ألا يستحق رجل مثل هذا العملاق التفاتة حقيقية؟ حوار مع ابنة شقيقة مالك بن نبي الحاجة زينب مسقالجي

عدد القراءات :6191

حوار: عبد الناصر

عمرها قارب الثمانين، ولأنها من عائلة مفكر العصر مالك بن نبي، تربّت في بيته، فكان “صديق” كما ينادونه، خالها ووالدها في نفس الوقت، منه عرفت الفكر ولأجله عصرت الحاجة زينب مصقالجي ذاكرتها، وعادت بنا إلى سبعين سنة خلت، لتزيل الكثير من نقاط الظل، حول شخصية هذا المفكر الذي عاش غريبا ومات غريبا في وطنه، وشغل العالم بفكره. الشروق اليومي بعد أزيد عن أربعين سنة من رحيل المفكر الكبير، تحاول إزاحة الستار عن جوانب خفية من حياة هذا العالم كما ترويه السيدة التي بكت كثيرا وهي تذكر خالها وقالت أيضا كثيرا.

حدثينا عن عائلة مالك بن نبي، عن والديه وأجداده، وأصوله؟
خالي مالك بن نبي هو ابن الحاج ساعد المدعو عمار، ابن الخذير ابن مصطفى، وابن الحاجة زهيرة بن عيسى، وجذور والديه من الأم والأب من مدينة قسنطينة، أما الجد الأكبر فهو من تركيا وبالضبط من مدينة اسطنبول، وليس كرغليا، مما يعني أن مالك بن نبي تركي أبا عن جد، “كما أوضحته الوثائق القديمة التي اطلعت عليها الشروق اليومي”، بالرغم من أن الكثير من أفراد العائلة استوطنوا مدينة تبسة منذ القدم، وأحب والده وأحبّ هو أيضا عادات المنطقة ورجولة أهل النمامشة.
وولد مالك بن نبي في الفاتح من جانفي 1905 في مسكن يقع بمنطقة الشارع بقلب مدينة قسنطينة، تم تهديمه بالكامل منذ حوالي عشر سنوات، وتحولت الأرض المبني عليها إلى مساحة لركن السيارات، وعندما ولد مالك كان والده يزاول الدراسة في مدرسة تعليم بقسنطينة، وكان والداه في العشرين من العمر، كان مالك الذكر الوحيد لوالديه لأجل ذلك خصّاه بالرعاية المتميزة، وكان للمفكر الراحل شقيقة كبرى هي والدتي فاطمة المدعوة عتيقة، وهي من مواليد 1902 والتي توفيت في تونس عام 1982 وأخت تدعى سكينة، أقل منه سنا من مواليد 1906 لحقت بجوار ربها عام 1979، وقليلون من يعلمون أن والد المفكر مالك بن نبي الحاج ساعد توفي بعد وفاة ابنه بأربع سنوات في شهر ماي عام 1977في مدينة عنابة.

جمعته بشقيقته فاطمة والدتك علاقة وطيدة فكان يذكرها في كتاباته؟
لم تنجب خالتي سكينة أبناء، واكتفت بتربية طفل مازال على قيد الحياة، ويعيش حاليا في مدينة عنابة، أما والدتي فاطمة فأنجبت سبعة أبناء من بينهم خمس بنات وأنا منهن، أنا من مواليد عام 1934 وابنة السيد عبد الحميد مسقالجي الذي توفي عام 1971، كل عائلة مالك بن نبي دخلت المدارس والذين لم يسعفهم الحظ في المواصلة أكملوا دراستهم وباللغتين بطرقهم الخاصة، نحن جميعا نقرأ بالعربية والفرنسية، ولكن عشقنا الأول مثل مالك هو اللغة العربية.

هاجر المفكر مالك بن نبي إلى فرنسا عام 1925 ولما عاد في أواخر الثلاثينات مع زوجته الفرنسية كان لقاؤك الأول بهذا المفكر العظيم؟ حدثينا عن زواجه وزوجته الفرنسية؟
تزوّج مالك بن نبي من سيدة باريسية أصيلة، تدعى سيليستين بول فيليبون، وبعد أن أقنعها باعتناق الدين الإسلامي، صار يدعوها خديجة، وندعوها نحن أيضا، كانت بيضاء البشرة وجميلة جدا، عندما زارتنا رفقته في عام 1939 وكانت تلك أول زيارة قادته إلى الجزائر بعد 14 سنة من الغربة، وجاء مباشرة إلى بيتنا في تبسة، ليختفي بعد ذلك نهائيا وتنقطع أخباره عن الجزائر من عام 1939 إلى غاية عام 1946 حتى أن والده صار يأتي إلى أمي فاطمة ويقول لها إنسي أنه كان لك أخا يدعى صدّيق كما كان الجميع ينادونه، وعلمنا بعد ذلك أن خالتي سكينة أرسلت في بداية الأربعينات برسالة تسأل عنه السلطات الفرنسية، فبدأ البحث عنه، واتضح أنه كان موجودا في ألمانيا، وتم الزجّ به في السجن من أوت 1945 إلى شهر أفريل 1946 على خلفية محاضرة ألقاها في فرنسا بعنوان “لماذا نحن مسلمون؟”، حضرها اتحاد الشباب المسيحيين، وعملت ضجة كبرى فبدأ البحث عنه، في الوقت الذي تنقل للعيش إلى ألمانيا، وكان رجال الشرطة بهيئات مدنية، يسألونه عن سرّ تواجده في باريس، والأموال التي تمكّنه من الدراسة في الكهرباء والميكانيك، فكان يخبرهم بأنه ابن موظف في البلدية، ممّا جعل السلطات الفرنسية توقف والده عن العمل دون أن يعلم الوالد سببا لذلك.

