مسألة التغيير على ضوء المفارقة بين الواقع والمنظور

عدد القراءات :6770

أ.د. محمد سعيد مولاي
جامعة هواري بومدين للعلوم والتكنولوجيا- الجزائر

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
شكرا لجمعية النبراس للثقافة والتنمية على تنظيم هذه الندوة الدولية حول المثقف في معترك الانتقال الحضاري، سائلين الله عز وجل المزيد من التواصل والتآلف لإحكام أواصر الأخوة والصداقة والأعمال المشتركة، وذلك خدمة للوحدة المغاربية المنشودة ومساهمة في نشر ثقافة سبل السلام بين شعوب الانسانية جمعاء.

مقدمة
إن المثقف باعتباره مفكرا رساليا يقع عليه واجب التوجيه للمجتمع، بناء على معاينة الواقع المعاش واستشراف المستقبل القريب أو البعيد.
ويتعين عليه تشخيص الأمراض النفسية والاجتماعية، والبحث عن جذورها وأطوارها، وتقديم ما يناسب من علاج لها. فهو بهذا المفهوم الرسالي يُعَد من ورثة الأنبياء الذين لا يورثون درهما ولا دينارا ولكن يورثون العلم والعلماء.
ومما يشد الانتباه في العالم العربي الإسلامي وما يتصدره من إشكالات في عصر العولمة وتحدياته، هي تلك المفارقة الصاخبة التي تنخر الأفراد والمجتمعات، وتشغل المثقف الرسالي أيما انشغال، مفارقة موضحة فيما يأتي، وهي بين طرفين حل التناقض بينهما محل الانسجام والتناسق.
– فمن ناحية، يتجلى للعيان واقع مرير تتوالى فيه الأزمات وتتفاقم بلا انتهاء، واقع هو عين الغثائية ومسرح لتحامل الأكلة على فريستها.
وذلك مشهد أمة وصف أسلافها في الكتاب بخير أمة أخرجت للناس، وسقط الخلف في هاوية الانحطاط ونير الاستدمار إلا ما رحم الله من البلاد والعباد.
– ومن ناحة أخرى فإن هذه الأمة نفسها تملك بين يديها ثروات كثيرة وآليات عديدة لتحسين واقعها ورفع التحديات المحيطة بها، أثمنها وأدومها كتاب الله الذي يدعو إلى التي هي أقوم، كتاب هو كما قيل بحق آخر حصن منيع أمام المؤامرات والتدابير التي تحاك اليوم ضد أمة الإسلام خاصة والانسانية عامة.
وبين هذا وذاك تناقض وتضارب، كثيرا ما بحث عن أسباب ذلك مثقفوا هذه الأمة ودعاتها، كأمثال شكيب أرسلان الذي تساءل: ” لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟”. وغالبا ما يُطرح الاستفهام الآتي: “هل المشكلة في الرسالة أم في المرسل إليه؟”.

