حوار: زهية منصر
يعود لقاؤنا بأصغر بنات المفكر الكبير الراحل مالك بن نبي إلى الأيام التي انفتحت فيها سيرة والدها الراحل، وكان ذلك ذات مساء في بيت العائلة في العاصمة، كنت في كل مرة أؤجل كتابة ما جرى في تلك الجلسة، التي امتدت لثلاث ساعات، لسبب أو لآخر، لكن بعد أن بدأ معاصرو وتلاميذ مالك بن نبي يرحلون تباعا واحدا بعد الآخر، وكان آخرهم مترجمه مروان قنواتي الذي نقل “مذكرات الطفل” إلى اللغة العربية وجدت بأنه من الواجب الإفراج عن هذا اللقاء عسانا نتدارك ما يمكن تداركه ..
الجلوس إلى رحمة بن نبي يشبه تماما الجلوس إلى كتب والدها صاحب نظرية الحضارة.. هي مزيج من الانفتاح على الآخر عبر إتقانها للغات الأجنبية، والغوص في الثقافة الغربية جنبا إلى جنب مع العربية الأصيلة، في حديثها اتزان فكري وسعة الاطلاع والمعرفة..في تلك الجلسة التي جمعتها بالشروق اليومي فتحت أصغر بنات مالك بن نبي سيرة والدها بكل زخمها وغناها في الغرفة التي كان يجتمع فيها والدها بطلبته، فتحت رحمة حديثا شيقا دام أكثر من ساعتين عندما أخذتها الذكريات إلى ماضي والدها الذي رحل ومعه غضة وطنا تنكر له وشعب أحبه لكن لم يفهمه .
بداية..سيدتي كيف راودتك فكرة إنشاء دار نشر لبعث كتب والدك؟
كان حلما راودني منذ الصغر، وتحديدا عندما كنت في العشرينيات من عمري، حاولت أن أنشئ دار نشر لإعادة بعث كتب وأفكار الراحل، وهو ما أعتبره واجبا نحو الراحل كوالد أولا ثم كمفكر كبير ثانيا، وقد واجهتني عدة عراقيل عطلت المشروع إلى حين اجتماعي بإحدى الصديقات، وهكذا تحقق الحلم الذي جعلنا نعيد طبع مذكرات مالك بن نبي، كما نستعد لطبع كتب أخرى وقد فضلنا أن نبدأ بكتاب “شاهد القرن” نظرا لما لهذا الموضوع من أهمية من الناحية الفكرية والدينية حتى، لأن الشاهد هو الإنسان الذي عبر وقته وترك بصمته في عصره وهكذا أراد والدي، رحمه الله، أن يكون.
كانت كتب مالك بن نبي إلى وقت قريب محاصرة، هل تظنين أن طريقك اليوم سيكون سهلا؟
أنا أؤمن بأن أي عمل يتطلب الإخلاص والتوفيق للنجاح، والجهد مطلوب والكفاح واجب، وأعتبر بأن الوقت اليوم جد مناسب لإعادة بعث فكر مالك بن نبي لأن الشارع الجزائري اليوم يطلب هذه العودة الفكرية، وهي اليوم أكثر من ضرورة..شباب اليوم بحاجة لأن يعرفوا جذورهم ومن أين جاؤوا، وإلى أين هم متجهون، لأن من لا تاريخ له لا مستقبل له، وأنا أوجه اليوم نداء إلى كل الباحثين والأساتذة لإعادة إدماج وتبسيط فكر مالك بن نبي للطلبة في الجامعات والمدارس، وأعتبر ذلك ضرورة مطلوبة اليوم بإمكانها أن تحقق الكثير من الحلول وتجاوز أزمة التربية والأخلاق، التي أرى شخصيا بأنها تشكل الأصل في كل الأزمات التي يتخبط فيها المجتمع اليوم، خاصة ما تعلق بعلاقتنا مع الوقت والعلاقات الإنسانية كل هذه الأشياء عالجها والدي، رحمه الله، في كتبه، وأكثر ما شدّد عليه هو قضية الوعي، وهو المطلوب اليوم لإعادة ربط القراءة بالإدراك ليتحقق الفهم الصحيح، ومهما كانت العراقيل المقامة أمام الأفكار الصحيحة إلا أن الخير دائما يستقيم ويتغلب على الشر، وكما يقول الغزالي، رحمه الله، “المصاعب أمام الكسالى عراقيل وأمام المجدّين سلالم للصعود”.
