مالك بن نبي شاهد على العصر

عدد القراءات :5141

بقلم: د أبو بكر أحمد باقادر
بن نبي مفكر إسلامي ينتمي إلى الجيل الثاني من رواد النهضة الإسلامية الحديثة، التي قدمت فكرها ورؤيتها في إرشاد وتوجيه الأمة الإسلامية للخروج من مأزق التخلف و الفقر و التعبية، تلك الخصائص التي يبدو أن المفكرين كافة يجمعون على انتشارها وتغللها في جسد الأمة. وقد حاول كل واحد من هؤلاء الرواد تقديم تحليل ورؤية يشخص فيها امراض الأمة، ويحدَد لها طريق العلاج و الشفاء لاستعادة دورها القيادي، ولتتمكن من السيطرة على مقدراتها وحياتها.
ومالك يوضح بشكل حاسم تأثره بالفكر و بالحركة الإسلامية في جزائر معركة الاستقلال، فيذكر ارتباطه وتعلمه من جمعية العلماء، إضافة إلى معرفته المباشرة بفكر رواد النهضة الإسلامية من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا. ويوضح أنه تأثر أيضا بالفكر السلفي عند ابن تيمية و الشيخ محمد بن عبد الوهاب و غيرهم. وهو مفكر إسلامي لاهتمامه بقضايا الأمة الإسلامية وهمومها، وإصراره على أن خروجها من مأزق التخلف و التبعية لا يكون إلا عن طريق استعادتها لهويتها الإسلامية، واستثمار قيمها و مبادئها الإسلامية بشكل فعال. وعلى الرغم أنه مرَ في فترة غلب عليه فيها تبني طروح إيديولوجية لا تعطي للإسلام هذه الأهمية، وما تميزت به خلفيته الثقافية من معرفة دقيقة بالثقافة الغربية إلا أنه، ومنذ بداياته الأولى، كان يفكر من منطلق إسلامي ويحاول معالجة هموم الأمة ومشكلاتها.
يقدم مالك فكرا إسلاميَا مختلفا في الكثير من طروحه و مصطلحاته ومفاهيمه عن معظم التيارات و الطروحات الإسلامية المعاصرة له، مما جعل بعض مؤرخي الفكر الإسلامي النهضوي ينتقدونه، وعلى وجه الخصوص في تحليلاته و اهتماماته السياسية و الفكرية1 . لكنهم على الرغم من ذلك ات يختلفون في أنه مفكر إسلامي يفكر من داخل دائرة الإسلام، ويشيد إصلاح حال الأمة ويسعى إلى نصرتها وعزها2 .
والقارئ لكتابات مالك يشعر بأنه أمام مفكر إسلامي يكتب بلغة تحليلية مخلفة، فهو يتكلم لغة العصر الحديث، ويشخص وضع العالم العربي الإسلامي المعاصر، لكن بروح إسلامية عظيمة الإيمان، تذكرنا بروح شاعر الإسلام إقبال. على أنه يتميز عن سواه من المفكرين الإسلاميين بأنه مفكر الواقع، المعاصر، متجنبا التفاعل مع هذا الواقع على أساس الأصالة أو الانغماس في التنظير للمجتمع الإسلامي المثالي، أو البكاء على ماضي الأمة وأمجادها الغابرة أو إدانة الغرب أو المؤسسات السياسية و المجتمعات المسلمة لتخليها عن الإسلام، بل كان اتجاهه على العكس من ذلك. فنحن نجد أن مالك بن نبي يفكر في إقامة منهج حازم لإصلاح العالم الإسلامي، ويقيم دعائمه على مستويين.
المستوى الأول: تشخيص أمراض المجتمعات الإسلامية. وهو صارم في تشخيصه هذا، إذ يقدم العلل و يدرس أوجهها المختلفة و معانيها في ضوء معطيات العلوم الاجتماعية الحديثة. أما المستوى الثاني فهو يتناول فيه وسائل و آليات التحول التي تجعل الإسلام يؤدي فيها دورا أساسيا ومحوريا.
