فلسفة الإصلاح الثقافي والاجتماعي في فكر مالك بن نبـي

عدد القراءات :2056

مقدمة: في مسألة التغيير والإصلاح
قد تتبادر إلى الذهن أسئلة عديدة حول سبب اختيار موضوع فلسفة الإصلاح الثقافي والاجتماعي في فكر مالك بن نبـي. ولماذا القول بضرورة الإصلاح الثقافي لتحقيق المشروع الإصلاحي التغييري في المجالات الأخرى ؟ في الحقيقة اجتمعت أسباب كثيرة دفعتني لاختيار هذا الموضوع ولعل أهمها، الوضع الثقافي والفكري الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية، وأزمة اللاوعي التي شكلت في أوساطنا المرض العضال الذي يحتاج لتكثيف الجهود من أجل القضاء عليه. لا نستطيع أن ننكر أن الاستقلال الذي نالته الشعوب الإسلامية مازال استقلالا مفرغا من كثير من المحتوى والمعنى، لأن الاستعمار مازالت جذوره ضاربة في بنيتها الثقافية والاجتمـاعية والاقتصادية والسيـاسية. صحيـح أنها تخلصت من الاستعمـار المباشـر -العسكري- ولكنها لازالت تعاني من الاستعمار غير المباشر وهو الذي ضرب سياجه على الفكر والثقافة في البلاد الإسلامية، فشخصية الفكر الإسلامي لم تكتمل بعد”ولم يظفر بعد بحقه في السيطرة على وجوه الحياة، وبقيمته الاجتماعية باعتباره وسيلة للعمل وأساسا جوهريا للنشاط”2. ومالك بن نبي يرجع هذا النوع من الاستعمار-الاستعمار الثقافي- إلى” القابلية للاستعمار” وقال في هذا الشأن:”إن هناك حركة تاريخية ينبغي ألا تغيب عن أنظارنا، وإلا غابت عنا جواهر الأشياء، فلم نر منها غير الظواهر، هذه الحركة لا تبدأ بالاستعمار بل بالقابلية له فهي التي تدعوه”3. الشعوب الإسلامية حملت في ذاتها قابلية لمثل هذا الاستعمار، وكان ذلك عندما انفتحت على الثقافات الأخرى دون تحديد زاوية لرؤية واضحة المرجعية والأهداف والوسائل، وهذا القول لا يعنى رفض الانفتاح على الثقافات والحضارات الأخرى، بل إنه مسألة ضرورية لعقد صلات مع الأمم لمعرفة تصوراتها و للتمكن من مواصلة مسيرة الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة وهدى مرجعي وثقافي وفكري…، الأمر الخطير في الانفتاح أن الشعوب الإسلامية أصبحت تنقل من الثقافات الأخرى وتقلدها بشكل رهيب بعيدا عن التحليل والنقد، وأيضا قي غياب عقلية الإبداع والتجديد. لقد كانت ظاهرة الانسياق وراء أفكار الآخرين وتقليد ثقافاتهم سببا أيضا جعلني أتناول هذا الموضوع للكشف عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة في التغيير والإصلاح من شأن كل الميادين الاجتماعية والحياتية. وقبل الخوض في هذا الموضوع لابأس من الوقوف عند معنى”التغيير”المقصود. لن أقف عند”التغيير” كمصطلح مستقل أبحث في تعريفه وفي علاقته بغيره من المصطلحات، بل سأقف عند التغيير كعملية أو كتكليف ملقى على عاتق كل مسلم ومسلمة لتحقيق خلافة وخيرية هذه الأمة انطلاقا من قوله تعالى: “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله” – سورة آل عمران،آية:110-. أمة تضمن بالصلاح والإصلاح خلودها واستمراريتها، وترى في التغيير مسألة ضرورية وغاية من غاياتها، لا التغيير ما بالذات – (ما بالنفس حسب التعبير القرآني) – فقط بل وما حولها”لأن منهج الإسلام في بناء المسلم عقيدة وسلوكا لا يرمي إلى أن يجعله صالحا في نفسه فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى أن يجعله الصالح المصلح، فيه يتحقق الوجود المتمكن للأمة المسلمة وبه ترتقي الأمة من طور الاتصاف بـ((الإسلامية)) انتسابا إلى أفق ((المسلمة)) سلوكا ووجودا. يقول الله تعالى: “والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم”- سورة التوبة،آية:71- ، ويقول عز وجل: “وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها”- سورة طه،آية:132-، ويقول جل جلاله: “ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور” – سورة الحج،آية: 40/41-. في هاته الآيات – وغيرها – يمتزج الصالح بالمصلح ليشكل المسلم الذي تقوم به الأمة المسلمة، التي لا تستقيم حركة الحياة بغير قيادتها وريادتها4. فالمسلم الذي يكتفي بصلاحه قد تكون به الأمة الإسلامية، ولكن إذا اكتفى بالصلاح دون الإصلاح، رغم وجودها فلن تقوم لها قائمة ولن تضمن الاستمرارية، ومن ثم نجد أن الإسلام حرص حرصا كبيرا على أن تكون دعوته رامية إلى الصلاح والإصلاح معا، والإصلاح بدوره لن يتحقق دون الصلاح الذاتي مصداقا لقوله تعالى: ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” – سورة الرعد، آية 11- . ويتجلى أيضا في قوله: ” يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم”. على أنه لا ينبغي أن يفهم من قوله تعالى: -عليكم أنفسكم- الزموا صلاح أنفسكم، ولا شأن لكم بفساد غيركم، لأن مثل هذا الفهم سيجعل معنى الآية مناقضا لدلالات ومعاني آيات أخرى، وإنما يجب أن تفهم في ضوء آيات أخرى وفي ضوء السنة. ولا بأس من الوقوف عند هذه الآية الكريمة وبالضبط عند قوله جل جلاله: “عليكم أنفسكم” ليتم الكشف عن مجالين يحتويهما معناها: ـ مجال علاقة المسلم بأخيه المسلم، وفي هذا المجال نجد المعنى كالتالي أن “عليكم أنفسكم” بإصلاحها وتهذيبها وتثقيفها بثقافة الدعوة إلى الله فكرا وسلوكا، وتدريبها على حسن التعليم وحسن الصبر على الدعوة وابتلائها والاحتساب لوجه الله، لتكمل خصال أنفسكم المسلمة، فإذا ما تحقق ذلك، فإنه لن يضركم من ضل عند صلاحكم، على عاتقكم تكليف آخر وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قولا وسلوكا. ـ أما المجال الآخر فهو مجال علاقة الأمة المسلمة بغيرها من الأمم، فإن المعنى: أنكم يا أيها الذين آمنوا أمة واحدة، منفصلون عن سواكم، متضامنون، متكافلون فيما بينكم، فعليكم أنفسكم، عليكم أنفسكم فزكوها، وطهروها وعليكم جماعتكم فالزموها، وراعوها، ولا عليكم أن يضل غيركم إذا أنتم اهتديتم5. إذن مسألة التغيير ضرورية لا تستقيم حياة الأمة في غيابها ، فبها تحقق الأمة وجودها وتضمن من خلالها استمراريتها. ولإشكالية تخلف التغيير في الأمة الإسلامية محوران : ـ “… المحور الأول إشكالية النهوض والتغيير، يتمثل في غياب مناهج وبرامج التجديد والتغيير والنهوض، التي تدرك سنة الله في الأنفس والآفاق أو قصورها.. ـ المحور الثاني: يتمثل فيما يمكن أن نطلق عليه”غياب فقه التنزيل” أي غياب فقه تنزيل النص على الواقع، من خلال ظروف وملابسات هذا الواقع واستطاعته لا للقبول به، وإيجاد مسوغات له، وإنما لتغييره والنهوض به والارتقاء به وتطوير استطاعاته من الحال التي هو فيها، وهذا لا يتحقق إلا بفهم الحاضر وامتلاك القدرة على وضعه في الموقع المناسب من مسيرة السيرة النبوية، والاعتبار أيضا بالمسيرة التاريخية للأمة المسلمة حيث تمنحها الرؤية القرآنية، وبيانها النبوي ، وتنزيلها على الواقع في مرحلة السيرة، الحلول المتعددة، للحالات المتعددة”6. وحتى تكون عملية التغيير عملية شاملة – كما يقول ابن نبي- لا يكفي أن يدرك أصحاب الفكرة -فكرة الثقافة التي لابد أن تسود- وحدهم ضرورة الإصلاح من الوضع الفكري والثقافي الحالي ، بل لابد من أن تدرك باقي الفئات الأخرى بطريقة أو بأخرى فكرة الإصلاح أو التغيير وتدرك أنه لابد من ّتغييرات ثورية:فإما أن نقوم نحن المسلمين بالتغيير في مجتمعاتنا، وإما طبيعة العصر تفرض علينا تغييرات من الخارج…لأن هذه هي روح العصر، فالذي يجب أن نؤكد عليه أولا وأن تتذكروه دائما: أننا إذا لم نقم نحن بثورتنا فإن التغيير سوف يأتي من الخارج ويفرض علينا فرضا”7.

