الأستاذ عمر مسقاوي 1
المنطلقــــات
أطلت أوروبا مع مسار القرن التاسع عشر وفلسفته بمفهومين أساسيين هما : مفهوم الثقافة ومفهوم الحضارة. فمنذ عام 1718 بدأت فرنسا تدخل كلمة Cultureخارج معناها اللغوي كتوصيف مضاف إلى شيء آخر كالأدب والفن وليس كمضمون مستقل .
ثم إنه استقل أولا كمفهوم Conceptionليدل على التأهيل والتربية والتأديب مع نشوء مصطلح آخر هو Renaissance استعمل مع بداية القرن التاسع عشر حين ورد من إيطاليا كمصطلح عم أوروبا ليشير إلى حركة تجديد واسعة شملت الفنون والعلوم إحياء لتراث الإغريق والرومان كما تجلى في القرنين الخامس عشر والسادس عشر أي أن مصطلح Renaissance هو إعادة إحياء واقع تاريخي محدد المعالم والصفات كامل الوجود والمقومات ينسحب من عمق التراث اليوناني والروماني. من خلال هذه التطورات في نظيم تطور أوروبا انتقل مفهوم الثقافة إلى إطار أكثر تخصصا وتجريدا في بناء العلوم الاجتماعية والنفسية التطورية وفكرة Taylorالبريطاني وبدا مصطلح Renaissanceيشير إلى بعث وقيامة جديدة قد استقرت مع آلية عصر الأنوار لتمسك بمفهوم التقدم انطلاقا من المعطيات المضمرة للثقافة الغربية التي (كما يقول بن نبي) ارتبطت بالأرض والنزعة الكمية مع أوجست كونت والمادية الوثنية.
البدايـــــات
هذا المعنى المضمر هو الذي حدد مسار الحداثة والاستعمار حين اطل عليه وعي مالك بن نبي في الجزائر وبالخصوص عام 1925 حين بدأت مكونات رؤيته للمشكلة الاستعمارية تنمو في مدينة قسنطينة مع نشوء حركة الإصلاح بقيادة ابن باديس من ناحية ومن ناحية أخرى تكوينه في مناخ ” مدرسة قسنطينة ” التي انشئت اعتبارا من عام 1909 لتخريج الطلاب والعدول والقضاة لخدمة قضاء الأحوال الشخصية للجزائريين طبق الشريعة الإسلامية وكذلك المساجد وشؤون الدين في ظل الإدارة الاستعمارية .
كان ابن نبي منذ عام 1920 قد انتقل من تبسة إلى قسنطينة ليتابع تحصيله العلمي في المدرسة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وبداية ما سمي ” العصر الجميل ” في أوروبا طالبا لمدة أربع سنوات في إدارة المدير الفرنسي Louis Alfred Durnonالذي شغل مركزه في هذه المدرسة من عام 1919 إلى عام 1935 وقد كان هذا المدير منفتحا وقد أتاح للطالب ابن نبي أن يطلع من خلاله على مجمل الصحافة الجارية ذلك الزمن والأفكار التي تنشرها جريدة L’Humanitéاليسارية، وهكذا كان مفهوم القابلية للاستعمار قد بدأ يتكون من خلال تلك التناقضات الجارية في تلك المرحلة .
هذا الإطار هو الذي أحاط بنشأة فكر ابن نبي الذي كان يتكون في أجواء قسنطينة إذ كانت تفد إليه من مصر والشرق أنباء الاستعمار البريطاني ثم الحركة التجديدية عبر رشيد رضا وارث الإصلاح الأفغاني من ناحية، ومن ناحية أخرى أوروبا العشرينات وبروز العامل الأمريكي مع تطور الرأسمالية والفكر الاشتراكي ثم سائر التطورات القادمة من الهند مع الشاعر طاغور التي كانت في تلك الفترة مركزا لهيمنة الاستعمار البريطاني في آسيا ومؤثراته في الجزيرة العربية ومصر في سائر الاتجاهات، كانت هذه صورة التحولات التي فيها ترابطت فاعلية حضور أوروبا في العالم عبر الاستعمار وهكذا غدا مفهوم الثقافة هو الصورة والتعبير عن تلك الولادة الجديدة التي تحققت فعلا والتي اتخذت مصطلح Renaissance فارتبط مفهوم الثقافة وبعث أوروبا من جديد كنموذج في ذهن الأنتلجنسيا العربية والإسلامية وغدا النموذج الأوروبي هو المعيار في التحدي المزدوج نحو الانفتاح الكلي على هذا النموذج خارج حدود التراث العربي والإسلامي كحقيقة اجتماعية قائمة أو الانكفاء الكلي نحو الذاكرة التاريخية لنموذج الحضارة الإسلامية .
شروط النهضة في ولادة جديدة لتراث الحضارة الإسلامية
كان كتاب شروط النهضة الذي صدر عام 1949 خلاصةَ انعكاس هذا الواقع على رؤية ابن نبي. ويبدو لنا ذلك واضحا من عنوان الكتاب الأساسي “شروط النهضة الجزائرية” فهذا العنوان في حد ذاته يطرح المنطلقات الرئيسية لسلسلة كتبه جميعا “مشكلات الحضارة”.
فابن نبي انطلق من معيار عملي يختلف أساسا عن كل مقاربات المفكرين والكتاب الذي تكلموا عن النهضة في هذا الاتجاه أو ذاك.
فنسبة شروط النهضة إلى “الجزائر” ليست عملية تركيبية تضيف مظاهر العصر الحديث إلى مظاهر الحياة الجزائرية في ظل الاستعمار، بل هو عنوان تحليلي كما يتضح من فصول الكتاب.
فالجزائر هي مساحة التحليل التي انتهت إلى مفهوم القابلية للاستعمار كواقع نفسي يحدد مرحلة معينة من واقع المعنى “المضمر” الذي رسخته الحضارة الإسلامية في عمق الجزائر وهي مرحلة الأفول والانسحاب من المسار التاريخي للحضارات .
