سؤال الإيمان في المنظومة الفكرية الحضارية لمالك بن نبي

عدد القراءات :3515

د. عقيلة حسين
كلية العلوم الإسلامية
جامعة الجزائر

المقدمة
سؤال الإيمان هذا السـؤال الذي تداول كثيرا في كتـابات مالك بن نبي، وفي كل موضع طرقه سواء تعلق بالحضارة أو النهضة أو التغيير الاجتماعي والفردي .
ومنه فسؤال الإيمان يشكل جوهر القضايا المطروحة، ومحرك التغيير، والدافع لنقد المناهج الفكرية الغربية.
ويقول في كتابه الظاهرة القرآنية 🙁 ينبغي أن ندرك أن التطور الثقافي في العالم الإسلامي يمر بمرحلة خطيرة، إذ تتلقى النـهضة الإسلامية أفكارها واتـجاهاتها الفنية عن الثقافة الغربية، وخاصة من طريق مصر هذه الأفكار الفنـية التي لا تقتصر على أشياء الحياة الفكرية الجديدة التي يتعودها الشباب المـسلم شيئا فشيئا، بل إنها تمس أيضا وبطـريقة غامضة ،ما يتصل بالفكر وما يتصل بالنفس، وفي كلمة واحدة ما يتصل بالحياة الروحية.)
ارتبط بمالك بن نبي- رحمه الله – كباحث ومفكر وبمنظومته الفكرية سؤال النهضة، وسؤال الحضارة، وسؤال القابلية للاستعمار، وسؤال الثقافة، وسؤال التاريخ؟ والمجتمع ؟
والآن أطرح سؤال الإيمان .
سؤال الإيمان هو السؤال الغائب الحاضر في فكر مالك بن نبي وكتاباته ، الإيمان المستصحب عند كل فكرة يناقشها ، وكل فقرة يكتبها و كل مسألة يعالجها، وكل مشكلة عقلية، فكرية، تاريخية، حضارية يشخصها ويبحث لها عن حلول، ليس بعيدا عن الإيمان ومستلزماته.
سؤال الإيمان ظل ماثلا: في نشوء الحضارة وأفولها، في النهضة وانبعاثها، في الإصلاح وآلياته، في منهج النقد، في العودة إلى الذات وتحصينها من الغزو والدخيل، في السياسة والاجتماع والاقتصاد، في البيت والمدرسـة والجامعة، في الطفولة والشباب والشيخوخة في الجغرافيا والمدائن والآثار .
فالإشكالية التي يمكن طرحها في ضوء هذه المعطيات هي:
ما هو سؤال الإيمان عند مالك بن نبي ؟
– هل الإيمان أساس كل نهضة عند المفكرين العرب المسلمين وعند الفلاسفة الغربيين من مقاربة مالك بن نبي؟
– هل الإيمان وحده يبني الحضارة ؟
– هل كل حضارة ونهـضة تحتاج إلى إيمان من وجـهة نظر مالك بن نبي
– من هو المؤمن الذي يقود الحضارة ؟
أما الإطار النظري للدراسـة : تعالج هذه الدراسة المتواضعة المقاربة الإيمانية والفكرة الدينية التي شغلت مالك بن نبي ،و صاحبته في معالجاته الدقيقة وتحليلاته وتأملاته العميقة ،وهذه المقاربة التي حددها بجوانب نظرية وجوانب تطبيقية إجرائية .هذه المقاربة التي لم يخلو كتاب من كتبه ولا موضوع من الموضوعات المعالجة منها.
لم أفصل أو أسهب في مسائل معروفة كترجمة مالك بن نبي ومؤلفاته ومنهجه، بقدر ما حاولت تحديد مشكلة علمية دقيقة وسؤال دقيق عميق – سؤال الإيمان-
كانت المعالجة لهذا الموضوع باعتماد كتب مالك بن نبي من غير انتقاء ولا تحيز ،بل باسـتقراء نصوص وموضوعات الكتب المتعلقة بهذه القـضايا، ولم تتم معالجة جميع القضايا المتعلقة بهذه المسألة لكثرتها وتشعبها والمنهج الأبحاث والصرامة الأكاديمية لا يسعان الإسهاب والتعرض لجميع هذه المسائل ،ويكفي التنويه بأهمية المشكلة المطروحة ومعالجتها ضمن المقاربة المحددة لها .مقاربة شرعية فكرية مقاصدية.

المبحث الأول
معاني الإيمان وإشكالياته في كتابات مالك بن نبي

سؤال الإيمان هو السؤال الحاضر الماثل المستـصحب في معالجات مالك بن نبي لقضايا أمته الحضـارية، وقد عبر عنه صـراحة بالفكرة الديـنية التي تكررت كعنوان لبعض المباحث،وكفكرة واضحة صريحة في موضوعات فكرية وتاريخية وحضارية ضمتها كتبه القيمة.
المطلب الأول : مفهوم الإيمان
الإيمان عند جمـهور العلماء كمفـهوم متكامل جامع لجميع عناصر تصرفات الإنسان المكلف فهو ما وقر في القلب و نطق به اللسان و صدقه العمل.
يقول الإمام الباقلاني:”…إن أفضل وأعظم نعمة الله على خلقه الطائعين وعباده المؤمنين خلقه الإيمان في قلوبهم، وإجراؤه على ألسنتهم، وتوفيقهم لفعله، وتمكينهم بالتمسك به. وخلق الإيمان، والتوفيق له نعمة خص الله- تعالى- بها المؤمنين دون الكافرين، ولذلك قال عز وجل : (فَلَوْلَا فَضْلُ اللهَِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِّنَ الْخَـسِرِينَ)(1)، (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَا تَّبَعْتُمُ الشَّيْطَـنَ إِلَّا قَلِيلًا)(2)، (وَلَوْ لَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا) (3)” (4).
وقال البخاري:” بَاب قَوْلُ النَّبِيِّصلى الله عليه وسلم بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ وَيَزِيدُ وَيَنْقُص..” (5).
“َكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا فَمَنْ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلْ الْإِيمَانَ فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ …” (6).
