في النقد المنطقي لمفهوم “القابلية للاستعمار”

عدد القراءات :4497

اشتهر مفهوم “القابلية للاستعمار” شهرة بالغة واستخدم لدعم توجهات متناقضة، وقلما تتم العودة إلى الاستعمال الأصلي لمبتكر المفهوم وهو المفكر الجزائري مالك بن نبي يرحمه الله. المفهوم شديد الجاذبية فهو يبدو كأنه يلخص نصف مشكلة الاستعمار، فهو يطلب منا إلقاء الضوء على العيوب الداخلية في بنى المجتمعات التي وقعت ضحية الاستعمار بعد أن كان التركيز المعتاد لحركات التحرر ينصب أساساً على الدور الذي قامت به القوى الاستعمارية في تأبيد التخلف أو حتى صناعته بعد إذ لم يكن موجوداً.وفي فقرة لاحقة يرى القارئ أن بن نبي لم ينكر دور الاستعمار في صناعة التخلف وبالذات في الجزائر، وأكثر من ذلك إنه إخلافاً للمعتقد الشائع عنه كان يعتبر القابلية للاستعمار بحد ذاتها نتاجاً لذلك الاستعمار وليست مقدمة مسببة له ولكنه على ما يظهر خضع أيضاً لإغراء المعنى اللغوي للمفهوم فاستعمل هذا المفهوم في بعض المواضع بالفعل بمعنى الصفة أو مجموعة الصفات البنيوية التي تسهل على الاستعمار مهمته الاستيلائية. ولكن بن نبي في جميع الأحوال كان رجلاً غيوراً على المسلمين وما كان يبتغي من هذا المفهوم إلا حث إخوانه في الدين على نفض غبار التقاعس والكسل العقلي والجسدي والنهوض لبناء حضارة الإسلام من جديد، حضارة قوية لا يستطيع الاستعمار اختراقها. أما مستعملو هذا المفهوم اليوم فمنهم من ينطلق من رؤية إصلاحية ومنهم من ينطلق من رؤية تريد بصورة مباشرة أو غير مباشرة تبرير الخضوع السياسي والاقتصادي والثقافي للدول الكبرى عبر التركيز على فكرة أن العيب فينا والإيحاء بأننا يجب أن نحد معركتنا بأنفسنا ولا نحاول أن نفعل شيئاً ضد الخطر الخارجي. والمعنى العملي النهائي لهذا التوجه هو تبرير الخضوع والتطبيع مع الصهيونية إلى آخره، وقد لا تبدو هذه النتيجة العملية حتمية ولكننا نراها دوماً وأنا أدعو القارئ لكي يقتنع بما قلت أن يراجع البرامج الحوارية التي يشارك فيها ضيوف من المطبعين لكي يرى أن هذه الحجة غالباً ما تستعمل من قِبلهم. سنرى بعد قليل أن بن نبي استعمل المفهوم بمعنى أصلي لا اعتراض لي عليه ولكنه استعمله بمعنى ثانٍ أراه لا يخلو من ثغرات منطقية لعلها هي التي أتاحت الفرصة لأناس، غرضهم وتوجههم في افتراق عن غرض وتوجه بن نبي، بل بين الطرفين ما بين السماء والأرض من البعد! وسأبدأ بذكر استعمال بن نبي للمفهوم ثم أنتقل إلى النقد المنطقي له بمعناه الثاني وآمل أن يقتنع القارئ أن هذا النقد ضروري حقاً للدعاة الذين يقدمون الإسلام بديلاً شاملاً للحضارة المعاصرة ومسلَّماتها التي تقوم عليها. أريد إذن إلقاء الضوء على الجانب المنهجي في استعمال مفهوم “القابلية للاستعمار” وإظهار الحدود التي بتجاوزها يفقد المفهوم مشروعيته النظرية بل يصبح ذا نتائج نظرية خاطئة وعملية ضارة.