1-من مواقف المثقفين أمام معترك الانتقال الحضاري
أ‌-الرسالة أو المرسل إليه
المثقفون أصناف مصنفة بناء على آرائهم المتضاربة ومساعيهم المتعددة في رفع التحديات والعقبات التي تقف أمام متطلبات النهوض الحضاري، وذلك بيِن من خلال مواقفهم من التساؤلات السابقة.
ذهب بعضهم، ممن وضعوا أنفسهم موضع التقدميين، إلى أن الإشكالية في الرسالة نفسها، فتفرقوا وانقسموا إلى مذاهب وأحزاب متطاحنة، بحثا عن بديل لتلك الرسالة في أيديولوجيات متعددة قد انبهرت بها عيونهم وفُتِنت بها شعوب وأمم كثيرة.
ثم هوت وانهارت تلك الأيديولوجيات كلها في العصر الحديث، من بعد ما جُربت وألقت ما فيها، وذلك بداية من تصورات أقصى اليسار كمذهب أنصار الشيوعية المفلسة وشريعتها في بناء مجتمع بلا طبقات، إلى نقيضهم في أقصى اليمين من أتباع الليبرالية المتوحشة ومنهاجها في تشييد مجتمع الحريات الفردية المفرطة.
-ومن المثقفين من رأى على عكس ذلك أن المعضلة ليست في الرسالة ولكنها فيمن احتضنها ولم يرق إلى مستواها، أو لأنه تخلى عنها بكونه قد آمن ببعضها وترك جلها، وما جزاء من يفعل ذلك إلا خزي في الحياة الدنيا قبل الآخرة.
-ومن المفكرين الرساليين من تأمل مليا في المفارقة المشار إليها سابقا ورأى أن في الأمر علاقة محكمة بين الرسالة والمرسل إليهم -هؤلاء الذين جاءهم بلاغها قبل غيرهم ليبلغوها بدورهم إلى من سواهم- فصاغ تلك العلاقة في المعادلة الجبرية الآتية 1:
العرب – إسلام = 0
مما يدل على أن عزة هؤلاء في الاستمساك بهذا الدين مكتملا وتبليغه كاملا، وأن مذلتهم كل المذلة في الابتعاد عنه واستبداله بما هو أدنى منه، وذلك عين اليقين لأن الرسالة نزلت في أراضيهم ووضعت أمانة بين أيديهم.
-وجاء في خضم هذا المعترك، أحد أبناء هذه الأمة الرساليين الذين درسوا أسباب الانحطاط وبحثوا عن شروط النهضة، وهو الأستاذ مالك بن نبي، فكانت نظرته لقضايا الأمة نظرة شاملة بالبحث عن جذور المشكلة” دون التوقف عند ظواهرها، وبالكشف عن السنن الكونية والاجتماعية النفسية لمعالجة تلك المشكلات على ضوئها، وهذا ما جعله يرى بأن المسألة تتمثل في ما أسماه “بمشكلات الحضارة”.
ب‌-المنظور “البنابي
وقد نتساءل لم انحصر هذا المنظور “البنابي” في مشكلات الحضارة؟ فهل هو طرح سليم أم ترف فكري عقيم؟ وقبل ذلك ننظر إلى ما ذهب إليه غيره من المحللين للواقع المرير.
-فمنهم من يرى بأن المشكلة الأساسية تكمن في التخلف الاقتصادي، ولا بد من رفعه والنهوض به للالتحاق بعمالقة الانتاج في مجالات الصناعة والفلاحة، وإن في ذلك تحديات كبيرة يفرضها زمن العولمة.
-ومن المحللين كذلك من يرى الأمر في التربية والتعليم والإبداع العلمي والتكنولوجي، في عصر أصبحت من مميزاته ما يسمى باقتصاد المعرفة ومجتمع المعرفة (knowledge society )، كل ذلك يدعو إلى التنافس في التقدم العلمي والتفوق المعرفي، مع المواكبة الحثيثة للتطورات السريعة في شتى المجالات ومختلف الميادين.
-وقد يرى غير أولئك بأن مربط الفرس في مختلف الإشكالات إنما يتمثل في سوء التسيير والحوكمة (Governance)، فخاضوا غمار السياسة طلبا للإصلاح، وكثير منهم من زل الطريق من بعد ما ذاق من شجرة الخلد وملك لا يبلى.
-ويرى كثير من ذوي الفكر الرسالي أن مأساة المجتمع والأفراد إنما تنحصر في الانحلال الخلقي وفساد المجتمع وتفشي الانحرافات والآفات، ولا علاج لذلك إلا بنشر الفضيلة مكان الرذيلة والأخلاق الحميدة كسد منيع أمام زحف الجرائم والخبائث. وتأكيدا لذلك فقد علت أصوات كثير من المفكرين تنتقد الحداثة وما انجر عنها من مساوئ، وتبحث في ما يسمى “ما بعد الحداثة” (postmodernism)2.
وهذا المفهوم الأخير إنما هو تعبير عن مرحلة جديدة في تاريخ الحضارة الغربية خاصة والتي تتميز بالشعور بالإحباط من الحداثة والبحث عن خيارات جديدة لها.
وكل ذلك يُعد من التحاليل المتميزة ولها جانبها من الصحة وعمق النظر، وهي كلها تتسم بالتركيز على قضايا هي من الأهمية بمكان.
غير أنها جزئيات من كل لا بد من النظر إلى جوانبه كاملة، لمعالجته جملة وتفصيلا، كمثل البنيان إن تركت لبنات وأحكمت أخرى اختلت موازينه وتزعزعت أركانه، وقد ينهار السقف بسبب خلل في القاعدة.
لذلك كانت نظرة الأستاذ مالك بن نبي تتطلع إلى الكليات الجامعة للجزئيات المتناثرة، بالبحث المتواصل في مسألة الحضارة ومشكلاتها المتعددة والمتشابكة.