في التغيير الثقافي الاجتماعي في فكر مالك بن نبـي
لقد عالج مالك بن نبي الحالة الاجتماعية للشعوب الإسلامية في سلسلته مشكلات الحضارة وركز في دراسته على عناصر ثلاثة: “عالم الأشخاص”وهو الذي يعكس علاقات المجتمع ومدى ترابط أفراده، وعليه أيضا يقوم العنصران الآخران:”عالم الأفكار” و”عالم الأشياء”، فكلما تطور مجتمع ما على أية صورة:صوب الأعلى أو صوب الأدنى، فإن هذا التطور سجل كما وكيفا في شبكة علاقاته”8. وهاته العلاقات طبعا يعكسها الأشخاص، أما إذا تفككت هذه الشبكة فما ذلك إلا إيذانا بنهاية المجتمع وحينئذ لا يبقى منه إلا ذكرى مدفونة في كتب التاريخ، وعديدة هي المجتمعات التي عرفت التحلل والفوضى الاجتماعية، وما أصابها هذا التحلل إلا عندما انتشر المرض في جسدها الاجتماعي، ولعل هذا التحلل يكمن في شبكة العلاقات ، فالمجتمع قد”يبدو في ظاهره ميسورا ناميا، بينما شبكات علاقاته مريضة ويتجلى هذا المرض الاجتماعي بين الأفراد”9. فما هو سبب داء شبكة العلاقات الاجتماعية؟

تأملات في العوالم الثلاثة: الأفكار والأشخاص والأشياء
عندما تتفشى في المجتمع ظاهرة الانفصال بين الأفراد، ويحاول كل إنسان العمل أو التفكير أو التخطيط بمفرده، حينها يمكن أن نعلم سبب الداء: استيلاء”الأنا”وتحكمها في الفرد، وبالتالي تغييب الروح الجماعية التي كانت سائدة في فترة من الفترات في الشعوب الإسلامية والتي كانت أساس كل نشاط أو عمل، وبغياب الروح الجماعية تفسد العلاقات الاجتماعية،”والعلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات بالتضخم، فيصبح العمل الجماعي المشترك صعبا أو مستحيلا، إذ يدور النقاش حينئذ لا لإيجاد حلول المشكلات، بل للعثور على أدلة وبراهين”10. وعقدة”الأنا”أصبحت سيطرتها تفوق كل عقدة، واكتسحت كل المجالات لا المجال الاجتماعي وحده، فنحن حين نقوم بدراسة أمراض مجتمع معين، من مختلف جوانبه الاقتصادية والسياسية…فإننا في الواقع ندرس”أمراض”الأنا” في هذا المجتمع وهي الأمراض التي تتجلى في لا فاعلية شبكته الاجتماعية”11. وإذا ما أرجعنا هذا للاعتبار النفسي، فإن حكمنا سيكون على ظواهر الأشياء لا على جواهرها، لأن هذه العقدة تسببت في فساد مجتمعات عديدة،”وكل علاقة فاسدة بين الأفراد تولد فيما بينهم عقدا كفيلة بأن تحبط أعمالهم الجماعية، إما بتصعيبها أو باستحالتها”12. جدلية العوالم الثلاثة وعندما نتحدث عن فساد العلاقات الاجتماعية فإنا نقصد بالدرجة الأولى فساد “عالم الأشخاص”وطبيعي أن يتأثر “عالم الأفكار” و” عالم الأشياء” بفساد” عالم الأشخاص”، وبالتالي السقوط يلحق بالمستوى الاجتماعي ينتج عنه سقوط “عالم الأفكار”، أو المستوى الفكري، وإن كان في الحقيقة سقوط الثاني، في الغالب ينجم عنه سقوط الأول، ويلحق السقوط أيضا بعالم الأشياء، باعتبار تلك العوالم الثلاثة كل لا يتجزأ، ولأن”غنى المجتمع لا يقاس بما يتملك من أشياء بل بمقدار ما فيه من أفكار”13. قد يتعرض مجتمع ما لكارثة طبيعية مثلا تذهب بعالم أشيائه، ولا ينقذ منها إلا النزر القليل أو لا شيء، فيجد نفسه أمام أزمة تجتاح “عالم الأشياء”، وهو مضطر للعمل من أجل إقامة أسس هذا العالم من جديد،ولكن الأزمة ستكون أمر وأعظم وقعا، بل إنذارا بالخراب المستمر إذا فقد هذا المجتمع” عالم أفكاره”، لأنه على الأقل إن حافظ على هذا الأخير، سيتمكن من إقامة صرح عالم الأشياء من جديد. وفي مقابل أهمية “عالم الأفكار” بالنسبة لقيام” عالم الأشياء”نجد أن عالم الأفكار لا يمنع حدوث الهزيمة والاضطراب في مجتمع ما، إذا ما افتقر لشبكة العلاقات الاجتماعية، والتي تقوم على عالم الأشخاص لأن ” فاعلية الأفكار” تخضع لشبكة العلاقات،-أي لا يمكن أن نتصور عملا متجانسا بين الأشخاص والأفكار والأشياء دون هذه العلاقات الضرورية،وكلما كانت شبكة العلاقات أوثق، كان العمل مؤثرا14، لأن هذه العلاقات الخاصة بعالم “الأشخاص” هي التي تقدم الروابط الضرورية بين الأفكار والأشياء في نطاق النشاط المشترك الذي يقوم به مجتمع ما15. ومن خلال الحديث عن هذه العلاقات الخاصة بعالم الأشياء يمكن القول:إن”أي مرحلة من مراحل النمو الاجتماعي متميزة بغلبة عنصر ثقافي محدد. ومن هنا يمكن أن نسجل النقطة الأولى التي تكشف لنا علاقة ما هو اجتماعي بما هو ثقافي، والدور الذي تقوم به الثقافة في توجيه الجماعات الإنسانية، على أن كل جماعة إنسانية تخضع لثقافة معينة تختلف عن ثقافات الجماعات الأخرى، ومالك بن نبي يعتبر جميع العلاقات السائدة بين الناس، علاقات ثقافية، أي أنها خاضعة لأصول ثقافة معينة، ويلخص هذا الأمر بقوله:”إن الثقافة هي المحيط الذي يصوغ كيان الفرد…”16.

