مالك بن نبي
يجب أن نحدد أولاً الموضوع بطريقة منطقية واضحة، مستمدة من ملاحظاتنا البسيطة :
إننا عندما نلقي نظرة فاحصة على المجتمعات المعاصرة في القرن العشرين، نجد أنها تختلف في نواح
عدة وتتشابه في نواح أخرى، والاختلاف الذي يلفت نظرنا يتمثل في جانب أصيل من جوانب المجتمع، ألا وهو ما يطبع نشاطه من فاعلية تتفاوت درجتها من مجتمع إلى آخر .
هذا العنصر أصبح أساساً في فلسفة العصر، التي تعنى بتقدير الكم فتجعله فوق القيم الأخرى، وهو يختلف باختلاف المجتمعات حتى يمكن أن نتخذه مقياساً خاصاً لقياس المستوى التاريخي لهذه المجتمعات. فهناك مجتمعات أكثر فاعلية من مجتمعات أخرى، وإذا تقرر هذا في ذهننا، وقد يتقرر بمجرد النظرة إلى قائمة الإنتاج في العالم، فيجدر بنا أن نتساءل: ما السبب في هذا الاختلاف في درجة الفاعلية؟ والجواب يقتضي احتمالين في نطاق المنطق العام: فقد نقول: إن المشكلة تتصل بناحية عنصرية، كما ذهبت الفلسفة التي تمذهبت بالآراء التي كانت سائدة في سياسة (هتلر)، أو نقول إنها تتصل بناحية اقتصادية كما تفسرها مدرسة “ماركس”
على أننا نجد أنفسنا هنا أمام لغز والتباس، ولا نستطيع الخروج منهما إلا عن طريق ملاحظات أخرى، فمن ناحية نلاحظ أن المجتمعات المعاصرة تختلف في كمية الإنتاج، وحين ندرس من ناحية أخرى مجتمعاً واحداً في عصور مختلفة، نرى أن إنتاجه الاجتماعي يختلف من فترة إلى أخرى، وإذن فالنظرية العنصرية تفقد مسوغاتها، ولابد لها من البحث عن مسوغات أخرى؛ على أنه مهما تكن الأسباب الكائنة وراء ظاهرة النشاط الاجتماعي فإنه يمكن حصرها في سبب عام نصطلح عليه بالفاعلية، وهذا لا يؤدي قطعاً إلى تفسير واضح، إنما يحدد نظرتنا لا في منطوق الكلمة اللفظي بل في حقيقتها الاجتماعية ومضمونها، أي تشخيص حقيقة اجتماعية نصطلح عليها هكذا… ..ماذا نعني بالفاعلية: بوصفها قياساً لإنتاج المجتمعات؟
فلنبدأ بأبسط مجتمع: إن حياة الحيوان تتضمن صوراً مختلفة، فهناك حيوان يعيش بمفرده بعيداً عن نظام الأسرة، ونشاطه يسد فقط حاجات بيولوجية بسيطة، كالقط مثلاً فهو يسد حاجات فردية ولا نرى لنشاطه أثراً بعد سد تلك الحاجات، فإذا نظرنا بعد ذلك إلى حيوان أعلى مستوى، يعيش في جو أسري فإن نشاطه يأخذ صورة جديدة .
فالعش البسيط الذي يبنيه الطير يعطي صورة للنشاط الاجتماعي في مستوى أرقى، ولكنه دون مستوى الحيوان الذي يعيش في نظام أوسع نطاقاً من الأسرة كالنحل، نجد إنتاجه الاجتماعي يختلف عن إنتاج الحيوان الذي يعيش في نطاق الأسرة فحسب، فإنتاجه يتسم بالفاعلية في صورتين: مادية ومعنوية .
فمن الناحية الأولى: نرى أن نشاط النحل ينتج أكثر من حاجات سربه البسيطة، حتى إننا نستغل العسل الذي ينتجه كل سنة .