هذا يعني أن تصادم مالك بن نبي بالفرنسيين كان في بداية الثلاثينات؟
أذكر أنه كان يقول لوالدتي غاضبا باللهجة الدارجة: “الناس، القًمّل مكبّش فيهم وهوما مكبشين في الحياة” كان يؤرقه جمود الناس، وعندما تحرك الشارع التونسي في الثلاثينات، صار يقول لها: الآن تعلم العرب كيف يمسحون أنوفهم، أذكر أنه كان معجبا حتى بمجانين مدينة تبسة ومنهم المدعو “تيرار” الذي كان يشرب الخمر حد الثمالة، ثم يضرب الفرنسيين بزجاجة الخمر، فكان مالك يعود إلى البيت منتشيا فرحا، ويبقى يروي الحادثة، وهو يقول: يا ليتني كنت أنا هو “تيرار”، وأحيانا من غيضه كان يقول لنا : “يا ليتني كنت مثل حمّه” وهذا حمّه هو شاب أبله لا يعي شيئا. وبعد ثورة عبد الكريم الخطابي صار يقوم بتوزيع المناشير في المدرسة التي يُدرّس فيها الشيخ العربي التبسي وفي المساجد، يقدم لمحة عن ثورة عبد الكريم الخطابي ويدعو لاعتبار ما قام به وسيلة يقتدى بها.

ومتى دخل السجن في الجزائر؟
حدث هذا في عام 1951 حيث زارنا في بيتنا بتبسة مفتش شرطة عربي، طلب من خالي صديق مغادرة البيت، والاحتياط لما هو قادم، وقال له أنهم سيفتشون البيت، وبدأ خالي في جمع أشيائه، فأحضر لوالدتي راديو أخافها بأضوائه، كما أنه كان يخفي لدى أمي الكثير من الوثائق عبارة عن اختراعات في مجال تخصصه، في الكهرباء والميكانيك، وطلب مني أنا وأمي إن لم يطلقوا سراحه بعد التحقيق معه في سكيكدة خلال ثلاثة أيام أن نقوم بإحراق كل الوثائق، وفعلا تم احتجازه لمدة ثلاثة أيام وهم يسألونه ليلا ونهارا، وباشرنا حرق الوثائق.

نعود إلى زواجه من الفرنسية في باريس.. كيف تم ذلك؟
أظن أن ذلك حصل عبر الفاتحة عام 1932 وبالعقد الرسمي في أفريل من عام 1935، حيث اتصل بأمه بعد أن تزوّج دون إعلام العائلة منذ فترة، وقال لها لقد قررت يا أمي أن أتزوج حتى لا أبقى وحيدا في باريس، وردت الأم بالموافقة والابتهاج، واشترطت عليه أن تكون الزوجة طويلة القامة، ففرح مالك بن نبي، وأرسل لها صورة زوجته الطويلة القامة، وكانت والدته زهيرة رحمها الله متشوقة لمشاهدتها، حتى أنها عندما سافرت إلى الأراضي المقدسة عام 1936 اشترت لها مجموعة من الألبسة وكانت تنتظر بشوق لترى زوجة ابنها الذكر الوحيد، ولكن للأسف حدثت الفاجعة التي هزته، عندما عاد خالي مالك إلى الجزائر عام 1939 رفقة زوجته، وفي محطة قطار مدينة تبسة أذهله تواجد جمع غفير من المنتظرين إلا والده، ففجع وراح يسأل عن صحة والده ليخبره أحد أهل المدينة ويدعى الصادق بوذراع الذي أصبح والده وزيرا بعد الاستقلال، بأن والدته توفيت منذ ثلاثة أيام فقط، مالك بن بني كما كتب في مذكرات شاهد على القرن، كان مرتبطا جدا بأمه، فأصيب بحزن شديد، أما زوجته الفرنسية خديجة فأحبت الجزائر كثيرا وطلبت من زوجها أن تعيش هنا، كانت جزائرية أكثر من الجزائريات، ترتدي الملاءة القسنطينية السوداء، وتعلمت طبخ الرغيف، هي باريسية ووحيدة أمها التي كانت تسكن بالضاحية الباريسية، كانت مختصة في الديكور ووالدها ميتا، تعرفت على خالي بالصدفة في مكتبة للمطالعة بباريس، كان كلما طلب كتابا قيل له أن قارئة أخذته، وكلما طلبت هي كتابا قيل لها إن قارئا أخذه، اهتما معا بمعرفة هذا الثاني الذي يتوافق مع الآخر، فكانت قصة تعارف، فحب فزواج، إلى أن توفيا في نفس العام بعد عِشرة بمرّها وحلوها دامت قرابة الأربعين سنة للأسف لم تنجب أطفالا، ويبين محضر الزواج الذي اطلعت عليه الشروق اليومي أن الشهود هم المغربي محمد الفاسي والتونسي الحبيب تامر الذي قضى في حادث تحطم طائرة في كراتشي، وجزائريان هما صالح بن ساعي وعلي الحمامي، إضافة إلى أصدقاء مسيحيين، استقدموا معهم جوقا موسيقيا، وقامت خديجة بطبخ الكسكسي وتحضير السلطة للمدعوين، أما عن تاريخ اعتناقها الإسلام فلا أحد يعلمه، ويرجح أنه حدث بعد الزواج، المؤكد أن خالي كان يرسل لزوجته باستمرار مرتبا خاصا إلى أن وافتها المنية.

وبالرغم من هذه القصة العاطفية المليئة بالوفاء، إلا أن المفكر بن نبي أعاد الزواج؟
آه، نعم، إنها المشكلة الأزلية وهي عقم المرأة، بعض أفراد العائلة كانوا يتوسلون إعادة زواجه، إنه الولد الوحيد في عائلة بن نبي، لقب سينقرض إن لم يرزق خالي صديق بالابن الولد، تصوّر أنهم اختاروا له سيدة سبق لها الزواج من تبسة تدعى السيدة خدوجة حواس، لها ابن يدعى مقداد وكلاهما مازالا على قيد الحياة ويقطنان بالجزائر العاصمة، الزواج حدث في عام 1961 وكان حينها مالك بن نبي في السادسة والخمسين من العمر، قبل الاستقلال ببضعة أشهر، عندما كان يقيم في القاهرة، وكانت زوجته الفرنسية في باريس، قبِل الاقتراح العائلي وتم تسفير زوجته إليه إلى القاهرة، وتم عقد القران في العاصمة المصرية، وللأسف حتى زواجه الثاني لم ينجب منه الذكور، ومع ذلك كانت نعمة الله، حيث رزقه بابنتين توأم هما نعمة وإيمان في أفريل 1962 ثم رزقه بطفلة ثالثة سماها رحمة، ثلاث بنات تزوجن من شاميين، لم ينعم خالي برؤيتهن كثيرا حيث توفي وهن دون العاشرة من العمر، وبعد ذلك أخذت حياتهن اتجاها آخر حيث تزوجت التوأم من شقيقين سوريين، وتزوجت رحمة أيضا من سوري، وهاجرن إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لتصدمنا وفاة ابنته نعمة بمرض خبيث في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2002.. للأسف بنات خالي لا يعرفن عن والدهن شيئا وزادت غربتهن في الولايات المتحدة حياتهن تعقيدا.