قيام العلاقات الاجتماعية على أساس أخلاقي
إن مشكلة مجتمعاتنا الإسلامية والتي تعد سببا من أسباب الفوضى في مختلف المجالات تكمن في كون الفرد المسلم أصبح عاجزا عن الجمع بين العمل والتفكير في الوقت ذاته، أو أن يربط بين جهده الفكري وجهده العملي، وهذا العجز أو النقص” كما يتجلى في الإطار العام/النشاط الاجتماعي، يتجلى أيضا في الإطار الخاص أي في النشاط الفردي، فالفكرة الإصلاحية، مثلا، تستهدف إصلاح الفرد، ولكننا لا نشم مطلقا رائحة مصلح تتطلب معه الأمور أن يوجد ناطق بفكرة الإصلاح، أي حيث موضوع الإصلاح نفسه في المقاهي، وفي الأسواق، وفي كل مكان تنكشف فيه العيوب الاجتماعية التي يدعو إلى إصلاحها”17. وهذا العجز عن الجمع بين التفكير والعمل، الناتج عن الخلط بين جواهر الظواهر وأشكالها، “والذي طبع الحركة الفكرية نشأ عن سبب عضوي”(وهذا العجز العضوي)”تذكيه دائما ضروب من الشلل، أصابت النواحي الخلقية والاجتماعية والعقلية جميعا، وأخطر هذه النواحي هو الشلل الأخلاقي، إذ هو يستلزم أحيانا النوعين الآخرين، ومصدر هذا البلاء معروف، فمن المسلم به الذي لا يتنازع فيه اثنان أن الإسلام دين كامل، بيد أن القضية قد أدت في ضمير ما بعد الموحدين إلى قضية أخرى هي: (نحن مسلمون) .. (إذن نحن كاملون)”18. والشلل الخلقي يعد السبب الرئيسي في تأخر المجتمع وتخلفه”يعجز المجتمع فيجعله غير قادر على زيادة جهده الضروري بنهوضه، وما الشلل الفكري إلا نتيجة من نتائجه: فالكف عن التكامل الخلقي ينتج حتما كفا عن تعديل شرائط الحياة، وعن التفكير في هذا التعديل”19. فالشلل الأخلاقي الذي تعاني منه الأمة الإسلامية أصابها عندما تخلت عن مبادئها ومناهجها الذاتية في الترقية والتوجيه، وشدت الرحال للطرف الآخر لتستورد منه المناهج والمبادئ والقيم التي تفتقر لذلك الأساس الرباني الذي كان طوال الفترات السابقة لهذه الأمة السر الخفي الكامن وراء انتصاراتها، والذي تخلت عنه عندما ساد الجمود أركانها ولجأت إلى التقليد و”التقليد الخلقي يقتضي-لا محالة- التخلي عن الجهد الفكري أي عن (الاجتهاد) الذي كان الوجهة الأساسية للفكر الإسلامي في عصره الذهبي”، وبالتخلي عن الاجتهاد:”يتجمد الفكر ويتحجر في عالم لم يعد يفكر في شيء لأن تفكيره لم يعد يحتوي صورة الهم الاجتماعي”20. إذن، لكي تؤدي تلك العوالم الثلاثة دورها في إقامة شبكة العلاقات الاجتماعية لا بد لها من ضابط يوجهها وهو: الضابط الأخلاقي، فكما أن هذه العلاقات تقوم على أساس عالم الأشخاص و الأفكار(الثقافة)، والأشياء فإنها أيضا تحتاج إلى مكون آخر هو المكون الأخلاقي، لهذا يؤكد مالك بن نبي على أمرين: “1ـ أن مجتمعا معينا لا يمكن أن يؤدي نشاطه المشترك دون أن توجد فيه شبكة العلاقات التي تؤلف عناصره المختلفة، النفسية و الزمنية. 2 ـ وإن كل علاقة في جوهرها قيمة ثقافية يمثلها القانون الخلقي، والدستور الجمالي الخاص، بالمجتمع”21. وإذا نظرنا إلى الوضع الاجتماعي الذي تعيشه الأمة الإسلامية،سواء من حيث علاقته بالثقافة أو بالسياسة أو بالاقتصاد، لا يمكن أن نقول إلا : لابد من دراسة هذا الواقع المتعفن الذي يعكس أفكارنا وقيمنا الخاطئة والمزيفة، واستبداله بواقع آخر نظيف، وهذا الاستبدال أو التغيير عنصره الأساسي: الفرد:”أي أن التغيير النفسي هو الذي يستهل حياة المجتمع، وهو أيضا الشرط النفسي في كل تغيير اجتماعي”22، وهو أيضا: “الشرط الأساسي لتغيير أوضاعنا المتخلفة، فلقد أثبت التاريخ صحة هذا القانون: (غير نفسك تغير التاريخ) أو بالتعبير القرآني الرائع: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”(سورة الرعد:آية:11). “لا يغير ما بهم من انحطاط وتخلف حتى يغيروا ما بأنفسهم من أفكار خاطئة، ولكن في أي اتجاه؟، في اتجاه تحويل الواقع من واقع متخلف إلى واقع متحضر، عن طريق تحويل الإنسان، من إنسان متخلف إلى إنسان متحضر”23 يتفاعل مع الفكرة الدينية، ومن المعلوم أن أعظم التغيرات وأعمقها في النفس قد وقعت في مراحل التاريخ مع ازدهار الفكرة الدينية24. لذلك وجبت الإشارة إلى أهمية الفكرة الدينية ودورها في التغيير الذي تحدثه في الفرد، وبالتالي في المجتمع، لنصل بعد هذه الإشارة إلى ضرورة الانطلاق-لتحقيق أي عمل،ثقافيا كان أم سياسيا أم اقتصاديا…- من الفكرة الدينية.

لماذا الفكرة الدينية؟
إن العمل الثقافي أو الاجتماعي على سبيل المثال إذا تم، سيعكس لا محالة تصورا دينيا بعينه، لهذا لابد أن نستحضر- نحن المسلمين- الفكرة الإسلامية أثناء قيامنا بعملية التغيير، ذلك لأن: “الفكرة الدينية تحدث تغييرها حتى في سمت الفرد ومظاهره حين تغير من نفسه، وبذلك يكون لمنهج التربية الاجتماعية أثره في تجميل ملامح الفرد، أي أن مجموعة من الانعكاسات تؤدي إلى خلق صورة جديدة، كأنها تتمثل في وجه جديد”25. واقتران الحياة الاجتماعية بالفكرة الدينية كبير لدرجة أنه إذا تم التخلي عن هذه الفكرة، وعن القيم الأخلاقية التي تحملها، أصيبت الأمة بالدمار، والسبب في هذا راجع للأشخاص، لأنه لا يعقل أن يلحق الخراب بأمة وأهلها متشبثون بهذه الفكرة “وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون”(سورة هود،آية:117)، وما كان الله عز وجل ليظلم عباده “فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون” (سورة العنكبوت،آية 39)،ولهذا إذا أردنا التغيير من الوضع الاجتماعي انطلاقا من دائرتنا الفكرية والثقافية، ينبغي أن ندرك أولا أن الخلل الاجتماعي الذي نعيشه ليس خللا فرديا،بل هو خلل وفساد اجتماعي بالدرجة الأولى”بمعنى أنه إن كانت المفاسد الاعتقادية والعملية إنما توجد متفرقة في الأفراد وكان مستوى الأمة الديني والخلقي رفيعا من حيث المجموع بحيث يحجب مساوئ الأفراد، فمهما يكن من فساد سيرة الأفراد تظل الأمة من حيث المجموع محتفظة بكيانها ولا تحل بها فتنة عامة تجر عليها الهلاك بأكملها”26، ومن تم حين نقرأ قوله تعالى: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما أنفسهم” (سورة الرعد،آية:11)، لا ينبغي أن نفهم أن التغيير مقتصر على الفرد فقط، بل هو تغيير القـوم -المجتمع- لما بهم، حتى يتحقق تغيير الله لهم، والتغيير يبدأ من نقطة أساسية:الأخلاق، لأن التعاليم الأخلاقية هي التي تضعنا على طريق الحضارة، وهي التي تعلمنا فن التعامل مع الغير. و يخلص مالك بن نبي إلى فكرة تجعلنا نجيب عما إذا كانت هناك علاقة بين ما هو اجتماعي وبين ما هو ثقافي، وذلك من خلال حديثه عن فعالية عالم الأشخاص وضرورة تآلف الأفكار والأشياء في تركيب معين لتتحول إلى عناصر ثقافية”فعالم الأشخاص لا يمكن أن يكون ذا نشاط اجتماعي فعال إلا إذا نظم وتحول إلى تركيب”27. بمعنى أن الفرد خارج هذا التركيب الاجتماعي سيكون منعزلا عن كل ما يدفعه للتفاعل مع ما يحيط به من أفكار وأشياء وثقافات لأن”الفرد المنعزل لا يمكن أن يستقبل الثقافة، ولا أن يرسل إشعاعها”. هذا فيما يتعلق بالتركيب الذي لابد لعالم الأشخاص أن يخضع له، أما فيما يتعلق بعالم الأفكار وعالم الأشياء فيقول مالك بن نبي”فإذا ما اتجهنا إلى المجال الاجتماعي وجدنا أن الأفكار والأشياء لا يمكن أن تتحول إلى عناصر ثقافية إلا إذا تآلفت أجزاؤها، فأصبحت (تركيبا)، فليس للشيء المنعزل أو الفكرة المنعزلة معنى أبدا”28. وارتباط ما هو ثقافي بما هو اجتماعي يتجلى أيضا في الفرق الذي قدمه مالك بن نبي بين العلم والثقافة، وكيف أن الثقافة منبعها الحياة الاجتماعية، وكيف أنها تخلق بيننا علاقات اجتماعية: “فليست الثقافة سوى تعلم الحضارة -أي- استخدام جميع ملكاتنا الضميرية والعقلية في عالم الأشخاص، وليس العلم سوى بعض نتائج الحضارة، أي أنه مجرد جهد تبذله عقولنا حين تستخدم في عالم الأشياء. فالأولى تحركنا وتقحمنا كلية في موضوعها، وأما الثاني فإنه يقحمنا في مجاله جزئيا، والأولى تخلق علاقات بيننا وبين النظام الإنساني، والآخر يخلق علاقات بيننا وبين نظام الأشياء”29. وعلى هذا، الخطوة التي تلحق تغيير القوم من أخلاقهم- وحتى نحقق علاقات اجتماعية على أسس صحيحة- هي العمل على التغيير من الثقافة المتداولة حاليا، حتى تصبح ثقافة بانية، لها دور فعال في إعادة بناء شبكة العلاقات الاجتماعية القادرة من خلال”عالم الأشخاص”القيام بـ”عالم الأفكار” و “عالم الأشياء”، وأن