2-التعريف العضوي لمفهوم الحضارة
إذا تأملنا في مفهوم الحضارة وحللناها إلى عناصرها الأولى، كما يفعل الباحث في تشريح الأعضاء والكيماوي في تحليل المواد الكيماوية، نجد أن الحضارة (ح) عبارة عن تركيب بين عناصر ثلاثة:
الإنسان (إ) بكونه العنصر الأساسي، والوقت (و) الذي يثمن بالعمل أو المنطق العملي، والتراب (ت) الذي يرمز إلى المادة الخام بأنواعها المختلفة. فنحصل على المعادلة الآتية:
ح = إ + و + ت
وهذه العناصر الثلاثة لا تكون حضارة إذا خلت من محتواها. ذلك لأن الإنسان الذي لا يفكر، ويمضي وقته سدى في فراغ وإهمال، ولا يستثمر شيئا مما هو متاح لديه فوق الثرى أو تحتها، فهو عندئذ لا يجني إلا الفراغ والخواء، بناء على العلاقة الآتية:
لا شيء + لا شيء + لا شيء = الصفر
ومن هذا يتبين لنا أن للحضارة شروطا لا مناص منها.
-من ذلك أن العناصر الثلاثة لا تؤدي وظيفتها على أكمل وجه بمجرد اجتماعها كاملة. كمثل القصر المشيد: فإن مجموع الحجارة والقطع التي يتكون منها لا تصنع ذلك القصر ولو كانت حاضرة كلها غير منقوصة، إذ لا بد لها من تدبير وترتيب وهندسة لصياغة مشروع التشييد والبناء.
-ومع هذا، ولو أخذَتْ كل لبنة موقعها الذي يليق بها، فلا بد لها أيضا من عامل الإسمنت ليشد بعضها بعضا. أو كمثل الماء الذي يتركب من مواد أولية وهي ذرات الأكسجين والهيدروجين على النحو التالي:
الماء = أكسيجين + 2 هيدروجين
فلا بد لهذه العناصر البسيطة، مع ضرورة وجودها معا في نفس الزمان والمكان، بما يسمى بالمفاعل (catalyseur) الذي بواسطته تتماسك ذرات الأكسيجين والهيدروجين، فيتجسد تركيبها وتتحد فيما بينها حتى تصبح وحدة كأنما لا أجزاء لها، وهي وحدة الماء.
وإذن، فأي مفاعل كان ولا يزال من وراء تفعيل الحضارات؟
إذا نظرنا إلى الحضارة من منطلق تاريخي، ومن حيث تطوراتها بين طرفي دورتها: النشأة والأفول، تبين لنا أن المفاعل (catalyseur) المنشود يتبلور في ما يمكن تسميته بـ”المحرك التاريخي” الذي “يحرك” عملية التفاعل بين عناصر الحضارة ويدفع بها إلى الأمام، تماما مثل دافعة أرخميدس (Archimede)3 التي ترفع الأجسام على سطح الماء في مجال الفيزياء، وكان اكتشاف تلك الدافعة من أهم التطورات في تاريخ العلوم.
لذلك فإن جوهر التساؤلات المطروحة، إنما تتمحور حول حركة التاريخ وأسبابها. وفي هذا المنظور ذهب المحللون إلى مذاهب عديدة منذ فجر التاريخ، نشير فيما يأتي إلى بعضها.

3-الحضارة والمحرك التاريخي
أ‌-نظرية ابن خلدون
تحول مفهوم التاريخ مع ابن خلدون من مجرد معرفة سردية إلى قواعد منهجية وسنن محددة. إذ استخلص من دراساته لحركة الشعوب والأمم بأن كل دولة تمر بثلاث مراحل هي: مرحلة النشأة وتليها مرحلة الأوج وأخيرا مرحلة الزوال، كل ذلك في دورة كاملة.
ويرى ابن خلدون في هذه الدورة سنة ثابتة، سببها ومصدرها إنما هو ما يسميه “العصبية القبلية” وهي التي يعتبرها المحرك الأساسي للتاريخ.