فالقابلية للاستعمار هي في النهاية قضية تتعلق بالأفكار في مرحلة من الشلل الفكري يعبر عنه واقع الجزائر. لكن الجزائر ليست سوى نموذج من العالم الإسلامي كله الذي يشكل مجال دراسة لتماثل الأعراض في عالم الأفكار .
من هنا بدأت الشروط التي وضعها ابن نبي تنطلق من استراتيجية أساسية مماثلة لاستراتيجية ولادة أوروبا من جديد في إطار مفهوم Renaissance الأوروبي أي إعادة النظر في التراث القديم بعد تصفيته من سائر مؤثرات الحضارة الإسلامية التي أَفَلَتْ بعد سقوط الأندلس كما يقول ابن نبي .
وهكذا انتهج ابن نبي آلية المسار نفسه دون الدخول في تفاصيله لأنه تحدث عن الشروط السابقة للحمل من أجل ولادة جديدة فيما المصطلح الأوروبي تحدث عن الوليد الجديد في عصر النهضة، وهكذا انطلق كتاب شروط النهضة الجزائرية من مفهوم “القابلية للاستعمار” أي واقع الجزائر القائم .
مفهوم الولادة من جديد
فالخروج من القابلية للاستعمار يتطلب تأهيلا جديدا يصفي سلبيات الأفكار السائدة في لحظة تاريخية مليئة بالبواعث كتلك اللحظة التي نشأت فيها ولادة الإسلام عبر الوحي في مكة.
فتعبير الولادة الجديد ترجمة تعبير Renaissanceكما جاء في الأصل الفرنسي لكتاب شروط النهضة هو الأكثر وفاء بمنطلقات ابن نبي من مصطلح “النهضة” لأنه يقود الذهن إلى النموذج الغربي، وقد أشار إلى هذا الجانب مؤخرا المفكر المغربي محمد عابد الجابري حين قال: إن مصطلح Renaissance يدل على ولادة فعلية لواقع حضاري جديد هو ” الغرب ” بكل معناه وقد أضحى حقيقة نهائية في مفهوم الحداثة والاستعمار على سواء بينما فكرة النهضة عند العرب في المشروع العربي الإسلامي اتجهت إلى المستقبل خروجا من الواقع القائم، وهذا يدل على أن وعي العرب في رؤيته لنهضة أوروبا يقوم أساسا على الإحساس بالفارق بين واقع التخلف وواقع نهضة أوروبا، لذا فهم يفكرون بالنهضة التي يرون نماذجها ولا يفكرون في بناء نهضة كبديل عن الواقع الذي يعيشونه.
فابن نبي يرى أن من نتائج التقليد والتمثيل Assimilationللنموذج الأوروبي أن العالم الإسلامي كان في مرحلة طفولية عالم الأشياء قبل أن ينتقل إلى عالم الأفكار ويؤرخ لها بعام 1858. بالمقارنة مع طفولة اليابان 1868 فالعالم الإسلامي بقي في عالمي الأشياء والأشخاص فيما انتقل اليابان إلى عالم الأفكار عبر عالم الكبار. وهكذا وقع العالم الإسلامي في فوضى الأشياء والأفكار حين أضحى جزءاً من مجتمع عالم فوق صياغي supertechnique يبيعه الأشياء ويفرض عليه في الوقت نفسه مقاييسه ويرغمه على إعداد اعتبار لمعاييره، وهكذا رد المجتمع الإسلامي على مفعول هذه الرابطة باعتبارها إلزاما في الحقل الاقتصادي وفوق الإلزام في الحقل الفكري.
هذه الفوضى النفسية والفكرية جعلت المسلم يولد في مجتمع غير متناسق وهو يأخذ بعين الاعتبار بأن مصيره كفرد لم يعد مشكلة بل مصيره كمسلم، فحظوظه بوصفه مسلما في المنافسة العالمية أكثر ضآلة من جراء بعض العوامل السلبية التي أثرت على تطور العالم الإسلامي . هذه العوامل أسهمت في تكوين فكرة هذا الفاصل النفسي لأنها تترجم عن أزمة النمو التي يجتازها العالم الإسلامي منذ أن استيقظ وعيه وهي اعتبارات تكون في جملتها المظهر المرضي لما تعورف عليه (بالنهضة) إذ الأزمة نتيجة لهذه النهضة. (راجع فكرة كمنولث إسلامي) 1959.
الثقافة هي تفاعل متبادل بين الفرد والمجتمع في إطار رسالة
لقد شرع ابن نبي يعطي في كتابه “شروط النهضة” 1949 صورة الاستعمار في الجزائر كمعطل لكل ارتباط بين دور الإنسان الجزائري والبيئة حوله، لذا لا بد أن تنطلق الولادة من جديد خارج الدائرة التي رسمها الاستعمار أي خارج مفهوم القابلية للاستعمار، وهكذا طرح ابن نبي المشكلة في إطارها الذي يتصل بمستقبل الإنسانية على هذا الكوكب.
فمن العودة إلى بدايات الحضارة الإسلامية والعهد الأول نرى أن الاطراد التاريخي لفاعلية الفكرة الإسلامية انطلق من عاملين : الفكرة الإسلامية التي هي أصل الاطراد ثم المسلم الذي هو السند المحسوس لهذه الفكرة.
فنشوء الدورة الحضارية يرتبط صعودا وهبوطا بالفرد الذي يمثل فكرة الإسلام باعتباره سندها المحسوس، ففكرة الإسلام كوحي منزل تمثل الأصالة العينية والحقيقة المطلقة وهذا من عند الله، ويبقى الذي هو من عند أنفسكم كما هو الخطاب القرآني، بمعنى أن محور الحضارة هو الإنسان المسلم الذي هو سند الفكرة المحسوس في مسيرة التاريخ. وبقدر مسوغات الفكرة في بناء الإرادة في فاعلية حضورها يكتب التاريخ مراحل صعود الحضارة وهبوطها. ومن هنا يأتي تداول الأيام.