نعمل أيضا على تعليم الإنسان المسلم”فن الحياة”مع غيره، لأنه ليس مهما أن نعلمه كتابة شيء جميل أو قول شيء جميل وهو جاهل بفن التعامل”أو التعايش مع غيره، ومالك بن نبي يطلق على هذا “الفن” –فن الحياة-وأسماه أيضا بـ”التحضر”يطلق عليه اسم “ثقافة” وإن كان معناها قد عرف تحريفا وتشويها. فالثقافة تحتوي على “الأخلاق، والجمال، والمنطق، والصناعة الفنية”ولكن الإشكال لا يكمن فيما تحتويه الثقافة، وإنما يكمن في كيفية استيعاب هذه المحتويات، وعلى حد قول ابن نبي:”كيف ينبغي أن ندركها-هذه المحتويات- في صورة برنامج تربوي يصلح لتغيير الإنسان الذي لم يتحضر بعد، في ظروف نفسية وزمنية معينة، أو لإبقاء الإنسان المتحضر في مستوى وظيفته الاجتماعية وفي مستوى أهداف الإنسانية “30. إن الذي ينقصنا إذن، ليس محتويات الثقافة ولا وسائل نشرها أو اكتسابها، وإنما الذي نفتقر إليه هو المنهجية والتخطيط أو ما سماه جودت سعيد في كتابه “الإنسان حين يكون كلا وحين يكون عدلا” ب”الفاعلية”أي القدرة على العطاء والخلق والإبداع لأنه”في الحقيقة، الإنسان حين يفقد شيئا يبذل من أجله نفسه يفقد معه أساس الفاعلية ويغرق في أساس الكلالة والوهن ، سواء كان هذا الذي يبذل نفسه من أجله حقيقة يستحق ذلك أو لا يستحق، إذ المهم أن تحدث له القناعة في أنه يستحق”31. وهذا هو فعلا ما يعيشه المجتمع الإسلامي، فعندما فقد الأساس الديني الذي كان وراء تركيب وتوجيه شبكة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد الذين كانوا يبذلون أرواحهم بأموالهم من أجله ومن أجل استمراره وبالتالي استمرار هذه الشبكة على أسس سليمة، فقدوا فعاليتهم واستسلموا للكلالة والوهن: “قال زياد بن لبيد: “ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا فقال: وذاك عند ذهاب العلم، فقلنا: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم؟ ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم، فقال: ثكلتك أمك يا ابن لبيد إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء”32. في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيه إلى تحول المجتمع إلى حالة من العجز والوهن والكلل بحيث لا يعود يستفيد من الوسائل التي بين يديه في تحصيل نتائج أحسن في مجال الإصلاح، وهو ناتج عن الحالة النفسية والفكرية التي يعيشها الإنسان الكل (بفتح الكاف وتشديد اللام). هذا النوع من الأفراد “أينما وجهته لا يأتي بخير” لا لأن الخير غير موجود، ولكن وضعه هو الذي لا يسمح أو يعجزه أن يأتي بأي خير، فأزمة الأمة الإسلامية فيما يتعلق بحياتها الاجتماعية ليست أزمة مادة أو أجهزة أو … وإنما هي أزمة بشرية، لا لقلة البشر بل هم كثيرون ولكن”غثاء كغثاء السيل”لا يقدمون ولا يؤخرون، فقدوا الفعالية وقوة الدفع وذلك عندما أزاحوا عن طريقهم ما أسماه مالك بن نبي بالفكرة الدينية، أو جعلوها مجرد “كمون داخلي” عندهم، بمعنى أنهم أحدثوا الفصل بين الفكرة الدينية وبين مسيرتهم الحضارية. إذن، لقد ركز مالك بن نبي على الفكرة الدينية “وربط بينها وبين جميع أوجه النشاط الحضاري، وبذلك أحال النزعة الدينية من مجرد كمون داخلي عند الإنسان، إلى حركة حية في العالم المنظور، حيث ترتبط بها وتنطلق منها كل دروب النشاط الحضاري، وبذلك يجسد لنا مالك بن نبي حقيقة العلاقة بين الدين والنشاط الحضاري -بمعنى آخر- إنه يبرهن على الرابطة الموجودة بين نوازع الفرد الداخلية من جهة، وبين الوسط المجتمعي من جهة أخرى، ساعيا إلى صياغة جديدة لمشكلات المسلم المعاصر بوصفها قضية حضارة أولا وقبل كل شيء”33. ونعود إلى أمر آخر-سبقت الإشارة إليه-و يتعلق بجمود الفكر أو العقل المسلم، فتجمد الفكر يتسبب في تراجع كل المجالات الحيوية في المجتمع، وبالتالي “إذا ظل هذا الفكر متبطلا منعدم التأثير بقي النشاط حركة فوضى، وتزاحما يبعث على الضحك والرثاء، وليس هذا سوى شكل من أشكال الشلل الاجتماعي”34. لهذا علينا العمل على التأكيد على أن أي نشاط لا يمكن أن يتم بمعزل عن الفكر. “فلكل نشاط عملي علاقة بالفكر، فمتى انعدمت هذه العلاقة عمي النشاط واضطرب، وأصبح جهدا بلا دافع، وكذلك الأمر حين يصاب الفكر أو ينعدم، فإن النشاط يصبح مختلا أو مستحيلا، وعندئذ يكون تقديرنا للأشياء تقديرا ذاتيا هو في عرف الحقيقة خيانة لطبيعتها، وغمط لأهميتها، سواء كان غلوا في تقويمها أو حطا من قيمتها”35. وهذان الشكلان من أشكال الخيانة يتمثلان في العالم الإسلامي الحديث في صورة نوعين من (الذهان): ـ فإما أن يتمثل في صورة النظر إلى الأشياء على أنها (سهلة)، وهو قائد ولاشك إلى نشاط أعمى (كما هو الحال في قضية فلسطين). ـ وإما أن يأخذ صورة النظر إليها على أنها (مستحيلة)، فيصاب النشاط بالشلل وهو ما يحدث غالبا في شمال إفريقيا”36. فمالك بن نبي تحدث عن نوعين من الذهان: *إما تسهيل الأمور إلى درجة الاستهانة بها. *وإما تصعيبها إلى درجة الاستحالة. وكلا النوعين يشكل الهوة التي سقطت فيها الأمة الإسلامية، وهـذا الذهـان قام -سواء في الجزائر أو في بلدان شمال إفريقيا، أو في بلدان العالم ككل كما أورد مالك بن نبي – على ثلاث قواعد: القاعدة الأولى: (الجهل) :”لسنا قادرين على فعل شيء لأننا جاهلون، والجهل أثر من آثار الاستعمار…ولكن ماذا تفعل الدوائر المثقفة في بلادنا؟ماذا تفعل بثقافتها وهي السلاح الأساسي العاجل ضد العامة. لقد شهدنا بأعيننا المثقفين الإسرائيليين إبان الاحتلال الألماني يهتمون بأبناء جلدتهم، شأن كل فئة متعلمة تستخدم معرفتها فيما ينفع شعبها، حدث هذا على الرغم من عنت المراقبة التي كانت مضروبة عليهم”37. ولكن في مقابل هذا النشاط الذي كانت تقوم به إسرائيل من أجل دعم أبنائها ثقافيا وفكريا متحدية كل ألوان المراقبة التي كانت مفروضة عليها، نجد أن مثقفي الأمة الإسلامية وهم الفئة القليلة لم يسعوا بجهد كبير إلى التغيير، وحتى عندما يبذلون الجهد في أغلب الأحيان ينقسمون إلى قسمين أو ثلاثة: *القسم الأول: وهو غالب لحد الآن، ويتمثل في تلك الفئة المتغربة ثقافيا وفكريا، سواء تلقنت تلك الثقافات الغربية داخل مجتمعاتها بطريقة أو بأخرى، أو تلقتها في المجتمعات الغربية، والغرض: ضمان استمرارية الاستعمار غير المباشر للأمة الإسلامية بتسرب الأفكار القاتلة. *القسم الثاني: وهو الذي يحمل لواء التغيير تحت ضوء المنهاج الرباني السليم، والذي لازال يعاني من الملاحقة والمصادرة، ومنعت عنه الأموال والمراكز والإعلام بالدرجة الأولى، ولكن يبقى لهذا القسم مسؤولية عليه أداؤها رغم كل الصعوبات ليخرج بالأمة الإسلامية من العدم الذي وقعت فيه نتيجة الحرب التي شنها القسم الأول-ومن دعمه- على هويته الثقافية والحضارية-عن وعي أو غير وعي-، ومسؤولية القسم الثاني تتجلى في تكريس الجهود والعمل على توعية الطبقة الاجتماعية وربط الصلة الوثيقة بها، لأنها هي الركيزة لتحقيق النهوض، وهي التي تشكل السواد الأعظم لهاته الأمة، وإن كانت قد انفصلت عن النخبة المثقفة بشكليها الأول والثاني، المتغرب والإسلامي، وبالتالي الخروج من إطار النخبوية إلى إطار العامة، وهذا ما صنعته إسرائيل إبان الحضر الألماني عليها حين كثفت الجهود لتوعية أبنائها بالقضية “الأم” :”ضرورة القيام بنهضة ليقوم معها الكيان الإسرائيلي” وهو ما نلاحظ ونلمس نتائجه اليوم. فالقسم الثاني -الرباني إن صح التعبير- عليه أن يخرج بالبلاد الإسلامية من هذا العدم”لأن مضاعفة العدم لا تؤتي غير العدم، فإن كان الرجل المتعلم نفسه عديم التأثير، وإذا لم يكن لتعليمه أثر اجتماعي، فإن أسطورة(الجهل) تصبح خطرة، إذ هي تحجب خلف مشكلة الإنسان الأمي مشكلة أعمق لإنسان ما بعد الموحدين جاهلا كان أم متعلما” * القسم الثالث: وهو ذلك القسم الذي يعيش بلا مبادئ يرحب بكل الثقافات خاصة ما يعرف بـ “ثقافة الترفيه”، مفتوح على الصالح والطالح، يتقبل كل ما يفد عليه دون معارضة ولا نقد ولا تحليل،وهذا القسم بالذات هو الذي أصبحت تتجه إليه الأنظار الغربية واليهودية،لم يعد هم هذه الأطراف أن تحشر أذهان الأفراد في البلاد الإسلامية بمبادئها وثقافتها وأفكارها، بقدر ما أصبح شغلها الشاغل أن تجعل هذه النخبة في شغل عن كل ما يجري حولها، في شغل عن النظر والنقد والتحليل وحمل مبادئ وقيم تؤسس للنهوض الحضاري.