ب‌-التناقض والجدل
هذا، وتجدر الإشارة إلى أن كثيرا من المثقفين اعتمدوا في بلورة فلسفة التاريخ على تصورات بعض الفلاسفة الأقدمين والمعاصرين، فيما يتعلق بدور الجدلية ومبدإ التناقض في مسألة تحريك عجلة التاريخ.
من هؤلاء الفلاسفة، نذكر على وجه الخصوص اليوناني هيرقليطس (Heraclite)4 في الأزمنة الغابرة، الذي قال بديمومة الحركة والتغيير بلا ثابت يذكر، كمثل النهر الجاري فإنه كما يقول “لا يمكن الاستحمام فيه مرتين” لأن ماء النهر الجاري قد تغير بينهما.
وقد لقي تعارضا لتصوره هذا، غير أن فكره الجدلي بين الشيء ونقيضه قد ذاع صيته وامتدت آثاره إلى العصور الحديثة.
إذ توسع الفكر الجدلي خصوصا مع مذهب الفيلسوف الألماني هيغل (Friedrich Hegel)5 ، الذي طاف في فلكه كثير من الذين وصفوا أنفسهم بالتقدميين.
من هؤلاء من اعتمد فكر هيغل في مفهومه للجدلية المثالية. وهي جدل متواصل بين “القضية” ونقيضها أو بين ما أسماه بالأطروحة وضد-الأطروحة، ثم تقوم هذه الأخيرة مقام الأولى لتتكرر العملية نفسها بلا انقطاع، في مسار شامل نحو المثالية. وهذه العملية المستمرة بين الشيء ونقيضه هي التي تعتبر في هذا المنظور بالمحرك الأساسي لمجريات التاريخ.
ومنهم من عارضه في مسألة الجدلية المثالية فاستبدلها بالجدلية المادية على غرار إنجلز (Engels)6 وماركس (Marx)7 ، اللذين فسرا حركة التاريخ على أساس الصراع الطبقي، وهو صراع بين الأضداد لا ينقطع حتى يبلغ ذروته في “جنة المجتمع بلا طبقات”.
ومنهم من انتهج منهج هيغل في مفهوم “نهاية التاريخ” على غرار كوجيف (Kojeve)8 الذي توسع في دراسة فلسفة التاريخ لدى هيغل وروج لها.
ثم تبعه فوكوياما (Fukuyama)9 في نفس السياق، فأسقط ذلك المفهوم على مقاس دعاة العولمة (globalisation) ليقرر بأن مجريات التاريخ تمضي نحو نهايتها في صيغة مجتمع ليبرالي ديمقراطي شامل، ظنا منه أن هذه الشمولية هي المنتصرة بعد انهيار شمول الشيوعية.
وبمعنى آخر فإن الجدل التاريخي، القائم بين الشيئ وضده والمحرك الأساسي لما يجري في الكائنات، قد أشرف على نهايته في “جنة الحرية المطلقة وكمال سيادة الإنسانية”. أو ليس لكل تصور مفهومه لدنياه ومنتهاه؟

ت‌-الوسط الذهبي (Golden Mean)
وجاء من بعد ذلك طوينبي (Arnold J. Toynbee,1889-1975) الذي اشتهر بدراساته لتاريخ الحضارات، وقد اقتبس في تنظيره لذلك من نظرية ابن خلدون في مفهوم الدورة الحضارية بين النشأة والأفول، كما اتخذ من مبدإ التناقض والمنطق الجدلي في حركة التاريخ مفهومه لـ”التحدي والجواب”.
ويعني بهذا المفهوم أن كل حضارة تنشأ برفع التحديات التي تواجه الأفراد والمجتمعات في حياتهم. فإن كان التحدي كبيرا بحيث لا حول لرفعه ولا قوة أو ضعيفا بحيث لا يُحفز عزيمة ولا همة، عندئذ لن يكون لانبعاث الحضارة أثر يذكر.
وإن كان ذلك التحدي ليس من الشدة المفرطة ولا من البساطة الهينة، ولكن كان أمرا وسطا بين هذا وذاك، عندئذ صارت الأفراد والمجتمعات بقدر من العزيمة والقوة معا، لرفع التحدي وبعث الحضارة معا.
فذلك هو الوسط الذهبي10، عند طوينبي، لأجل توليد الحضارة.
ثم بعد ذلك ينطلق مسار الحضارة، فتزدهر حتى تبلغ أوجها، ثم تؤول إلى الزوال والاندثار، كما هو موضح في الصورة (ص1) على شكل ما يسمى في رسم البيانات بمنحنى قوس (Gaussian Curve).

ص1: الوسط الذهبي (Golden Mean)
والجدير بالذكر أن قانون “الوسط الذهبي” الذي بيَنه طوينبي في دفع عجلة الحضارات، إنما هو مقاربة واضحة لمبدإ جامع وشامل يتمثل في “الوسطية” أو “المنهج الوسطي” الذي يدعو إليه ديننا الحنيف، ليس فقط على مستوى الأخلاق والسلوك والمعاملات، ولكن أيضا في المجالات الفكرية والمقاربات العلمية11.