ما نعلمه أن خديجة توفيت أسابيع قليلة قبل وفاته؟
كلمة قالها لزوجي محمد موساوي في وهران عندما توفيت زوجته الفرنسية خديجة، “لقد أحسست باليتم بعد وفاتها”، رغم أنه بقي هنا في الجزائر وهي لم تزر الجزائر منذ 1939، ولكن الذي قرأ جزأي كتاب مذكرات شاهد على القرن، يدرك مدى ارتباطه بالسيدة خديجة التي بقيت وفية له ولم ترد إحراجه منذ أن أعاد الزواج، وصار له ثلاث بنات. المؤسف أن علاقتنا مع ابنتيه مقطوعة نهائيا.

الآن بعد أربعين سنة عن وفاة مالك بن نبي، ماذا ترك من عقارات؟
لا شيء، لا أفهم لماذا المدعو نور الدين بوكروح يقول في كتاباته بأن مالك بن نبي كان فقيرا في طفولته، وهذه مغالطة كبيرة، رغم أن الفقر ليس عيبا، فقد كنا في حالة متوسطة، وأحيانا جيدة ماديا، مالك بن نبي تحصل على مسكن في العاصمة قدّمه له الرئيس الأسبق أحمد بن بلة، بعد أن أقنعه بترك القاهرة بعد الاستقلال والعودة إلى الجزائر، ولكن الوالي الأسبق للعاصمة الحاج يعلى استكثر عليه المسكن الفسيح، فطلب منه مغادرته، ولم يناقش المفكر بن نبي رغم أن البيت كان يأوي بناته وزوجته، فقرر المغادرة، ولكنه عندما التقى بالرئيس الراحل هواري بومدين لمدة ساعتين قرّر الرئيس أن يكتب البيت باسمه.

لكن ما نعلمه أن مالك بن نبي كان مغضوبا عليه من السلطة، يقولون إن أفكاره تحرجهم، ويقولون إنه كان تحت الإقامة الجبرية؟
لم نسمع عن هذا أبدا، بن بلة كان في استقباله في القاهرة رفقة المرحوم محمد خيضر، وعندما تسلم الرئاسة كان يجتمع به بصفة دائمة ويوميا، ونفس الشيء بالنسبة لهواري بومدين، أظن أن أطرافا أخرى في السلطة كان يحرجها نشاط مفكر مثل مالك بن نبي، الدليل على أن علاقته ببومدين كانت طيبة أنه باشر التدريس في “صالة” المحاضرات بمسكنه يومي السبت والأحد للمعربين والمفرنسين بموافقة بومدين، ولم تكن دروس سرية كما يدعّي البعض، كما أن مشروعه حول ملتقيات الفكر الإسلامي التي كان يحاضر فيها، كانت تلقى الدعم الكبير من الرئيس الراحل هواري بومدين، لكن ذلك لا يعني أن مالك بن نبي كان مرحّبا به أينما حلّ وارتحل، أما أن يكون قد أجبر على الإقامة الجبرية، فذاك لا أساس له من الصحة.
أعود إلى ممتلكات عائلة مالك بن نبي، فقد بقي الآن سكن والده في تبسة وتقيم فيه حاليا عائلة شقيقته الصغرى، إضافة إلى سكنه الخاص في العاصمة حيث تقيم زوجته الثانية وابنها الذي هو من زوجها الأول، أما بيته في باريس الذي كان باسمه فقد تم تهديمه بالكامل، وهو نفس مصير البيت الذي ولد فيه بمدينة قسنطينة.

وماذا عن عائلة زوجته الفرنسية؟
كما قلت لك من قبل، هي فعلا كما يقال مقطوعة من شجرة، كانت وحيدة والديها اللذين توفيا، ولم تنجب أي طفل، ولم تتزوج سوى من مالك بن نبي، لكن كل الذين عرفوها وأنا منهم نقرّ لها بأنها سيدة رائعة، كانت ترسل للعائلة كل ما تنسجه بيديها كما نسميه محليا الكروشي، وتقدم لنا هدايا مثل أقمصة الصوف، أكيد أنها كانت تريد أن تعيش بيننا، كانت تحب مالك إلى درجة أن أحبت معه كل من كان يحبهم، منذ أن تعرفت عليه اعتنقت الإسلام عن قناعة ودافعت معه عن الجزائر وعن الإسلام. مالك بن نبي من الأوائل الذين نادوا بالاستقلال لم يكن يحدثنا عن أي شيء سوى عن الثورة على الفرنسيين منذ الثلاثينات من القرن الماضي، لم يكن يعترف بالمهادنة والسياسة، كان يريدها ثورة لا تبقي للاستعمار ولا تذر، فكان من الأوائل الذين توبعوا في فرنسا بسبب محاضراته وسجن لأجلها، ومن الأوائل الذين توبعوا في الجزائر وحقق معه لمدة ثلاثة أيام.

كثيرون تكلموا باسم مالك بن نبي ومنهم رئيس حزب التجديد والوزير السابق نورالدين بوكروح؟
الشخص الذي تتحدث عنه لا علاقة له بالراحل، حتى كتاباته عن شخص وحياة خالي خاطئة في معظمها، ومع ذلك لا يهم هذا، بقدر ما تهم السرقة التي طالت أفكار مالك بن نبي، حتى أن كتبا بالكامل تم استنساخها، إنه أمر محيّر فعلا، وللأسف فإنه فعلا كما يقال لا نبي بين أهله، ربما كان في فترة من الفترات نورالدين بوكروح، من الدارسين في بيت خالي في نهج فرانكلن روزفلت، ولكن ليس من حقه أن يدّعي أنه تلميذه ويبني مستقبله بأخذ جهد الآخرين.