ومن الناحية المعنوية: نرى أن هذا الإنتاج يفرض على خليته حياة منظمة خاضعة لقوانين معينة، فنجد في هذا المجتمع البسيط ظاهرة تقسيم العمل، وقد اتسمت بها حياة هذه الفرق من النحل، فتزيد مهامها عن عشرة أنواع من العمل، كل مهمة منها لها رصيدها من الطاقات الاجتماعية ومن عدد معين من النحل، وإذا جعلنا هذه المجتمعات الصغيرة موضع درس نظري لنعرف كيف يرتقي الإنتاج الاجتماعي فيها، نجد أن هذه الظاهرة تخضع لقانون هو: ((أن الفاعلية تنمو تدريجياً مع تعقد المصلحة))، أي أن الإنتاج الاجتماعي يرتقي بقدر ما يكون النشاط الفردي موجهاً لسد حاجات غير فردية، أو بعبارة أخرى،بقدر ما يكون موجهاً لمصلحة عامة. فإذا كانت المصلحة هي التي تفسر لنا الفاعلية، فما هي المؤثرات التي تختلف باختلاف المصلحة في عصور مختلفة أو في مجتمعات مختلفة؟
يمكن أن نصنف المجتمعات المعاصرة في فصيلتين: المجتمع المصنع الذي يمكن أن نعبر عن حدوده الجغرافية بخط (واشنطن- موسكو)، والمجتمع المتخلف الذي يعيش على خط (طنجة- جاكرتا)، فالمجتمع الأول تعرف المصلحة العامة فيه، بأنها تلك التي تمد الفرد بالضمانات الاجتماعية في حدود معينة، بمعنى أن طاقة كل فرد يعيش في ذلك المجتمع مسخرة بصورة مباشرة أو غير مباشرة لمصلحة عامة، وهذا يؤدي إلى أن يتكفل المجتمع للفرد بضمانات اجتماعية في مختلف مراحل حياته، منذ أن يكون صغيراً في المدرسة إلى أن يكون رجلاً في المصنع أو في المكتب ثم شيخاً في التقاعد، أي في حضانة المجتمع من جميع الوجوه. أما المجتمع الثاني المتخلف فإنه لا يقدم للفرد ولا يستطيع أن يقدم إليه أي ضمانات لأن إنتاجه الاجتماعي غير كاف لذلك. فإذا عبرنا على هذا بمصطلحنا نقول: إن الفاعلية في المجتمع الأول أكبر منها في المجتمع الثاني فكيف يفسر المجتمع الأول ظاهرة الفاعلية أو صورة الحياة التي تمكنه من تقديم هذه الضمانات؟
إن هذا المجتمع يتمثل في مستويين أو أسرتين: رأسمالي واشتراكي، وكل طرف يفسر الضمانات الاجتماعية بطريقة معينة، فأحدهما يفسر هذه الضمانات بمصدرها فيعد (التنافس والصراع الفردي) هو المحرك للطاقات الاجتماعية، كما يرى عالم الاجتماع (آدم سميث)، والآخر يفسر تقديم الضمانات الاجتماعية بهدفها أي بالصالح العام، وهنا نجد تناقضاً واضحاً بين النظريتين، يلزمنا بأن نخرج بنظرية جديدة تفسر بوضوح أكثر الفعالية الاجتماعية، وتناسب أكثر واقع مجتمعنا .
فالقضية ليست منوطة بالناحية السياسية بقدر ما هي منوطة بالناحية النفسية، التي توجه هذا النشاط والطاقات الاجتماعية. فالحقيقة واحدة في المعسكرين على الرغم من التفسير السياسي الذي يختلف، إذ الأسباب والدوافع النفسية لا تختلف في المعسكرين، فالنتيجة الاجتماعية واحدة فيهما ما داما يكفلان للفرد الضمانات الاجتماعية، إنما المنطق السياسي قد سيطر على العقول، حتى إن الناس يعطون لنتيجة اجتماعية واحدة تفسيرين، لأن كل حزب يفسر ذلك حسب نظرته السياسية .