ومالك منذ بداية يرى مشكلات العالم الإسلامي، وهو الذي عاش أحلك ايام تخلف هذا العالم الإسلامي، ومشكلات الحضارة أيضا.
وإن عجز المجتمع المسلم عن القدرة على تغيير أوضاعه و مواجهة مشكلاته من ناحية، وسعي أعدائه، على ابقائه في حالة عجز و تبعية من ناحية أخرى، كل ذلك يعود لأسباب حضارية لا لأسباب أخرى أساسا، ولقد انتقد مالك لتحديده هذه الحدود، وتأكيده أن العالم الإسلامي لا يعاني من أزمة عقدية أو تأكيد انتمائه للإسلام معرفته بمبادئه الأساسية، لكن يبدوا أنه كان – يرحمه الله- مصرا على موقفه هذا حتى أيامه الأخيرة3.
يتناول مالك بن نبي المشكلات الاجتماعية و الحضارية من منظور العلوم الاجتماعية الحديثة، لكن بعد أن يعيد صياغتها و يلبسها معاني جديدة تجعلها جزءا من منظوره العام الذي يحلل و يدرس على أساسه المجتمع الإسلامي، مستعينا في ذلك بالبعد التاريخي و الاجتماعي و الثقافي و النفسي للمجتمعات الإسلامية و المؤشرات الخارجية العاملة فيها، و هو في تحليله و تعامله ذو أسلوب فريد لا يخلو من إبداع و خصوصية.
إن الأمثلة العديدة التي يوردها ملك سواء تلك التي ينتزعها غالبا من واقع العالم الإسلامي من العالم الغربي، وعلى وجه الخصوص فرنسا، هي في غالبيتها أمثلة يوميا معيشة، تكاد لتواترها ورتابتها و مألوفيتها لا تعد من الموضوعات التي لا يجتهد المفكرون أنفسهم غالبا في العناية بها.
لكن هذه الأمثلة ببساطتها و عفويتها تجسد واقع المجتمع بشكل صادق و مؤثر، وفي ضوء تحليل مالك تتحول هذه الحوادث اليومية إلى مفاتيح أساسية لصياغة المفاهيم العديدة التي يتميز فكر مالك بتحديدها مثل: التكديس- البناء- رأس المال- قابلية الاستعمار- المفهومية- التراب- الوقت ….إلخ، إضافة إلى أن مالكا بتأكيده على المعاش اليومي إنما يكشف على مكامن الحيوية و العجز في الوقت نفسه، في جسد المجتمع، أي مجتمع كان.
كان مالك يريد أن يقدم فكرا إسلاميا و اقعيا، ولذا نجده يلح على فعالية أو عجز المجتمع المحلي من خلال التأكيد على الجوانب الأساسية المشكلة لفاعلية الأفكار و تناولها في المجتمع. وهو يضرب على ذلك العديد من الأمثلة، فيضرب منها مثلا على مجتمع محلي يواجه مشكلة التخلص من نفاياته بشكل جماعي وبمبادرة محلية تماما، ليؤكد أن المجتمع بفعله هذا بدأ يخطو و بشكل حيث نحو مواجهة مشكلاته و القدرة على إعادة البناء. وربما كان المثال متواضعا جدا، ولكن مالكا إنما يقدمه ليدرس و يحلَل أبعاده الحضارية و الدوافع التي قام على أساسها، وليؤكد بذلك انها الأسس و الدوافع التي يقوم عليها بناء المجتمع.