لكن بوكروح قدّم صورا ووثائق هي فعلا للمفكر مالك بن نبي؟
نعم، لقد توجّه إلى بيت خالي في تبسة ثم إلى العاصمة وأخذ كل تلك الصور والوثائق من زوجته، نورالدين بوكروح في السبعينات كان شابا حيويا طالبا للعلم فعلا، وأعجبتنا بعض كتاباته عن خالي في أسبوعية الأحداث التي كانت تصدر في تلك الفترة باللغة الفرنسية، لكنه بعد ذلك صار يفاجئنا بقصاصات خاصة جدا بمالك بن نبي، وعندما لا يعلم ورثة مالك بن نبي وأنا منهم لأني ابنة أخته، بذلك فمعنى هذا أن في الأمر إن؟

ولكن الكاتب اللبناني عمر كامل مسقاوي يقول إنه يمتلك وصية من مفكر العصر؟
أبدا، مستحيل، مالك بن نبي مسلم ومتمسك بدينه، لا يمكنه أن يكتب وصية لشأن بعد موته، ثم إن رحيله كان مفاجئا للجميع، وأنا شخصيا واجهت هذا الكاتب الذي قام بترجمة أعماله بطريقة رديئة في مناسبات عديدة في فندق الأوراسي وفي قسنطينة، وكان واضحا أن قوله بأنه يمتلك وصية للتصرف في كتابات مالك بن نبي من نسج الخيال، والغريب أن نور الدين بوكروح وعمر مسقاوي يلتقيان في أمور كثيرة، فعندما باشرنا تأسيس جمعية المفكر مالك بن نبي كانا من الأولين الذين رفضوا ذلك، وقالا إنها غير مهمة، لأن الجمعية ستسترجع أشياء ووثائق مالك بن نبي، والغريب أن بوكروح حمل حقيبة وزارة التجارة في الجزائر ومسقاوي حمل حقيبة وزارة التجارة في لبنان .. هما تاجران في الأصل، أليس هذا غريبا؟

سؤال يؤرق الجميع، مفكر عظيم بحجم مالك بن نبي لا نجد له صورة لنقدمها في الصحافة، ماعدا صورة واحدة بالأبيض والأسود، رغم أنه توفي في أواخر 1973 فقط، ولنا صور كثيرة للأمير عبد القادر وبن باديس اللذين ماتا قبله بعقود، أليس هذا محيّرا؟
أنا أمتلك القليل من صوره في مصر بالخصوص، ورسائل كان يبعثها لوالده بخطه، لكن أشياء المفكر موجودة في بيته حاليا بالعاصمة، وفي بيت والده بتبسة، أما الكنز الحقيقي فهو موجود في باريس، فقد علمنا أن مؤرخا يدعى صادق سلام يمتلك الكثير من الكنوز لأن مالك بن نبي عاش في فرنسا قرابة الأربعين سنة، وتوجد صور له مع زوجته الفرنسية خديجة وصور في صباه، وقد أرسلت ابنتي شاهيناز موساوي في سبتمبر 2004 إلى فرنسا لاسترجاع بعضها، والتقت بصادق سلام في مدينة باريس، ولكنه تهرب رغم اعترافه بأنه يمتلك 276 صورة نادرة للمفكر ولزوجته في باريس أثناء دراسته، وأثناء عمله وزواجه، إضافة إلى وثائق، ولكنه اختفى بعد ذلك، وعلمت أن الكثير من المؤلفين الذين سافروا إلى فرنسا حصلوا على صور نادرة وضعت على الصفحات الأولى لكتبهم، ومنهم عبد الرحمان بن عمارة الذي قدّم كتابا مهما كانت عليه صورة المفكر مالك بن نبي عندما كان شابا يعيش في باريس. ولا ادري كيف حصل عليها.

متى نشاهد صور المفكر الكبير في الصحف أو في المعارض والمواقع الإلكترونية؟
هذا ما ندعو إليه، كلما مرّ الوقت كلما ضاعت هذه الكنوز وتلاشت، ولحسن الحظ يوجد الآن من تعرفوا على المفكر ومازالوا على قيد الحياة، يمكنهم المساهمة في مشروع جمع أشياء المفكر.

من، مثلا؟
كان أقرب الناس إليه المرحوم الشيخ شيبان، وأيضا عمار طالبي الذي تعرّف عليه منذ فترة تواجدهما في القاهرة، لكن الرجل الذي قدّم الكثير للمفكر هو الدكتور الشيخ بوعمران.

قسنطينة على مشارف احتضان تظاهرة الثقافة العربية عام 2015 ومالك بن نبي ابن المدينة، هل يمكننا أن نحلم بمتحف خاص بمالك بن نبي؟
عائلة مالك بن نبي تتميز بخصلة نادرة، وهي أنها لا تضيّع أشياء أبنائها، ما عشته أنا وأعلمه أن والد خالي صديق لم يمتلك طفلا سواه، كان يخبئ دفاتره وكراريسه منذ أن درس في السنة الأولى ابتدائي، كان في بيتنا متحفا لخالي، والمتحف يمكن أن يتحقق بجمع هذه الأشياء المتفرقة بين تبسة وعنابة وقسنطينة والعاصمة وخاصة في تونس وباريس، من بدلات ونظارات وأقلام وخاصة رسائل ووثائق وكتابات.

هل يمكن أن نعرف ما في هذه الصور وهذه الوثائق الهامة؟
بالنسبة للصور أنا أمتلك صورا له مع الجنرال نجيب في القاهرة، وتوجد صور للمفكر مالك بن نبي مع كبار العالم، مثل سوكارنو وغاندي وأمير العراق عبد الإله، لقد التقى بجميع كبار المعمورة في ذلك الوقت، وما أعلمه أنه يوجد ثلاثة كتب لم تطبع لحد الآن، هي كتاب مبتغى الإسلام في جزئه الثاني وكتاب تعفن وأوراق مالك.

أحيانا عندما نقرأ الظاهرة القرآنية وغيرها من كتابات مالك بن نبي نتساءل إن كان مالك بن نبي الذي عرف شعبه وكثيره من الأميين يخاطب هذا الجيل أم من يأتوا من بعدنا؟
المشروع الذي علمت أنه كان يريد تحقيقه هو تفسير القرآن الكريم بنظرة فكرية، يُمكّن الإنسان من أن يحقق بكتاب الله نموّه كإنسان له ولأمته.

عاش مالك بن نبي في عدة بلدان، هل كان يتقن الكثير من اللغات؟
ما أعلمه أنه كان يتقن أربعة عشرة لغة، هذا ليس كلاما من نسج الخيال أو مبالغة، لأن مالك بن نبي كتب مؤلفا هو “آس أو آس آلجيري” باللغة الألمانية، وهو يتكلم الإنجليزية والإيطالية والإسبانية والتركية بطلاقة، إضافة إلى لغات أخرى مثل الفارسية والبرتغالية، أتذكر عندما التقى بالجنرال نجيب كان معجبا بلغته الانجليزية، وكان يطلب منا تعلم هذه اللغة العالمية.