إذن علينا نحن بالخروج من هذا المأزق، بإعادة النظر في القضية، قضية الطاقات الاجتماعية، فنتساءل عن مفهومها في حقيقة الواقع الاجتماعي .
إننا إذا حللناها إلى عناصرها الأولية البسيطة نجدها تنحصر في عناصر ثلاثة: اليد، القلب، العقل. لأن كل الطاقات الاجتماعية تنطلق منها، والعملية الاجتماعية نفسها لا تخرج عن هذه العناصر الثلاثة: فكل طاقة اجتماعية تصدر حتما من دوافع القلب ومن مسوغات وتوجيهات العقل ومن حركات الأعضاء، فكل نشاط اجتماعي مركب من هذه العناصر، والفاعلية تكون أقوى في الوسط الذي ينتج أقوى الدوافع وأقوم التوجيهات وأنشط الحركات .
بعد أن أوضحنا معنى الفاعلية يمكن أن ننتقل إلى مرحلة جديدة من البحث .
فعندما ننظر إلى اليد والقلب والعقل على أنها أساس الفعالية، يجب أن نحدد معنى هذا بالنسبة إلى مجتمعات متخلفة. وهنا يمكن لنا أن نقف على عنصر جديد وعلى مصطلح نتفق عليه، وهو أن نرد المسوغات والدوافع والأسباب القريبة والبعيدة، التي تدفع إلى خلق نشاط فعال إلى حالة خاصة هي التوتر. فالقلب والعقل واليد لا يؤدي كل منها إلى نتيجة واحدة في العمل، في كل الظروف: فاليد تأخذ ببطش وعنف في حالة التوتر، وهي الحالة التي يشير إليها القرآن في قوله عز وجل: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]. فلو لاحظنا نشاط العقل والقلب في ظروف مختلفة، لوجدنا أن فعالية كل منهما مع حركة اليد تخلق المعجزات في ظروف معينة تعبر عن حالة توتر.
فهذه واقعة بسيطة في الجزائر حدثت سنة 1936 تقريباً. لقد حاول أحد المجرمين المدفوعين من قبل الاستعمار، وكان ذا غلظة وفظاظة وضخامة جسم، أن يغتال بخنجر فضيلة الشيخ عبد الحميد بن باديس المصلح الاجتماعي في ذلك الحين، فأمسك هذا الشيخ بيده- النحيلة التي هي أضعف من إصبعي- الخنجر حتى أتته النجدة ومنعت المجرم من تنفيذ خطته الإجرامية، فهذا عمل من أعمال اليد في الحالة النفسية التي تكمن وراءها قوة الفعالية .
ولا بد أن نأخذ في الاعتبار أن لها الفضل في الحركة التاريخية، إذ التاريخ قائمة إحصائية لحركات القدم والعقل واليد والقلب، إنه إحصائية لنبضات القلب وحركات اليد ومواهب العقل .
لكن هذا التوتر يختلف من مجتمع إلى آخر، فنرى أن صورة الحياة لا تسيرعلى نموذج واحد، فحركة اليد والقدم تختلف في عصر واحد من مجتمع إلى آخر، كما تختلف في مجتمع واحد من عصر إلى آخر.