وكذلك يضرب الأمثلة العديدة على مظاهر افتقاد الفاعلية و الرغبة في تعطيلها، والتأكد بذلك على مبدأ التكديس4. وربما كان من أبلغ المسائل التي ينظر إليها بريبة و توجسّ في الفكر الإسلامي المعاصر، ما يقدمه مالك من الأمثلة الإيجابية و السلبية التي أفادها من حياته في المجتمع الغربي، فهو يذكر وبإعجاب تجربته مع جمعية الشبان المسيحين، مؤكدا أهمية الدروس الاجتماعية و الثقافية و التنظيمية التي تعلمها، بل و التي يمكن للمجتمع المسلم أن يفيدها من مثل هذه الجمعية، دون أن يكون على الإطلاق مستسلما أو مبهورا معجبا بالغرب، ولا منتقصا للعالم الإسلامي. ولقد كان مالك يكتب بروح و عقل متفتح، يأخذ المفيد ويستفيد منه حيث ما كان دون تحدٍّ أو محاذير. وعلى الرغم من أنه عانى وبشكل مباشر من جفوة الغرب و قسوته، إلا أن ذلك لم يثنه عن التعلم و الإفادة.
لقد ساعد منهج مالك هذا في تقديم تحليل لواقع المجتمع الإسلامي لا يعتمد كثيرا على الانغماس في استيعاد تاريخه أو مراجعة تفصيليه لأفكار المفكرين الإسلامين أو العالميين و نظرياتهم، وإنما على العكس من ذلك ساعده على وضوح الفكرة ودقتها وبلورتها بشكل يمكن للقراء و بمستوياتهم الثقافية و العلمية المختلفة أن يستجيبوا لأفكاره، أو على الأقل أن تكون مفهومه وبشكل ميسر. ومكنه تأكيده على الارتباط بتحليل الواقع على الالتزام بمنهج علمي صارم يقنع القراء، فهو لا يعتمد في كسبهم لأفكاره على اساس استدرار عواطفهم أو ميولهم أو طموحاتهم وأمانيهم. ولا يحاول أن يقدم أفكاره مشفوعة بشعارات وأقوال يعلم سلفا أن القارئ العربي المسلم حريص على قبولها و التسليم لها. إن ما يفعله مالك في الغالب هو العكس من ذلك تماما، دفعه للقارئ أن يمارس التفكير في المستقبل، وينبه إلى ذلك بقوة لا تخلو أحيانا من التعريض، وأسلوب مالك دافع قوي للقارئ المسلم على هذا النهج و الأسلوب. فمالك لا يقدم نتائج أو توصيات جاهزة و إنما يمارس مع قارئه تفكيرا فلسفيا منظما، بصوت مرتفع إن صح التعبير. ويؤكد فيه أهمية تأمل الواقع المباشر و التفكير في أسباب تخلفه وتسلط أعداء العالم الإسلامي و تجبرهم عليه. وهو يدفع بقارئه إلى تفكيك و تحليل الوحدات الأساسية اليسيرة التي تقوم عليها الوضع القائم، لينتهي به إلى أن مشكلة الأفكار و الممارسات الشائعة تحتاج إلى مراجعة وتغيير، وأن عملية التغيير يجب أن تبدأ من قاعدة الهرم، ليتم التغيير الجذري الذي مرت به مجتمعات إنسانية أخرى ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” الرعد 11.
ومالك لا يدعي الوصاية على المجتمع المسلم، و لا يفرض حلولا جاهزة له، بل يقوم بوجود مثل هذه الحلول، ولا يجعل لها تسميات ملزمة مثل الحل الإسلامي، بل يتميز فكره بنوع من العالمية، فهو مثلا يحاول في كتابه ” شروط النهضة” وهو كتاب ذو روح إسلامية واضحة جليلة، أن يقدم أسسا ومفاهيم أولية تساعد على إعادة بناء المجتمعات الآسيوية و الأفريقية ( المستعمرة) وخروجها من مزالق التخلف و التبعية. ويعتمد في كتابه هذا على الإرث الإنساني دون تردد أو جل، بحيث يصبح الكتاب محضنا لأفكار من مصادر مختلفة. فيبدأ الكتاب بنشيد يتضح فيه التأثر بنتشه وفكرة السوبرمان، ويستفيد من أفكار ابن خلدون وتوينبي و غيرهم من علماء الاجتماع و الإنسان و التاريخ.