قلت إن مالك بن نبي كان على أهبة تفسير القرآن الكريم، لكن هناك من يعتقد أن لغته العربية لم تكن جيدة؟
لو تعلم كم نحب ونقدس في العائلة لغة القرآن الكريم ما قلت هذا، من يكتب عن القرآن الكريم كما فعل طول حياته مالك بن نبي، لا بدّ وأن يكون متمكنا وحافظا لكتاب الله، خالي كان يقدّم دروسا في القاهرة لعلماء عرب، وكان على علاقة وطيدة بالجنرال نجيب إضافة إلى الأمير عبدالإله الوصي على عرش العراق عندما كان الملك فيصل دون سن البلوغ والحكم، وقناة القرآن الكريم التابعة للتلفزيون الجزائري، تقدم بين الحين والآخر محاضراته المصورة بلغة عربية راقية جدا، وألقاها أمام كبار علماء العالم الإسلامي في ملتقى الفكر الإسلامي بالجزائر، في البيت عائلة بن نبي لا تتحدث إلا بالعربية الفصحى المهذبة وليس بالدارجة.

هل أدى مالك بن نبي فريضة الحج؟
نعم وهذا قبل الاستقلال، ولكن بعد الاستقلال كان كلّما قام بزيارة إلى دول الشرق الأوسط إلا وعرّج إلى الحجاز وأدى مناسك العمرة.

هل كان يكتب رسائله إلى أهله باللغة العربية؟
بل باللغة الفرنسية التي نتقنها جميعا، ولكنه يكتب في أعلى الرسالة البسملة باللغة العربية طبعا، وأثناء تواجده في مصر كان يرسل لنا رسائله وبعض الهدايا عن طريق بعض أصدقائه ومنهم بشير لعريبي وهو صحافي بالإذاعة التونسية، وتونسي آخر يدعى طيب شريف والدكتور عمار طالبي.

نعود إلى شبه الجامعة التي فتحها مالك بن نبي في بيته في أوائل السبعينات من كان روادها؟
في بيته الشاسع أبى إلا أن يفتتح صالون المحاضرات، تماما كما كان يفعل في باريس وفي القاهرة، كان همّه أن ينقل أفكاره إلى الجيل الصاعد، فاختار نهاية الأسبوع في ذلك الوقت، حيث كانت الجزائر تتبع نظام العطلة يومي السبت والأحد، فكان يوم السبت مخصصا للمعربين، ويوم الأحد للمفرنسين، وإضافة إلى الطلبة الجامعيين كان ضمن الدارسين أطباء ومهندسون وقضاة وصحافيون، كانت “الصالة” مجهزة بسبورة، وفيها مكتبة لأهم أمهات الكتب في مختلف العلوم والآداب وبكل لغات العالم، أتذكر مرة أنني شاهدت في التلفزيون شابا من تبسة أظهر للمشاهدين كتابا عن العالم الشهير الكِندي وقال إن هذا الكتاب كان ملكا لمالك بن نبي وزعم أن والد المفكر أهداه إياه، ومن يعرف جدنا الحاج ساعد يدرك أنه لا يقدم أشياء لابنه.

لكن ما نعلمه جميعا أن مالك بن نبي مهندس في الميكانيك والكهرباء، فهل مارس هذه المهنة؟
في باريس عرضوا عليه منصب نائب أي أن يدخل دواليب الحكم في فرنسا لأجل ذلك تنقل إلى فرنسا ولم يعمل أبدا بشهاداته العلمية كمهندس، وكما قلت لك عندما تم احتجازه في الخمسينات في سكيكدة، والتحقيق معه كنت رفقة والدتي نحرق وثائقه وكانت غالبيتها مليئة بالمعادلات الرياضية والفيزيائية، هناك من يؤكد أن مالك بن نبي قدم اختراعات ولم يسعفه الحظ في إنجازها، كانت له اختراعات في محلول الإكليل، كما تمكن من استخراج نوع من البنزين من التين الشوكي، كانت له أبحاث لأجل إنجاح السد الأخضر، من خلال أشجار خاصة توقف زحف الصحراء، أعلم أن أبحاثا تم تحويلها إلى سوريا واختراعات سافرت إلى شرق آسيا؟

العالم استفاد من فكر مالك بن نبي النيّر، ولكن اختراعاته العلمية مازالت في النسيان؟
دعني أحدثك عن تعامل خالي صديق مع عائلته ومع والده ومعي أنا أيضا، كان أحيانا يطلب منا إحضار شيء من أشيائه، فنقوم بإحضاره، وإذا طال الأمد، سألنا عن سبب التأخير، فنقول له إننا نفتش عن مكان تواجد حاجته التي طلبها منا، فيغادر غاضبا، ويقول إنه يكره أن يبذر الإنسان وقته في التفتيش عن شيء من المفروض أنه بين يديه بقليل من النظام، كما يكره ما نسميه نحن بالتوانيس أو الرغي الفارغ، أي أن نجتمع ونحكي في شيء لا فائدة منه، ورأيته مرّة ينسحب من جلسة دردشة بين والده وعمّه لأنه في رأيه غير نافعة، لقد كان يحاول أن يبني دولة حق ونظام في كل إنسان، كان يكرّر أن بناء الأمة يبدأ ببناء الفرد، أما عن النظافة فكان مضرب مثل وفي الأناقة أيضا، كان لا يخرج من البيت إلا بعد مسح حذائه، وكان يوصي بالغسل الدائم للإبط، صحيح أن مالك بن نبي تزوّج من باريسية أصيلة ولكنه هو أيضا قسنطيني أصيل، أعطاها بأناقته واحترامه لنفسه ولمحيطه الكثير، كنا نتمتع بدخول بيته وبالنظر إليه، وهو يزن كل كلمة يقولها ويحترم كل من يقول أمامه، كان ينصحنا بأن نستمع للآخر أكثر مما نتكلم، فالعلم يأتي بالاستماع والنظر وطبعا بالقراءة وليس بالقول كما كان يكرّر أمامنا.