فتطور الحضارة الإسلامية صعودا وهبوطا يرتبط من حيث الأساس بالعلاقة العضوية التي تربط الفكرة بسندها. ومن هنا يبدأ دور الإنسان في بناء عالم محيط حوله تتحدد في إطاره قيم الأخلاق ومدى ارتباطها بالمُثُل والجمال ومدى التعبير عنه طبقا لهذه المُثُل والفاعلية ومدى ارتباطها بالمنطق العملي في تفعيل الوسائل ذات الارتباط الوثيق بالقيم الأخلاقية والجمالية عبر العمل التقني.
فالعناصر الأربعة : المبدأ الأخلاقي والمبدأ الجمالي والمنطق العملي ثم التقنية هي العناصر التي تتكون فيها ثقافة المجتمع حينما تصبح تاريخا لأنها الأساس التربوي الذي يحدد معيار الصعود والهبوط بقدر تضامن هذه العناصر في بيئة الفرد السند الأساسي لمسار الحضارة في اتصاله بالثروة عبر الزمن التاريخي الذي يحدد مراحل الحضارة. فالحضارة هي القدر النهائي للثقافة التاريخية .
إن هذا المنهج يرتبط بمفهوم كوني كسنة من سنن الله الأزلية. ومن هنا فالاقتباس من أوروبا والاتصال بالتطور الكمي في الهيمنة على مسيرة الإنسانية يتطلب من “القابلية للاستعمار” التي هي الوجه الآخر لصورة الاستعمار أن تنظر (هذه القابلية) إلى الظواهر الغربية الأوروبية الراهنة على أنها مسألة نسبية لا تعبر عن الحقيقة المطلقة في مسيرة التقدم ومن خلال ذلك يستطيع العالم العربي والإسلامي أن يعرف وجوه النقص في الحضارة الغربية كما سيتعرف على عظمتها الحقيقية، وبهذا تصبح الصلات والمبادلات مع هذا العالم أعظم خصبا وحينئذ نستطيع أن نبني مفهوما تبادليا تنسج عليه الولادة الجديدة خياراتها ونشاطاتها.
الحضارة الغربية أضرت بحركة التاريخ والنظام الكوني البيئي
بعد انهيار الحضارة الإسلامية
ذلك أن الواقع الاستعماري قد أضر بالمسلمين كما أضر بالإنسانية جميعا حينما تخلف الضمير عن العلم وعن حركة الفكر. فمأساة العصر أن الضمير في المخزون المسيحي الروحي لم يتمثل ما حققه العلم من مخترعات فبقي عاجزا عن مواجهة الفجوة التي كانت تفصله عن النزعة العقلية الناتجة عن التطور العلمي. فالذات الأوروبية التي قامت بدور تلميذ الساحر فأبدعت الآلات لم تستطع السيطرة عليها فصارت الحياة أرقاما وصار العالم عصر ” كَمٍِّ ” يخضع فيه الضمير للنزعة الكمية ( مالك بن نبي : وجهة العالم الإسلامي).
فمالك بن نبي في كتابه وجهة العالم الإسلامي ربط بين الضمير والإنتاج طبق المعادلة الأساسية للمبدأ القرآني: تغيير النفس باتجاه الإيمان بالله والاستقامة في الأداء الاجتماعي والاقتصادي بحيث تزول الفجوة نهائيا بين الضمير والعلم من أجل استقامة الحياة على هذا الكوكب الكوني وقد لاحظ هذا الجانب الكاتب السويسري Boizard في كتابه “الإنسانية في الإسلام ” l’humanisme de l’Islamحينما شرح المفهوم الإسلامي لمعنى الوحدة الاجتماعية في فصل “المدينة الإسلامية” فشبكة العلاقات التي يتطور في داخلها الضمير في اتساقه مع الإنتاج الاجتماعي تنطلق أساسا من مفهوم الوحي وقانونه الإلهي وليس من الاختيار الفردي الذي تنامى في الإطار الأوروبي إلى درجة اخرج الإنسان عن مداره الكوني .
فالإنسان يمثل في المصدر القرآني وحدة متكاملة غيبية في تفاصيلها ومتمايزة في تنوعها لكنها متداخلة وبسيطة في النهاية.
فالله هو المُطْلق، كلي القدرة والإرادة ومن هنا فالقدرة المطلقة تجعل كل شيء نسبيا في فعل الإنسان وهكذا يتدخل الغيب الإلهي في النهاية في قدر الإنسان، فيبدأ عالم الأخلاق حين يمسك الحساب الإلهي نهاية الحياة كأساس ومعيار سلوكي لمدى الطاعة للقانون الإلهي.
من خلال هذا المفهوم الإنسان لديه امتياز خاص بين سائر المخلوقات هو الاستجابة لله كلي القدرة وللرحمة الإلهية ومعرفة الله المستحق للعبادة. فالإنسان في قدراته الطبيعية طاقة كامنة، فهو نظام الكون الأصغر Microوصورة نظام الكون الأكبر Macro كما يقول المؤلف ولذلك استحق الإنسان أن يكون خليفة الله على الأرض.
ومن خلال هذا المفهوم أعطى الإسلام الإنسان القيمة المطلقة في التكريم.
هذا التحديد لقيمة الإنسان يقول Boizard يختلف جذريا عن المفهوم الغربي التقليدي، فالحقوق والواجبات في ثقافة الغرب تعتمد على معايير مختلفة آمرة أو شخصية تقليدية أو ظرفية تتغير مع تطور المجتمع وظروفه الخارجية بينما المبادئ القرآنية للعدالة والشرف والتضامن الإنساني كونية تنشئ واجبات في قانون إلهي نزل به الوحي يجعل كل عضو في المجتمع الإسلامي يمارسها على انفراد ومراقبة ذاتية ( راجع الحديث الشريف الذي هو أساس هذا التحليل : ” اتق الله حيثما كنت واتبع الحسنة السيئة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ” هذه وصايا ذات مفهوم كوني) ويضيف مؤلف كتاب” الإنسانية في الإسلام بأنه تبعا لذلك يتولد مناخ ” المدينة الإسلامية ” من الضيافة والترحيب المشترك في نوع من عفوية اجتماعية لها قاعدتها ومعناها الديني ويأخذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الطابع الأبوي والمتواصل في توازن يؤسس لشبكة العلاقات الاجتماعية .