الراحل مالك بن نبي منح حق التصرف في كتبه للدكتور عمر كامل المسقاوي لماذا فضل أن ينقل هذا الحق للمشرق عوض تركه في الجزائر؟
لم يمنح مالك بن نبي حق التصرف في كتبه للسيد عمر كامل المسقاوي ولكن منحه أو حمله مسؤولية الكتب باللغة العربية لعدة أسباب كون الجزائر في ذلك الوقت كانت تحت الاحتلال والعربية محاصرة، وبما أن السيد المسقاوي كان يقيم في لبنان قلب النشر العربي في المشرق، حيث كان الاهتمام الكبير بفكر مالك بن نبي، من هذا المنطلق فضل والدي أن يمنح حق التصرف في طباعة كتبه بالعربية للمسقاوي بينما ظل حق الطباعة بالفرنسية هنا في الجزائر.
والدك كان من أنصار الفكر العربي لكن كان أيضا متفتحا على الفرنسية والفكر الغربي بشكل كبير..حدثينا عن هذا الانفتاح؟
كان والدي ينزعج كثيرا إذا شعر بأن طلابه لم يستوعبوه، كان يحثنا على معرفة الآخر وعدم الاكتراث بتعقيد الأمور، كان يأمرني وأنا ابنة الثماني سنوات أن أقرأ في الموسوعة الفرنسية، وإذا ما سألته عن كلمة صعبت عليا يقول: “ضعيها بين قوسين وأكملي ربما تفهمينها يوما وستشعرين بسعادة الانتصار والثقة بالنفس”. كان دائما يقول لنا: “افعلوا اليوم ما تقدرون عليه وستفعلون غدا ما عجزتم عنه اليوم”. كان يؤمن بحتمية العالمية وليس العولمة المتوحشة التي نعيشها اليوم. اليوم لا يمكن بأي حال من الأحوال فرض الرقابة أو فرض نظرة أحادية، لكننا اليوم مطالبين كمسلمين أن نكون شهداء المرحلة، ليس بمطالبة الآخر أن يفهمنا أو يعرفنا، لكننا نحن من يجب أن نذهب إليه حتى لا يبقى الشيء الواحد المعولم اليوم هو العنف، لسنا بحاجة لرضى اليهود والنصارى عنا بقدر ما نحتاج لفرض أنفسنا في العالم كبديل صحيح، ويوم يقتنع الغرب بصحة هذا البديل الفكري سيقبلنا رغما عنه على مسلمي اليوم أن لا يشعروا بأنهم منهزمين فقط لكونهم يصلون مثلا. علينا أن نعترف بإنسانية الآخر، بدينه ولغته وحقه في الترويج لثقافته، كما يحق لنا، بعيدا عن النرجسية أو جلد الذات، أن نعمل على إبراز الوجه المشرق لثقافتنا.. هكذا كان مالك بني يفكر. المسلم اليوم مطالب بتفعيل سلاح الرحمة والمعرفة واختراق مجالات الحياة لتوفير جو التعايش، علينا اليوم أن نؤمن بحق الآخر في الاختلاف.
الكل يعرف مالك بن نبي المفكر الكبير هل لنا أن نتعرف على بعض من جوانب بن نبي الإنسان؟
لم يكن يميل كثيرا إلى تعقيد الأمور، كان بسيطا يحب البساطة، يقول لنا دائما: “عاملوا الناس كما تحبوا أن تعاملوا، وخذوا الناس على قدر عقولهم”، إضافة إلى أن والدي، رحمه الله، كان شديد الحساسية من كلمة “حق وحقي”، فكان يحدثنا دائما عن الواجب والمسؤولية، كان يقول لنا: “لو أدى كل شخص واجبه لنال الجميع حقوقهم”، كان محبا كثيرا للتنظيم والتدقيق.. أذكر مثلا بأنه كان يدخلني مع أخواتي إلى غرفة ويقول لنا: “يا لله يا بناني من تستطيع إيجاد الشيء غير العادي في هذه الغرفة ستكون أكثر شطارة من أختها”، وأذكر مرة بأن الحذاء كان معكوسا
وخيط الزربية كان مقلوبا برغم دقة هذه الأشياء، لكنه انتبه إليها، كنت في الثمانية من عمري، وكان يأمرني أن أخيط أزراري دون الاعتماد على والدتي. لقد ربانا والدي على مبادئ المسؤولية والإتقان والواجب..مالك بن نبي كان يركز على الأشياء البسيطة التي قد تعرقل السير الحسن للأشياء الكبيرة، أظن بأننا اليوم على مستوى الأسر بحاجة ماسة إلى هذا النوع من التربية. والدي كان بسيطا يحب البساطة كان متفتحا مع أبنائه بقدر صرامة تربيته كان مثلا يقيم لنا جلسات في الشعر على مائدة الطعام ليبعث الثقة في نفوسنا ويقول لنا: “من يعتقد أنه فاشل سيستثمر في هذا الفشل”.