الأساطير المؤسسة لتخلف الحراك الاجتماعي والثقافي
أ/ أسطورة الجهل: الأمية مشكلة اجتماعية وثقافية في البداية وقبل الخوض في الحديث عن الأمية، وضرورة كيفية تجاوزها نقف عند هذا التعريف الموجز للأمية، والذي قدمه عالم المستقبليات الدكتور المهدي المنجرة في حوار له مع مجلة” رسالة الأسرة” المغربية حيث يشير الدكتور في بداية حديثه إلى أن الأمية ظاهرة اجتماعية ليس فقط في العالم الإسلامي بل في العالم بأسره، وفي تاريخ الإنسانية، يقول المهدي المنجرة”إذا بدأنا بالشمال أو الجزء من العالم الذي يعتبر مصنعا، نجد مثلا أن كلمة”أمي”يعني(analphabète) في اللغة الفرنسية حسب القاموس الكبير (le Grand Rober)، استعملت لأول مرة في سنة 1852م أي في الجزء الثاني من القرن 19، وهي كلمة تهم أو تطلق على الأشخاص، بمعنى أن الغرب انتظر حتى الجزء الثاني من القرن 19، أي بعد التطورات التي حدثت مع الثورة الصناعية، كي يدخل معيار القراءة أو عدم القراءة في سلم القيم الاجتماعي. هذا فيما يخص الفرد، أما كمعيار للتطور الاجتماعي بالمفهوم الشمولي داخل البلاد كلها، فإننا ننتقل من مفهوم:”الأمي” على المستوى الفردي إلى مفهوم “الأمية”كظاهرة اجتماعية. وحسب نفس المرجع-القاموس الكبير-نجد أن عبارة(analphabétisme) أي”ظاهرة الأمية”لم تظهر إلا في سنة 1922. وإذا رجعنا للإحصائيات نجد أن الأمية كانت مرتفعة جدا داخل العالم المتقدم الآن، حتى الثلاثينات من هذا القرن”38. أما فيما يخص دلالة هذه الكلمة”أمية”عند المسلمين والتي كان الناس يطلقونها على النبي صلى الله عليه وسلم “النبي الأمي”فلكي نفهمها “يجب أن نعود إلى المجتمع الجاهلي في الجزيرة العربية، حيث كان هناك أهل الكتاب وآخرون ليس لهم مرجع ، أي ليس لهم كتاب، وهذا هو مفهوم”الأمي”فكل من لم يكن له”كتاب”أو كتابة، يعتبر أميا، ومن هنا لقب النبي “بالنبي الأمي” فهذا مصطلح اجتماعي جاء ليميز العرب -الذين لم يكن لهم كتاب- عن غيرهم من أهل الكتاب. ولكن مع تطور الوقت دخلت هذه الكلمة-أي الأمية-بمعنى عدم القدرة على القراءة والكتابة في اللغة العربية وبقيت متداولة بيننا ولكنها في رأيي ضارة لنا”39. ومالك بن نبي يميز بين نوعين من الأمية: “1ـ أمية المتعلمين: وهي أخطر من أمية الجاهلين بالقراءة والكتابة، ففي هذا النوع يتم اختزال وظيفة العلم في تحقيق المكاسب الذاتية بدل الإسهام في بناء المجتمع، وهذا ما يطلق عليه اسم”الأمية الحضارية”، والأمي الحضاري هو الشخص الذي يصفه مالك بن نبي بكونه”الصبي المزمن الذي يظل قاصرا عن المساهمة في بناء شبكة العلاقات الاجتماعية”40. ويتحدث مالك بن نبي في مذكراته عن هذه الفئة فيقول: إنها عاجزة عن إدراك لغة الشعب؟وربما يعجب هنا أولئك المثقفون الذين أصبحوا لا يدركون لغة الشعب الجزائري المسلم، إنني لا أكتب هذه المذكرات من أجلهم، ولكن للشعب عندما يستطيع قراءة تاريخه الصحيح، أي عندما تنقضي تلك الخرافات التي تعرض أحيانا أفلاما كاذبة، والتي سيكون مصيرها في صندوق المهملات مع مخلفات العهد الاستعماري”41. فهو يقصد طبقة خاصة من المتعلمين ومن المثقفين التي انفصلت عن الشبكة الاجتماعية وانقطع اتصالها بالشعب الجزائري، وهذه الطبقة لم يكن أمرها شائعا في الجزائر فحسب، بل كانت ولازالت ظاهرة تجتاح البلدان الإسلامية جمعاء: طبقة متعلمة تجهل أسلوب الخطاب والاتصال بشعوبها. ولهذا الانعزال أسباب أهمها”أن البعض – من المتعلمين والنخبة- من أبناء الأمة ينظر إلى رجل الشارع على أنه قاصر ينبغي ألا يخاطب خطابا فكريا أو ثقافيا، لأنه دون مستوى ذلك – في نظرهم- وأنه لا يدرك إلا أنواعا محددة من الخطاب لا يتقنها المفكرون والمثقفون، وبعض الفئات اختزلت واقتصرت في خطابها على الشعار فقط، أو ما يشبه الشعارات من ألوان الخطاب مما زاد في هبوط مستوى رجل الشارع فكريا وثقافيا في بلاد المسلمين كافة، وسادت الأمية الصريحة أو المشوبة بشيء من المعرفة، وشاع الدجل والخرافة والشعوذة بكل أنواعها، وتلك بعض آثار فتنة التقليد، وإيقاف الاجتهاد وتعطيل العقول…”42. والخلل أيضا قد يكون كامنا في الطبقة الشعبية التي لا تدافع عن حقها في ضرورة توفر خطاب تفهمه وتساهم من خلاله في التغيير، ولكنه بالدرجة الأولى كامن في النخبة المثقفة التي تجاهلت هذه الطبقة ، خاصة وأننا أصبحنا نلمح ظاهرة تعاود الظهور من جديد في البلاد الإسلامية، وقد كانت شائعة في فترة من فترات الإنسانية: احتكار الغني لكل وسائل العيش والتحضر ومنها وسائل التعليم والتثقيف. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تفريط العامة في هذا الحق والنظر إلى الفكر والثقافة بازدراء، فقد “شاع لدى العامة وأنصاف المتعلمين ازدراء الفكر، والهزء بالثقافة والتقليل من شأنها، والنظر إلى الفكر والثقافة على أنها نوع من الترف من حق الأغنياء المترفين أن يمارسوه،… أما الكادحون فلا يجدر بهم ذلك ولا يليق، وإذا حاول منهم أحد فلا يجد خطابا موجها إليه مفهوما عنده، لأنهم تجاوزوه في خطابهم وأسقطوه من حسابهم، وبذلك حصل الفصام بين القيادة الفكرية والقاعدة الشعبية”43. والقضاء على هذه الظاهرة -وجود مثقفين أو متعلمين أميين- “لا يتم بزيادة المدارس وإنما بتحويل التعليم والثقافة من عمليات معرفية ذات أهداف تكديسية أو مكسبية، إلى عمليات تصنع المتعلم الفعال الذي يشكل الطليعة الحية في إحداث التغيير”44، لأن أزمتنا ليست أزمة وسائل ومراكز ومدارس، وإنما هي أزمة توجيه وتخطيط، أو بصيغة أخرى أشمل: هي أزمة فكر، مما أدى إلى أزمة في الخطاب وبالتالي العجز عن التبليغ: تبليغ الفئة المثقفة رسالة الحضارة إلى الجماهير، والعجز أيضا عن المساهمة الثقافية الجماهيرية:”التي شرعت لها الخطبة -خطبة الجمعة- ودروس المساجد والمناسبات الإسلامية جميعا…”وغيرها من الوسائل التي كان من المفروض أن تقوم بعملية التفاعل الاجتماعي، لو أحسن التعامل معها، ولكن تعطيل العقول وتحريم النظر والتدبر والاجتهاد أصاب منهج الخطاب نفسه، وأدى إلى هذه الأمية الجماعية في الوقت الذي كانت الجماهير هي المادة الأولى للتغيير ومحل التثقيف والخطاب اليومي