هل كانت له طقوس في الكتابة، هل كان يكتب أمامكم؟
بل قل هل كان لا يكتب أمامنا، لم أره في حياتي لا يحمل قلما وقصاصات ورق بيضاء، كان يسجّل حتى ثرثرتنا، يسألنا عن أشياء نظنها بسيطة وهو يراها كبيرة خاصة في زمن ما قبل الاستقلال، ومع ذلك يمكن أن نقسم كتابات وحياة مالك بن نبي عموما إلى ثلاث مراحل، وهي ما قبل الثورة وسنوات الثورة وما بعد الاستقلال، والمتصفح لكتاباته يدرك أن الرجل يكتب لمرحلة معينة.

هل امتلك مالك بن نبي سيارة؟
لم يمتلك سيارة في حياته حتى وهو مدير لجامعة الجزائر، اكتفى بسائق يوصله عبر سيارة الجامعة إلى عمله كمدير جامعة ومدير التعليم العالي، ولم يمتلك حتى رخصة سياقة، رجل وهب حياته للعلم ومنحه الله بسطة من المال طوال حياته لم تكن السيارة أكثر من وسيلة نقل وفقط.

هناك من اتهم المفكر بن نبي حتى بالتشيّع وانتقاده للشيخ بن باديس؟
الاتهامات طالت الأنبياء فما بالك بخالي صديق، هناك بعض من تلامذته من تعاطفوا مع الثورة الإيرانية ومنهم رشيد بن عيسى المتواجد في اليونيسكو حاليا، لقد التقى المفكر مالك بن نبي بكل علماء المعمورة، وله صور مع جمال عبد الناصر. عند وفاته في عام 1973 كان الحكم السائد في إيران هو حكم الشاه بهلوي ولم يكن حينها أحد يتحدث عن الشيعة، خالي كان مسلما مهموما بقضايا كل المسلمين، ومات وهو يخط كتاباته عن القرآن وعن الإسلام.

بالنسبة لتهمة تشيّعه ربما لأنه كان يلتقي كثيرا بالإمام موسى الصدر؟
هذه من كتابات اللبناني عمر كامل مسقاوي، الذي قال إن الإمام موسى الصدر كان يستشهد في محاضراته عن مفاهيم عالم الغيب والشهادة بما كتبه مالك بن نبي في كتاب الظاهرة القرآنية، ويقول عمر مسقاوي أنه سأل موسى الصدر، فاكتشف أنه قرأ كل كتب مالك بن نبي دون أن يتعرف عليه وهذا في عام 1966، كما كتب مسقاوي بأن مالك بن نبي عندما كان مديرا عاما للتعليم العالي في أواخر الستينات أو بداية السبعينات من القرن الماضي زار لبنان والتقى بموسى الصدر، ووجهت له دعوة هناك لزيارة إيران ولقاء الحوزات العلمية فيها، وبالرغم من أنه لم يسافر إلى إيران إلا أن فكر مالك بن نبي كما كتب عمر مسقاوي كان يُتداول في الحوزات العلمية الشيعية كما في كل العالم الإسلامي، كما أنه عندما توفي مالك بن نبي في أواخر أكتوبر 1973 أقامت له الحوزات العلمية في لبنان تأبينية كبيرة برئاسة موسى الصدر الذي وصف مالك بن نبي بأعظم رجالات الإسلام في التاريخ وهذا في قصر اليونيسكو في العاصمة اللبنانية، وهذا المقال نشر عام 2004 في جريدة السفير اللبنانية، لكن هذه العلاقة هي إضافة لمفكر العصر ولا ترقى لأن تكون تهمة، لماذا لا نقول أن موسى الصدر هو من تحوّل إلى سني؟ ثم أن الفتنة بين السنة والشيعة لم تكن موجودة، بدليل أن عمر وهو اسم غير شيعي كان يصاحب موسى الصدر الشيعي، وأن يتوهم إنسان بأن مفكر بحجم مالك بن نبي بمجرد لقائه مع موسى الصدر وتبادل الأفكار قد تحوّل إلى شيعي، فهذا نقص نظر لا أكثر ولا أقل، ومالك بن نبي التقى أيضا بالكاردينال دوفال ولنا صورة للمفكر مع هذه الشخصية، هو مفكر يتعرف الآخر ولا أحد يزعزع تمسكه بدينه وقناعاته، أعود وأكرر أن عمر مسقاوي تعرّف فعلا على مالك بن نبي لكن أن يقول أنه وصي على كتاباته ويمتلك وصية بخطه، ويزعم أن الورثة نالوا حقوقهم من طباعته لكتب الراحل وهي ملايين النسخ، فذلك غير صحيح.

قلت في العدد السابق إن مالك بن نبي كان صديق بن بلة وصديق بومدين، وجمعته علاقة حتى بالرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، لكن المحيّر أنه لم يحمل أي حقيبة وزارية؟
ما أعلمه أنه لم يحدث وأن عرض هواري بومدين أو أحمد بن بلة على خالي أي منصب وزير، ولكنه كان رئيسا لجامعة الجزائر العاصمة وكانت الوحيدة في ذلك الوقت، كما تقلد منصب مدير التعليم العالي في عهد بومدين وهو أول من تقلد هذا المنصب، وهي مراكز علمية هامة جدا، وعرضوا عليه العمل كسفير في روما منذ تولي هواري بومدين الحكم عام 1965 ولكنه رفض، ورأى أن الدبلوماسية والابتعاد عن الجزائر غير مجد بالنسبة له، بالنسبة لبن بلة، كان يدعوه للعشاء عنده يوميا في القصر الرئاسي.

بالنسبة للأكل هل كان يشتهي الأطباق التقليدية؟
لم يعش كثيرا في قسنطينة ولكنه كان يشتهي ما يسمى بثريدة الطاجين، وكان يطلب دائما من والدتي أطباقا أكلها في مدينة تبسة مثل البودشيش وهو طبق من الشعير الطري ويتم طهيه مثل الكسكسي، إضافة إلى المرمز والثريدة المخبوزة التبسية التي يوضع في مرقها قطعة من طحين التمر، والرفيس، وكان يحبّ من أيدي والدته في صباه رغيف الرخسيس، وحتى زوجته الفرنسية تعلمت طهي كل ما يشتهيه من أطباق جزائرية تقليدية، أثناء حضورها إلى الجزائر سألت وأخذت طرق الطهي المختلفة والمقادير معها إلى فرنسا.