ث‌- سنة التدافع
والأمر في النظريات والتصورات السابقة، بكونها اجتهادات في تفسير حركة التاريخ، إنما هي مقاربات متعددة لـسنة إلهية عظيمة، ألا وهي “سنة الله في التدافع”، في الآفاق والأنفس، كما هو موضح فيما يأتي.

•التدافع العام
وهو تدافع شامل في الخلق، سواء:
-على مستوى الانسان بين الخير والشر أوبين الحق والباطل، بداية من أمره تعالى: “وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو” (البقرة 36)، وتبيانا لحكمتها في قوله تعالى: “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين”(البقرة 251)،
-أو على مستوى الكون كما هو الشأن في قانون “الفعل ورد الفعل” في الفيزياء النيوتونية أو في غيرها من المجالات، وقانون “الجذب العام” بين الكواكب والأجرام أو في ما بين مختلف المجرات.
وبإمكاننا القول بأن كلا الجدليتين، اللتين سبق ذكرهما: المثالية لهيغل والمادية لماركس، والدوافع العصبية الغريزية في دورة الدول والعمران عند ابن خلدون، وقانون “التحدي والجواب” الذي بينه طوينبي في نشأة الحضارات، فكل ذلك عبارة عن أوجه متعددة ومقاربات متفاوتة لفقه “سنة التدافع” على مستوى المجتمعات البشرية أو في مختلف الكائنات.

•التدافع النفساني
ومن بين تلك الدوافع المشار إليها سابقا، يخص بالذكر مالك بن نبي ظاهرة الدوافع النفسانية، ويرى12 أنها تتمثل عند المسلم في التدافع بين “الترغيب والترهيب” أو بين “الوعد والوعيد”.
ذلك لأن سنة التدافع، كما أسلفنا، شاملة للأنفس كما في الآفاق، ويجدر بنا إذن أن نتأمل في المنظور القرآني عن دوافع الوجدان بين الروح والجسد.
في هذا السياق، نجد أن النفس التي بين أضلعنا نفسان: نفس التقوى ونفس الفجور، كما هو بيِنٌ في الآية الكريمة: “ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها”(الشمس 7). وقد جاء ذكر مواصفات إحداهما أو كلاهما، من بينها: الأمارة واللوامة، والراضية المرضية، والمطمئنة بذكر الله: “ألا بذكر الله تطمئن القلوب” (الرعد، 28).
والتدافع بينهما قائم على ميزان كفتاه تلكما النفسان. فتميل إحدى الكفتين إما تحت وطأة الثقل بالجذب -المعنوي والمادي- إلى الأرض، وإما بفضل الارتفاع عن الدنايا-جسدا وروحا- نحو السماء.
وذلك ما أشار إليه مالك بن نبي حين ذكر أن ليس للإنسان سوى نظرتان: “فهو إما ينظر إلى الأرض وإما ينظر نحو السماء”13.
وحيثما مالت أو استقامت وجهة الكفتين لذلك الميزان النفساني، كان التغيير لزاما وفق تلك الوجهة، وذلك بناء على قوله تعالى: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (الرعد 11). وفي ذلك سنة نفسية-اجتماعية، قد اتخذها مالك بن نبي عنوانا لدراساته، وجعل منها منهاجا لتحليلاته.
-فإذا أصر الانسان على نظرته إلى الأرض سقط في نفس “الفجور” وخلع لباس “التقوى” ليدسه في النسيان وراء ظهره، تماما كما حدث لأبويه في الجنة بعد أن غرهما إبليس بالذوق من الشجرة المحرمة: “فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة” (الأعراف 22).
ثم جاءت على إثر ذلك وصية الله لبني آدم أجمعين، لئلا يقعوا في نزع لباس التقوى والولوج في نفس الفجور: “يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما” (الأعراف، 27).
فحينما يميل ميزان الانسان من كفة التقوى إلى كفة الفجور، تراه رأي العين مكبا على وجهه بفعل أثقال الدنايا التي تشده إلى الأرض. وحينها تشهد شهادة حق بأنه يبتغي سبيل العوج على عكس منهج الفطرة السليمة، وتبعا لذلك تجده يرى الفساد إصلاحا والإصلاح فسادا، كما يزدرى أهل الإيمان فيراهم في سفاهة ويرى في ضلاله رشدا وسدادا14.
هاهنا حال من اعوج سلوكه، عكسا لمنهاج الفطرة السليمة، يقع ظاهرا وباطنا تحت وصفه تعالى لمن صدوا وجوههم وأداروا ظهورهم لصراط العزيز الحميد (انظر ص. 2)، وأقبلوا على الدنيا وتناسوا الآخرة، إذ يقول تبارك وتعالى عنهم: “إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا”(الانسان 27).
– وأما الانسان إذا استقام على نهج الفطرة السليمة، حينها يكون غير مكب على وجهه ولا متثاقل إلى الأرض، وغير مقبل على الأولى ولا مدبر للآخرة.
بل تراه في رفعة متزايدة بدافع من نفس “التقوى” ودفع لنفس “الفجور”، فتصبح أولاهما لباسا له في ذات الوقت الذي يسعى فيه للتحرر من مساوئ الأخرى.
هاهنا حال من استقام سلوكه قد أصبح على نهج الملتزم بقوله تعالى: “فاستقم كما أمرت”(هود 112). وكان عندئذ على صراط العزيز الحميد، تراه رأي العين قد أدار ظهره للأولى وأقبل على الآخرة.
والصورة أحيانا أكثر تعبيرا من الخطب، كما قال الشاعر: “السيف أصدق أنباء من الكتب” (ص. 2)