فالإيمان اعتقاد وقول وفعل .
ويعبر مالك بن نبي عن مصطلح الإيمان في كتاباته –كما ما يتضح في المطالب الآتية –بالحياة الروحية، والإيمان القوي، وبالفكرة الدينية … وكلها مصطلحات شغلته وأعنته على فهم ومعالجة وتشخيص مشكلات الحضارة.
المطلب الثاني: هل الإنسان حيوان ديني؟
سؤال إيماني وإشكال عقدي طرحه مالك بن نبي– رحمه الله -عند معالجته للفكرة الدينية وان كل إنسان له شعائره الدينية وطقوسه العقدية.” وترد المشكلة الغيبية– هكذا بانتظام –على الضـمير الإنساني في جميـع مراحل تطوره، وهو في حد ذاته مشـكلة أراد علم الاجتماع حلها حين وصف الإنسان بأنه في أصـله (حيوان ديني)، و من هذا التعريف الموضوعي تنبع نتيجتان نظريتان مختلفتان :
1- هل الإنسان (حيوان ديني) بشكل فطري غريزي ، وبسبب استعداد أصيل في طبيعته ؟
2- أو أنه اكتسب هذه الصفة إثر عارض ثقافي مفاجئ لدى مجموعة بشرية معينة، شمل مفعوله الإنسانية كلها ،بنوع من الامتصاص النفسي… ؟”(7).
سؤال جوهري يطرحه ثم يجيب عنه بأن هناك مذهبان في ذلك مذهب مادي في جوهره يرى أن كل شيء متوقف على المادة ، وآخر غيبي ميتافيزيقي يعد المادة في ذاتها محددة محكومة…
المطلب الثالث : الإيمان يتصل بالفكر والنفس
يعبر مالك بن نبي عن مصـطلح الإيمان بالحياة الروحية التي هي كل ما يتصل بالفكر والنفس” ينبغي أن ندرك أن التطور الثقافي في العالم الإسلامي يمر بمرحلة خطيرة، إذ تتلقى النهضة الإسلامية أفكارها واتجاهاتها الفنية عن الثقافة الغربية، وخاصة من طريق مصر.هذه الأفكار الفنية لا تقتصر على الأشياء في الحياة الفكرية الجديدة التي يتعودها الشباب المسلم شيئا فشيئا،بل أنها تمـس أيـضا وبطريقة غامضة، ما يتصل بالفكر وما يتصل بالنفس،وفي كلمة واحدة: ما يتصل بالحياة الروحية” (8).
المطلب الرابع : الإيمان يطبع قوانين الإنسان وعلومه
يعالج مالك بن نبي هذه الإشكالية العلمية تحت عنوان” الظاهرة الدينية” ويقول:” كلما أوغل المرء في الماضي التاريخي للإنسـان، في الأحـقاب الزاهرة لحضارته أو في المراحل البدائية لتطوره الاجتمـاعي، وجد سطورا من الفكرة الدينية ولقد أظهر علم الآثار دائما –من بين الأطلال التي كشف عنها– بقايا آثار خصـصها الإنسان القديم لشعائره الدينية، أيا كانت هذه الشعائر، ولقد سارت هندسة البناء من كهوف العبادة في العصر الحجري، إلى عهد المعابد الفخمة، جنبا إلى جنب مع الفكرة الدينية التي طبعت قوانين الإنسان بل علومه فولدت الحضـارات في ظل المعابد … فقوانين الأمم الحديثـة لاهوتية في أساسها، أما ما يطلقون عليه قانونهم المدني فإنه ديني في جوهره،ولا سيما في فرنسا ، فقد اشتق من الشريعة الإسلامية ” (9).
المطلب الخامس: الإيمان أصل كل الحضارات الإنسانية
يرى بأن أصل الحضارات الإنسـانية هو الإيمان والعقيدة التي يعتقدها كل شعب وأمة، ليؤصل بها أبعاد حضـارته الثلاثة الإنسان والوقت والتراب. فقوة المـعتقد يشكل قوة الحضارة.”ولقد ولدت المجتمعات التي ما تنفك تسلط حتى هذا الحين انعكاسات حضارتها على الخارطة الجغرافية وأعني بها:الهندوسية والبوذية والموسوية والمسيحية والإسلامية من هذه الانطلاقة الروحية التي أقامت هياكل (براهما) و(يهوه) ( Brahma et jeovab) ومعابد البوذية وكنائس القوطية والمساجد الإسلامية.فكل هذه الحضارات المعاصرة لنا، قد شكلت تركيبها المتآلف الأصلي للإنسان والتراب والزمن ،في مهد فكرة دينية.وإذا انقـضى الأمر أن تصدر حكـما بشأن المجـتمع الذي هو بصدد التشـييد حاليا باتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية ، باعتباره شكلا من الحضارة – وأنا أعتقد أنه يمثل شكلا لحضارة – نجد أن تكوينه ونموه يفسران بنفس الطريقة…فالفكرة الدينية تتدخل إما بطريقة مباشرة،وإما بواسطة بديلاتها.” (10).