لقد أدى هذا التفتح الفكري و القدرة على التأليف بين الأفكار ذات المصادر المختلفة و المتباينة أحيانا في قالب واحد إلى تمكين مالك من أن يقيم أطروحاته وتحليلاته بشكل مختلف عن مواقف غيره من المحللين و الدارسين.
ولتوضيح ما أردنا قوله لنأخذ امثلة من مواقف مالك وتحليلاته مثل موقفه من حركة عدم الانحياز أو العلاقة مع الهند و الصين أو الدولة المؤسساتية الحديثة في مصر… إلخ. إن مواقف مالك بن نبي حتى على افتراض تراجعه عن بعضها، توضح بشكل جلي أنه ينطلق من تصورات دولية وعالمية، فتحسمه لحركة عدم الانحياز و المطالبة بكمنولث أفروآسيوي5 إنما ينبع من وعي مالك بأن تختلف العالم الإسلامي ينتمي إلى العالم الأفروآسيوي، وأن المشكلات التي يعاني منها لا تختلف كثيرابعضها البعض، وأن تضامن من العالم الإسلامي مع هذه المجتمعات سيؤدي إلى قوة هذه المجتمعات و دعمها في الوقوف صفا واحدا ضد الغرب، المستعمر المغتصب و بطبيعة الحال لم ير مالك على الإطلاق أي تعارض بين مصالح الإسلامية وقيام مثل هذه العلاقة، على عكس ما كان ولا يزال يراه العديد من مفكري الإسلام، ممن يحصرون هموم العالم الإسلامي ومشكلاته، ومن ثم حلولها داخله، مع قطيعة شبه تامة للعوامل المشابهة لأوضاعنا. ولا شك أن مالكا ما اتخذ هذه المواقف إلا لأسباب جوهرية دفعته لذلك.
إضافة إلى ما ذكرنا نجد أن مالك بن نبي مفكر جذري التفكير، فهو يرفض، حتى في الحالات التي يجدر بنا حسن الظن فيها، قبول التفكير أو الحلول العرضية التي تنهك الأصول التي يجب أن يقوم على أساسها التحليل العلمي العميق. فهو يذكر مثلا في كتابه ” المسلم في عالم الاقتصاد” أن ما دفعه لتأليف الكتاب ما أطلعه عليه أحد الطلاب من اجتهاده في رسالة جامعية درس فيها البنوك و غير الربوية، وفهم منه مالك أنه يقدم بحثه باعتباره وسيلة للخروج بالاقتصاد الإسلامي من ربقة التعبية للرأسمالية أو الاقتصاد الغربي عموما، فيعلن مالك مباشرة أن مثل هذا التناول يشكل فهما سقيما لمعنى الاقتصاد، ومن ثم فإن ما كان ينبغي أن يشغل الباحث أو الدرس للأسس الأولية التي يقوم عليها الاقتصاد، رأس المال، العمل، قيمة الوقت، الاستهلاك، الإنسان وغيرها من وحدات أساسية. وأنه بدون فهم وتأسيس هذه الوحدات الأولية لا يكون الباحث قد تناول جوهر المشكلة أو استخدم المنهج العلمي الدقيق، وإنما اعتمد على نسخ قوالب فكرية جامدة و استعارتها6.
وكثيرا ما كرر مالك أهمية المفاهيم الأساسية في الاقتصاد وز في التخطيط الاقتصادي، وغالبا ما أورد مثال الاقتصاد الألماني بعد خسارة الحرب، وكيف أن التخطيط و الفهم الاقتصادي السوي الذي يأخذ العوامل الثقافية كافة في حسابه أديا إلى نجاحه وخروج ألمانيا من الخسارة منتصرة، بينما حينما طبق التخطيط نفسه دون أخذ العوامل الثقافية المحلية في الحسبان في أندونيسيا أدى فشل إلى فشل ذريع، مما يؤكد في نظر مالك أهمية استيعاب تلك العوامل في أي تفكير اقتصادي7.