ص2: التدافع بين اتجاه الفطرة (أ) من الأولى نحو الآخرة وعكسه: الاتجاه المعوج (ب)

4-الفكرة الدينية والتغيير المنشود
أ‌-تعريف الطاقة المحركة
تبين لنا مما سبق أن تصورات مختلف الباحثين ونظرياتهم في قضية الدافع الأساسي لعجلة التاريخ، تتمثل في مقاربات عدة تجمعها سنة التدافع.
وكل دفع في أي اتجاه كان، يقتضي لتحقيقه طاقة تكون من ورائه. فإن زالت الطاقة انقطع الدفع، إذ لا حركة من دون محرك.
ولما كانت للنفس كفتان، تميل بينهما ذات اليمين أو ذات الشمال، فأي طاقة تدفع بثقلها يمنة أو يسرة؟
ذلك ما بحث عنه مالك بن نبي بمعاينة فاحصة ونظرة ثاقبة لتاريخ الحضارات منذ غابر الأزمنة إلى أحدثها. فتبين له أن للدين – أو بالأحرى الفكرة الدينية- دور أساسي في تفجير تلك الطاقة المنشودة، وهو الذي يمدها بالجذوة المتأججة.
وهاهنا مفهوم الدين لا يعني الأديان السماوية فحسب، بل هو شامل لكل جملة من المعتقدات والمبادئ المقدسة، التي تدور على محورها تقاليد المجتمع وتنتظم شؤونه على أساسها.
وبهذا المنظور فإن الشيوعية على سبيل المثال دين ولو تبرأت منه وحاربته، ولها آلهتها وأصنامها كما لها مفهومها للإيمان والعقيدة. وفي القوميات روح متأججة كما في العصبية نار موقدة، وفي الحروب نار ملتهبة حين يحمى وطيسها، وفي الثورات حماسة جياشة تدفع بالنفس والنفيس إلى التضحيات الجسام. وكل ذلك تعبير بصفة أو أخرى عن دين من الأديان وعقيدة من العقائد.
والقاعدة الجامعة لما سبق أنه: ما ظهرت على وجه الأرض حضارة تذكر إلا ورافقها دين يتبع. وهذا يعني بعبارة أخرى أن: “من وراء كل حضارة دين”.

ب‌-أنواع الطاقة المحركة
يتبين لنا مما سبق أن الطاقة التي توفرها الأديان نوعان: إما حمية15 كحمية الجاهلية الأولى تدفع بإحدى كفتي النفس المعلقة بالعاجلة، وإما السكينة والتقوى التي تدفع بالكفة المستمسكة بالآجلة. وذلك بين في قوله تعالى: “إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما” (الفتح 26)
وإن “لهيب الحمية” أو “شحنة التقوى” كلاهما يعتبر جوهر العقيدة المعتمدة. وذلك ما يعبر عنه مالك بن نبي بالشحنة أو “شدة التوتر” (tension)، مقارنة منه بمثيلتها في مجال الدارة الكهربائية بين السالب والموجب أو الدورة الدموية بين الانقباض والاسترخاء.
وكلما ازدادت “شدة التوتر” في “لهيب الحمية” أو في “شحنة التقوى” ازدادت روح العمل قوة وفعالية. فإن خمدت الجذوة ساد ما يمكن تسميته بـ: “برودة القلوب”، وفقا للمقولة السائدة في مثل هذا الحال: “يا بارد القلب” انهض، ومعناها: ” اربأ بنفسك” كما قال الإمام الشافعي.
وبهذا يتبين لنا أن الفكرة الدينية، المتضمنة للطاقة المحركة، سواء كانت نابعة عن “لهيب الحمية” أو “شحنة التقوى”، فهي الأساس في عملية التغيير، أو بلغة فلسفة التاريخ هي ظاهرة المحرك الأساس لمجريات التاريخ.
وهذه العملية، إنما هي في جوهرها فكرية حسية و”شيئية” ملموسة.
-فأما جانب الفكرة فيها فهو كما يذكر مالك بن نبي16 مرتبط بالانتعاش النفسي الروحي (Noosphère)، بحيث إذا فقد الانسان صلته بالمناخ الروحي مات ثقافيا وروحيا.
-وأما الشيء -كمطالب المعاش مثلا- فهو مرتبط بالمناخ الحيوي (Biosphère)، بحيث إذا فقد الانسان صلته بالمناخ الحيوي مات إكلينيكيا.