أولاً: في أصل المفهوم عند مالك بن نبي:

في كتاب “شروط النهضة” (1) تحدث مالك بن نبي عما يسميه “معاملين” فعلا فعلهما في الإنسان المستعمَر: “المعامل الاستعماري” و “معامل القابلية للاستعمار”. هو ينطلق في تعميمه النظري من التجربة الجزائرية الطويلة المريرة مع الاستعمار الفرنسي: لقد جاء الاستعمار فوجد شعباً ذا إمكانات طبيعية عظيمة شهد لها القائد الفرنسي “الجنرال بوجو”: كان هذا الجنرال “أول فرنسي أدرك حقيقة الشعب الجزائري وما ينطوي عليه من عبقرية فذة إدراكاً وضع بمقتضاه الطريقة المناسبة لاستقرار الاستعمار” (ص146). كان بوجو يريد أن يجلب إلى الجزائر معمرين فرنسيين يتكافؤون في قيمتهم مع قيمة الشعب الجزائري الذي كان على مستوى كبير من التعليم يفوق بشهادات كثير من المؤرخين وبما لا يقاس المستوى التعليمي للجيش الفرنسي المحتل، وهذه الحقيقة نادراً ما تذكر كما أنه قلما تذكر حقيقة أن الأشقياء الإسبان الذين أبادوا شعوب أمريكا الأصلية كانوا في مستوى حضاري أقل من تلك الشعوب، وقد لا نصدق ذلك نحن المتعودين على تقبل فكرة أن الغرب غلب الشعوب لأنه منذ البداية كان متحضراً أكثر منها، وفي الحقيقة فإن الغرب تحضر لأنه استعمر ولم يستعمر لأنه تحضر. أن يُقهر شعب متحضر من قبل شعب أقل تحضراً أمر يجب ألا يدهشنا إذا تذكرنا ما فعله التتار ببغداد ودمشق فهل كانوا أكثر تحضراً من بغداد ودمشق؟ على أن هذا الوعي بقيمة الشعب الجزائري المسلم لم يدفع المستعمرين إلا إلى وضع خطة منظمة لتحطيم هذه القيمة وإنزالها إلى الحضيض وقد بدأت هذه الخطة خصوصاً بعد الهزيمة النكراء لفرنسا عام 1870م على يد بروسيا فقد أحست فرنسا بأنها لم يعد لها هيبة و “بدلاً من أن يدفعها شعورها بالنقص إلى الرفع من قيمة شعبها، فإنها رغبة منها في إقرار التوازن بين المعمرين والمستعمرين عمدت إلى الانتقاص من قيمة هؤلاء الآخرين، وتحطيم قواهم الكامنة فيهم، فمنذ ذلك الحين بدأ الحط من قيمة الأهالي ينفذ بطرق فنية، كأنه معامل جبري وضع أمام قيمة كل فرد بقصد التنقيص من قيمته الاجتماعية” (ص146). هذه السياسة تضمنت إفقار الجزائريين وحرمانهم من التعليم والتضييق عليهم في التجارة والعمل والكتابة والكلام وإحاطتهم بشبكة مسمومة تعرقل كل جهد منتج وتنشر فيهم الأفكار المبخسة لقيمتهم. وهكذا ترك الفرنسيون الجزائر عام 1962م بلداً تبلغ نسبة الأمية فيه 93%، بلداً حُطمت ثقافته الوطنية واستُلبت هويته بحيث لزم وضع برنامج صعب لإعادة التعريب لاقى ويلاقي المقاومة من قبل النخبة المفرنسة قليلة العدد التي زرعها المستعمرون في المجتمع والتي هي في الحقيقة النموذج الأجلى لمفهوم “القابلية للاستعمار” وإن ظن بعضهم أنها على العكس من طبيعة نهضوية تحمل في ذاتها بذرة القوة والاستقلال. لنتذكر هذه النقطة: إن الاستعمار هو الذي بدأ بدفع المجتمع المستعمَر إلى طريق الانحدار الحضاري ولعل هذا ما تؤكده بحوث كثيرة قالت إن مستوى التطور التقني مثلاً في المستعمرات عند بدء الاستعمار لم يكن يقل بصورة عامة عن مستوى هذا التطور في دول “المتروبول” الاستعماري، ولتفسير الهزيمة العسكرية التي قادت المستعمرات إلى مستنقع التخلف الاقتصادي والتبعية السياسية توجد أسباب كثيرة معقدة ليس من بينها بالضرورة أن المستعمرين كانوا متقدمين. لنأت الآن إلى المفهوم الأشهر لمالك بن نبي وهو مفهوم “القابلية للاستعمار” وهو عنده “المعامل الثاني” المكمل للمعامل الاستعماري.”