ويعطي مالك مسألة الأفكار أهمية كبيرة، وربما كاتن أبرز المعالجين لها في العالم الإسلامي. فهو يؤكد أن الأفكار لا تكفي أن تكون صحيحة أو صادقة في حد ذاتها لتصبح قادرة على إحداث التغيير، أو بتعبيره: ذات فاعلية، وإنما يجب أن تأخذ السياق الثقافي المناسب الذي يمكنها من ذلك. وهذا السياق هو الذي يحولها إلى رأس مال مركزي أو فكري قابل للنماء أو الازدهار. أما إذا ما أحذت بشكل ناجز منته فإنها قد تكون وبالا على المجتمع. ويقسم مالك الأفكار في شكلها الأخير إلى أفكار ميتة أو أفكار قاتلة، فالنوع الأول يمثل الأفكار الجديدة في ذاتها ، ولكن لا يتم التعرف عليها سوى في المستوى النظري، نظريات و فلسفات في كتب و ليست جزءا من الواقع أو السياق الاجتماعي و التاريخي، أما الأفكار القاتلة فهي التي تمثل الجانب السلبي من حياة المجتمع و التي تشكل مصدر شقاق في المجتمع يهدد وحدته وتماسكه8 .
ومالك هو الذي عانى واكتوى بنار الغرب، يدرس و بشكل دقيق الكيفية التي ينسق الغرب بها الأفكار في شبكات معقدة، بحيث يؤكد أن المخترعات و المكتشفات الحديثة إنما تمت على أساس انتقالها في هذه الشبكات الثقافية و استفادة الأطراف المرتبطة بها كافة منها. إضافة إلى ذلك فإن العالم الغربي يدرك أهمية الأفكار و انتقالها، لذلك فإنه يعمل في تعطيل فاعليتها عند الشعوب الأخرى ما أمكن. والأمثلة العديدة التي يقدمها ربما كانت شواهد مهمة على المستويين الفردي و الجماعي، فما عاناه مالك من مضايقات هو وأسرته أو عدم تمكنه من الالتحاق بالدراسة التي كان يسعى إليها، وإنما هو نموذج لجبروت هذه الشبكات المعقدة وتواطئها، ودليل على صراع الأفكار في العالم الحديث، كذلك ما يذكره مالك عن مؤتمر العمال المغاربة، وكيف أقحم على المؤتمر كتاب هونكوه الذي تمجد فيه الحضارة الإسلامية، كما حوَل المؤتمرين عن مناقشة قضاياهم وهمومهم إلى التباكى و الحسرة على الماضي التليد وإنجازات الأسلاف. ويوضح مالك كيف أن هذ التحول كان مقصودا، وانه كان فعَالا في صرف العمال عن الحاضر وبؤسه، والانتقال بالماضي الذي لم يسهموا فيه ولم يتمكنوا من استعادة حضوره. إضافة إلى أن التحول في نظرة مالك، يؤكد ما ذهب إليه من فهم الغرب لأهمية شبكة الأفكار وفاعليتها9.