ت‌-المفارقات بين دافع الفكرة والمنطق العملي
بين الفكرة الدافعة والفعل المجسد لها علاقة جدلية، وفي كتاب الله ذكر الإيمان بمعية العمل وذم لمن خالف بينهما: “يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون” (الصف 2-3).
ولا يخلو الخطاب الثقافي من هذه المفارقة بين الفكرة والفعل، وما أحوج الأمة إلى المثقف العملي.
كثيرا ما نبه الأستاذ مالك بن نبي إلى هذه المفارقة في حديثه عن الفرق بين “صحة الأفكار والفعالية أو المنطق العملي17”: فإن صاحب الفكرة الخاطئة قد يكون أكثر فعالية في تمريرها، وحامل الفكرة الصحيحة قد يكون عديم الفعالية في تبليغها. ولعل في هذا من الأعراض البارزة ما يشفي الغليل لتشخيص الداء والدواء معا.
يذكر مالك بن نبي18 في هذا الصدد أن المسلم على العموم ينقصه المنطق العملي، وليست الفكرة إذ هي موجودة في تراثه. ويذكر أيضا أنه يقال إن الأمة تعيش طبقا لمبادئ القرآن والأصوب أن نقول: إنها تتحدث فقط عن مبادئ القرآن لعدم وجود المنطق العملي في سلوكها، أو الفعالية التي يعتبرها أستاذنا جوهر المسار التاريخي19.
وإذن فالخلل يكمن في التوافق بين الفكرة والشيء، وبين القول والفعل، كمثل الخلل في المعادلات الجبرية: إذا لم يتحقق التوافق بين المجاهيل والمعطيات زيادة أو نقصانا أصبح حل المسألة مستحيلا.
كذلك من المفارقات ما أسماه أستاذنا “بالذرية” (atomisme) وهو تمزق الأمة وظهور الفرق منذ واقعة ضفين. وإن كان في الاجتهاد اختلاف يزيد في توسع الفكر ويصب في التوحيد، فعلى عكس من ذلك إن الشقاق والتفرق إلى شيع وطوائف يضيف إلى الهوة دركة بعد الأخرى، فيكون الانفصام وتشتد العداوة بين تلك الشيع والطوائف، وتحق عندئذ براءة الرسول (ص) منهم ولو تظاهروا باتباعه: “إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء” (الأنعام 159).
من المفسرين من يرى بأن المقصود من هذه الآية الكريمة إنما هي الطوائف التي تفرق عليها أهل الكتاب من اليهود والنصارى فحسب. ولكن لِمَ لا يكون أيضا أهل القرآن من المعنيين، وقد انقسموا إلى ملل ونحل متطاحنة، وكيف يكون دعاة التفرقة من أولياء الله، “إن أولياؤه إلا المتقون” (8، 34).
ويقع هنا على المثقف الرسالي واجب معالجة مسألة “الذرية”، لأن عقيدة التوحيد تقتضي منه إعادة التركيب “الذري” وبناء وحدة الأمة، ولأن هندسة التركيب والبناء منهج ودراية يقتضيها الوعي بالرسالة.