في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة، وكانت محاضرات التثقيف الشعبي للعمال والفلاحين ومحاولة تقديم المناعة ضد الاتجاهات الفكرية التي تعدهم بمعالجة مشكلاتهم ورفع معاناتهم ثم تفصلهم عن دينهم وتراثهم وتاريخهم”45. هذا فيما يخص أمية المتعلمين أما فيما يتعلق بالنوع الثاني الذي أشار إليه مالك بن نبي فيتمثل في: 2 – أمية الجهل بالقراءة والكتابة: ومالك بن نبي يحمل الجميع في البلاد الإسلامية مسؤولية محو الأمية، وحاول أن يضع برنامجا لتنفيذ هذه العملية والتقليص من نسبة الأمية، وقد وصف البرنامج الذي اتبعه بأنه لا ينبغي أن ينحصر في تلقين المعلومات “بل تكوين شخصية ذات أبعاد ربما تكونها طفرة واحدة أو بعض الهزات النفسية”، وحتى يتم تطبيقه اعتمد مالك بن نبي على مادتين: ـ مادة الحساب والتي:”كان يستخدم فيها طريقة إملاء الأعداد بشكل ينتقل معه التلميذ من عدد لآخر أكبر منه ثم أكبر فأكبر حتى ينتج عنده إحساس باللانهائية تلقائيا، يقول مالك بن نبي في ذلك:” بعد ثلاثة أو أربع حلقات أصبح هؤلاء الذين لم يكونوا يعرفون كتابة العشرة الأولى، يستطيعون كتابة ما شاءوا من البليونات والتريليونات بلا أي تردد، فاقتصد التلاميذ بهذه الطريقة المتبعة شهرا من التمرين و عاشوا أثناء تمرينهم المختصر لحظات منعشة كنت أتصورها في نفوسهم خلال خطواتهم الجادة نحو:”اللانهائية”وأثناء هذه الخطوات ذاتها بدأوا يتعرفون على العمليات الأربع وعلى تطبيقها مباشرة في حل مسائل حسابية”46. هذا فيما يخص مادة الحساب، وقد اعتمد أخرى هي: ـ الجغرافيا:”كان مالك بن نبي يبدأ معه بالسؤال: من أين أنت فيجيب الأمي عن اسم مسقط رأسه ثم عن الناحية فالعمالة/الولاية، بحيث يتسع تصوره المكاني إلى أن يصبح قادرا على الإجابة عن السؤال: أين توجد الأرض فينتصر على حدوده العقلية الموروثة”47. ومالك بن نبي سمى هاته الطريقة بـ”مفهوم اللانهائية”، وإلى جانب هذا المفهوم اعتمد على مفهوم آخر مفهوم”الخبرة”، حيث كان”يدفع بهم إلى المبادرة والتفاعل الحركي في التعلم لتشجيعهم على – التغلب على عقدهم الموروثة عن بيئة بدائية”48. وبذلك يؤكد مالك بن نبي على أن محو الأمية لا تتوقف عند تعليم القراءة والكتابة وإنما يجب”أن تكون في خدمة التوعية الحضارية والتغيير والصياغة السلوكية حتى يكون الأفراد مؤهلين تربويا وثقافيا لإعادة البناء والمساهمة فيه. فعملية محو الأمية إذن، يجب أن تخرج من دائرة تعليم القراءة والكتابة إلى دائرة أوسع وهي العمل على تثقيف المواطن وتوعيته أيضا بواقعه وبضرورة التغيير منه، وفق رؤيته ومبادئه وقيمه الخاصة، لأن الثقافة لا تعني الكتب والدراسات فقط، بقدر ما تعني النظرة التي تطور الحياة. لهذا لابد لعملية محو الأمية أن تضيف مهمة أخرى إلى جانب مهمة تعليم القراءة والكتابة وهي تقديم المادة الثقافية التي ترفع من مستوى المواطن في عصر توافرت فيه المعبرات الجماهيرية الضخمة وعلى صورة لم يسبق لها مثيل من قبل، وهي معبرات شعبية جماهيرية بالدرجة الأولى على رأسها التلفيزيون والإذاعة والأنترنت و…. ولماذا القول بضرورة الخروج بمحو الأمية من دائرة تعليم القراءة والكتابة إلى دائرة التثقيف؟؟ ينبغي توسيع دائرة عمل محو الأمية حتى يتحقق اكتساب الخطاب الجماهيري الذي يمكننا من الخروج بالقاعدة الاجتماعية من دائرة اللاوعي إلى دائرة الوعي بالواقع المعيش، وبذلك يكون السعي إلى التغيير ليتحقق في الأخير الدخول إلى الدائرة الحضارية، وما لا ينبغي إغفاله هو أننا نمتلك خطابا جماهيريا رفيعا، ولكننا كثيرا ما نهمله، هو الخطاب القرآني، فهو خطاب شمولي، ولربما تعتبر شمولية الخطاب في القرآن الكريم واستيعابه لكل الأفراد على اختلاف مستوياتهم في الفهم، من أهم وجوه إعجازه، فقد جمع بين اليسر في الفهم والامتناع في الأسلوب…وكان لكل واحد نصيبه من الخطاب بحسب ما يمتلكه من قدرات ذهنية. لهذا لا ينبغي لقادة الفكر أن يبحثوا لأنفسهم عن الأعذار في تعقيد الخطاب، أو محاولة الإيهام بأنه خطاب نخبوي لا يهم العامة:”لأن للنخبة خطابا لا يغني عن خطاب الأمة، فلرب مبلغ أوعى من سامع، والله أعلم حيث يجعل رسالته… فإذا استصعب الناس الخطاب أو لم يفهموه، فالمشكلة في أصحاب الفكر وليس في الأمة… ذلك أن أهم مواصفات الخطاب، إدراك الناس له، بمخاطبتهم على قدر عقولهم”49. هذا فيما يتعلق بمحو الأمية وضرورة إيجاد خطاب جماهيري شامل للخروج بالثقافة من إطار النخبوية إلى العامة. ب/ أسطورة الفقر هذا فيما يتعلق بالقاعدة الأولى والتي سماها مالك بن نبي “أسطورة الجهل”، أما القاعدة الثانية فقد أطلق عليها اسم:”أسطورة الفقر”، والتي”ليست بأقل خطورة ، وحسبنا أن ننظر إلى ما يملك الفرد المسلم الثري من مال لنرى مدى فاعليته الاجتماعية، لقد زاد أغنياء المسلمين على فقرائهم في العطل، على الرغم مما يملكون من ثروات، وكثير من أولئك الأغنياء لا يهتمون برعاية طفل مسلم لتربيته تربية عملية أو فنية، بل لا يهتمون برعاية عمل ذي فائدة عامة، فيقبلون عليه طائعين متنازلين عن قليل من رفاهيتهم”50. الفئة الغنية في البلاد الإسلامية تتجه بإنفاق أموالها إلى مجالات عديمة الإنتاج في الوقت الذي تعاني فيه هاته البلاد من أزمة في مجالات وقطاعات متعطلة عن العمل وعن الإنتاج، وهاته المجالات لو تم الإنفاق من أجل تغطية متطلباتها لكان أنفع وأسلم للخروج بالأمة من أزمتها، ومن هذه المجالات نذكر المجالات أو المراكز التعليمية التي فتحت أبوابها على المناهج الغربية، وليت الأمر توقف عند هذا الحد فحسب، وسخرت الأموال من أجل خدمة هذه المناهج، بل أصبح هذا المجال فقيرا ماديا ومعنويا،صرفت عليه الأموال، وفي مجالات رأوها أجدر بالاهتمام،كما أنه فقد هويته الإسلامية في معظم مظاهره إلا البعض منها،ومالك بن نبي يضرب لنا مثالا يعكس لنا من خلال هذه الظاهرة التي لم يتصف بها الغني فحسب، بل إن الفقير فيها لا يبدو أقل استعدادا من الغني، فلننظر إذن أين يستخدم الفقراء نقودهم، يقول مالك بن نبي:”لقد لاحظت ذلك أخيرا في قرية صغيرة من قرى قسنطينة، حيث توجد مدرسة هي المؤسسة الوحيدة ذات