المعامل الاستعماري” عامل خارجي يفرض على الكائن المغلوب على أمره الذي يسميه المستعمر “الأهلي” نموذجاً محدداً من الحياة والفكر والحركة وحين يكتمل خلق هذا النموذج يظهر من باطن الفرد معامل “القابلية للاستعمار” وهو معامل يجعل الفرد يستبطن مفاهيم المستعمر عنه ويقبل بالحدود التي رسمها المستعمر لشخصيته، ليس ذلك فحسب بل يدافع عنها ويكافح ضد إزالتها. وبن نبي في ملاحظة وجيهة تذكرني بما دعوته في مقالات أخرى “بالاستلاب” يقول إن أول مظاهر فاعلية هذا المعامل هو قبول ضحية الاستعمار باسم “الأهلي”. يقول بن نبي ساخراً: “إذا لم نكن شاهدنا خصياناً يلقبون أنفسهم بالخصي فقد شاهدنا مراراً مثقفين جزائريين يلقبون أنفسهم بالأهلي” (ص153). وقبول الاسم يعكس قبولاً شاملاً بالوضعية التي فرضها المستعمر وهذا القبول لا يتموضع فقط في منطقة الوعي بل ينغرس في أعماق اللاوعي ليصبح “استبطاناً” للمفهوم الاستعماري عن الذات، مفهوم يبخس من قدرها ويحد فاعليتها الحيوية وتصوراتها عن نفسها وعن العالم بالحدود التي يريدها المستعمر وهكذا يصبح المستعمَر ينفر من العمل الجدي ومن العلم ومن دعاة الفضيلة. عامل “القابلية للاستعمار” كما يشرحه بن نبي هنا هو العامل الداخلي المستجيب للعامل الخارجي، إنه رضوخ داخلي عميق لعامل الاستعمار، يرسخ الاستعمار ويجعل التخلص منه مستحيلاً. على أن القارئ لمجمل كتابات بن نبي يرى أنه لا يعتقد بحتمية ظهور القابلية للاستعمار عند كل حالة استعمارية فهو يستشهد بألمانيا واليابان اللتين وقعتا تحت الاحتلال ولم تظهر فيهما قابلية الاستعمار. ومن جهة أخرى فثمة بلاد لم يدخلها الاستعمار ولكن فيها كما يقول قابلية الاستعمار، وبهذا نرى أن بن نبي يستعمل مفهوم “القابلية للاستعمار” بمعنيين مختلفين: المعنى الأول تكون فيه هذه القابلية ناتجة عن الواقعة الاستعمارية أو بتحديد أكثر عن الرضوخ الداخلي لهذه الواقعة وتقبلها ورفض إزالتها، أما المعنى الثاني فتكون فيه “القابلية للاستعمار” مجموعة من الصفات العقلية والنفسية وما يناسبها من علاقات اجتماعية تجعل المجتمع لا يستطيع مقاومة الاستعمار وتسهل للاستعمار مهمته. المعنى الثاني هو الذي اشتهر حقيقة وهو الذي نريد التطرق إليه هنا لأنه يساء استعماله، وإذا كان بن نبي أراد منه نقد المجتمع الإسلامي وتأنيبه وتبصيره بوضعه المزري لحثه على النهوض والتخلص من عيوبه فكان بهذا ابناً شفوقاً رحيماً بهذا المجتمع ينقده بدافع الغيرة عليه، فإن كثيراً ممن يستخدمونه الآن يريدون منه الدفاع عن الاستعمار بتركيز كل اللوم على مجتمعنا وحجب الأضواء عن القوة الخارجية الهائلة التي تضغط بل تضرب بقبضة حديدية كل حركة نهضوية عند المسلمين.