المطلب السادس: الإيمان وتحديد العلاقات الاجتماعية
تحت عنوان المجتمع والقيمة الأخلاقية يطرح مالك بن نبي سؤال: هل ينتج المجتمع تلقائيا الدين يقول: “إذن فالعـلاقة الروحية بين الله وبين الإنـسان هي التي تلد العلاقة الاجتماعية، وهذه بدورها تربط ما بين الإنسان وأخيه الإنسان، ولقد علمنا من حديثنا في الفصل السابق إنها تلد ما في صورة القيمة الأخلاقية، فعلى هذا يمـكننا أن ننظر إلى العلاقة الاجتـماعية والعلاقة الدينـية معا من الوجهة التاريخية على أنهما حدث ومن الوجهة الكونية على أنهما عنوان على حركة التـطور الاجتماعي … فإن درجة الفراغ الاجتماعي تقل حيث تصبح صورة المجتمع بعض ما يوحي به قول الرسول صلى الله عليه وسلم:( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)(11). فقلت صورة المجتمع الذي لا يوجد به فراغ اجتماعي.كما نعلم مدي الصعوبة التي تحول دون الوصـول إلى تلك الدرجة، وهي المثل الأعلى الذي تستـهدفه الشرائع جميعا، الشرائع التي تحاول بما لديها من وسائل إنسانية خالصة أن تسد الفراغ الاجتماعي. ذالكم ولا ريب هو الدرس الذي أراد القرآن أن يعـلمه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال له: ( لَوْ أَنْفَـقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (12)” (13)
المطلب السابع : خطر الاستشراق على العقل الإيماني للمسلم
لقد فـصل مالك بن نبي في كتابه ” الظاهرة القرآنية” في محـنة العقل الحديث في العالم الإسلامي،على يد أمضى أسلـحة العدو في تهديم بعض جوانب الثقافة، بل أهم جوانبها وهو سلاح الاستشراق:”وإنه لما يثير العجب أن ترى كثيرا من الشباب المسلم المثقف، يتلقون اليوم عناصر ثقافة تتصل بمعتقداتهم الدينية،وأحيانا بدوافعهم الروحية نفسها، من خلال كتابات مختصيـن أوربييـن.إن الدراسات الإسلامية التي تظـهر في أوربا بأقلام كبار المسترقين واقع لا جدال فيه ،ولكن هل نتصور المكانة التي يحتلها هذا الواقع في الحركة الفكرية الحديثة في البلاد الإسلامية ؟” (14).
هذا السلاح الذي يقول عنه محمود محمد شاكر:”سلاح لم يدرسه المسلمون بعد ولم يتتبعوا تاريخه ولم يكشفوا عن مكائده وأضـاليله، ولم يقفوا على أسـرار مكره، ولم يستقصوا أثره في نواحي حياتهم الثقافية، بل في أكثر نواحي حياتهم الإنسانية …”
هذا الرأي ليس مسلم به على الإطلاق، فقد تصدى المسلمون للاستشراف، وكشفوا أضاليله ومكره، ولكن الإشكال الذي كان يواجههم في هذه الفترة ضغط الاستعمار، وانتشار الأمية والجهل في الأمة الإسلامية، وغلبة العدو مما جعل الاستعـمار ينمي حركة الاستـشراق للقضاء على إيمان المسلمين وعقيدتهم،وخاصة أن الاستشراق كان غي هذه الفترة مربوطا بالتنصير ودوائر المسيحية والكنائس .فكان خطرا كبيرا على الإسلام وأهله.
ويقول مالك بن نبي:” لم يكن الأب (لامانس : R.P.Lamance ) المثل الفريد للمستشرق الطاعن على الإسـلام ورجاله، والحالة الوحيدة التي يمكن أن نلحظ فيها العمل الصامت لتقويض دعائم الإسلام،فقد كان لهذا الرجل- الشاطر- على الأقل، فضل في الكشف عن بغضه الشديد للقرآن ولمحمد صلى الله عليه وسلم ولا شك أن العمل في ظل هذا التعصب الصاخب خير من تلك الميكـيافلية الصامتة المستهجـنة التي اتبعها مستشرقون آخرون متسترين بستار العلم .”(15).

المبحث الثاني
تفعيل الإيمان والعمل عند مالك بن نبي

نصوص كثيرة وإشكاليات دقيقة في تفعيل الإيمان وربطه بالعمل، فقوة الإيمان هي المحرك للنجاح وللبناء، وللحـضارة وللتعلم، وغياب الإيمان،غـياب العلم والحضارة ، وحلول الجـهل والاتكالية والغزو وتقليد الأجنبي، وهذا ما عالجه مالك بن نبي في كتبه كحلول لمشكلات حـضارية عاشتها الأمة الإسلامية في فترة الاسـتعمار الذي أراد أن يجتث الإيمان من صدور المسلمين، ليبقى جاثما على صدورهم يغرس فيهم حضارته ويتمتع بخيراتهم .وكذلك مشكلات بعض التحرر من الاستعمار والمتعلقة بالبناء والنهضة والتعليم والتقنين، والشخصية الإسلامية الحضارية المنشودة الفعالة بفضل الإيمان .
المطلب الأول : إشادة العلماء بتفعيل مالك بن نبي لفكرته الإيمانية
لقد شهد له علماء عصره ومن عرفوه عن قرب ،بأنه مفكر ومنظر في إطار الحضارة الإسلامية يستمد من القرآن والسنة والسلف الصالح كل المؤشرات السننية والمظاهر الإيجابية لربط العلم بالإيمان ، والإنسان بالقرآن ، والأصالة والمعاصرة .
ويقول عبد الله دراز:”… وإذا كان هناك في الواقع حقيقتان، فإنه لا يحق لواحدة منهما أن تنكر الأخرى،بل على العكس من ذلك، عليها أن تؤكدها وتشد من أزرها.وإذا اتفق لمؤمن متعلم أن ملك موهبة الكتابة فوق هاتين الصفتين من الإيمان والعلم، فإن واجبا أخر يقع على عاتقه : إنه إخراج ثمار عمله بلغة عصره، كما يفعل نبي يخاطب قومه بلغتهم.
إنني لا أستطيع أن أؤكد بأنك قمت بكلا الواجبين. فقد تأملت بنضج ذلك الاتصال بالعقل والتراث، بالعلم والعقيدة، وأفرغت في عرض جميل واضح متماسك شرارة ما تفجر من ذلك اللقاء. فسداد حكمك، وحرارة عقيدتك، وحداثة مصطلحاتك،وجمال أسلوبك ،هذه كلها ميزات لا أستطيع أن أفيك ما تستحق التهنئة عليها…بعد هذا كله،أعود لأهنئك مرة أخرى على واسع الجهد، الذي به نجحت في إلقاء ضوء جميل حول المسألة الدينية في عمومها، وحول الفكر القرآني خاصة، كيما تسهم في دعم الأساس العقلاني للإيمان …”(16).