فالعجوز في بريطانيا تسير خمسة كيلو مترات في ساعة، والقاضي في مدن شمال إفريقيا يسير الكيلو متر الواحد في خمس ساعات، وهذا ما تعبر عنه فلسفة الشارع هنا ((فلأن يمشي مشي القضاة))، ومن هنا نفهم مدى بعد النظر في القرآن الذي ربما بدا لنظرتنا البسيطة شيئاً بسيطاً غير ذي أهمية عندما يقول {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} (الإسراء:37)
فنماذج المجتمع تعطينا مفهوم التوتر في صور مختلفة، فالمجتمع الماركسي الذي أبدع منتجاته تبعاً لقواعد اجتماعية معينة- ينبغي علينا أن ندرسها ضمن القواعد العامة بعد أن نخلصها من القيود السياسية- توضح فكرة التوتر في تجربة قريبة منا يمكن أن نتتبع تفاصيلها. ففي سنوات التخطيط الأول، سنة 1927 خلقت فكرة التصنيع الموجه، ووضعت له مقاييس أساسية لتوزيع العمل، فقدر إنتاج الفحم بمقدار 5 أطنان من الفحم الحجري للعامل الواحد في اليوم، وهذا التقدير خاضع لعلم حركات اليد، كما رسمه (تيلر) وداخل في توزيع العمل اليومي، إذ التخطيط لا يترك للمصادفة والمجازفة، لكننا نجد (ستاخانوف) يكذب هذا التقدير فينتج يومياً عشرة أطنان، لأنه يعمل بأحشائه ذات الشحنة النفسية القوية والاستعدادات المتوترة، فخلق بذلك نظاماً اقتصاديا جديداً يعرف باسمه، وإذا قورن بأبيه في الجيل الذي سبقه فإنا نجد أباه لا ينتج شيئاً لفراغه النفسي وضعف توتره، فالتوتر في يد يختلف عنه في يد أخرى، ولذلك يجب إذا ما درسنا مجتمعاً أن ندرس حالة هذا المجتمع في ظروف معينة، فالمجتمع العربي قبل العهد القرآني يختلف اختلافاً كبيراً عنه بعد العهد القرآني، فإذا بحثنا عن إنتاجه قبل ذلك مثلا في الفترة التي تقدر بأربعة آلاف سنة من عهد إسماعيل إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، نجده ينحصر في عشر معلقات، وهذا معناه أن الطاقات الاجتماعية، طاقات القلب والعقل واليد، في حالة غير حالة التوتر الاجتماعي الذي يدفع إلى الإنتاج بقوة وحرارة، وحينما جاء الإسلام استطاع أن يخلق حضارة خلال نصف قرن، ومعنى ذلك أن الإسلام أتى بالمسوّغات الدافعة لليد والعقل والقلب لكي تحقق متساندة حضارة ذات إشعاع .
ما هي مظاهر التوتر في هذا المجتمع الذي بزغ من جديد؟ هناك مظهر في السلوك تعبر عنه تلك المرأة ذات الضمير الممتلئ توتراً، حينما تأتي إلى محمد – صلى الله عليه وسلم – وتطالب بإقامة حد الزنا عليها على الرغم من الخفاء الذي أحاط بعملها، فأبى توترها إلا أن يلح في المطالبة بالحد بإصرار عجيب، فصدها النبي – صلى الله عليه وسلم – لأنها كانت حاملا وقال لها: حتى تضعي حملك، ولما وضعت حملها عادت إليه مطالبة بإقامة الحد لاتصال اليقظة في الضمير والتوتر في القلب بعمق أصيل، حتى أقيم عليها الحد وخلدت هكذا ذكرى امرأة أعطت في مجتمع ناشئ صورة توتر الضمير. والمجتمع العربي نفسه لم يكن يفهم معنى هذا التوتر بكل وضوح، ويبدو هذا فيما أبداه الأفراد إزاء صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم – على جثمان تلك المرأة بعد حدّها، حتى أجابهم الرسول بما معناه “لقد تابت توبة لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم” .
لقد كان هذا التوتر مظهراً من مظاهر الحياة الناشئة مع الإسلام، نشاهد أثره في سلوك الحاكم، حين مطالبته الشعب بأن يقوِّم اعوجاجه ويعدل انحرافه، وفي ذلك اعتراف ضمني بإمكان صدور الاعوجاج عنه، كما نشاهده في سلوك الرعية في شخص ذلك الأعرابي البسيط، الذي يرد على هذا الحاكم بقوله: “لو شاهدنا فيك اعوجاجاً لقومناك بسيوفنا ” .