هل كان يستمع للأغاني وللموسيقى؟
ما أعلمه أنه أول من أدخل أسطوانات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب إلى مدينة تبسة منذ الثلاثينات، كان أحيانا يختلي بنفسه ليستمع إلى روائع الطرب والموسيقى الكلاسيكية، وحتى المذياع الذي استقدمه من فرنسا كان كل سكان تبسة يستمعون عبره لأخبار الثورة الجزائرية، واستمعوا عبره لخطاب المارشال جوان، وعلمنا أنه التقى بعيسى الجرموني وتابع حفلته في الأولمبيا، كل عائلة بن نبي تتذوق المالوف، وهو يحب كل ما هو أصيل ويعني الهوية.

يقال إنه كان مناصرا لفريق مولودية قسنطينة؟
له عم يدعى محمود بن نبي من مؤسسي نادي مولودية قسنطينة الذي يعلم الجميع أن الشيخ عبد الحميد بن باديس ساهم في تأسيسه، لكنه لم يكن مشغولا أبدا بالكرة، لم تكن له هوايات واضحة، ربما الزمن الذي عاش فيه كانت فيه كرة القدم آخر الاهتمامات بالنسبة للجزائريين.

حدثينا عن الكتب التي ألفها ولم تنشر لحد الآن؟
هذه حكاية تحتاج لكتاب وليس لصفحة من جريدة، لدينا كتاب العفن في جزأين وهو آراء صريحة في أوضاع وشخصيات جزائرية وعالمية، وكراسات مالك وهي كتابات وخواطر تشبه إلى حد بعيد كتاب فيض الخاطر لأحمد أمين، إضافة إلى الجزء الثاني من كتاب وجهة العالم الإسلامي، وفي هذا الكتاب القيّم يتحدث عن مخاطر الصهيونية وعن المشروع اليهودي الكبير، وأعتقد أنه لا أحد فهم اللعبة الصهيونية، مثل مالك بن نبي، كان يتحدث عن الدولة العبرية قبل سنوات من قيامها عام 1948، ولم يقل ذلك في مؤلفاته فقط، وإنما أيضا في جلساته الحميمية والعائلية، كان يقول دائما إن الأمور خطيرة وأن القدس يتهددها الخطر إلى أن أفقنا على فاجعة النكبة الكبرى في ماي 1948 فكانت المأساة الكبرى، يبقى السؤال الكبير هو لماذا يحتفظ نور الدين بوكروح بالكتاب الذي أخذه من زوجته خدوجة دون أن يطبعه؟

قرأنا مذكرات مالك بن نبي، لم نصادف تعرضه لأي وعكة صحية لا خفيفة ولا خطيرة، ألم تكن وفاته مفاجئة؟
فعلا كانت مفاجئة، الرجل رحل عنا قبل السبعين من العمر، لم يشتك في حياته من أي مرض، فجأة تحدث عن جلطة دموية في رأسه قبل شهر من رحيله، وساعده وزير المواصلات في زمن هواري بومدين الراحل آيت مسعودان للتكفل بعلاجه في باريس، فسافر وعاد بعد بضعة أيام معافى، ونسينا الحكاية نهائيا، ولكن فجأة تحدثوا عن نزيف دموي داخلي تعرّض له ولم يطل الوقت لنتفاجأ بوفاته؟

هل أجرى عمليات جراحية على مستوى العينين، وهل حمل طاقم أسنان؟
كان يرتدي منذ شبابه نظارات طبية، ولكن لم يحدث وأن أجرى أي نوع من العمليات الجراحية، وسبب نقص بصره هو القراءة باستمرار، وعلمنا أنه حمل طاقم أسنان أثناء تواجده في فرنسا، وعندما عاد إلى الجزائر عام 1946 لاحظت تغيّر ملامح وجهه الذي كان منتفخا، وأخبرني بحمله طاقم أسنان وأعاد تركيبه في نفس العام.

حدثينا عن يوم وفاته؟
كنا نقطن في وهران عندما بلغنا النبأ، كان إلى جانبه الشيخ عبد الرحمان شيبان رحمه الله، الذي قال إن الجزائر كانت حينها تحتفل بالذكرى التاسعة عشرة للثورة ، وصادف تسليم روحه لبارئها إطلاق أول طلقة من المدفعية في منتصف الليل في الواحد والثلاثين من شهر أكتوبر 1973 ومات في بيته الكائن بشارع فرانكلين روزفلت بالجزائر العاصمة، وهو المسكن المتواجد قرب مقر المجلس الأعلى للغة العربية.

هناك من يقول أن موته غامض، وهناك من يتجه صراحة إلى فرضية الاغتيال، سمعنا أنه كان عندما ينزل من بيته يتعرض للسقوط بسبب وضع الصابون في الأدراج مما تسبب له في نزيف داخلي على مستوى دماغه؟
نحن أيضا سمعنا مثل هذه الأقوال، خاصة من تلامذته، لكن لا أدلة على هذه الأقوال.

البعض يتهم الشيوعيين صراحة؟
لا دليل على ذلك أيضا، لكن كل الذين يعرفونه يشكّون في سبب وفاته، كان نشطا يقدم دروسه دون كلل ثم اختفى فجأة، زوجته أيضا وجهت سهام تهمها لجارة فرنسية كانت تسكن في نفس المبنى بالطابق العلوي، وقال كثيرون أنها كانت جاسوسة على المفكر بن نبي.

هل الدولة متهمة أيضا؟
ما أعلمه أن والده الذي كان على قيد الحياة تلقى رسالة عزاء من الراحل هواري بومدين، سبق لي أن قرأتها كانت مكتوبة على ورق من الحرير وفي أعلى الرسالة العلم الجزائري، الرسالة هي ضمن أشيائه الموجودة في تونس حاليا، كما نقل التلفزيون الجزائري مشهد جنازته في تلك الفترة.

على حد علمنا لم يبق لقب بن نبي نهائيا في قسنطينة وفي كامل الجزائر؟
هي فاجعة فعلا، فقد رُزق جد مالك وكان وحيد والده، بثلاثة ذكور هم ساعد والد مالك ومحمد الذي توفي في العشرينات دون أن يتزوج ومحمود الذي ولد وعاش ومات في قسنطينة عام 1922 دون أن يرزقه الله بالولد رغم أنه تزوّج في مناسبتين، وبقي الأمل في والد مالك الذي أعطاه الله طفلا واحدا، وتزوج مالك من فرنسية لم تعطه الولد، وأعاد الزواج من خدوجة الجزائرية التي تزوجت قبله ورزقت بطفل، ولكنها لن تعط لمالك بن نبي سوى ثلاث بنات لقبهن طبعا بن نبي وسافرن جميعا إلى الولايات المتحدة، مما يعني أن لقب مالك بن نبي انتهى مع نهاية المفكر مالك بن نبي عام 1973، ولا أظن أن اللقب موجود في مكان آخر في الجزائر.