ويقول فيه الدكتور مصطفى السباعي:” الأستاذ مالك جزائري الأصل، مجاهد في سبيل القـضية الجزائرية بقلمه ولسانه، جـهاداً يعرف له فضله فيه زعمـاء حركة التحرير الجزائرية منذ نشوئها … ويتميز الأستاذ مالك بن نبي في جميع مؤلفاته بعمق التفكير ومنطقيته، وواقعيته، وقوة أسلوبه في الدفاع عن الأفكار التي يتبناها… وقد استطاع مالك بأسلوبه الذي تفرد به، وثقافته الغربية الواسعة مع ثقافته العربية الإسلامية، أن يوجّه إليه أنظار جيل من شبابنا المثقف الذي يتوق إلى الإصلاح مع احتفاظه بقوة العقيدة، وسلامة التفكير، وبدأ يرى في الأسـتاذ مالك بن نبِي رائده الفكري البعيد النظر القوي الإيمان المناضل بقلمه، في سبيل الله والإسلام”. (17).
ويقول الأستاذ أنور الجندي:” ومثل مالك بن نبي بين مفكري العالم الإسلامي قليل فهو الرجل الذي ورد مورد الغرب، وجاءنا منه نقياً صافيا، وقد حفظ الله له أصالته وأفاد مما وجد، نصاعة فكر، وبعد نظر، وعمق فهم، وقدرة على كشف تلك التحديات والشبهات والأوضاع التي عمد التغريب والغزو الثقافي على نصب شباكها، لتدمير الفكر الإسلامي وإثارة أجواء الاضطراب والتخلخل بين جوانبه”(18).
ويقول محمود محمد شاكر :”…وهذا المنهج الذي سلكه مالك ،منهج يستمد أصوله من تأمل طويل في طبيعة النفس البشرية الإنسانية، وفي غريزة التدين في فطرة البشر، وفي تاريخ المذاهب والعقائد التي توسم بالتناقض أحيانا،ولكنها تكشف عن مستور التدين في كل إنسان ثم هو يستمد أصوله من الفحص الدائب في تاريخ النبوة وخصائصها،ثم في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منذ نشأته إلى أن لحق بالرفيق الأعلى. ثم هذا البلاغ الذي جاء ليكون بنفسه، دليلا على صدق نفسه ،أنه كلام الله ،المفارق لكلام البشر من جميع نواحيه…”(19).
وقال عنه محمد بن المبارك –رحمه الله –” إن مالكا يبدو في كتابه هذا وفي مجموع آثاره لا مفكرا كبيرا وصاحب نظرية فلسفية في الحضارة فحسب ، بل داعيا مؤمنا يجمع بين نظرة الفيلسوف المفكر ومنطقه ،وحماسة الداعية المؤمن وقوة شعوره ، وإن آثاره في الحقيقة تحوي تلك الدفعة المحركة التي سيكون لها في بلاد العرب أولا وفي بلاد الإسلام ثانيا ، أثرها المنتج وقوتها الدافعة .وقلما استطاع كاتب مفكر أن يجمع بين سعة الإطار و الرقعة التي هي موضوع البحث ،وعمق النظر و البحث ، وقوة الإحساس و الشعور –أنا لا أقول إنه (ابن نبي ) ،ولكني أقول إنه ينهل من نفحات النبوة ،وينابيع الحقيقة الخالدة…” (20).
المطلب الثاني : دعوته للعودة إلى المنهج السلف مع نقده لبعض جوانبه
لقد مدح ابن نبي منهج السـلف في كتبه، وثناؤه عليهم وعلى منهـجهم، وخاصة في اعتمادهم على القرآن والسنة، وهو يعتبر أن منهجهم هو الأساس الأول والأخير في إصلاح الأمة، لأنه يحرك الفكر والساعد، فهو أفضل ما في جعبة الحركة الإصلاحية في مجال التغيير، ويعرًف السلف ويمدحهم يقول:” ليس هناك أفضل من السلفية، التي هي العودة إلى الفكرة الأصلية في الإسلام فكرة السلف”(21).
وهو أيضاً يحث أي حركة إصلاحية أن تتبع منهجهم، بالعودة إلى المصدر الأول، الذي عاد له السلف الصالح، ألا وهو القرآن والسنة ليؤديا دورهما العملي الحركي من جديد، بقوله :”فلابد من وجود المبدأ السـلفي في عقول المـصلحين لأنه يواجه مشكلة الوظيفة الاجتماعية للدين، والمؤمن يستفيد من مدرسة تلقنه مبادئ الرجوع للسلف”(22).
ولقد أخذ يمدح علماء السلف ومنهم الإمام ابن تيميه، فيقول عنه أنه:” لم يكن عالما كسائر الشيوخ ولا متصوفاً كالغزالي، ولكن كان مجاهداً يدعو إلى التجديد الروحي والاجتماعي، في العالم الإسلامي”(23).
ووضح تأييده لهذا المنهج من خلال مدحه لمن ينتهجون هذا النهج من الحركة الجزائرية فيقول:” ونرى من هؤلاء وأولئك عمائم الإصلاح، تدلنا على منهاج آخر يقوم على عقيدة صحيحة، ورجوع إلى السلف الصالح وتغيير ما بالنفس من آثار الانحطاط ” (24). ” والرجوع إلى السلف، هو المبدأ التي نادت به الحركة الإصلاحية القائمة على أساس القرآن (25).
تكرر حديث(المؤمن للمؤمن يشد بعضه بعضا) ليحدد به العودة إلى المجتمع الأول من غير مذهبية ولا طائفية بل الأخوة و الفطرة والإيمان .
المطلب الثالث : تفعيل الإيمان بالقرآن
كل الانتكاسات التي حصلت للعالم الإسلامي من تخلف واستعمار وجهل وإيمان فردي أدت إلى ركود وعدم فعالية المجتمع ، وتأخر ركب الحضارة ،ولا يمكن تدارك ذلك إلا بقوة الإيمان المستمد من القرآن ،هذا ما يقرره مالك بن نبي –رحمه الله- : ” ومن السهل علينا أن نتصور، ما يمكن أن تصير إليه تلك (الإرادة الجماعية) في العالم الإسلامي الذي نزع عن نفسه أغلفة ما بعد الموحدين ،ثم غرست شجرته في الأرض جموع تعيش على ثمرات الأرض ،يقودها فتية يجعلون فكرة القرآن نصب أعينهم، فيلتزموها وقد تخلصت من أن تكون وثيقة أثرية ثمينة مرتبة حبيسة ،بل أصبحت ذات حركة دائمة …” (26).