وهناك توتر في الناحية الاقتصادية يتمثل فيما قدم أبو بكر وعثمان من أموال طائلة في سبيل الدعوة، وفي موقف عمر رضي الله عنه حينما أمر برد ما اقتصدته زوجته إلى بيت المال، ويبدو أيضاً في حرمان الذات وقطع الشهوات، في موقف هذين الرجلين اللذين اعتزم أحدهما أن يصوم الدهر وقرر الآخر أن يقوم الليل، فشكتهما زوجتاهما للرسول – صلى الله عليه وسلم – فنهاهما عن ذلك. كما يبدو في الجهد والعمل في موقف (عمار بن ياسر) الصحابي الجليل، في حمله حملين بدل حمل واحد، كما كان يحمل كل صحابي في مشروع بناء المسجد، الذي هو نموذج لبناء مجتمع جديد ورمز لكيان اجتماعي حديث؛ وفي الناحية العلمية أيضاً نرى توتراً آخر، فالمذاهب الأربعة التشريعية التي لا تخفى قيمتها الاجتماعية تعبر عن إنتاج العقل الإنساني في قمته في عصر التابعين، أو في العصر الذي تسود فيه الحاجة إلى تنظيم المجتمع الذي نشأ مع الدعوة والجهاد أيضاً، فكان صورة من صور بناء المجتمع الناشئ، وهو في حالة توتر ونشاط اجتماعي للدفاع عن النفس وعن هذا البناء الداخلي، الذي أخذت معالمه ترسو قواعدها، فالخنساء التي ظلت في الجاهلية تسكب عبراتها على أخيها (صخر) سنين، أصبحت في صورة جديدة فريدة تحمد الله على أن شرفها باستشهاد أبنائها الأربعة في سبيل الدعوة، وهذا يعني انتقال مجتمع كامل من حالة (فتور إلى توتر وحركة)، وهذه الحركة حركة رقي في جميع النواحي: فظاهرة البطولة كانت في الجاهلية تهدف إلى الغزو والفخر، أي تدور على محور الـ (أنا)، فبدت في صورة جديدة هي الاستشهاد في سبيل مثل عليا، لأن الإسلام رفع المصلحة أو مسوّغات النشاط إلى أعلى مستوى، فجعلها في عالم الآخرين. فالبطولة في الجاهلية كانت تهدف إلى إعلاء شأن الـ (أنا)، لكن الإسلام حول محور البطولة لتجد مسوّغاتها في عالم الآخرين، أي أصبحت تعبر عن اهتمام اسمي، يرتبط بغريزة الـ (نحن) أكثر منه بالـ (أنا)، حتى إنهم {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} “الحشر: 9” فهذا تعبير كامل لمسوّغات البطولة .
فإذا اتفقنا على أن المسوغات هي التي تحرك الطاقات الاجتماعية وتوجهها إلى مستوى أعلى من مستوى الحيوان، الذي يحيا حياة فردية، وهي التي تدفعها إلى مستوى مصلحة الآخرين، فإن فكرة الفاعلية أو التوتر تمس الواقع الاجتماعي في كل الظروف، مَسًّا يضعها معه كل مجتمع أو لا يضعها وراء أعماله وسلوكه .
فالتوتر حالة نفسية اجتماعية دلّ التاريخ على أنها تنشأ في ظروف معينة ثم تزول في ظروف أخرى، وأن المسوّغات هي التي تكوّن الدوافع الإنسانية التي تدفع النشاط إلى أعلى قمة .
إنما لهذا الواقع الاجتماعي صورته السلبية أيضاً، إذ يحدث أن مجتمعاً ما يفقد مسوّغاته، فإذا يحدث له في مثل هذه الحالة؟
يجب أن نتصور هذا السؤال بالنسبة إلى الفرد وإلى المجتمع، فالفرد في ظروف نفسية أو اقتصادية معينة، يشعر أحياناً أنه فقد مسوّغات وجوده، وقد تبدو هذه الحالة في نواح شتى، حتى في الفن المسرحي، إذ يقع أحياناً هذا الفرد في حالة خاصة، هي التوتر المرضي الذي هو عكس التوتر الحيوي الدافع إلى مهام الحياة بقوة. فالتوتر المرضي يدفع الفرد الذي فقد مسوّغات وجوده إلى الانتحار أحياناً. ولقد يبدو هذا مثلاً في الحالات الغرامية التي يتناولها الفن المسرحي أو القصصي، ولكن إذا أردنا أن نفهم التوتر السلبي هذا بصورة واقعية، فإننا نراها في حالة فرد ينتحر فعلاً، لأنه لا يستطيع أن يحتمل حياة فقدت مسوّغاتها، وقد نراها في سياق ظروف خاصة تحيط بأسرة أو فرد أو في سياق أحداث عامة تغير مجرى حياة مجتمع. وهكذا يكون تأثيرها في بعض الأفراد أشد عمقاً لأنهم يشعرون خلال هذه الأحداث أنهم فقدوا مسوّغات الحياة .