واهتمام مالك بالأفكار اهتمام عميق، فهو يؤكد مثلا أن اهمية الحفاظ على الحقوق لا يمكن أن يخلط بمفاهيم أخرى، ولو كانت في ذاتها مستحسنة، إذ كما يقال بالنوايا الطيبة ترتكب أحيانا حماقات كبرى، فعلى سبيل المثال يتناول مالك قضية إعادة نشر أحد كتبه في أحد البلدان العربية دون أخذ إذن منه، وبعد يعرف الناشر عنوان مالك يرسل له خطابا يعلمه بنشره كتابه و رغبته في إرسال عوائد الكتاب إليه، لكن مالكا الحريص على انتشار أفكاره يغضب جدا لهذا التصرف، ويوضح أن انتهاك حق المؤلف في نفس أهمية نشر أفكاره، ويؤكد على المعنى الحضاري لتلك الممارسة، وعلى الرغم ما تميز به الناشر من أمانة وطوية مخلصة، فإن مالكا من خلال ملاحظته وغضبه إنما يريد التأكد على أن الأمم لا تنهض عندما تتساهل في قواعد تعاملها نع بعضها البعض.

التطبيق العملي للأفكار
ولا يقتصر اهتمام مالك على التناول و التحليل النظري، وإنما يسعى إلى تحقيق ذلك على مستوى الواقع و بشكل لا يخلو من إبداع، فما يذكره مالك في كتابه “مذكرات شاهد قرن” من جهود مبتكرة في تعليم المهاجرين، سواء من حيث طرائق التدريس أو من حيث التنظيم تدل على جدية تعاطي مالك للأفكار ورغبته في اختيارها على صعيد الواقع. و المدهش أن أفكاره وأساليبه في تعليم الكبار، و التي يذكر أنها كانت ذات نتائج باهرة وسريعة، لم تلق رواجا واهتماما ممن درسوا مالكا10 و لتوضيح اهتمام مالك بالجانب الاستشرافي اهتمامه بدراسة الطاقة الشمسية وإمكانات استخدامها للاستفادة منها في إعمار بعض الدول العربية. وهذا الطرح من مفكر يقدم افكاره لا باعتباره مهندسا وإنما بوصفه منظرا اجتماعيا وإسلاميا، يعد دون شك نقلة نوعية مهمة، نقلة من الفكر التجريدي الذي غالبا ما يهتم بالكليات و النظرة الشمولية على حساب التفاصيل العملية من ناحية، وعدم إعطاء مسألة الجوانب المادية من حياة الأمة ما تستحقه من اهتمام من ناحية أخرى. إن اهتمام مالك بمثل هذه المور إنما هو تأكيد عملي تطبيقي لطرحه فكرة فاعلية الأفكار، و التأكد على ضرورة أن يكون روّاد الفكر الإسلامي عناصر منتجة في مجتمعها. إذ لا يكفي كما يؤكد مالك أن تكون فكرة ما صادقة أو صحيحة في جوهرها، بل ينبغي أن تقدم لها الضمانات العملية التفصيلية لإنجازها و العمل على فاعليتها.

لماذا هو شاهد على الأمة؟
لا شك أن مالكا حاول أن يؤدي دورا مهما في تحريك عقل شبيبة عصره حين تحلقوا حوله، لكنه على ما يبدو لم يحاول أن يتبنى حزبا أو يتزعم قياده حركة، على الرغم من أن الظروف التي كان يعيشها كلاجئ سياسي في مصر، وقت كتابته العديد من كتبه، و التفاف نخبة شابة حوله، كانت ظروفا مناسبة جدا لمثل هذا النوع من الزعامة، والتي يظهر أنه كان يمتلك كل مؤهلاتها وخصائصها، لكن طبيعة التحليلية واشتراطه على من حوله التأكيد على قدرتهم في تفكيك وتحليل بل التفلسف العميق في القضايا المحيطة، وإصراره على ضرورة تلك الممارسة، إضافة إلى سعيه الحثيث إلى توليد المفاهيم وربطها في شكل تصورات نظرية مفسرة لوضع الأمة و حالتها، كل ذلك لم يجعل لفكره الزعامة سبيلا إلى تفكيره و السعي من أجلها. لذا فإن من تأثروا بفكره أصبحوا في الغالب قادرين على الاستقلال بفكرهم، على الرغم من أننا قد نلاحظ فيهم نزعة مالك أو أسلوبه التحليلي دون أن يكونوا نسخا ممزوجة من مالك على الإطلاق.