فالإيمان يفعل ويرفع من درجة الاعتقاد إلى درجة العمل ،وهذا هو الإبمان حسب تعريف جميع العلماء فهو اعتقاد و قول وفعل ،ومالك بن نبي يلفت نظر المصلحين الذين خاضوا في هذا المجال أن المسلم مازال مسلما وموحد، ولكن مشكلته إيمانه لنفسه ،وليس تفعيل هذا الاسلام والإيمان في الواقع لتغييره للأقضل:”والمسلم حتى المسلم ما بعد الموحدين، لم يتخل مطلقا عن عقيدته،فلقد ظل مؤمنا، وبعبارة أدق ظل مؤمنا متدينا ،ولكن عقيدته تجردت من فاعليتها،لأنها فقدت إشعاعها الاجتماعي فأصبحت جاذبية فردية، وصار إيمان فرد متحلل من صلاته بوسطه الاجتماعي، وعليه فليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، وإنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها وقوتها الإيجابية،وتأثيرها الاجتماعي، وفي كلمة واحدة :إن مشكلتنا ليست في أن(نبرهن) للمسلم عن وجود الله، بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده ، ونملأ به نفسه باعتباره مصدرا للطاقة …” (27).
ويقترح مالك بن نبي العودة إلى تنظيم الطاقة الحيوية للمسلم بالقرآن الكريم (قلا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها )فنحن بحاجة إلى إعادة تنظيم الطاقة المسلم الحيوية وتوجيهها ،وأول ما يصادفنا في هذا السبيل، هو يجب تنظيم تعليم القرآن تنظيما يوحي معه من الجديد إلى الضمير الحقيقة القرآنية،كما لو كانت جديدة ،نازلة على فورها من السماء على هذا الضمير .وثاني ما يصادفنا هو تحديد رسالة المسلم الجديدة في العالم ،فبهذا يستطيع المسلم أن يحتفظ باستقلاله الأخلاقي ، حتى ولو عاش في مجتمع لا يتفق مع مثله الأعلى ومبادئه، كما أنه يستطيع أن يواجه على الرغم من فقره أو ثرائه مسؤولياته مهما يكن فدر الظروف الخارجية الأخلاقية و المادية …” (28).
المطلب الرابع : الإيمان و العلم
ناقش – رحمه الله – العلم بمنتوج بشري وكأمر من الله كلف به المسلم ليبني حضارته ويسعد في دنياه وآخرته ،وربط العلم بالأخلاق وبالإيمان وقوة الإيمان .ويقول : ” وفي البقعة المهجورة يفقد العلم معناه كله ، فأينما توقف إشعاع الروح يخمد إشعاع العقل ، وإذ يفقد الإنسان تعطشه إلى الفهم ،وإرادته للعمل عندما يفقد الهمة و(قوة الإيمان) .فالعقل يختفي لأن آثاره تتبدد في وسط لا يستطيع أن يفهمها أو يستخدمها…حتى إذا وهنت الدفعة القرآنية توقف العالم الإسلامي، كما يتوقف المحرك عندما يستنزف أخر قطرة من الوقود. وما كان لأي معوض زمني أن يقوم خلال التاريخ مقام المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية ألا وهو: (الإيمان)…”(29).
المطلب الخامس : الإيمان وتفعيل البناء الحضاري والإصلاحي والوطني
يعرف مالك بن نبي أن الحضارة هي: ” مجموعة الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين، أن يقدم لكل فرد من أفراده، في كل طور من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطواره” (30).
وهي ذات جانبين: الجانب الذي يتضمن شروطها المعنوية، في صورة إرادة تحرك المجتمع نحو تحديد مهماته الاجتماعية والاضطلاع بها، والجانب الذي يتضمن شروطها المادية، في صورة إمكان، أي أنه يضع تحت تصرف المجتمع الوسائل الضرورية للقيام بمهماته، أي الوظيفة الحضارية (31).
وأهم جانب معنوي كما يقرره في مواضع مختلفة من كتاباته هو الإيمان ،ولكل حضارة بعدا اعتقاديا مفعلا لها وفي تفعيل الإيمان في بناء الحضارة والسير بالمجتمع نحو التطور ومجابهة الصعوبات .
يقول:”…والاعتبارات هذه تبين لنا كيف(تشرط) الفكرة الدينية سلوك الإنسان حتى تجعله قابلا لانجاز رسالة متحضـرة غير أن دور الفكرة الدينـية لا يكتفي بالوقوف عند هذا الصدد، فهي تحل لنا مشكلة نفسية اجتماعية أخرى، ذات أهمية أساسية تتعلق باستمرار الحضارة،فالمجتمع لا يمكنه مجابهة الصعوبات التي يواجهه بها التاريخ كمجتمع ما لم يكن على بصيرة جلية من هدف جهوده،غير أن النشاط الاجتماعي لا يكون مثمرا وفعالا وقابلا للبقاء ولا للاسـتمرار … وعلاوة على ذلك، فالفكرة الدينية التي تشرط سلوك الفرد تخلق في قلوب المجتمع بحكم غائية معينة،وذلك يمنحها إياها الوعي بهدف معين ،تصبح معه الحياة ذات دلالة ومعنى ، وهي حيثـما تمكن لهذا الهدف من جيل إلى جيل ومن طبقة إلى أخرى ،فإنها حينئذ تكون قد مكنت لبقاء مجتـمع ودوامه وذلك بتثبيـتها وضمانها لاستمرار الـحضارة.وإن هذه المشكلات ذاتها التي تتعلق بعلم النفس الفردي والاجتماعي ،قد سبق أن وجدت لها الفكرة الإسلامية حلها منذ ثلاثة عـشر قرنا من الزمن، حتى تـحرك الإنسـان السابق على الحـضارة، والذي بنى الـحـضارة الإسلامية…” (32).