النفع العام، هذه المدرسة توازن بصعوبة ميزانيتها السنوية المتواضعة في حدود ست مائة ألف فرنك (ست مائة جنيه تقريبا) ولكني قمت بتقدير إجمالي من واقع الإحصاءات، خرجت منه بنتيجة هي أن هؤلاء الفقراء-الذين يعانون الفقر فعلا- قد أنفقوا في ليلة واحدة أكثر من مائتي ألف فرنك، ما بين دارين للخيالة، وملعب للسرك وكوخ قمار وبعض المقاهي، فلو أننا اعتمدنا على جملة أرقام من هذا النوع، لأمكننا أن نقوم سعر فاعلية رأس مال المسلم، أعني ميزانية المشروعات النافعة-كالمدرسة-وميزانية التوافه التي أحصينا أنواعها، وسنجد أن نسبة السفه في الحالة المذكورة هي :خمسة وتسعون بالمائة وهذا دليل التطور المقتصر على نمو الحاجات السائدة في ميادين الحياة الإسلامية الحديثة”51. فمجتمعاتنا الإسلامية اختارت الواجهة المعاكسة للصراع: 95 في المائة من رأسمالها ينفق فيما يجر عليها الخراب، والصراع الحالي هو صراع فكري ثقافي، ومع ذلك تنفق نسبة كهاته في مظاهر يقال عنها”ثقافة” أو “ثقافة شعبية”-إن صح التعبير- وليست الثقافة الشعبية البانية التي تقيم الأساس المتين للقيام بالمجتمع، ولكنها ثقافة أكثر ما يمكن أن يقال عنها”تهريجية”وهي التي يمكن نسبتها إلى القسم الثالث من الأقسام الثقافية الثلاثة السابقة الذكر، في الوقت الذي كان من الممكن أن تنفق هذه الأموال فيما هو أنفع وأجدى، كاستثمارها في مشاريع اقتصادية تعود على المجتمع الإسلامي بالمنفعة، أو نفقاتها في بناء مراكز خيرية تأوي من لا ملجأ له، والمشردين، وتساعدهم ماديا ومعنويا، ومراكز تعليمية للفقراء الذين لم تساعدهم ظروفهم المادية على التعلم، ومراكز طبية أو صحية ترحمهم من”الطب التجاري”الذي أصبح رائجا في مجتمعاتنا، وتنفق أيضا على أبناء الأمة في بعثهم إلى البلدان التي تعتبر داخل أو قائدة الركب الحضاري للاستفادة منها والأخذ عنها في مجالات العلوم والصناعة والتقنية، ليفيدوا بلادهم وأمتهم جمعاء، وبالتالي يأخذون بيدها لتلحق بالركب الحضاري. بهذا، يبقى الوضع الاجتماعي للأمة الإسلامية ضحية التعتيم الثقافي، ومحاولة الخروج به إلى النور ستعترضها عراقيل منها التي سبق ذكرها:الجهل، اللاوعي، الفقر…صحيح أن معظم الشعوب الإسلامية تعاني من الفقر المادي، ولكن المشكلة لا تكمن في وجود الفقر فقط، وإنما تكمن في انعدام الإحساس بالهم التغييري لهذا الوضع، ويرجع ذلك إلى عدم استخدامنا للوسائل المتاحة لنا استخداما مجديا، وكثيرة هي الأفكار المهمة التي تنتظر فرصة النزول لساحة التطبيق، ولكن دون أمل، نظرا لعجز أصحابها المالي، في الوقت الذي تهرب فيه أموال الأمة إلى حيث لاندري، لتبقى أفكار مفكرينا حبيسة التنظير دون التطبيق. جـ/ أسطورة الاستعمار أما القاعدة الثالثة فتتمثل في :”أسطورة الاستعمار””وهي التي تعجز ذوي القلوب الطيبة، وتسوغ أحيانا أعمال المخاتلة والاختيال الأخلاقية والسياسية”52. وقبل الخوض في الحديث عن القاعدة الثالثة تجدر الإشارة إلى العامل الكامن وراء القاعدتين الأولى والثانية وهو عامل ذاتي داخلي أكثر ما هو خارجي، وهو ناتج عما أسماه مالك بن نبي بـ”القابلية للاستعمار”. والاستعمار يعتبر سلاحا مدمرا بطريقة منهجية للفكرة وللجهد العقلي، أو أي محاولة للبعث الأخلاقي أو الاقتصادي، بمعنى أنه سلاح يخرب كل ما من شأنه أن يخرج الشعوب المستعمرة من أزمتها، ولكن الاستعمار ما كان ليلج لهاته الشعوب ويخربها لولا تواجد تلك القابلية للاستعمار، وفي الحقيقة أصبح الاستعمار الذريعة الوحيدة، أو المبرر الوحيد الذي نقدمه لنواري عجزنا عن القيام بعملية الخروج مما نحن فيه، فهو فعلا سبب من أسباب أزمتنا، ولكن ليس هو السبب الأول الكامن وراء عجزنا وخمولنا الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي… لهذا ينبغي قبل أن نصدر هذا الحكم أن نبحث في جذور الحركة الاستعمارية، وألا نقف عند حدود حاضرها، ويشترط مالك بن نبي أثناء القيام بعملية البحث هاته -أو التقصي- أن نقوم بها بوصفنا علماء اجتماع، لا علماء أو رجال سياسة “وسندرك حينئذ أن الاستعمار يدخل في حياة الشعب المستعمر بصفته عاملا مناقضا يعينه على التغلب على قابليته له، حتى أن هذه القابلية التي يقوم على أساسها الاستعمار، تنقلب إلى رفض لذاتها في ضمير المستعمر، فيحاول جهده التخلص منها، وليس تاريخ العالم الإسلامي … سوى النمو التاريخي لهذا التناقض، الذي أدخله الاستعمار على الأوضاع التي تخلقت في ظلها القابلية واتسمت بها”53. إذن،خلال الحديث عن هذا الاستعمار ينبغي ألا نغفل النظر إلى هاتين الفكرتين المتلازمتين، وإن كانتا في الحقيقة متمايزتين:الاستعمار والقابلية للاستعمار… وحتى نضمن نجاح أي منهج نختاره لمواجهة هذا الاستعمار سواء أكان متصلا بنظرية في السياسة أم في الإصلاح، يجب ألا نغفل عن ضرورة ربط هذا المنهج أو ذاك حيث نتناول المشكلة بكل الأبنية والجوانب وليس الاقتصار فقط على جانب دون آخر وإلا سنكون قد “غامرنا برؤية مشكلة مزيفة”54. وتبقى النتيجة واحدة مهما طال الحديث عن الاستعمار والقابلية له، وهي أنه لا يمكننا بأي حال كان التخلص من أثر الاستعمار دون العمل على التخلص من القابلية له: السبب المباشر للأزمة الاجتماعية،والثقافية والسياسية… وهاته القابلية ناتجة كما أشار إلى ذلك ابن نبي عن عامل نفسي يولد لدى الأفراد بالأمة الإسلامية نتيجة الإحساس بالنقص تجاه حضارة الغرب، فالخلل إذن في نفوسنا بالدرجة الأولى وليس في غيرنا، والفوضى التي تعيشها الأمة الإسلامية عواملها داخلية أكثر منها خارجية، ومن ثم يقتضي الوضع ضرورة التغيير، والتغيير بدوره لابد أن يخضع لترتيب معين: تغيير ما بالقوم أولا، ثم يأتي تغيير الله لما يحيط بهم ولما يمتلكون: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (سورة الرعد،آية:11)، وأنفسنا أصبحت لها-كما كانت لها في فترة سابقة-قابلية لكل أشكال الاستعمار-المباشر وغير المباشر- وبمعرفة السبب يبطل العجب،أي بمعرفة سبب الاستعمار سنخرج من مرحلة العجب إلى مرحلة العلاج والتغيير الذي تكون أولى مراحله ذاتية لضمان استمرارية المراحل الأخرى للتغيير في أوضاع صحيحة.