لقد خلقت الحرب العالمية الثانية في أوربا أحداثاً مماثلة، وانتحار وزير الدعاية جورنج مع كل أسرته يعبر بصورة مؤثرة عن هذا المظهر.
وفي سنة ألف ميلادية أيضاً سادت أوربا حالة (فقدان المسوّغات)، لأن الناس اعتقدوا أنها سنة الفناء والقيامة فحدثت بسبب هذه التوقعات حوادث انتحار كثيرة .
هذه صورة القضية بالنسبة إلى الأفراد، أما بالنسبة إلى المجتمعات، فإن فقدان المسوّغات يؤدي إلى تغيرات تاريخية عميقة، نجد نموذجها في صورتين .
إن العالم الإسلامي عندما قدم للإنسانية الحديثة نتاجه العقلي من علوم وتشريع يمثل خطوة جديدة في تطور القانون، الخطوة التي وضعت علم الأصول. وعندما قام بالدور الحضاري الذي وصل بين الحضارات العتيقة وحضارة عصرنا، إنما كان مندفعاً بالمسوغات التي أتى بها الإسلام ووضعها في حياته، وكانت في حالة توتر خلاق، التوتر الذي يصنع المعجزات؛ إنما الدوافع السلبية التي خلفتها “صِفّين” في المجتمع الإسلامي، تنمو فيه يوماً فيوماً، إلى أن أتى القرن الثامن الهجري، فأخذت الحضارة الإسلامية في الأفول وبدأت الظلمات تغمرها في الأندلس، لأنها فقدت مسوّغاتها فلم تستطع أن تدفع من جديد طاقاتها الاجتماعية، وانطفأت تدريجياً جذوتها الدافعة للضمير واليد والعقل، وأصبحت دوافع الحياة فاترة، وفقدت المصلحة سموها تدريجياً، وهي التي تهدف إليها الطاقات الاجتماعية، حتى أصبحت مسوّغات المجتمع الإسلامي حيوانية عليها غلاف من إنسانية بسيط، تعبر عنه فلسفة ساذجة أفرغت حكمتها الميتة في العبارة التي ترددها الجماهير بالشمال الإفريقي، حيث يقول الفرد عندما يسأل عن مهمة حياته “نأكل القوت وننتظر الموت”، ولا يوجد تعبير أكثر وضوحاً من هذا التعبير عن مجتمع فقد تماماً مسوّغات الوجود .
ولا شك أننا لو درسنا التاريخ الإسلامي في ضوء هذه الاعتبارات، لوجدنا أن المجتمع الإسلامي واجه أزمة فقدان المسوّغات منذ زمن مبكر، وأن الحركات الإصلاحية، التي نشأت فيه في مختلف صورها، تعبر عن هذه الأزمة بما فيها الحركة الصوفية التي تمثل إلى حد ما الدوافع السلبية، التي تدفع إلى انتحار الفرد الذي فقد مسوّغات حياته، فالصوفي يخرج أيضاً عن النظام الطبيعي للحياة، ويتخلص من مسؤولياتها عن طريق الأوراد والسبحة، كما يتخلص المنتحر العادي عن مسؤولياته بوسيلة الخنجر، فالصوفي ينتحر بوسائل الروح .
