محطـات في حياة مالك بن نبي
الحمد لله وحده لا شريك له يحيي ويميت وهو على كل شيئ قدير، والصلاة والسلام على رسول الله الذي قال: “العلماء ورثة الأنبياء”، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه. أما بعد، فهذه لمحة عن مراحل حياة المفكر مالك بن نبي رحمه الله تعالى
مقدمـة
امتدت حياة مالك بن نبي ما بين أوائل القرن العشرين وثلثه الأخير، ولم تنقطع شهاداته الحية على مدى تلك الفترة من خلال تحاليله الفذة لمجريات الأحداث، ومعالجاته لمشكلات الحضارة، “شاهدا على القرن” بكل روافده الاستعمارية والثورية، حريصا على نهضة العالم الإسلامي من سباته منذ عهد ما بعد الموحدين إلى “دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين”.
فكانت حياته منذ الطفولة إلى “حلقاته” وهو متقاعد في بيته حياة كفاح بالقلم ، وجهادا بالدليل العلمي وجوامع الكلم، في عالم تضاربت فيه القرائح بين مسرف في”الشيئية” همه الخلود إلى الأرض، وبين غائص في “الفكر” المثالي يتطلع إلى المطلق. وهل من سنة أجدى وأبقى في تغيير الأنفس والمجتمعات من نور القلم الذي به علم الرحمان، علم الإنسان ما لم يعلم. وهل من جهاد في مجال الثقافات والحضارات أكبر من نفوذ الكلمة في صنع الذهنيات وطرح ما بها من ملابسات وانحرافات مثلما جاء في قوله عز وجل: “وجاهدهم به جهادا كبيرا” (الفرقان 25 /52)؟.
هذا وقد تميز مالك بقدرته الفائقة على التحليل العلمي في القضايا الاجتماعية النفسية والمسائل الفكرية والدينية، فتراه في معالجته لتلك القضايا كأنما يعالج مسائل فيزيائية أو رياضية. مثل ذلك تحليله لعناصر الحضارة مثل تحليل الكيماوي للماء، وانبعاث الحضارة يراه متجسدا في دافع الدين على غرار دافعة أرخميدس، والدورة التاريخية بين مبتداها ومنتهاها على شاكلة الدورة الدموية بين عمليتي الانقباض والاسترخاء.
كما تميز باطلاعه الواسع على كل من الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، وغيرهما من الحضارات القديمة والحديثة. فدرس إلى جانب دوراتها أسباب أوجها وسقوطها وأثبت بقوة الدليل والبيان ما للعقائد من طاقة فريدة في نشأتها وتفجيرها.
وقد اتخذ مالك كعنوان لدراساته قوله تعالى :”إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. وانصب جل تفكيره في هذا الاتجاه: إذ كيف مثلا ترفع مهانة الاستعمار عن الشعوب من غير رفع وطأة “القابلية للاستعمار” وتحرير الرقاب من “الأفكار الميتة والقاتلة”؟ وهل من سبيل إلى الرقي الحضاري بدون الاعتناء بتقويم الإنسان بدلا من “تكديس الأشياء”؟ وهل تقوم النهضة على التغني بأمجاد ما مضي ونسيان ما هو قائم وواقع وتركه لأباطيل الغزو الثقافي والصراع الفكري؟. لقد رأى مالك ما أصاب الأمة من مصائب شتى، وإن المصاب جلل والوعي بالرسالة قد ثقل، فترك رخاء الحياة ورغد العيش بالانشغال كمهندس من خريجي أكبر مدرسة فرنسية في الكهرباء، وانكب كمهندس من نوع جديد في معالجة مشكلات الحضارة مع كل ما سيصحبه في ذلك من متاعب وعناء وأذى.
تميز مالك بقدرته الفائقة على التحليل العلمي في القضايا الاجتماعية النفسية والمسائل الفكرية والدينية، فتراه في معالجته لتلك القضايا كأنما يعالج مسائل فيزيائية أو رياضية. مثل ذلك تحليله لعناصر الحضارة مثل تحليل الكيماوي للماء.