ثانياً: مناقشة منطقية لمفهوم “القابلية للاستعمار”

1 نقد البنى الاجتماعية الأخلاقية للمجتمعات المستعمَرة انطلاقاً من “مبدأ الأمر الواقع” النسبي لا على أساس المعيار الأخلاقي المطلق:
لقد تحولت معايير قانون الغاب، القانون الذي سار عليه الاستعمار منذ عهد كولومبس وماجلان مروراً بجورو وكرومر وانتهاء بالمشروع الصهيوني، إلى معايير يجب علينا قبولها وعدم الاعتراض عليها انطلاقاً من معاييرنا الأخلاقية الخاصة وإلا جازفنا بجعل أنفسنا موضعاً للاستهزاء والجلد بالقول إننا قوم لا نتكلم بلغة الواقع بل بلغة المثال، لا نتكلم لغة المصالح التي تسير العصر الحديث بل لغة أخلاقية ميتة لا تصلح لغير دواوين الشعر وقصص الجدات. خوفنا من هذا الهزء يمنعنا عادة من تذكير من يجلدون الضحايا بالقول إن هؤلاء الضحايا لو لم يكونوا ضعافاً لما استطاع الاستعمار النيل منهم فالذئب يسطو على ضعاف الحيوانات ولا يجرؤ على الاقتراب من أقويائها بالحقيقة البسيطة التالية: حتى لو كان شعب معين ضعيفاً فيه ثغرات يمكن أن تسهل السيطرة عليه واستعماره فهذا ليس مبرراً للمستعمرين تماماً كما أنك إن رأيت في الشارع شخصاً ضعيفاً لم يجز لك أن تضربه لمجرد أنه ضعيف يمكنك ضربه بلا عقاب! والاحتجاج الأخلاقي على الاستعمار يبدو بالفعل أمراً غير مفيد على المدى القصير ولكن الأمر حين يتعلق بمواجهة المنظومة القيمية الوحشية المادية المتطرفة للحضارة المتغلبة بمنظومة بديلة شأن المنظومة الإسلامية، فإن هذا الاحتجاج هو سلاح فكري حاسم في المعركة الحضارية التي هي قادمة لا محالة. والانصياع لقانون الغاب الذي هو أي الانصياع السمة المميزة للفكر العربي الحديث ليس منهجنا إذا أردنا تقديم الإسلام بديلاً حضارياً شاملاً، فالإسلام لا يناصر المكيافيلية ولا يستهتر بالأخلاق في السياسة. كانت هذه سياسة منفذة ولم تكن مجرد كلام منافق كالذي نسمعه من ساسة الدول الكبرى، فوصايا النبي عليه الصلاة والسلام الفريدة من نوعها ثم خلفائه الراشدين لجيوش المسلمين بعدم الغدر وعدم الاعتداء على الأطفال والنساء والشيوخ والرهبان وعدم قطع الأشجار (وقد يعني هذا في عصرنا عدم استعمال الأسلحة التي تلوث البيئة) كانت تنفذ، واحترام العهود والمواثيق كان أمراً حقيقياً ولم يكن مجرد ألعاب تكتيكية تتحول إلى حبر على ورق بمجرد إمكانية نقضها بلا عقاب. ومن الطريف أن نجد داعية متطرفاً إلى التغريب هو الكاتب المغربي عبد الله العروي يتساءل إن لم يكن التسامح الإسلامي قد أضر بالمسلمين وسهل اختراق مجتمعهم من قبل الأجانب الذين استعملوا الطوائف غير المسلمة التي تمتعت بحرية واسعة في بلاد الإسلام كرؤوس جسر للغزو الاقتصادي والسياسي ثم العسكري! ولعل العروي لا يستطيع أن يضيف الغزو الفكري لأنه من أكثر أنصار هذا الغزو غلواً ومن أكثر دعاته تحمساً وللقارئ، أن يراجع كتابه “العرب والفكر التاريخي” ليرى مصداق ما أقول. لقد انسحب جيش المسلمين من سمرقند مرة بعد أن ثبت للقائد الأعلى المسلم أن هذا الجيش لم يخير أهل المدينة كما أمره الشرع بين الإسلام والجزية والحرب، وقد رد قائد مسلم آخر الجزية لأهل الذمة حين رأى أنه لا يستطيع في ظرفه آنذاك أن يحميهم من الأعداء، وهذه الوقائع لم تكن سذاجة كما سيسارع عبيد المنطق المادي اللاإنساني إلى القول فقد كان هؤلاء القادة ينفذون أولاً ما أمرهم الله به ويعلمون أنهم قد جاؤوا للناس ببديل عقدي حضاري شامل ولم يجيئوهم بمبدأ “إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب!” في الوضع الضعيف الحاضر للمسلمين فقط يمكن لمن يشاء السخرية من “النقد الأخلاقي” للقواعد المادية المصلحية اللامبدئية للسياسة الدولية، ولكن الحضارة الإسلامية لو كانت بالقوة المطلوبة لفرضت معاييرها ولكانت هذه المعايير من أسباب دخول الناس في دين الله ولما جرؤ الساسة في الديار غير الإسلامية على خرق قواعد الأخلاق لأن هذا الخرق سيرتد عليهم بالخسران.