فهذه الأزمة التي عاناها المجتمع الإسلامي منذ عهد مبكر، هي التي أوحت إلى الغزالي بمحاولته عندما كتب (إحياء علوم الدين). إن حجة الإسلام كان يشعر ولا شك أن المجتمع الإسلامي قد فقد مسوّغاته، وأراد هو أن يقدم له أو يعيد له المسوّغات الضرورية عن طريق كتابه .
ولقد ندرك مقدار نجاحه أو فشله في محاولته هذه على ضوء التاريخ،إدراكاً لم نر معه العالم الإسلامي قد استعاد مسوّغاته المفقودة عن طريق التصوف أو عن طريق كتاب “إحياء علوم الدين ” .
وها نحن أولاء في القرن العشرين أمام مأساة أخرى، مأساة المجتمع الغربي،الذي يمر بدوره بأزمة فتور، لأنه فقد مسوّغاته التقليدية، المسوّغات التي أعطت للشخصية الأوربية في القرن التاسع عشر أقصى توترها، عندما كانت أوربا تؤمن بالتقدم العلمي وبالحضارة وبالاستعمار رسالة حضارية، فكانت هذه المسوّغات تحرك وتوجه كل الطاقات الاجتماعية: اليد والقلب والعقل في أوربا، وتوحد صفوفها في العالم، إذ كان الأوربي ينظر إلى التقدم العلمي ميزة يمتاز بها عقله، وإلى الحضارة على أنها فطرته، وإلى الاستعمار على أنه امتداد حضارته خارج حدود أوروبا .
وقد كانت هذه الأشياء وعلى الأقل الشيئان الأولان منها، تحقق الإجماع في الداخل في حدود أوربا والإعجاب في الخارج خارج حدودها .
وحينما جاءت الحرب العالمية الأولى بدأت أوربا تفقد ثقتها في مسوّغاتها، وبدأت هذه المسوّغات تفقد قداستها، لأن التقدم العلمي لم يبق شيئاً مسلماً به، شيئاً فوق المناقشة، بل أصبح غير كاف بوصفه مسوّغاً يحقق الإجماع في الداخل والإعجاب في الخارج .
ثم أتت الحرب العالمية الثانية فحطمت نهائياً وحدة أوربا المعنوية وقداسة مسوّغاتها، وكان من أعمق آثارها في الحالة النفسية الأوربية، أن الاستعمار قد فقد قيمته بوصفه مسوّغا لا من الناحية الأخلاقية الخاصة ببعض الضمائر الأوربية الممتازة فحسب، بل فقد حتى قيمته الواقعية، إذ لم يصبح في استطاعة الشاب الأوربي أن ينظر إلى خريطة الأرض كما كان ينظر لها في القرن التاسع عشر، عندما كان ينظر إلى كل بقعة بيضاء على الخريطة، على أنها من مجاهل الأرض التي تنتظر اكتشافه، أي على أنها البلاد المعدة لامتداد شخصيته في هذا الكون .
فالأوربي أصبح يرى اليوم تلك البقاع البيضاء ملونة، وأهلها ثائرون على سلطته، ساخطون على حضارته، في الوقت الذي ينشر فيه كتاب لغاندي بعنوان (حضارتهم وخلاصنا)، وهذا يعني أن الحضارة الغربية بعد أن فقدت الإجماع في الداخل خلال الحرب العالمية الأولى قد فقدت الإعجاب في الخارج بعد الحرب العالمية الثانية، التي قضت نهائيا على المسوّغات التقليدية التي صاغت التاريخ الأوربي في القرن الماضي، والآن فأوربا تعاني بدورها أزمة فتور لأن مسوّغاتها التقليدية أصبحت كلمات جوفاء وعملة مزيفة، وأصبح الأوربي يشعر شعوراً خفياً واضحاً أنه يتعامل بعملة مفلسة فقدت قيمتها .