ولا يمكن أن يصير المسلم فعالا في بناء الحضارة إذا لم يتحقق فيه معنى حب الخير للإنسانية ، ويبلغ هذا الخير الذي هو الإيمان للحضارات المادية التي تعيش في تعاسة وفراغ روحي ،ويمتثل للآية التي حددت دور النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومنه دور كل مسلم .قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (33).
ويقول : ” لتحقيق معنى الآية فإن على المسلم أن يبلغ الإسلام، وأن يقدم المبررات الجديدة التي تنتظرها تلك الأرواح التي تتألم لفراغها وحيرتها وتيهها، إذا أراد المسلم ذلك فليرفع مستواه بحيث يستطيع فعلاً القيام بهذا الدور، إذ بمقدار ما يرتفع إلى مستوى الحضارة بمقدار ما يصبح قادراً على تعميم ذلك الفضل، الذي أعطاه الله له ـ أعني دينه ـ إذ عندها فقط يصبح قادراً أيضاً على بلوغ قمم الحقيقة الإسلامية، واكتشاف قيم الفضيلة الإسلامية، ومن ثم ينزل إلى هضاب الحضارة المتعطشة فيرويها بالحقيقة الإسلامية وبالهدى، وبذلك يضيف إليها بعداً جديداً، لأن الحضارة العلمانية، حضارة الصاروخ حضارة الإلكترون اكتسبت هذه الأشياء، وضيعت بعداً آخر تشعر بفقدانه وهو بعد السماء)(34).
وعندما يتحدث عن تماسك المجتمع ووحدته ،لا يتأخر في أن يستحضر الشواهد الإيمانية التاريخية من السيرة النبوية والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار عند بداية تشييد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأول مدينة وحاضرة ومهد الحضارة الأولى في تاريخ المسلمين ،بعد الهجرة إلى المدينة المنورة . فيقول: ” إن روح الإسلام هي التي خلقت من عناصر متفرقة كالأنصار والمهاجرين أول مجتمع إسلامي… إن قوة التماسك الضرورية للمجتمع الإسلامي بكل وضوح في الإسلام، ولكن أي إسلام ؟…الإسلام المتحرك في عقولنا، وسلوكنا، والمنبعث في صورة إسلام اجتماعي.وقوة التماسك هذه جديرة بأن تؤلف لنا حضارتنا المنشودة ، وفي يدها– ضـمانا لذلك– تجربة عمرها ألف عام، وحضارة ولدت على أرض قاحلة وسط بدو، رجال الفطرة و الصحراء…” (35).
ويستدرك مالك بن نبي على المسلم المعاصر لم يتمكن من يزاوج بين الإيمان و المجتمع والمسجد و المجتمع ، وهذه إحدى المشكلات التي تتعلق بالحضارة في هذا الزمن حيث يقول : ” فالمشكلة التي نواجهها هنا إذن ذات جانبين ،جانب اجتماعي وجانب نفسي ،وقد أرتنا أوجه التعارض السالفة أنه لكي نعالجها من كلا جانبيها يجب أن يكون لدينا (فكرة) عليا ،تصل ما بين الروحي و الاجتماعي ، وتجري من جديد تركيب الشخص المسلم تركيبا يجعله يتماثل مع ذاته ،في المسجد و في الشارع .لقد أكدت الفكرة الإسلامية فيما مضى صلاحيتها في بناء مجتمع استطاع أن نشاطه المشترك بطريقة بالغة التوفيق .لقد أخضعت هذه الفكرة الطاقة الحيوية لدى البدوي العربي لنظامها الدقيق وجعلت منه إنسانا متحضرا ومحضرا ،والأمثلة كثيرة على أن هذه الفكرة أظهرت فعاليتها الكاملة …” (36).
ويشيد – رحمه الله – بالثورة الجزائرية التي رسخت الفكرة الإيمانية والدينية في مواثيقها استعداد للاستقلال وذلك في مؤتمر طرابلس. ويقول:”وأخيرا،فقد سجلت الثورة الجزائرية ضمن ميثاق طرابلس (الإسلام) Islamisme) ) بين مبادئها الموجهة لها، ذلك أنها كانت تطيع المنطق نفسه، ولعلمها أنها قد استقت هي نفسها أصفى جوهرها وأقوى عناصر مفهوميتهاIdéologie) ) من هذا الدين.وهكذا سجلت على هذا الغرار مبدأ (محضرا) سابقا ضمن مفهوميتها ،علما منها بأنها تستطيع أن تستمد منه الشرارة الضرورية لتركيبة الإنسان والتراب والزمن ،المتماسكة بالجزائر… “(37).
المطلب السادس : الإيمان و الزمن
يعتبر الزمن في فكر مالك بن نبي أحد عناصر الحضارة والتي تتكون من ثلاثة عناصر – الإنسان – الوقت – التراب . يفتتح حديثه عن الزمن وأهميته بحديث نبوي ؛ مرجعية إيمانية إسلامية ، والحديث هو قوله صلى الله عليه وسلم ( ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: “يا بن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد فاغتنم مني فإني لا أعود.. إلى يوم القيامة”)(38). فالزمن يتدفق على السواء في أرض كل شعب، ومجال كل فرد، وهو في مجال ما يصير (ثروة) وفي مجال آخر يتحول عدماً. فهو يجري في الحياة ويرافق تلك الأحداث، ويصب في التاريخ تلك القيم التي منحتها له الأعمال التي أتمت فيه ولكنه على حد تعبيره نهر صامت، حتى أننا ننساه أحياناً في ساعة الغفلة أو نشوة الحظ قيمته التي لا تعوض، ومع ذلك ففي ساعة الخطر في التأريخ تمتزج قيمة الزمن بغريزة المحافظة على البقاء، ففي هذه الساعات كانتفاضات الشعوب، لا يقوم الوقت بمال، كما ينتفي عنه معنى العدم، إنه يصبح جوهر الحياة الذي لا يقدر، فلا يسمع الإنسان صوت الساعات الهاربة، ويدرك قيمتها، إلا في اللحظات الحرجة التي تتناول البقاء والانتصار والخلود والفناء(39).
