في تلك الفترة الدراسية والتحصيلية أن مؤلفات ابن نبي تصلح أن تكون تدريبا لبناء القدرة التفكيرية، وتوسيع آفاق الذهن، وتدريب الفكر على التركيز. وكان يدور في ذهني آنذاك أيضاً, أن من يريد أن يكون مفكرا عليه مطالعة مؤلفات ابن نبي, والعناية بها. لهذا فقد عرفت في تلك الفترة بين زملائي في الدراسة, بذلك التعلق بمؤلفات ابن نبي، وكان البعض يرجع إلي في التعرف على أفكاره، أو في مناقشتها والتساؤل عنها. هذه بإيجاز صورة المرحلة الأولى في التعامل مع أفكار ابن نبي، وكانت في بداية ثمانينيات القرن الماضي. الطور الثاني: النقد المنهجي لمالك بن نبي في بداية تسعينيات القرن العشرين فكرت أن أصنف كتاباً حول مالك بن نبي وفكره، والحديث عن طبيعة مكونات هذا الفكر، وعناصر القوة والتميز فيه. وبقدر ما كانت صعوبة التعامل مع أفكار ابن نبي هضما واستيعابا في مرحلة التكوين والتحصيل، بقدر ما كانت أيضاً صعوبة التعامل مع تلك الأفكار كتابة وتأليفا في مرحلة ما بعد التكوين والتحصيل. مع ذلك كنت عازما على خوض هذه التجربة، التي اعتبرتها أنها تمثل مرحلة أكثر نضجا في تكوين المعرفة وتعميقها حول أفكار ابن نبي، وبقصد الاحاطة باتجاهات النظر حول شخصيته وفكره وأطروحته، وكيف يقرؤه الآخرون. حيث كنت أتابع وأجمع ما كان يكتب حوله على مستوى الكتب والمؤلفات، وعلى مستوى المقالات والدراسات التي تنشر في الصحف والمجلات. وفي هذه المرحلة تغيرت صورة العلاقة مع أفكار ابن نبي, فلم تعد كما كانت من قبل تتحدد في الهضم والاستيعاب، وما يتطلبه هذا السلوك من صمت وإصغاء وانتباه على طريقة من هو في مقاعد الدرس بقصد التعلم. فقد أصبحت العلاقة تستدعي الاشتغال على ذلك الفكر، وما يتطلبه هذا الاشتغال من نقد وتفكيك وتحليل وتركيب, إلى جانب الضبط والاحاطة. فشرعت في الإعداد والتحضير، واستأنفت من جديد مطالعة مؤلفات ابن نبي، وما كتب عنه، وبدأت بالكتابة والتأليف، وتابعت هذا العمل إلى نهايته، وفي وقتها كنت مقيما في دمشق. وبعد إكماله وجدت من المفيد أن أعرض الكتاب قبل طباعته على أحد العارفين والمصاحبين لمالك بن نبي، بقصد الاطلاع على الكتاب وكتابة تقديم له. وكانت أمامي أربعة أسماء معروفة بعلاقاتها مع ابن نبي، وتنتمي إلى أربع دول عربية، وهي: الأستاذ عمر كامل مسقاوي من لبنان، والأستاذ جودت سعيد من سورية، والدكتور عبد الصبور شاهين من مصر، والدكتور عمار الطالبي من الجزائر. وقد وجدت أن أقرب هذه الأسماء إلى رغبتي هو الأستاذ جودت سعيد، لسببين متعاضدين، الأول ويتصل بعامل المكان حيث كنت مقيماً في دمشق كما أشرت إلى ذلك سلفا. والثاني أن الأستاذ جودت سعيد كان في تقديري هو الأشبه حالا بمالك بن نبي، والأكثر متابعة وتواصلا مع أفكاره. وهذا ما تأكد لي لاحقا في أول لقاء معه في بيته بدمشق أوائل عام 1991م، حيث وجدته يحفظ نصوصا مطولة لمالك بن نبي, ويتذكرها بسهولة وسلاسة، بالشكل الذي فوجئت منه في وقتها، وكشف عن مستوى من التعلق لم ينقطع أو يتوقف تجاه أفكار ابن نبي. وفي هذا اللقاء حاول الأستاذ جودت أن يتعرف على كيف اهتديت لمالك بن نبي، وما مقدار تفهمي واستيعابي له. وأشار إلى ذلك في التقديم الذي أكرمني كثيرا به، وحسب كلامه، فحين تحدث إليّ – يقصدني – حديثه ذكرني بحالي، وما جرى لي مع أفكار مالك بن نبي، وشعرت أن هناك توافقات عجيبة، وطباعا غريبة في التوافق والتشابه، فسررت سروراً بالغا، وتمتعت بحديثه الرصين والواثق، وهو يتحدث بترتيب وإحاطة، ويتناول الأمور الدقيقة بوضوح. وقد سررت كثيرا بهذا التقديم الذي مثل إضافة مهمة للكتاب، الذي صدر في بيروت عام 1992م. ولعل هذا الكتاب في وقت صدوره، ومع تواضعه، يعد أول كتاب يصدر من مؤلف سعودي حول مالك بن نبي، وقد يكون الأول على مستوى منطقة الخليج أيضاً. ولا شك أن هذا الأمر يعد لافتا بعض الشيء، أو يمكن أن يجد فيه البعض ما هو لافت من جهتين، من جهة تأخر هذا المستوى من التواصل والانفتاح الفكري في منطقة الخليج والجزيرة العربية مع أفكار ابن نبي، ومن جهة ما يمكن أن يفسر به تجدد هذا الاهتمام بتلك الأفكار. والتطور اللاحق الذي حصل في هذا الشأن على أهميته وقيمته إلا أنه يعد ضئيلا ومحدوداً، ويفتقد إلى التواصل والتراكم. ومع صدور طبعة دار الفكر بدمشق في 1998م، أتيح للكتاب فرصة أكبر في التداول والانتشار، وبالتالي في أن يعرف ويتابع. وأضفت إلى هذه الطبعة بحثا كنت قد نشرته في مجلة “منبر الحوار” اللبنانية التي كان يصدرها الدكتور وجيه كوثراني، ربيع 1993م، بعنوان (مقاربات في الفكر والمنهج بين محمد إقبال ومالك بن نبي). وإذا كان في هذا الكتاب ما يلفت بعض الشيء، فهو في الفصل الذي خصصته حول نقد الفكر المنهجي عند مالك بن نبي، باعتبار أن هذا المنحى النقدي لم يكن مألوفا كثيراً في الكتابات التي تناولت شخصية ابن نبي وأفكاره، والتي يغلب على الكثير منها المدح والثناء والتبجيل. وهذه كانت المرحلة الثانية في التعامل مع أفكار ابن نبي، وما يميز هذه المرحلة هو إضافة البعد النقدي الذي كان غائباً في المرحلة الأولى.
المصدر : جريدة الغد الأردنية 15 / 10 2005م

Comments (0)
Add Comment