2 تشبيهات فيسيولوجية: كثيراً ما يشرح المتحمسون لمبدأ “القابلية للاستعمار” بمعناه الثاني الذي يهمنا هنا نقده وإظهار حدوده المنهجية هذا المبدأ بالتشبيه التالي: إن العوامل الممرضة من جراثيم وفيروسات إلى آخره موجودة عند الجميع ولكنها لا تمرض إلا الأجسام الضعيفة. وكذلك الاستعمار ما كان ليستطيع الهيمنة لو لم يكن ضحاياه ضعفاء فاقدين للمناعة. وفي تقديري أن هذا التشبيه قيم بالفعل وهو مفيد لإلقاء الضوء على العيوب المنهجية لمبدأ “القابلية للاستعمار” كما يستعمل خطأً: أ- إن قدرة الفيروسات وغيرها من العوامل الممرضة على قهر الجسم لا تعني دوماً أن الجسم ضعيف فقد تعني مثلاً أن هذا العامل الممرض من نوع جديد لم يتعامل الجهاز المناعي معه سابقاً. إن منظومة القيم الذئبية الوحشية للمستعمرين ساهمت في قهر شعوب لم تتعود على التعامل مع هذا الانحطاط الأخلاقي. وقد سخر كولومبس من “الهنود الحمر” لعادتهم في العطاء بلا مقابل! وفي انتظار أن يتعلم الشعب المغزو قاعدة خليفتنا العظيم عمر رضي الله عنه “لست بالخب والخب لا يخدعني” أي تتعلم أن تواجه الانحطاط الأخلاقي للغزاة بكياسة وفطنة لا بسذاجة. ب- حتى لو كان ضعف جهاز المناعة سبباً لنجاح العامل الممرض في دوره التخريبي فإن هذا النجاح يدلنا على عيب في جهاز واحد فقط من أجهزة الجسم هو جهاز المناعة ولا يبرهن على أن كل الأجهزة في وضعية سيئة. ولنقل مثلاً إن القوة العقلية للإنسان قد تترافق مع عيوب جسدية وقد عاش الترمذي ببصر كليل ولكن ببصيرة عظيمة جعلته من أعظم علماء الحديث ! وربما تجد من جهة أخرى معاكسة مصارعاً يغلب بالمصارعة عالماً مفكراً ثم لا يكون ذلك مبرراً للقول إن العالم مقصر بالضرورة فليس من المطلوب من المرء أن يكون مصارعاً من كل بد. إن امتلاك الأوروبيين مثلاً للسلاح الناري جعلهم يقهرون بسهولة حضارات الإزتك والأنكا في القارة التي سميت بأمريكا على الرغم من امتلاك هذه الحضارات تجارب غنية في ميادين أخرى قد تكون أهم من السلاح الناري! ولا شك أننا مأمورون بإعداد القوة للدفاع عن حمانا ولكن هذا للضرورة وليس بحد ذاته هو الغاية وهو المبدأ الأخلاقي الموجه لحضارتنا كما هو عليه الحال في الحضارة المادية المعاصرة. ج- “القابلية للاستعمار” صفة إضافية : نقطة أخرى منطقية أرجو أن يركز القارئ عليها هي: أن واقعة القابلية للمرض “صفة إضافية” كما قد يقول المناطقة وليست “صفة جوهرية” فهي تنبئنا فقط بارتكاس الجسم على العامل الممرض ولكنها لا تخبرنا شيئاً عن الجسم بحد ذاته، ولكي نفهم هذا النقد ما علينا إلا أن نلاحظ أن فيروس الجدري مثلاً كان يصيب الملايين من الأجسام المختلفة في صفاتها فمجرد وقوع هذه الأجسام ضحية المرض لا يدلنا على أنها جوهرياً متماثلة وعلى العكس فقد تكون مختلفة عن بعضها اختلافاً كبيراً. ولو عدنا إلى “القابلية للاستعمار” لجاز لنا أن نسأل: ألا تختلف الحضارات الصينية والإسلامية وحضارات شعوب أمريكا الأصلية وحضارات إفريقيا غير الإسلامية عن بعضها اختلافاً هائلاً؟ ألا يشكل جمعنا لكل هذه الحضارات المختلفة في سلة واحدة اسمها “حضارات قابلة للاستعمار” تضليلاً منهجياً يزيل الفروق بين حضارات مختلفة كل الاختلاف؟ وقد شهدنا ردحاً من الزمن استعملت فيه تسمية “العالم الثالث” فطمست الفروق بين حضارات تقوم على أسس دينية وفكرية مختلفة وفي هذا من إعماء المسلمين عن رؤية خصوصية المجتمع الإسلامي ما فيه، ويتضمن هذا الجمع المتنافر تضليلاً للمسلمين يبعدهم عن محاولة تقديم خيارهم الخاص لإنهاء الظلم في العالم وجعلهم ينظرون إلى هذا الظلم بالمنظار المادي نفسه الذي تفرضه الحضارة المتغلبة إذ “العالم الثالث” لا يسعى إلى أكثر من التحول إلى “عالم ثانٍ” أو “أول” أي إلى النماذج الحضارية التي كانت أصلاً سبباً في مأساة البشرية. في ظلام مفهوم “القابلية للاستعمار” المساء استعماله تصبح كل القطط سوداء حسب المثل الأوروبي!

