هكـــــذا أفكر !لمـــاذا لم نكتشف مالك بن نبي بعد؟
بقلم فضيل بومـــــاله
بعد اثنين وأربعين عاما منذ رحيله (1905-1973) وتسع وستين سنة على صدور “الظاهرة القرآنية” (1946)، يبدو لي أننا لم نكتشف بعد المفكر مالك بن نبي- رحمه الله – أي أننا لم نخصه بالقراءات الجادة معرفيا وتلك التي تمكننا من الاستفادة منه إجرائيا في عمليات صناعة الإنسان والإقلاع الحضاري داخل البنية الإسلامية من جهة، والإسهام في الحضارة الإنسانية من جهة أخرى.
وبما أن الإسلام من حيث الوحي والنبوة جاء للعالمين فإن رسالته تكون حضارية إنسانية أو لا تكون. بمعنى أنها تتجاوز مبدئيا وغائيا كل جغرافية عرقية أو ثقافية مغلقة وتناهض في الجوهر كل مركزية أو شوفينية. أما التاريخ الإسلامي بما له وما عليه فقصة أخرى، لمالك بن نبي اجتهاداته فيها.
كل قارئ متمعن لمؤلفات مالك بن نبي سواء بترتيب الصدور أو بالموضوعات الكبرى التي تناولها يتضح له أن مفكرنا لم يكتب لا كفيلسوف ولا كعالم اجتماع ولا كرجل علم يقارب القضايا من زوايا محددة، بل انطلق منذ البداية ،فيما أرى،كصاحب مشروع يريد التأسيس لأنساق ومناهج جديدة. ولذلك يدرك القارئ ذاته، شريطة أن يقرأ أعماله كلها، أن مالك بن نبي ينتمي لزمرة المفكرين القلائل ذوي المنظومات الفكرية .
لماذا لم تدرك تلك المنظومة بأنساقها ومناهجها ولماذا تعطل مشروع مالك بن نبي؟
لا أزعم أنني أملك إجابات كلية ونهائية عن هذين السؤالين ، كما لا أدعي أبدا “إدراك ما لم يدركه غيري” من دارسي فكر مالك بن نبي، لكني أحاول هنا في هذا المقال المختصر أن أسائل الكيفيات التي تمت بها مقاربات فكر مالك بن نبي مشرقا ومغربا والتي،رغم كثرتها، لم تستطع في تقديري اكتشافه بل رمت به وورطته في حقول وصراعات هو بريء منها.
عوامل ذلك كثيرة، لكني سأوجز الأهم منها، أما التفصيل فيها فسيكون في كتاب سأنشره بحول الله.
1- الذهنية: لم تستطع منظومة مالك بن نبي اختراق ذهنية “إنسان مابعد الموحدين” كما لم تستطع تلك الذهنية “فهم” و”إدراك” ذلك التفكيرالممنهج وذلك التمثل الجديد للعالم الذين جاء بهما مالك بن نبي. لقد جعل الانحطاط السياسي واغتيال العقل المبررين “دينيا” من “المسلم” كيانا مناهضا للنقد و الحرية والتجديد و الثورة على الذات. وعليه، بقيت محاولات الإصلاح و”النهضة” تراوح مكانها لأنها لم تقم أبدا وفي القليل منها فشلت في “تثوير” الفكرة – المحرك بلغة أرسطو أي الإنسان ومن ثم تحقيق ثنائية التنوير والتحرير. وذلك هو صلب المشروع البنابي الجديد والغريب في آن واحد..
2- اللغة: بنية الخطاب عند مالك بن نبي من حيث الدال والمدلول أي من حيث اللغة والبناء الفكري تختلف جذريا عن أشكال ولغة التراثيين والنهضويين على السواء في الثقافة الإسلامية الحديثة والمعاصرة.ولذلك تم الإعجاب بهذا المفكر المسلم من دون فهمه. كما فهمت الكثير من أفكاره حسب “مدركات” الذين تعاملوا مع نصوصه قبل أن يعيدوا إنتاجه في كتب أو أطروحات جامعية حسب “تصوراتهم”. ومن ثم كان الموضوع هو “مالك بن نبي” لكن المضمون أشياء أخرى.