مفهوم البناء للحضارة والمجتمع والحياة الاجتماعية عند المسلم تختلف عما يتصوره الكافر و المجتمع المادي، لأن المؤمن يعيش زمانين ما قبل الموت وما بعد الموت، ويعمر دارين: الدنيا والآخرة ويقول : ” … والمجتمع الإنساني يقرر فكرته في مستوى آخر ليس مستوى البقاء،ولكن مستوى تطور النوع ورقيه ،وهذه هي حقيقة المجتمع التي ينبني عليها كيانه .
فما هي الأهداف التي من أجلها يتكون المجتمع بالمعنى و الاصطلاح الذي نعنيه ؟ إننا إذا عبرنا عنها بالنسبة للفرد المسلم ، وجدنا أن القرآن الكريم يعبر عنها بقوله (وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَـاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْأَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)(40). فالحياة الاجتماعية بالنسبة للمسلم لا تنفصل فيها الحياة الدنيوية عن الحياة الأخروية ،فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( الدنيا مطية الآخرة ) فنحن بالطبع لا نفصل الدنيا عن الأخرى ، إذ هي المطية التي نمتطيها للوصول إلى أهداف هي أبعد من الموت .وإذا كانت هناك بعض المجتمعات الحديثة اليوم ،تبني المجتمع لغايات اجتماعية بحتة ولحياة أرضية بحتة ،وأنا لا أقلل من شأن هذه الغايات ،وإنما أعلم أنها تقف في منتصف الطريق ،فإن مجتمعنا يبني لما بعد الحياة ،كما يبني لأهداف يحققها لحياة كل الفرد . وهذا بالطبع يتطلب من المسلم ومن العربي جهدا أقدر من جهد الآخرين ،وجهادا أكبر من جهادهم… “(41).
المطلب السابع: الإيمان وتفعيل فضائل الأخلاق
تعتبر فضائل الأخلاق من مقومات الحضارة الإنسانية عامة والإسلامية خاصة ، ومالك بن نبي أولى هذا الأمر عناية بالغة،وخاصة في حديثه عن أخلاق الأنبياء والحكماء ،وعن صعود الحضارات بسمو أخلاق الأفراد والمجتمعات ،وعن أفولها بانحطاط أخلاق الأفراد والجماعات.
يقول في ذلك ” ومن هنا ندرك سر القيمة التي خص بها (عالم الاجتماع)محمد صلى الله عليه وسلم ، الفضائل الخلقية باعتبارها قوة جوهرية في تكوين الحضارات .ولكن أوضاع القيم تنقلب في عصور الانحـطاط لتبدو الأمور ذات خطر كبير، فإذا حدث ذلك الانقلاب انهار البناء الاجتماعي، إذ هولا يقوى على البقاء بمقومـات الفن والعلم والعقل فحسب، لأن الروح، والروح وحده هو الذي يتيح للإنسانية أن تنهض وتتقدم، فحيـثما فقد الروح سقطت الحضارة وانحـطت، لأن من يفقد القـدرة على الصعود لا يملك إلا أن يهـوي بتأثير جاذـبية الأرض” (42).
كما يعقد مقارنة بين الأخلاق الدينية في اليهودية والمسيحية بين أخلاق الإسلام من حيث فعاليتها ودورها ونفعها للفرد والمجتـمع فيقول: ” الأخلاق الدينـية تدفع الفرد إلى أن ينشد دائما ثواب الله قبل أن يهدف إلى فائدته التوحـيدية تحترم أيضا المنفعة الشخصية، ولكنها تمتاز برعاية منـافع الآخرين، وهي بذلك ومن أجل هذا الثواب صـاغت التوراة الميثاق الخلقي الأول للإنسانية في وصاياها العشر،وساق الإنجيل توجيهاته في عظة المسيح على الجبل ،ولكن الأمر في الكتابين كليهما أمر مبدأ أخلاقي سلبي ،فهو يأمر الناس بالكف عن فعل الشر في حالة ، وبعدم مقاومة الشر في أخرى.أما القرآن فسيأتي بمبدأ إيجابي أساسي كما يكمل منهج الأخلاق التوحيدية ،ذلك المبدأ هو لزوم مقاومة الشر فهو يخاطب معتنقيه بقوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )(43)، ومن جهة أخرى يقر القرآن فكرة الجزاء ، أساس الأخلاق التوحيدية” (44).
ولا يوجد أفضل من القرآن في إيقاظ الوازع الخلقي ويقول : ” وإن درسه الأخلاقي لهو ثمرة نفسية متعمقة في الطبيعة البشرية تصف لها النقائص التي تنهى عنها ،و ينفر منها ،و الفضائل التي يدعونا إلى التأسي بها ،من خلال حياة الأنبياء ،لؤلئك الأبطال و الشهداء في سجل ملحمة السماء ،وعلى هذا الأساس يدفع القرآن المؤمن إلى الندم الصادق ،حين يعده بالغفران ،أساس التربية الجزائية في الأديان السماوية… “(45).

الخاتمة
كان مالك بن نبي – رحمه الله – صاحب همٌّ علمي وحضاري، وصاحب همة وإيمان، استطاع أن يفعل إيمانه كي يكتب كل هذا المنتوج الفكري الدقيق العميق، ويطرح كل المشكلات التي تخص الإنسان المسلم العربي الجزائري، وحتى الإنسان غير المسلم .
استصحب مالك بن نبي مرجعية واضحة في مقاربة المشكلات و الموضوعات و المسائل المدروسة ،إنها المرجعية الإسلامية؛ القرآن الكريم، السنة النبوية الشريعة، سيرة العطرة لسيدنا المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،الصحابة الكرام .
تجلت هذه المرجعية في طرح المشكل المدروس، وفي العلاج الموصوف . ولا يجادل مجادل في كون المرجعية تعبر عن سؤال الإيمان بوضوح وجلاء .