لهذا لم يصبح مالك أو أسطورية فوق النقد عند من التفوا حوله أو أقرؤوا له و اهتموا بل وتأثروا به، وربما يعزى عدم انتشار فكره في أوساط المهتمين بالصحوة الإسلامية من الشباب لهذا السبب، فهو كما ذكرنا لا يقدم مواقف أو رؤى جاهزة، وإنما يحاول أن يقدم أسلوبا بالتمسك العميق بقيم الإسلام وأسسه مع التفتح لكل نشاط إنساني يساعد في تحقيق ذلك التمسك، إضافة إلى أن أسلوب التفكير الذي يمهد له مالك يجعل المتلقي قادرا و بسهولة على تجاوز مالك، فهو غير مقصود وإنما المقصود إصلاح المجتمع، و المجتمع مشكلاته متغيرة متبدلة حسب الظروف السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و التيارات الفكرية المحلية و الدولية. لذلك فإننا نجد من ينتصرون لفكر مالك لا يلزمون أنفسهم بمواقفة وآرائه و تعليقاته و اجتهاداته الشخصية، بل و لا يجدون ضرورة للدفاع عن هذه المواقف أو حتى عن الأخطاء التي يمكن أن يكون قد وقع فيها مالك، لكنهم في نظري سيدافعون وبشكل قوي عن منهجه وأسلوبه في تحليل أوضاع الأمة.
وهذه مسألة في غاية الأهمية في فكرنا الإسلامي المعاصر.
لذلك فإن تميز فكر مالك في التأكيد على عدم تقديم خطاب ناجز، وإنما تقديم إطار تحليلي يشكل ذهنية قادرة على تحديد المفاهيم و الأولويات، مع امتلاكه في الوقت نفسه القدرة على الربط و التحليل، ومن ثم فإن المطلوب مناقشتها في مدى وقدرة و صلاحية هذا الإطار، دون الاكتفاء فقط بمراجعة الأمثلة التفصيلية أو الآراء الخاصة، و التي كما ذكرنا تحددها الظروف السياسية و الاقتصادية و غيرها من ظروف كانت قائمة آنذاك. إن هذه الميزة ستمكن لفكر مالك أن يستمر في تشكيل نقطة التقاء للآراء “ندوة”. لذا فإن نشر كتبه في طباعتها الأخيرة تحت مسمى “ندوة مالك” وإنما في واقع يعكس هذه الخاصة بشكل ذكي. بينما للأسف تختفي هذه الخصوصية العديد من الطروح الإسلامية المماثلة.

الهـوامش:
1 – انظر على سبيل المثال غازي توبة، الفكر الإسلامي المعاصر: دراسة و تقويم، بيروت دار القلم، 1977م ص 21، ومحمد العبده، قراءة في فكر مالك بن نبي، مجلة البيان الأعداد 14-21 خلال الفترة صفر 1401هـ إلى صفر 1405 هـ (مجموعة مقالات)
2- عبد الله العروبي، أوراق، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ص 134-137
3- انظر تعليقات محمد العبده، مرجع سابق
4 – مالك بن نبي ، شروط النهضة، دمشق: دار الفكر، 1986م، ص 84.
5 – مالك بن نبي، فكرة الأفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج، دمشق دار الفكر، 1981م.
6 – مالك بن نبي، المسلم في العالم الاقتصادي، دمشق: دار الفكر، 1986م، ص 9-10
7- نفس المرجع ص 93
8- مالك بن نبي مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، دمشق، دار الفكر، 1988م، ص 147-102
9- مالك بن نبي إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث مكتبة عمار، ص 22.
10- مالك بن نبي، مذكرات شاهد القرن: الطالب، دمشق، دار الفكر 1984م، ص 298

مجلة الفيصل العدد 196

Comments (0)
Add Comment