هذا التحليل الذي ورد في كتاب النزعة الإنسانية في الإسلام تفتقده الإنسانية في ظل العصر الحديث القائم على الفردية ونظرية حقوق الإنسان التي وضعتها منظمة الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الأولى والثانية باعتبارها حقوقاً سياسية في مواجهة السلطة والحكم ليكون النظام الدولي الذي بناه العصر الصناعي هو المرجعية النهائية لثنائية الشمال والجنوب في الحفاظ على هذه الثنائية التي انتهت إلى العولمة .
هذا المفهوم لمعنى كونية الإنسان في إطار النظام الإلهي هو الذي بقي في عمق البنية الأساسية للمعنى المضمر الذي قامت عليه الحضارة الإسلامية، وقد أشار إليه ابن نبي حينما رآه في روحانية وأصالة الجزائري المسلم في الحياة الأسرية والاجتماعية في أفلو – الجزائر في العشرينات كما ذكر في كتابه يوميات شاهد القرن الجزء الأول، ثم في قصته “لبيك” ومن هنا نفهم رؤية ابن نبي لمستقبل الحضارة الإنسانية من خلال الإسلام كقيمة كونية في خلاص العالم لما بدأت أول مرة في “مكة” وكما أشار في أنشودته الرمزية في مقدمة كتابـه ” شروط النهضة “.
تصفية العالم من العولمة وأزمة الحضارة
إن الغرب بات يرى نفسه وثقافته وحضارته وأسلوب حياته المرجعيةَ الوحيدة والنموذج الفريد الذي ينبغي على العالم أن يؤوب إليه قبل فوات الأوان والغرب بات على قناعة بأن العولمة شيء حقيقي لأنها ثمرة تطور تاريخي وتقني لا يمكن الرجوع عنه
هذه النتيجة التي تبدو اليوم إحدى العوامل الأساسية للتفوق الأمريكي في سياسة العالم كان ابن نبي قد توفي عام 1973 قبل أن يدرك مداها مع نهاية القرن لكنه منذ منتصفه تنبأ بهذه النتيجة في الصورة التي انتهت إليها. ففي تأسيسه للأصول الأولى في دورة الحضارة وشروط إقلاعها في تجريد مستمد من النظام الكوني استطاع قبل فوكوياما أن يتنبأ بنهاية تاريخ الحضارة المهيمنة على مصير الإنسانية.
فهذا العالم هو أسير العصر الحديث في مختلف صوره وقد بدأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يتقلب في فوضى الكم والوزن والتكاثر الذي يسبق مسيرة الزمن وتَخَلّق الحياة على الأرض فالعصر الصناعي أضحى في حرب ضد البيئة الكونية والإنسان وهذا ما يعبر عنه القلق والإضرابات في العالم.
فالظاهرة الدينية كما أشرنا إليها في تحديد عالمية الإنسان تبدأ كما يقول ابن نبي حينما يوجه الإنسان بصره نحو السماء وهنا يظهر الرسول والرسالة أي ذلك الإنسان الذي يملك أفكارا يريد تبليغها إلى الناس.
من هنا تبدو أوروبا خارج الظاهرة الكونية والدينية قد امتلكت نموذجا استحوذ على العالم بسلب الزمن والإنسان قيمتهما المطلقة ليصبحا في خدمة الآلة والإنتاج والتكاثر الذي يهدم النظام الكوني. (وجهة العالم الإسلامي – مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي – الفكرة الأفريقية الآسيوية).
ويقول ابن نبي في هذا الإطار إن المغالاة في جانبي التفريط والإفراط تؤكد اليوم حقيقة قائمة وهي أننا نتناول ثقافتين في لحظة أفولهما.
فالفكر الأوروبي يجهل (كما أوضحنا في مفهوم العولمة ونهاية التاريخ لفوكوياما) قانون التداول بين الأوج والحضيض في مسيرة الحضارات، لذا فالفكر الأوروبي يجنح دائما إلى الاستمرارية التي نشأت مع آلية ديكارت ومن ثم إلى الدوران حول مفهوم الوزن والكم لكنه اليوم يسير إلى مصيره في الانحراف نحو المغالاة، حين انتهى إلى المادية في شكليها: البرجوازي الاستهلاكي والجدلي الماركسي، وقد انعكس ذلك على الفكر الإسلامي في أفوله وخروجه من التاريخ فدفعته إلى التصوف المبهم والغامض وعدم الدقة والتقليد الأعمى والافتتان بأشياء الغرب حين ينعكس ذلك على تكديس الأشياء أو تقديس اقتنائها في عالم السلاح دون عالم الفكر في مواجهة الهيمنة على مصير الإنسانية.
الخروج من المأزق يتجلى في ولادة جديدة للحضارة
في مفهومها العالمي: الإسلام هو النموذج
أوضحنا فيما سبق أن الحضارة الإسلامية لعبت في مسيرتها دور الحضارة المركزية التاريخية في التداول الذي أشرنا إليه، ولقد أعطت تجاربها ومصادرها نتائج استدعت الدراسات الاستشراقية التي حملت في تضاعيفها استراتيجية استقطابها لمعايير رؤيتنا لتجربة الحضارة الإسلامية كماض لا رجعة إليه.
لكن الحضارة الإسلامية كانت عالمية تضامن العوالم الثقافية (إذا صح التعبير فقد كان تضامنها المتواصل بينها تعارفا) يتبدى من أوصاف الرحالة المسلمين للشعوب التي تعرفت عليها) فيما انتهت الحضارة الغربية في نتيجتها الأمريكية إلى إلغاء الزمن والإنسان والثقافات المختلفة في العالم كما أشار الكاتب المعروف الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه الفلسفة المادية ويبقى في النهاية “عالم التراب” وفق عناصر ابن نبي الثلاثة لبناء الحضارة وهي : الإنسان + الزمن + التراب، فعالمية الإنسان التي محورها دائما الرسالة كمفهوم غيبي افتقدت حضورها المعاصر أمام آلة العصر الحديث.