3- الترجمة: لقد كتب مالك بن نبي معظم أعماله باللغة الفرنسية الأقرب إلى دقة لغة العلوم منها إلى لغة الكتابة الأدبية أو الدينية أو التاريخية. ولذلك تعرضت أفكاره في كثير من كتبه حينما نقلت إلى العربية إما إلى التشويه أو التبسيط وخاصة التكييف مع ثقافة مترجميه أو مع ما لا “يتعارض” مع المعتمد من الفكر في الحقل الإسلامي. وذلك ما أدى في تقديري إلى “نصين” و”فهمين” مختلفين لفكر ومنهج رجل واحد هو مالك بن نبي حسب اللغة المقروء بها وحسب الشحنات الدلالية التي تتضمنها إما الفرنسية أو العربية. لقد حاول مالك بن نبي تدارك ذلك بتعلمه اللغة العربية نطقا وكتابة من خلال تأليفه لبعض أعماله مباشرة بالعربية أو عبر مجالسه وحواراته ومحاضراته باللغة ذاتها في المشرق العربي والجزائر.
4- التفكيك: ما اقصده هنا بالتفكيك ليس ذلك المعنى الفلسفي عند جاك دريدا ولكن مقاربة مالك بن نبي عن طريق الموضوعاتية المحددة والمحدودة. قلت فيما سبق أن مالكا بن نبي صاحب منظومة فكرية لها أنساقها ومفاهيمها ومناهجها كما قلت أن تلك المنظومة تجسدت في القضية الكلية التي تناولها أي “الحضارة”، ولذلك فكل مقاربة “جزئية” ولو كانت مهمة خارج “المنظومة” و”النسق” ستؤدي بالضرورة إلى عدد غير محدود من “مالك بن نبي”. حينها تحور أفكاره وتخرج عن مدارها القطبي ومن ثم تختزل أو تشوه. في تقديري الخاص،يجب أن يفهم مالك بن نبي بمالك بن نبي نفسه أي بمنظومته و لغته وأنساقه كما هو الشأن مثلا بالنسبة لابن عربي أو جلال الدين الرومي أو القديس يوغسطين أو نيتشه.
5- التصنيف: من بين ما حال دون التمكين من اكتشاف مالك بن نبي والولوج الجاد إلى فكره سقوط دارسيه من محبيه أو منتقديه في التصنيف الإيديولوجي الجاهز. “فالسلفيون” يعتبرونه علمانيا وكافرا و”العلمانيون” يرون فيه “إسلامويا” بقناع علمي وبدلة غربية معاصرة أما” الإصلاحيون” فيضعونه في خانة المفكرين المسلمين” المجددين”. هذا التصنيف في تقديري، على عموميته، يظلم مالك بن نبي ويحمله ما ليس فيه وما لم يدع له على الإطلاق. وعلى العكس من ذلك، جاء فكر بن نبي ليتجاوز تلك التصنيفية التي تصب في أمراض التفكير “الذري” و “الأصنام” الجديدة التي صارت تعبد في جغرافية الإنسان الذي يعيش على محور طنجة-جاكرتا.
6- الشرح بالتكرار: معظم المقالات والدراسات والبحوث الجامعية وكذا الكتب التي وضعت حول فكر مالك بن نبي تتعامل معه بأسلوب الشرح عن طريق التكرار. وبما أن حواجز فهمه كثيره، فقد أنتج ذلك الشرح بالتكرار عددا هائلا آخر من مالك بن نبي. وقل ما نجد نصوصا تعتمد مقاربة النقد والتجاوز من باب الإضافة كما فعل مالك بن نبي نفسه مع سابقيه ومعاصريه. والنقد هنا كما التجاوز يهدفان إلى “بناء جديد” على مستوى عالم الأفكار قبل كل شيء. إن التأسيس يحتاج النقد والثورة على الأنساق ولا يتحقق بإعادة الإنتاج والتعليب الجديد. هذه عوامل ستة أراها مهمة في فهم سؤال” لماذا لم نكتشف مالك نبي بعد”؟. وسيأتي التعمق فيها والإضافة إليها في الكتاب الذي اعتزم نشره حول مفكرنا الذي لا يزال مجهولا ومتجاهلا بعد مرور أربعين سنة ويزيد على وفاته