ث‌-الثقافة بين الرواسب والمفاسد
الثقافة روح كل رسالة، وهي بالإضافة إلى كونها مرتبطة بالفكرة الدينية وعواقبها، فإنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام تبعا لتراكماتها التاريخية داخليا أو لاحتكاكها بثقافات أخرى خارجيا، وهي كما يذكر مالك بن نبي20:
-لا ثقافة (non-culture)، للدلالة على الرواسب والسلبيات التي تلتصق بأذهان الأفراد وتنتقل عبر التقاليد، وهي عبارة عن أفكار ميتة (idées mortes) معيقة للمسار الثقافي المنشود.
-الثقافة (culture) بمعناها النهضوي الذي يتماشى مع الانبعاث الحضاري.
-ضد الثقافة (anti-culture)، دلالة على الأفكار المستعارة، وهي أفكار مميتة (idées mortelles) تُبث باسم “الالتحاق بالركب الحضاري” دون قيد ولا شرط، وتُزرع في كيان المجتمع كزرع الأعضاء في الجسم دون مراعاة التوافق والانسجام.
على سبيل المثال، تجد مقولات كثيرة ومتكررة قد رسخت في ”ثقافة المجتمع“ وأعادته إلى “اللاثقافة”. من ذلك هذه العبارات المتفشية في كلام الناس وخاصة لدى الشباب: ”ماعليهش“ (لا عليك ولو أسأت)، ”طبع برك“ (خض مع الخائضين)، ”تخطي راسي“ (لا تبالي بما يصيب غيرك من الناس)، نورمال (ما تفعله ولو كان منكرا فهو طبيعي)…
فذلك كله سيئ يتنافى مع الثقافة الباعثة للحضارة، ويتناقض مع الجد والاهتمام بأمر المسلمين، ولا يستجيب لإنكار المنكر والأمر بالمعروف.
وعلى ضوء هذا التحليل، وجب التغيير من أجل تصحيح الفكرة برفع الغبار عنها من رواسب الماضي ومفاسد الحاضر، بدلا من الشراب التقليدي من كأس الأفكار الميتة أو التروي بالتقليد من كأس الأفكار المميتة.
ووجب مع ذلك تثبيت ثقافة الفعالية واعتبار قيمة العمل بدلا من ثقافة التبعية التي تشل الأيدي والأبصار وتحرم المجتمع من النهضة والابتكار.
هذا، وإن واجب القضاء على رواسب الماضي لا يعني البتة محاربة التراث النير، كما أن مقاومة الأفكار المستعارة ليست في شيئ من الانفتاح على العالم بما ينسجم مع شروط النهضة والتطور.
فلا ينبغي الخلط في الأفكار أو اللبس بين الأضداد، وفي هذا يقع على المثقف واجب فصل الخطاب، ذلك الخطاب عين الحكمة التي أوتيها الأنبياء ثم كان من ورثتهم فيها العلماء.

خلاصة
هذه إذن بعض المفارقات بين الواقع والمنظور، على سبيل المثال لا الحصر. وينبغي التصدي لها كلها بجد وحزم، وهي جوانب من الأمراض الباطنية التي تنخر هيكل الأمة من داخلها.
أما التحديات الخارجية التي يواجهها المثقف الرسالي، فهي تحديات جسام تضرب ظهر أمته وتمزق وحدتها وتسلب ثرواتها وتمسخ هويتها.
وقد يحتار اللبيب أي الأمراض ما ظهر منها وما بطن أولى بالمعالجة، والحكمة في الشعار: “غير نفسك تغير التاريخ”، بناء مرة أخرى على قوله تعالى: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (الرعد 11).

المراجع
مالك بن نبي
– شروط النهضة، 1948
– وجهة العالم الإسلامي، 1954
– ميلاد مجتمع، شبكة العلاقات الاجتماعية، 1962
– مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، 1970
– Mohamed El-Tahir El-Mesawi : A Muslim Theory of Human Society : An Investigation into the Sociological Thought of Malik Bennabi (Kuala Lumpur : Thinker’s Library), 1998
– Arnold J. Toynbee : Challenge and Response, in : A Study of History,1934

الهـــوامش:
1- الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، في إحدى محاضراته بقاعة ابن خلدون، ألجزائر العاصمة، سنة 1970، من تنظيم وزارة الشؤون الدينية والأوقاف وتحت إشراف الوزير مولود قاسم رحمه الله.
2 – انظر إلى مقالة لها علاقة بدراسات مالك بن نبي حول الظاهرة القرآنية، بعنوان:
Mohamed El-Tahir El-Mesawi : A Muslim Theory of Human Society : An Investigation into the Sociological Thought of Malik Bennabi (Kuala Lumpur : Thinker’s Library, 1998)
3- أرخميدس (Archimède de Syracuse)، 287 ق م – 212 ق م.
4- هراقليط (Héraclite d

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.