سؤال الإيمان اعتمده مالك بن نبي كما جاء في البحث في جانب نظري فطرح سؤال :هل الإنسان حيوان ديني؟ ليجيب بأن الإنسان حيوان ديني ، يعيش ليبعد الله – عز وجل – وإذا ضعف تدينه وهبطت روحانياته عبد أهواءه، الجمادات، الأشخاص، الأفكار الميتة …
والإيمان عنده يتصل بالفكر والنفس، يطبع قوانين الإنسان وعلومه، ويأصل لكل الحضارات الإنسانية ويحدد العلاقات الاجتماعية وينتقد كثيرا الحضارة الغربية في ازدواجية خطابها في شأن الإيمان ،فهي تعلى وتبرز إيمانها في كل نواحي مسيرتها الحضارية السياسة، والاقتصاد، والثقافة، والمجتمع، وتريد أن تزيل الإيمان من المخالفين لها وخاصة المسلمين .
وقد ناقش هذا الأمر في خطر المستشرقين على العـقل المسلم، وتأثيره في مسار حياة الشباب المسلم العلمية والفكرية والحضارية والنهضوية.
ولما كان الإيمان اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالجوارح، خصص الشطر الثاني من البحث هو للشق العملي من الإيمان، وعلماء الشريعة عندما يحددون بان الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، إنما يقررون، فعالية المسلم ودوره في تطبيق دينه على مستواه الفردي وعلى المستوى الاجتماعي .
وهذا ما قاربه مالك بن نبي- رحمه الله – بمنهج دقيق وربط بين الأسباب و المسببات و المقدامات و النتائج .
فدعوته إلى العودة لمنهج السلف في البناء و الإصلاح و التغيير ؛ إنما هي دعوة للاقتداء بتجربة ناجحة في تاريخ المسلمين تمكنوا من خلالها أن يتحولوا من أعراب إلى رجال الفطرة والحضارة والتحضير . وآليات ذلك كله العمل بالقرآن ،وتفعيل دور العلم و الوعي واحترام الوقت و الزمن ،والتحلي بفضائل الأخلاق .

المراجع
1- الآية 64، سورة البقرة
2- الآية 83، سورة النساء
3- الآية 21، سورة النور
4- الإنصاف – الباقلاني – (1 / 3)
5- صحيح البخاري –كتاب الإيمان (ج 1 / ص 10)
6- المصدر نفسه
7- الظاهرة القرآنية – مالك بن نبي – ترجمة عبد الصبور شاهين – تقديم محمد عبد الله دراز – محمود محمد شاكر – دار الفكر الجزائر – دار الفكر سورية – ط3- 1406هـ -1986م – ص 71 وبعدها
8- الظاهرة القرآنية – ص 54
9- المرجع نفسه – ص 69 وبعدها .
10- القضايا الكبرى، مالك بن نبي ،دار الفكر المعاصر بيروت –دار الفكر دمشق -1410هـ -2000 م – ص 61
11- أخرجه البخاري –كتاب الأدب – باب تَعَاوُنِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا -18/449-رقم 5567
12- سورة الأنفال، الآية 63
13- ميلاد مجتمع ..شبكة العلاقات الاجتماعية –مالك بن نبي – ترجمة عبد الصبور شاهين –دار الفكر الجزائر– دار الفكر سوريا– ط3- 1406هـ – 1986م ص 56 وبعدها
14- الظاهرة القرآنية – ص 54
15- المرجع نفسه – ص 56
16- الظاهرة القرآنية – ص 11 وبعدها
17- أعلام القرن الرابع الهجري ، ص142 .
18- أعلام القرن الرابع الهجري ، ص139 .
19- الظاهرة القرآنية – ص 22 وبعدها
20- وجهة العالم الإسلامي – مالك بن نبي – ترجمة عبد الصبور شاهين –دار الفكر –دمشق – 1423هـ- 2002م مقدمة الكتاب ص 9
21- وجهة العالم الإسلامي : مالك بن نبي ، ص47
22- المصدر السابق : ص49
23- المصدر السابق : ص42 ،ص 43 .
24- شروط النهضة : مالك بن نبي ، دار الفكر ، ترجمة عبد الصبور شاهين ، ص 25
25- وجهة العالم الإسلامي: مالك بن نبي، ص145 ، 146
26- وجهة العالم الإسلامي: مالك بن نبي، ص184
27- وجهة العالم الإسلامي: مالك بن نبي، ص 54
28- ميلاد مجتمع –ص 114 وبعدها
29- وجهة العالم الإسلامي: مالك بن نبي، ص 54
30- آفاق جزائرية : مالك بن نبي ، مكتبة عمّار ط2 عام 1971م، ص38 .
31- المسلم في عالم الاقتصاد : مالك بن نبي، ط دار الفكر، دمشق، عام 1979م .
32- شروط النهضة –مالك بن نبي – ترجمة عمر كامل مسقاوي –عبد الصبور شاهين –دار الفكر 1406هـ – 1986م ص 72
33- سورة الصف، الآية 9
34- دور المسلم ورسالته ، ص34 ، 35 .
35- المرجع نفسه، ص 72،90
36- ميلاد مجتمع –ص 107-108
37- القضايا الكبرى ص 62
38- كنز العمال – (ج 15 / ص 796) رقم 43161
39- شروط النهضة: مصدر سابق، ص145 ـ 146.
40- سورة القصص، الآية 77
41- تأملات – مالك بن نبي -دار الفكر المعاصر -لبنان -دار الفكر -سورية – 1423ه-2002م ص 125 وبعدها
42- وجهة العالم الإسلامي –ص 31
43- سورة آل عمران، الآية 110
44- الظاهرة القرآنية، ص 207
45- المرجع نفسه، ص 195

الملتقى الدولي: مالك بن نبي و استشراف المستقبل
من شروط النهضة إلى شروط الميلاد الجديد
في إطار تظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية
17 ـ 18 ـ 19 محرم 1433 هـ/تلمسان 12 ـ 13 ـ 14 ديسمبر 2011 م

Comments (0)
Add Comment