كان رشيد بن عيسى من المقربين للمرحوم بن نبي مقارنة بغيره من تلاميذ والدك..هل تذكرينهم؟
أذكر مثلا الدكتور رشيد بن عيسى ونور الدين بوكروح وسعيد جودة والدكتور مصطفى خياطي وغيرهم، وبالمناسبة أنا أدعو هؤلاء لإضاءة بعض الجوانب المظلمة من سيرة المرحوم، عليهم أن يفعلوا ذلك للتاريخ،وإذا كان تلاميذ المرحوم هم من تتلمذ على كتبه حتى من الذين لم يعرفوه أو يتلقوه وهذا هو الأهم.
مالك بن نبي عاش في آخر أيامه عزلة ودخل في شبه يأس كيف تذكرينا تلك الأيام؟
أذكرها بحزن الطفل في داخلي، هو شبه نزيف أن أذكر والدي المفكر الذي وقف ضد التيار وحارب دائما في الاتجاه المعاكس، وهو الذي قال في عز الاستعمار أنه علينا أولا أن نحارب القابلية للاستعمار والعدو الداخلي قبل العدو الخارجي، أراه شبه يائس وهو يقول لوالدتي:”سأعود بعد ثلاثين سنة وسيفهمني الناس”، هذه العبارة التي كتبها يوما فوق ملف على ظهر ورقة خارجية عندما نفذت أوراقه، ولم يكن يملك المال حتى لشراء أوراق الكتابة، أراه مضطهدا فكريا وجسديا وقد يحدث أن يبكي، كان صعبا علي وأنا الطفلة أن أرى والدي في هذا الوضع، أشعر أن بعده لم تبق لي ذكريات.
قلت إن والدك كان مضطهدا..من طرف من مثلا؟
من طرف أيادي خفية أو ما كان يسميه والدي “مسيو إيكس” لأنه لم يكن من هواة توجيه الاتهامات المجانية، كان صابرا ومحتسبا، فرغم حجم المعاناة التي عرفها والدي، إلا أنه لم يكن من هواة الجري وراء المناصب، لقد عرضت عليه العديد منها فرفضها حتى أنه اعتذر عن قبول منصب في حكومة غي مولي الفرنسية، لكنه حوصر فكريا حتى آخر أيام حياته وقزم دوره في وطنه، وهو الذي بعثت ماليزيا على فكره باعتراف الخبراء هناك في أول ملتقى عن فكره عام 1992، والدي لم يترك مثلا منصبه في الجامعة لما كان مديرا للتعليم العالي، لكنه أقيل من منصبه وبرغم ذلك رفض أن يستعمل سائق الجامعة بعد أن تمت تنحيته من المنصب، رغم أنه كان في وسعه أن يفعل ذلك، كان يقول لوالدتي لما احتجت عليه ”مثلك مثل الشعب استعملي النقل العمومي”.
وهل فعلتم شيئا لتصحيح هذا الخطأ؟
إننا نحاول وسنبقى نحاول إنشاء الله، وبالمناسبة فإنني أتوجه بنداء إلى السلطات المعنية للالتفات إلى بيته في تبسة، الذي تحوّل إلى مخمرة متنقلة وبيت للدعارة، وهو الذي كان في حياته يحتج على الذين سمو الشارع بـ “شارع الرسول” في الوقت الذي انتشرت فيه الحانات، كان يقول لهم: “أغلقوا الحانات أو غيّروا اسم الشارع من شارع الرسول إلى شارع باخوس”، فما بالك اليوم وبيته يهان بهذه الطريقة، كما أنني هنا أوجه نداء للمعنيين من أجل تبسيط كتبه للطلبة، وقد سبق للجنة الكتاب بعاصمة الثقافة أن رفضت كتب الوالد بحجة أن للجنة أولويات.