نعود إلى لغز بناته المحيّر؟
مأساة بنات مالك الثلاث أنهن فقدن والدهن وهنّ صغيرات، وكانت آخر مرة يزرن العائلة وهن دون الخامسة عشرة من العمر، ربما عام 1976، مؤلم أن تكون لي بنات خال، وأي خال، ولا تجمعني بهن أية علاقة، ما أعلمه أن والدتهن زوجتهن من سوريين، حيث تم تزويج إيمان وهي توأم لنعمة من مواليد أفريل 1962 والصغيرة رحمة التي ولدت في ديسمبر 1963 من أخوين سوريين، وما أعلمه أن نعمة أصرت أن تعيش في الجزائر وتتزوج من جزائري، لكنها تزوجت بإجبارها من أمها على الزواج من ابن خال الأخوين السوريين، وسافرن جميعا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهن الآن من جنسية أمريكية، “تتنهد بألم” حتى نعمة توفيت رحمها الله عام 2002 في أمريكا ودفنت هناك وعمرها أربعون سنة فقط، بعيدا عن قبر أبيها الذي كان يحبها بجنون، كن ناجحات في الجزائر وذكيات جدا، حصلن جميعا على شهادة البكالوريا بتفوق، والوحيدة التي أكملت دراستها هي نعمة التي حصلت على دكتوراه في الطب من الجزائر العاصمة، ولمالك بن نبي أحفاد ولدوا جميعا لبناته الثلاث في الولايات المتحدة وهم من جنسية أمريكية وآباء سوريين وبالتأكيد لم يزوروا الجزائر أبدا.

الله أعطى للمفكر بن نبي البنات وهو تكفل بتربية طفلة حسب علمنا؟
تلك حكاية أخرى، فقد ربى الطفلة زهية وهي ابنة شهيد، لم يكن لها عائل وقد كبرت وتزوجت وتعيش حياة مستقرة في بيتها الآن، كان مالك كلما وجهوا له انتقادا بسبب تكفله بتربية هذه الطفلة يصيح بالقول أن قطرة من دم من والدها أغلى من كل الناس.

علمت أنه كان يقضي أوقات فراغه في لعب الشطرنج؟
المؤكد أن لا وقت فراغ لخالي منذ أن دخل المدرسة إلى أن توفي، ولا أعلم إن كان لعب الشطرنج، لكنها لعبة كان يمارسها الكثير من أفراد الأسرة ولا أستبعد ممارسته إياها.

لنختم حوارنا بالحديث عن مسكنه في العاصمة المتواجد في مكان استراتيجي؟
ما يؤلم أن ابن زوجته يقوم بكراء هذا المسكن لشركات أجنبية، ولا نفهم لماذا يتم التصرف في مسكن عالم على شكل جامعة في الأعمال التجارية، على الدولة أن تتدخل لأن الوقت قد حان ليتحوّل مسكن مالك بن نبي الذي تخرّج منه الكثير من رجالات الجزائر إلى متحف لأحد أكبر مفكري العالم، يؤلمنا كما قال صديق مالك بن نبي الليبي محمد رفعت الفنيش أن جامعة ميرلاند الأمريكية تقدم في مقرراتها فكر مالك بن نبي ونحن نعجز عن المحافظة على جدران كان يُدرّس فيها.

المشكلة ليست في الجدران فقط؟
مسكن والده الموجود في تبسة تعرّض للسرقة عام 1970 في ظروف غامضة، أصغر خالاتي لم ترزق بالأبناء فربّت أولادا، لم يعيروا لهذه الكنوز أية أهمية، قدموا بعض أشياء مالك بن نبي كهدية لمن طلبها ومنهم نور الدين بوكروح، البيت مشمّع منذ مدة، وبه كنوز مثل رسائل تبادلها مع فرحات عباس، ونحن أخطرنا مصالح الأمن وراسلنا كل الهيئات بما في ذلك رئاسة الجمهورية، لإخطارهم بمشكلة كنوز مالك بن نبي.

مالك بن نبي لم يترك ولدا، ويتعرض الآن لتغييب أفكاره في المقررات الدراسية بما في ذلك الجامعية، وحتى في الجامعة الإسلامية الأمير عبد القادر بمدينته قسنطينة، وزاد من المأساة ضياع أشيائه والكثير من أعماله.. كيف العمل؟
كل دول العالم تحسدنا على مفكر بقيمة مالك بن نبي، من تركيا وماليزيا وأندونسيا إلى موريتانيا والمغرب، كلهم يصفونه بداهية العصر، والرجل الذي يُمكن من أفكاره صناعة دول متحضرة، أظنه حان الوقت لأجل الالتفات لهذا العظيم الذي عاش لأجلنا جميعا، حان الوقت لنرد بعضا من هذا الجميل بتحويل المساكن التي عاش فيها إلى متاحف ليس للزيارة، وإنما للتذكير والتعريف بأفكاره، حان الوقت لاسترجاع مخطوطاته وصوره من تونس وخاصة من فرنسا، مالك بن نبي هو شاهد على القرن فعلا وجزء من تاريخ الجزائر المعاصرة، كان يدعوا للثورة منذ ثلاثينات القرن الماضي وساهم ولو بالنصيحة في بناء الجزائر المعاصرة وساهم في ملتقيات الفكر الإسلامي التي ميّزت الجزائر وبعثت الصحوة الإسلامية الحقة، ليس في الجزائر وإنما في كل العالم الإسلامي، حان الوقت لمساعدتنا في بعث مؤسسة مالك بن نبي ليس للزردات والبهرجة، وإنما لتكون مؤسسة فكرية تكمل رسالة مفكر العصر، سؤال لا أظن جزائريا عاقلا لا يطرحه وهو لماذا لا يُطلق اسم مالك بن نبي على جامعة كبرى.. ألا يستحق رجل مثل هذا العملاق التفاتة حقيقية؟.

جريدة الشروق اليومي 05 مارس2013

Comments (0)
Add Comment