خـاتـمــة:
كانت هذه مشكلة من أهم المشكلات الحضارية:مشكلة التغيير الثقافي الاجتماعي، حاولت الوقوف عندها من خلال رؤية مالك بن نبي لها، وكيف أنه اكتشف فيها مواطن الخلل، وعمل على طرح مشروعه التغييري من أجل التغيير منها وفق رؤية إسلامية. وقد بنى مشروعه على “الفكرة”، فإذا توفرت الفكرة السليمة الخالصة لا محالة ستؤتي عملية التغيير أكلها، أما إذا كانت الفكرة مشوبة بالغموض، وبرواسب ميتة أو محتوية على مضامين مميتة،فلن يكون هناك تغيير وبناء وإنما سيكون ركود وهدم. وهذا ما سعيت إلى توضيحه من خلال الفقرات السابقة، إذ ركزت على الجانب الاجتماعي-عالم الأشخاص- والجانب الثقافي-عالم الأفكار- ومدى الدور الخطير الذي أصبح يلعبه هذا الأخير في التحكم في تسيير وتوجيه كل المجالات والعوالم التربوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية…ولقد أدرك ابن نبي هذا الأمر وكرس جهوده من أجل الكشف عنه حتى يصبح باديا للعيان والأسماع، وكذلك للأقلام عساها تتحرك في هذا الاتجاه: الكشف عن دور الفكرة في بناء المجتمع، وفي جل مؤلفاته-إن لم نقل الكل- كان يؤكد باستمرار على ضرورة توفر المجتمعات الإسلامية على عالم أفكار سليم وبان حتى تتمكن من إقامة صرح حضاري متكامل ينتج ولا يستهلك فقط-وكما قال مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة-“إن شراء المنتجات المادية لا يمكن من إنشاء حضارة لأن ذلك ليس إلا تكديسا يؤدي إلى “حضارة شيئية” فارغة من الروح والذوق والجمال.” وحتى تكون لهذا المشروع التغييري نتائج طيبة علينا أن ننظر أولا هل فعلا الأساس -الثقافة أو الفكرة-الذي يقوم عليه هو أساس سليم أو لا؟ حيث مازالت الفكرة في مجتمعاتنا الإسلامية تعاني من سلاح ذي حدين: ـ الحد الأول: يتمثل فيما ورثه العالم الإسلامي من أفكار وثقافات، التي وإن صلحت في زمانها فإنها لم ولن تصلح في زمننا، لأنها أصبحت ميتة. ـ الحد الثاني: الثقافة والأفكار المستوردة من “الآخر الحضاري”والتي زادت في تأزيم الوضع لأن النخبة التي قامت بنقلها غابت لديها عقلية التحليل لها والنقد لما تأخذه وكذلك غابت عقلية الإبداع والتجديد، فكانت هذه الأفكار مميتة. لهذا-وحتى يكون التغيير شاملا-لابد من غربلة ثقافتنا وأفكارنا ليسقط الميت والمميت منها، ويبقى الصالح القادر على الاستمرار والمواجهة. ولست أملك في الختام إلا القول بأنه لا بد من إعادة النظر فيما نأخذه من أفكار وفيما نقرأ، ليس عيبا أن نستفيد من التراكم الثقافي والمعرفي المخزون لدينا، وليس عيبا أن نستفيد من ثقافات الأمم الأخرى، ولكن العيب كل العيب أن نتقوقع في الماضي وأن ننساق وراء جديد الآخر في كل شيء، وكلنا نعلم أن أعداء الإسلام استغلوا هذا الأمر لدى شعوب الأمة الإسلامية وكثفوا الجهود للدخول من هذا الثغر. فأمتنا أحوج إلى من ينفض عن ثقافتها وحضارتها عموما الغبار الذي تراكم عليها،وأملها في شبابها أكبر، خاصة وأن الصحوة الإسلامية بدأت تجتاح الساحة، وإن كنا نعلم أنها لم تقدم بعد الشيء الكثير في كل المجالات، ولكن بامتلاك “الفكرة” البناءة، والإرادة يمكن أن تحقق أمرا كبيرا رغم ما يخطط لها من خارج هذه الأمة، لأن الله تعالى وعد عباده المؤمنين بأنه “متم نوره ولو كره الكافرون”.
الهوامش : ـــــــــــــــــــــ
1- أستاذة اللغة العربية وباحثة في الفكر الإسلامي – فاس- المغرب 2- مالك بن نبي وصياغة المرحلة”سليمان الخطيب، مجلة رسالة الجهاد ص:127 عدد 94/1990
3- وجهة العالم الإسلامي، مالك بن نبي، ص: 85 ، ترجمة عبد الصبور شاهين ط5/1986-دار الفكر سوريا.
4- فقه تغيير المنكر،د.محمود توفيق محمد سعيد،كتاب الأمة،رقم41،/1415هـ/ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر . 5-فقه تغيير المنكر، ص:56
6- رؤية في منهجية التغيير،عمر عبيد حسنة،ص:8.ط1/1994 المكتب الإسلامي (بيروت،دمشق، عمان).
7-وصية مالك بن نبي:”إما أن نغير وإما أن نغير”، مجلة العالم، ص:50، العدد:244/1988.
8- ميلاد مجتمع: مالك بن نبي ص:39، ط2/.1974
9- نفسه، ص:40
10- نفسه،ص: 40 .
11- نفسه، ص:41 .
12- نفسه ص: 42
13- ميلاد مجتمع،ص: 34
14- نفسه ص:35
15- نفسه،ص:28
16- نفسه ص 29
17- وجهة العالم الإسلامي،ص:83.
18- نفسه، ص: 84-85
19- نفسه، ص: 86.
20- نفسه، ص: 86.
21- ميلاد مجتمع:ص:45.
22- ميلاد مجتمع،ص:73
23- طريقنا إلى الحضارة، راشد الغنوشي، ص19
24- ميلاد مجتمع،ص:73.
25- نفسه ص 34
26- نحن والحضارة الغربية، أبو الأعلى المودودي، ص 222، ط 1983، مؤسسة الرسالة بيروت.
27- مشكلة الثقافة، مالك بن نبي،ص: 53.ترجمة عبد الصبور شاهين تصوير 1989، دار الفكر سوريا
28- نفسه، ص:63
29- ميلاد مجتمع:ص:90 .
30- نفسه، ص:94
31- الإنسان حين يكون كلا وحين يكون عدلا، جودت سعيد،ص:18.
32- أخرجه الإمام أحمد وصححه ابن كثير في تفسير المائدة- آية 63-“(و)استشهد به جودت سعيد على استسلام الأمة للوهن في كتابه السابق الذكر.
33- مجلة”رسالة الجهاد”،ص:28، عدد:94، السنة 9جمادى الأولى، 1400هـ/دسمبر 1990م
34- وجهة العالم الإسلامي،ص: 88
35- نفسه، ص: 87
36- نفسه،ص: 87.
37- نفسه ص 89
38- مجلة “رسالة الأسرة”،ص:18، العدد: 4، السنة الأولى، ذو القعدة 1412هـ/ ماي 1992م
39- نفسه، ص: 18.
40- نفسه، ص: 29 .
41- مذكرات شاهد للقرن، مالك نبي، ص: 288 .
42- إصلاح الفكر الإسلامي ، طه جابر العلواني، ص:74، سلسلة المعهد العالمي للفكر الإسلامي (5)
43- نفسه، ص: 74.
44- مجلة “رسالة الأسرة”،ص:29، مرجع سابق
45- إصلاح الفكر الإسلامي، طه جابر العلواني، ص: 75.
46- مجلة”رسالة الأسرة ص: 29، العدد:4.
47- نفسه، ص: 29
48- نفسه، ص: 30.
49- إصلاح الفكر الإسلامي، طه جابر العلواني، ص: 76.
50- وجهة العالم الإسلامي، مالك بن نبي، ص: 90.
51- وجهة العالم الإسلامي،ص: 90.
52- وجهة العالم الإسلامي،ص: 92.
53- نفسه، ص: 94.
54- نفسه،ص:95

المصدر: الملتقى الدولي: مالك بن نبي : مفكر شاهد ومشروع متجدد من تنظيم جمعية النبراس الثقافية المغرب 2005م

Comments (0)
Add Comment