فجاء بقاعدة جوهرية وشاملة تنص على جدلية محكمة بين تطور الحضارات وانتشار الأديان عبر العصور والأمصار، ذلك بأنه: ما ظهر على الأرض نوع من أنواع التمدن إلا وبزغ معه صنف من أصناف التدين، ومن ذلك نستخلص أن “من وراء كل حضارة دين”، وأنه لا سبيل لتغيير ما بالمجتمعات من رواسب مهلكة وأمراض مزمنة من دون تغيير ما بالأنفس من عقائد فاسدة وتصورات خاطئة، وبناء على ذلك فإن مصير الأفراد والأمم بين أيديها قبل سواها ولذا يقول مالك: “غير نفسك تغير التاريخ”، وقد قال رسول الله (ص): “هي أعمالكم تدل عليكم كيفما كنتم يولى عليكم”.
محطات من حياة مالك بن نبي
1905:ولد مالك بن نبي سنة 1905 بمدينة قسنطينة ، شرق الجزائر في أسرة فقيرة محافظة. حال البلاد آنذاك: أنها مستعمرة ومنقسمة إلى فئتين، فئة البؤساء (indigènes)، مهضومة الحقوق، مسلوبة الأراضي، خيمت عليها غيوم الجهل والفقر والحرمان، وفئة الكولون (colons) الذين بسطوا أيديهم على خيرات البلاد واستعبدوا العباد وعاثوا في الأرض تنكيلا وتقتيلا واستبدادا.
فكانت أجواء البيئة التي نشأ فيها على طرفي نقيض: بين سيد ومسود وبين ذي علم وجهول وبين مستعمر وقابل للاستعمار وبين محافظ مستمسك بدين القيمة لكن تنقصه الفعالية ومعتد لا يرقب في أهل البلد إلا ولا ذمة إلا من أذعن له رقبته مثل العملاء من “الحركى”.
1908-1910: في سنة 1908 رفض جد مالك العيش تحت نير الاستعمار، فغادر الجزائر إلى ليبيا ولبث فيها وشارك مع إخوانه الليبيين في مقاومة الغزو الإيطالي ثم عاد إلى قسنطينة. أما والد مالك، عمر بن نبي، فقد انتقل مع باقي أسرته ما عدا مالك (الذي تركه عند أحد أعمامه) إلى مدينة تبسة حيث يقطن صهره وأخوال أبنائه منذ نصف قرن وهم من أصل قسنطيني.
وفي سنة 1910 تحصل والد مالك على وظيفة خوجة في بلدية تبسة وعندها التحق الولد بأبويه وفي هذه المدينة ترعرع وزاول دراسته في كل من المدرسة القرآنية والمدرسة الابتدائية الفرنسية.
1911-1929: واصل مالك في قسنطينة دراسته الثانوية بالفرنسية ودراسته في المدرسة الأهلية بالعربية، وتحصل على الشهادة الثانوية سنة 1925 وعندها سافر إلى فرنسا لمتابعة دراساته العليا، غير أن ظروفه المادية لم تسمح له بذلك فعاد إلى الجزائر.
تحصل سنة 1927 وبعد عدة محاولات على منصب عادل لدى محكمة آفلو جنوب الجزائر.
أتاح له عمله هذا فرصة الاحتكاك بمختلف شرائح المجتمع والفئات الشعبية، فاطلع على معاناتهم اليومية من فقر وجهل كما انتبه إلى دسائس الاستعمار في التحايل على اختلاس أملاك الأهالي خاصة منها الأراضي، وقد ذكر ذلك للشيخ عبد الحميد ابن باديس، رائد الحركة الإصلاحية الذي تعرف عليه سنة 1928.
تحول في نفس السنة إلى محكمة شاتدان (Châteaudun-du-Rhummel) شلغوم العيد حاليا، وعندها تبينت له ملامح رجل مابعد الموحدين من خلال معاينته لمشاهد عديدة من الضياع الفكري والانحراف الثقافي لدي كثير من الأهالي في مقابل الأروبي المستعمر. ثم قدم اسستقالته من المحكمة بعد خلاف شجر بينه وبين ضابط المحكمة.