ولكن يجب أن نترجم هذه الصورة الرمزية المعبرة عن فقدان المسوّغات في المجتمع الغربي في واقع هذا المجتمع، وفي صميم نشاطه كي ندرك المعوقات التي يشعر بها الشاب الأوربي اليوم، وشعور الحرمان الذي بدأ يتفشى فيه، فهو يواجه أزمة الحيرة التي تنذر بتغير جذري، فهو في ساعة الخطر التي مر بها المجتمع الإسلامي، عندما كان الغزالي يبحث له عن مسوّغات جديدة، يجدد بها نشاطه الحضاري، وقد علمنا أن كتاب “الإحياء” لم يف بتلك الغاية، لأن المجتمع الإسلامي استمر في طريقه نحو الفتور، نحو الإفلاس سواء في الصورة الصوفية أو في الصورة الفوضوية .
فالمجتمع الغربي يمر اليوم بهذه الساعة، وقد نجد أثر هذه الأزمة حتى في الأدب الغربي المنتشر اليوم أي الأدب الوجودي، فهو في الواقع، وربما لا يشعر من يمثله، أنه في الواقع محاولة تدارك لفقدان المسوّغات، أو على الأقل تعبير عن هذا الفقدان .
وهذه النزعة نجدها في كتب (ج ب سارتر) أكثر من غيره من الأدباء، الذين يمثلون الوجودية اليوم، فسارتر يعبر بألسنة أبطاله وبصفة ملحة، عن هذه الحيرة، كما يبدو هذا في كتاب (الغثيان) حيث يقول أحد أبطاله: تأخذني الرغبة في السفر إلى مكان أجد فيه مكاني … ولكنني لم أجد مكاناً في العالم” . ”
ويقول في قصة أخرى له على لسان بطله: “إنني خرجت من هذا العالم فبقي ممتلئاً مثل البيضة، كأن كياني لم يكن له ضرورة ” .
ويقول أيضاً في موضوع آخر: “إنك في هذا العالم- يا مسكين- دخيل وزائد مثل شظية خشب تحت الجلد” .
وليست العبارات الوجودية هذه إلا تعبيراً عن أزمة مجتمع لم يصبح فيه للأفراد مسوّغات لكيانهم .
فالقضية إذن ليست خاصة بالمجتمع الإسلامي، فهي في كل مجتمع تنحصر في فقدان الشروط التي تحقق التوتر في نشاطه وبعثه إلى أسمى الغايات .
والمجتمع الإسلامي يمرّ اليوم بحالة إرهاص، قد عبرت عنها أقلام الأدباء بكلمة النهضة، فالعالم الإسلامي يجمع قواه للدخول من جديد في معارك الحياة وخضم التاريخ .
وعلى هذا فهو في لحظة من لحظات التيه والحيرة، لأن ساعة الخطر تدق مرتين: فهي تدق في اللحظة التي يفقد فيها المجتمع مسوّغاته التقليدية، المسوّغات التي أطلقت طاقاته ووحدت جهوده، وتدق في اللحظة التي يبدأ يستعيد فيها مسوّغاته المفقودة أو يبحث عن مسوّغات جديدة .
فالعالم الإسلامي اليوم في ساعة الخطر، لأنه يشعر بفقدان المسوّغات التي رفعت شأنه في القرون الأولى وحققت رسالته في التاريخ .
وينبغي على كل مسلم أن يدرك هذه الأشياء، وأن يفكر جدياً في القضية، كي يدلي بالنصيحة الواقعية والإرشاد السليم، بالنسبة إلى اختيار المسوّغات الكفيلة بخلق توتر جديد في النشاط الإسلامي .
ولا ننسى في مثل هذه الساعة الحاسمة أن أسمى المسوّغات هي التي تهبط من السماء في قوله عز وجل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} “الذاريات: 56 ” شريطة أن نفهم هذا المسوّغ السامي السماوي بمعناه التاريخي، الذي أنار آفاق الإنسانية بنور الحضارة الإسلامية، لأن الإسلام أتى بالمسوّغات الكفيلة بتحقيق أقصى ما يمكن من التوتر في الطاقات الاجتماعية، وأسمى ما يمكن من المصلحة التي تخدمها تلك الطاقات .
محاضرة ألقيت ببيت الطلبة العرب يوم 8/ 4/ 1961