ففي مقال نشره ابن نبي بالفرنسية في 26 مارس 1954 في صحيفة الجمهورية قال :
“أو ليس الحل في تطور يضفي على الحضارة طابع الأممية والقارية أي طابع عالمية تفرض على الأوروبي عالم الآخرين إذ سيجد في رحابهم معنى الإنسانية إذ سيتعرف الأوروبي على الآخرين الذين لم يكن يرى فيهم غير طرائد صيد. إذ سوف يتحدث بكل تأكيد عن عالمية خارج مناورات السياسة الراهنة كتلك القوى التي تحاول أن تهيمن كمراقب وحيد على العالم لتؤسس عالمية هي مرادفة لما تسمى الأمريكانية. ذلك كله يعتمد اليوم كما في كل يوم على دور المسلم انه الإسلام الذي يستريح إليه مستقبل الإنسانية “.
فالأنا الأوروبية تنظر إلى ذاتها في عالم خال من البشر، يقول ابن نبي في مقال نشر عام 1950 ” والواقع أن فلسفة الإنسان في الغرب رهينة تعابير ومصطلحات لا تسمح له أن يتصور وحدة الإنسان وتضامن ملحمته على وجه الأرض، وقد انعكست هذه الفلسفة على وحدة النوع البشري فجزأتها إلى جزأين : أحدهما له السلطة والسيادة والآخر عليه السمع والطاعة، وهكذا اختزلت فيه طاقته الطبيعية والكاملة في مركب التبعية فأنقصت قيمته بمعامل القابلية للاستعمار في الإطار السياسي والفكري والاقتصادي ويرى ابن نبي أن الحل في مستوى النظام الكوني الخروج من هذه الثنائية وذلك من خلال بعث جديد لرسالة الحضارة الإسلامية عبر المراحل التالية :
أ – الخروج من التبعية إلى المعنى التاريخي المضمر لمكونات الثقافة
كان من نتائج هذه التبعية أن افتقدت الدراسات العربية والإسلامية وعي حركتها حين افتقدت استراتيجية اتجاهها في المسار العلمي من خلال مكونات تراثها, فقد سارت دون أن تدرك أنها تنطلق من مركب سيكولوجيا الاستعمار المنغرس في اللاوعي تجاه سلطة الطاعة للثقافة والعلوم القادمة من أوروبا في تعاملها مع مقتضيات النهضة كمسلمة لا تطرح سؤالا حولها .
من هنا فالولادة الجديدة Renaissance لابد أن تنطلق من المعنى المضمر التاريخي الذي هو حنين الولادة الجديدة وإلا فإن المجتمع العربي والإسلامي سوف يفقد حضوره وينتهي في معيار العولمة الأميركية المشرفة على الانهيار هي أيضا ليقوم في أعقابها عالم جديد.
ففي 14/1/2003 نشر ملحق صحيفة Le Mondeمحاورة مع العالم الاقتصادي الفرنسي Alain Gaulleانطلقت من الموضوعة التالية: “مع تفاعل العولمة نمت الرأسمالية وأخذت دورها حين ضعفت معاداة الرأسمالية مع سقوط الاشتراكية الحقيقية وذلك بتخليها عن النظرة الماركسية … لكن الأحداث لم تنتظر ليقوم المنظرون بتأسيس هذه الأيديولوجية في بداية التسعينات حتى تصاعدت وتيرة الحرب والانهيار الاقتصادي وتصاعدت البطالة مما جعلها لا تفي بوعودها، هنا سُئل العالم الاقتصادي : في غياب نظرية مقابلة كيف يمكن رفض منهج ثبتت قدرته على اجتياز الأزمات ؟
الجواب : إن منطق الرأسمالية يرتكز على ديناميكية اختزان المال والثروة بدون نهاية وذلك يتطلب أن يسعى المرء إلى مزيد من القدرة على الحياة والعمل مما يغري المزيد ولكن في النهاية لابد من نقطة تراجع حينما تظهر بالمقابل جهود أخرى فتريك خُطا ذلك التصاعد، وفي هذه الحالة تنشأ من جديد نظرية معاداة الرأسمالية.
وهنا أتساءل: ابتداء من أي نقطة يجب أن نوقف ذلك التكاثر المأمول الذي يتطلب سيطرة واستغلالا لا تسامح فيه ؟ هذا السؤال لا يزال مطروحا” قال العالم الاقتصادي في تصريحه للجريدة.
من هنا فالجواب يتطلب العودة إلى السنن الكونية في تكوين الإنسان الذي هو الأساس لكل نهضة في مسيرة التاريخ، وهذا يتطلب تصفية رؤيتنا للعالم من الأفكار القاتلة التي استوردناها من أوروبا والأفكار المقتولة التي تجاوزها الزمن. فابن نبي أشار إلى أهمية تصفية الأفكار الخطيرة على الحضارة والتي خلفها إشعاع الحضارة الغربية على المفكر العربي والإسلامي النهضوي الذي بدأ يشيع في نهاية القرن التاسع عشر ويستشهد بنظرية الانتخاب الطبيعي التطوري لدارون ومنها ” البقاء للأصلح ” دون أن يخطر بالبال كما يقول ابن نبي إن ما يصدق في علم الحيوان قد يكون خاطئا في ميدان الاجتماع حيث يعني الأصلح هنا غالبا الأكثر شرا .
هذا المبدأ مع جوبينو وروزنبرغ كان سببا في التنافس والتسابق اللذين ساعدا على النمو المادي في العالم الغربي حيث أصبح الأصلح هو الرجل الشرير الذي لا يتورع عن استخدام أي وسيلة لانتصاره على بعض المغفلين الذي يقيمون وزنا للاعتبارات الخلقية.