ثالثاً: مفهوم “القابلية للاستعمار” بين الصواب والخطأ:

هذا النقاش أريد منه وضع التخوم بين الحق والباطل في استعمال مفهوم “قابلية الاستعمار”:إن المفهوم بمعناه الأول عند بن نبي وهو الرضوخ الداخلي للواقعة الاستعمارية ومقاومة تغييرها واستبطان الفكرة الدونية عن الذات التي مصدرها المستعمر المتغلب والاقتناع بها هو مفهوم لا غبار عليه في رأيي، ولا يبتعد كثيراً عن مفهوم “الاستلاب”. أما المفهوم بالمعنى الثاني الذي هو قابلية المجتمع للهزيمة أمام الغزو الاستعماري فإنه مفهوم قد يكون مفيداً لشحذ الهمم وللدعوة للقوة ولكنه يجب ألا يتعدى هذا المجال ويدعي لنفسه صلاحية علمية في ميدان وصف ثقافات الكرة الأرضية والحكم عليها إذ هو مفهوم خارجي وصفة إضافية لا تدلنا على الصفات الجوهرية لهذه الثقافات ولا على الاختلافات فيما بينها، وعلى العكس قد تؤدي إساءة استخدام هذا المفهوم إلى غبن هذه الثقافات والتغطية على مزايا قيمة فيها قد تشكل يوماً ما بديلاً ستلجأ إليه شعوب الغرب بالذات بعد أن تكتشف أن الحضارة الغربية تسير بالعالم نحو الهاوية. وبالنسبة لكاتب هذه السطور تصدق هذه النتيجة بالذات على الإسلام الذي هزمت حضارته مؤقتاً لأسباب عديدة ولكن هذه الهزيمة يجب ألا تغطي على مزايا هذه الحضارة الفريدة التي هي بعون الله البديل الإنساني للحضارة المادية المتوحشة المتنكرة للأخلاق والمنكرة لوجود الروح بل إن لهذه الحضارة حتى في شكلها العليل القائم مزايا أخلاقية تدفع إلى الآن بعض أهل الحكمة في الغرب إلى الانتقال إلى الإسلام كما رأينا في أمثلة “محمد أسد” والمفكر الألماني “مراد هوفمان” وغيرهما كثير من الأسماء. معامل “القابلية للاستعمار” بمعناه الأول الذي وصفناه هو المفهوم الرئيس الذي نستخدمه في المعركة الثقافية التأصيلية ضد الثقافة المتغربة المستلبة أما المعنى الثاني لهذا المفهوم فنستعمله بحذر وضمن حدوده التي حاولنا أن نبينها في هذا المقال.

هامش: 
(1) نستشهد بطبعة الكتاب الصادرة في دمشق: مالك بن نبي “شروط النهضة” ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين دار الفكر دمشق 1979م.

المجتمع عدد 1470

Comments (0)
Add Comment