والمفكر البريطاني هوبسون نشر عام 1902 كتابه الشهير (الامبريالية) وترجم إلى العربية في مصر “سلسلة ألف كتاب” وقد أشار إليه لينين في كتابه “الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية “فهوبسون” حدد مفهوم الإمبريالية في ثنائية الاستعمار والقابلية للاستعمار كما جاء في تحديد ابن نبي فقال ” إن المشكلة السيكولوجية لرسالة الإمبريالية ليست بالتأكيد قضية إثارة متعمدة واعية لدوافع كاذبة بل هي خداع أفكار .
” فالإمبريالية تطفو على بحر من العبارات الغامضة غير محددة والتي يبدو رنينها طيبا، فأكبر الحقائق الإمبريالية وأهمها سياسيا واقتصاديا وأخلاقيا غير معروفة . فالحرية الفردية حرية الأجناس والمساواة في العدالة التي تسود في كل مكان والمسيحية والمثل العليا الأخلاقية البريطانية تنتشر بسرعة بين شعوب واسعة من الأجناس الدنيا التي تدرك بسرور تفوق أفكارنا التي تجنيها من الحكم البريطاني وهذا يعود إلى عنصرين :
أولا : الشعور بالرضا وتفوق الأوروبي يقابله نقص في الرضا عن النفس غير الواعية فالرضا عن النفس لدى هذه الشعوب ضئيل لأن الوعي الذاتي ضعيف .
ثانيا: إن الرضا عن النفس لدى الأوروبي بلغ أوجه. لأن الوعي الذاتي الذي بلغته أمم غرب أوروبا يعمل على استثارة الغريزة بواسطة التفكير الواعي. “انتهى كلام هوبسون.
ب- إجراء رقابة فاعلة على القيمة الذاتية للأفكار .
على ضوء ضعف الرضا عن النفس في ذهنية القابلية للاستعمار نشير إلى كتاب بن نبي الصراع الفكري في البلاد المستعمرة ص 76 حيث حدد بدقة هذا الجانب المرضي في بيئة المجتمع الإسلامي . فالأفكار في هذا المجتمع لا تتمتع في تربيتنا بقيمة ذاتية تجعلنا ننظر إليها بأسمى المقومات الاجتماعية .
فالأفكار ترد إلى المفكر نظريا من دوائر ثلاث : الدائرة الشخصية، الدائرة الاجتماعية المحيطة به والإشعاع الذي يأتي من خارجهما .
فالجهاز الفكري الذي يتركب في النهاية من الوجهة النظرية من ثلاث دوائر متداخلة يصبح من ناحية التأثير وكأنما هو مركب من دائرتين فقط : الدائرة الشخصية والدائرة الاجتماعية فيما تغيب دائرة الإشعاع عن أية رقابة وتصفية بفعل التبعية النفسية للحضارة الغربية الأوروبية.
والسبب في ذلك – يرى ابن نبي- أن المحاولات النهضوية التي جرت في العالم الإسلامي متفاوتة ومتعارضة لأنها لا تستند إلى نظرية محددة بسبب ضعف الثقة بالنفس.
فالمصلح الإسلامي لم يهتم بأن يرسم برنامجا للإصلاح، لذا فهو يعتمد على الزمن الذي سيوفق إلى حل المشكلات حين افتقر طموحه للتخلق والإبداع.
هذه الجوانب السلبية في آلية الفكر الإسلامي في إطار العصر الحديث لا بد من تصفيتها أولا لتحديد موقع المشروع النهضوي من مواجهة الأزمة الراهنة التي وقعت في تضاعيف سؤال عالم الاقتصاد الفرنسي Alain Gaulle فمشكلات الحضارة كعنوان لسلسة كتب ابن نبي تطرح الأمور في وجهيها :
• مشكلات الحضارة الأوروبية الغربية الراهنة في تعاظمها المادي التي تؤذن بشيخوخة مسارها المستقبلي وأثره على الإنسانية.
• مشكلات الحضارة في عالمنا العربي والإسلامي حينما تبددت فيها رؤية الغد وتخلفت عن الإسهام العملي في صنع مستقبلها ومستقبل الإنسانية.
فكلا المشكلين هما في معيار واحد مشكلة السكن على هذا الكوكب.
ففي كتاب الفكرة الإفريقية الآسيوية رأى ابن نبي دور الإسلام المستقبلي بمقدار تواصله مع الثقافات، وفي مدى انتشاره التاريخي في آسيا و إفريقيا إنما في منحى عالمي ومنفتح على مسار أوروبا والعصر الحديث يهدف إلى شمولية المفهوم الكوني للإنسان.
فالتفاهم بين الثقافة الإسلامية والثقافة الهندية كان ممكنا لولا تقسيم الهند لحساب بناء الستار الحديدي في مواجهة روسيا وتعطيل أي انتشار للإسلام باتجاه الصين وفق خطة تشرشل عقب الحرب العالمية الثانية ( انظر كتاب: الصراع الفكري في البلاد المستعمرة ) .
وهكذا ينطلق ابن نبي في معالجة القضية العالمية من زاوية القابلية للاستعمار وليس من زاوية الاستعمار الذي تستدعيه، وهو في هذا يخاطب على سواء إفريقيا وآسيا كما يخاطب محور واشنطن موسكو المتلبس بمركزية الإنتاج . باعتبارهما وجهين لعملة واحدة.
ج – دور الأفكار الوظيفي والطاقة الروحية
إننا إذ أجرينا رقابة ذاتية على دور الأفكار ليميز فيها الخبيث من الطيب على حد التعبير القرآني فإن الطاقة الروحية هي التي تحدد مسارها الوظيفي وفق تحليل ابن نبي في كتابه مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي.
فالمجتمع الإنساني يبدأ في مسيرة الحضارة مع دور الأفكار في فترة اندماج مجتمع ما في التاريخ وهنا يكون للأفكار دور وظيفي يرتبط بالطاقة الحيوية باعتبارها قوة فاعلة في محيط القيم الروحية التي تنظم الطاقة الحيوية وتوجهها على حد تعبير ابن نبي (انظر كتاب: ميلاد مجتمع).
فالطاقة الحيوية قوة فاعلة، ومن هنا فحينما نلغي الطاقة الحيوية فإننا نهدم المجتمع وعندما نحررها تحريرا كاملا فإنها تهدم المجتمع. لذا يجب على الطاقة الحيوية أن تعمل بالضرورة ضمن هذين الحدين .
فالتوازن المطلوب للطاقة الحيوية هو الذي يؤسس لحركة الواجب الذي هو تخزين للقيم الروحية المطلقة في مستوى المجتمع في مواجهة الحقوق التي هي استهلاك لهذه الطاقة في مستوى الفرد.
وهذا المفهوم يختلف عن مفهوم الواجب في النزعة الفردية الأوروبية التي ترى الحقوق هي الأساس والواجب تنازلا لحساب العقد الاجتماعي في مفهوم الدولة.
هذا التحديد الأوروبي الفرنسي يمثل الحلقة الأخيرة من دور الحضارة الغربية التي تمثلت في القرن التاسع عشر في مركزية الدولة، لكن الاندفاعية الأولى في مسار الدورة الحضارية عبر التاريخ هي دائما في القيم المقدسة التي تنظم الطاقة الحيوية في مستوى الواجب حتى في مكونات نشوء الحضارة الغربية.
لكن التاريخ يثبت دائما أن عالما مبنيا في الأصل على القيم المقدسة يميل دائما إلى نزع هذه القداسة في المنعطف التالي من مسيرته: الاقتصاديون يسمونه تقدميا لكن الفلاسفة يسمونه إهدار طاقة في منعطف شيخوخة. وهذان التفسيران يتلاقيان في حتمية تحول الطاقة التي تحكم التاريخ كما تحكم الفيزياء.
هذه هي مسيرة التاريخ في صنع الحضارات الذي يتداولها كرقاص الساعة في دقاته المزدوجة صعودا إلى القمة وهبوطا إلى الحضيض . وفي المراحل الوسيطة بين القمتين تسجل فترات إخصاب متبادل يكتنفها اختلاط في البابليات التاريخية كما هو عصر بابل القرن العشرين. (انظر كتاب: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي).
د- بابلية القرن العشرين وتأثيرهما على الفكر النهضوي في العالم العربي والإسلامي
لقد بدأ الفكر التحديثي مع صيحة جمال الدين ثم مع عبده يأخذ سبيل النقد التفصيلي والانفتاح على أوروبا، ولكن في مناخ عام 1925 بدأت كتابات متأثرين بالفكر العربي حاولت أن تضع مسلمات نفسية جمعية في إطار الجدل والتشكيك ضمن معيار الفكر الاستشراكي الذي يعمل لحساب مركزية أوروبا لغير هدف استراتيجي، فكانت بذلك تحرث بعيدا عن حقل المواجهة الموضوعية للمشكلات، بقطع النظر عن صواب أو عدم صواب التحليل. فالمشكلة لم تكن بتحليل الماضي بمعيار العصر الحديث، بل في طرح منهج جديد كما يقول ابن نبي، وهكذا وضع مشروعه في سائر كتبه تحت شعار مشكلات الحضارة في وجهيها : وجه الأزمة في أوروبا العصر الحديث ووجه الأزمة في خيار العالم العربي والإسلامي. وهكذا اختلطت التطورات في تلك البابلية الراهنة أي المرحلة الوسيطة بين انهيار منتظر للحضارة الغربية وترقب حضارة جديدة في تداول التاريخ.
فاجتهاد تلاميذ أوروبا من العرب والمسلمين لم يضيفوا شيئا إلى تراثهم لكنهم أربكوا الإطار مساحة قرن كامل دون خطوة واحدة إلى الأمام .
هذه الحواجز جعلت الفكر الإسلامي يتجه نحو الآفاق البعيدة اقتباسا لا يجد تفسيرا له في منهج تربوي فاعل في بناء الأمة حين افتقد الفكر معيار الرقابة واستراتيجية الاتجاه.
فالمظاهر التي تبدو اليوم في أزمة العالم العربي والإسلامي تبدو في عجزه الكامل أمام نتيجتين أشار إليهما مالك بن نبي بصورة غير مباشرة في تحديد لدور الطاقة الحيوية في بابلية اختلاط المعايير .
فأحيانا تتقلد الطاقة الحيوية المتحررة من الضوابط مظاهر القيم الروحية حينما أشار إلى المرابطية في وجهيها الديني أو السياسي عبر مفهوم الزعيم وكلاهما تسيرهما آلية الفكر الاستعماري.
فابن نبي لم يشهد عصر ما سمي ” القاعدة ” عبر بن لادن الذي هو تحول جديد لمفهوم المرابطية – الطرقية – في وجهيها إذ تنتصب بديلا مصطنعا مسرحيا للحرب الباردة، وهي صورة من صور المرابطية في فردية مركزية للطاقة الحيوية تبحث عن سبل الخروج من الأزمة سواء الأزمة المتخيلة في عقول المريدين نتيجة احتقان نفسي، أو الأزمة في مستوى العالم الإسلامي والمتخيلة في طاقة حيوية بغير سقف تهدم تداعيات رؤية عالمية جديدة لمستوى الحضارة الإسلامية.
فالحضارة الغربية فرضت وسائلها في سوق الاستهلاك وعلاقته بغريزة الطاقة الحيوية بغير سقف كسوق لإنتاج بغير سقف كذلك وهي لذلك تستدرج العجز في مظهرين متناقضين: العجز أمام العولمة في تكديس الاستهلاك وما يصرف عن مواجهة إسرائيل بقوة الحضور الدولي وعن دعم للمقاومة المشروعة التي وقعت رهينة المرابطية الجديدة، والعجز المقابل في تكديس وسائل القوة عبر مرابطية القوة الحيوية المتصلة بغريزة التفرد في فوضى بابلية الأفكار .
وهكذا خلفت تداعيات العولمة الحيوية اتجاهين موازيين : إما أنها تندفع في امتلاك الأشياء لغير سقف في سوق الاستهلاك وفي ظل مبادرات فردية إما تندفع في امتلاك السلاح في ظل مبادرات فردية أيضا للدخول في حلبة الصراع في مواجهة قوة العالم المنظمة ذات استراتيجية الهيمنة بكل الوسائل على الفكر الإسلامي كما على ثروته الجغرافية والإعلامية التي تعمل لحساب العصر الإسرائيلي بكل مؤثراته في تهميش مركزية القضية الأساسية فلسطين والحضارة الإسلامية والعربية، وهكذا تبدو اليوم بابل العراق وفي كلا الحالتين هنالك مرابطية الطاقة الحيوية وحدها التي تعمل خارج عالم الأفكار في بابلية الفوضى العالمية.
هـ- نحو رؤية في بناء جديد ( كتاب فكرة كمنولث إسلامي )
من خلال هذه البابلية التي أشار إليها ابن نبي لم يعد الفكر الإسلامي يمثل أرضية نمطية اجتماعية ووطنية تعني المسلم وغير المسلم كما درج عليه واقع المجتمعات الإسلامية في مسيرة التاريخ. فالنظر إلى التراث يستعرضه فكرنا إعجابا في مقارنات تسلب أَلْبَابَ المشاهدين في التلفزيون أو في بلاغة الكتب الرائجة اليوم لكنها لا تسكب حلولا لمشكلاتهم. ذلك أن الانتماء إلى الإسلام أضحى استعراضا خارج الذات.
إن كتاب فكرة كومنولث إسلامي هو نتيجة تحليل عملي وواقعي لمشكلة النهضة في العالم الإسلامي، فقد وضعه ابن نبي ليُصَفي أفكارنا من كل بابلية المرحلة الوسيطة التي تنحسر فيها الأفكار في رؤية الحاضر حين تسيطر الوسائل وحدها في إطار كمي تكديسا يبدد الجهود. وهكذا اقترح مرجعية تحليل وترشيد تفد إليها مشكلات من العوالم الإسلامية المختلفة والتي تكونت في كل منها بيئة من المشكلات تختلف كل واحدة منهما عن الأخرى.
فتجديد الفكر الإسلامي لابد أن يكون في إطار المجتمع ومن خلال مشكلاته في مفهومه الوطني والاجتماعي، انه تحريك الإنسان وبناء شخصيته من خلال قيمته الكونية المطلقة، ومن هنا فالإسلام مناخ شمولي واقعي وعملي يشترك فيه المسلم وغير المسلم في وحدة الطاقة الاجتماعية كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم يوم وصل إلى المدينة في بناء تحالف وعهد بين المسلمين واليهود (إن يهود بني عوف أمة مع المسلمين، للمسلمين دينهم ولليهود دينهم ” وهو عهد الدفاع عن المدينة والقتال.
فالإرادة الحضارية هي المحور في أية رؤية جديدة كما يقول ابن نبي، ومن هنا فنسيج هذه الوحدة وتناغمها هو الذي يضع الطاقة الحيوية في معيار الواجب الأخلاقي، لذا فهناك فرق بين المحدثات التي تقتحم وحدة المجتمع وتفسد تناغم المسيرة في سوق العولمة واستهلاك الفردية المطلقة وبين الاستجابة الضرورية للمستجدات التي تتفاعل مع وسائل استمرار المجتمع في معيار رسالته وثقافته الاجتماعية .
فمعيار المستجدات هو حدود ثقافة المجتمع، إنه معيار حيوية الإرادة وقوة الإنتاج في ظل حركة ثقافية ترتب الحاجات كما حدد ابن نبي في كتابه “المسلم في عالم الاقتصاد” وبالتالي فالمجتمع نفسه – وبقدر حاجته إلى الحلول- يرسم حدود مستجداته.
أما المحدثات فهي من الحدث الخارجي الذي يتدخل في أساس حركة المجتمع فيربك تناغمه دون أن تستجيب لضرورات استمراره. وهو يأخذ اليوم مفهوم السوق في المستوى العالمي لصالح إنتاج الوفرة والاقتصاد المالي .
فأمام عولمة الوسائل والاتصالات التي جعلت العالم قرية صغيرة كما قال ابن نبي المهم ألا ننغمس في طغيانها كمحدثات جاءت من العصر الصياغي الرأسمالي في ظل شغف إعوازي Entropiqueبل إن تحديد خياراتنا تجاهها كمستجدات في معيار تقويمي لحاجات ترتبط بتطور المجتمع العربي والإسلامي في إطار الحضور العالمي والإسهام فيه كرسالة وصدى للنظام الكوني والذي تبدو معالمه في ذلك التململ من ثقل التكنولوجيا وتطورها في تبديد ثروة الأرض والأمم لدى سائر الشعوب.
فتطور الفكر الإسلامي نابع من مقاربة الحدث وتأمله لا التقرب منه. فحينما يفقد المجتمع البواعث يتوقف إنتاج حلوله للمشكلات، وحينئذ تصبح امتدادا للعالم المسيطر وسوقا لإنتاجه ولحسابه . فالمشكلة هي في عالم الأفكار وليس في عالم الأشياء، إنها الرسالة في النهاية.
والمسلم الذي كان في سفح عرفات يوم حجة الوداع لم يكن يمثل جيله وشخصه وإنما يمثل الأجيال التي تأتي بعده .
فهل يحمل المسلم هذه الرسالة؟
تساءل ابن نبي في ختام كتابه فكرة كمنولث إسلامي .
الهــــوامش:
ــــــــــــــ
محامي ووزير لبناني سابق، الوصي على أعمال مالك بن نبي
المصدر: الملتقى الدولي: مالك بن نبي : مفكر شاهد ومشروع متجدد من تنظيم جمعية النبراس الثقافية المغرب 2005م