عندها بادر سنة 1929 إلى ممارسة التجارة في إطار عائلي، لكن لم يكن مؤهلا لذلك فابتعد عن تلك الممارسة وراودته فكرة مواصلة دراساته العليا.
1930-1936: كانت سنة 1930 السنة المائوية للاحتلال الفرنسي، بادر فيها الاستعمار باحتفالات كبيرة. وقرر حينها مالك بالتوجه إلى فرنسا لمزاولة دراسته فيها بعد أن وعده أبوه بإعانة مالية.
تقدم أولا إلى معهد اللغات الشرقية بباريس لكن إدارة المعهد رفضت تسجيله بالرغم من توفره للشروط المطلوبة. فسجل بعد ذلك في معهد الكهرباء الذي يحمل اسم مؤسسه سودريا (Sudria) وتخرج منه سنة 1936 تعرف في باريس على جمعية الشباب المسيحي (Association des Jeunes Chrétiens) الكائنة بشارع تريفيس (Trévise)، وألقى بمقرها في شهر ديسمبر من سنة 1931 أول محاضرة له بعنوان : ” لماذا نحن مسلمون؟”. فانبهر به جمع الطلبة وعلا صيته بين الأوساط الفكرية مع صيت صديقه الحميم حمودة بن ساعي الذي ألقى هو الآخر محاضرة في نفس السياق بعنوان: “الإسلام والسياسة”.
وعلى إثر ذلك ثار في جالية الشمال الإفريقي الشعور بأصالتها والدفاع عن هويتها فتقرر تأسيس “جمعية الطلبة المسلمين لشمال افريقيا” (Association des Etudiants Musulmans Nord-Africains : AEMNA) وعين مالك كنائب رئيس لها.
وتعرف في نفس السنة على زوجته الفرنسية (Paulette) التي عانقت دين الإسلام وحملت اسم خديجة، وقد انعقد القران بمدينة درو (Dreux) حيث تتواجد أسرة زوجته والتي تقع على بعد حوالي ثمانين كم من باريس. كما أنشأ “جمعية فرنسا والشمال الإفريقي” (Association Franco – Nord Africaine ) وكان رئيسا لها. أثار كل ذلك حفيظة من سيسميهم مالك “بالمسيو إيكس” (Mr X) أو النظام السيكولوجي (psychological service) الذي كان يعمل لصالح الإمبراطورية “ذات النزعة التوسعية” في البلاد المستعمرة ومحاربة دين الإسلام في ميدان الصراع الفكري (lutte idéologique) والذي سيتابعه ابتداء من تلك الفترة.
وازداد شعوره بخـفايا “المسيو إيكس” من جراء المممارسات العنصرية وانسداد أبواب الشغل أمامه، خصوصا من بعد ما لحقه من معاملات من طرف المستشرق لووي ماسينيون (Louis Massignon).
لكن بالرغم من ذلك فقد كانت هذه المرحلة من حياته متميزة بخصبة في الأفكار وغزارة في الأحداث. إذ كان في قلب الحي اللاتيني (quartier latin) بباريس وهو في عنفوان شبابه، في وسط مفعم بالفكر الغربي وتوجهاته الفلسفية والاجتماعية والسياسية، وفيه كذلك تعج وتموج ثلة من الطبقة المثقفة والسياسية من أبناء العالم الإسلامي والعربي، سواء منهم القادمون من شمال إفريقيا كمحمد الفاسي والهادي نويرة أو من المشرق مثل الشيخ محمد عبد الله دراز وغيره، والذين اختلفت تصوراتهم بين التوجهات اليسارية واليمينية والمولعين بنمط الحياة في بلاد الغرب وبين المستمسكين بأصالتهم ودينهم .
وفي هذا الفضاء وجدت أفكار مالك سبيلها في التلاقح والتضارب مع غيرها من القرائح، كما ظهرت شجاعته في الدفاع عن أصالته وقيم دينه الحنيف، وجاء بتحاليل منهجية جمع فيها بين عقلانية ديكارت وعبقرية ابن خلدون ليعالج من خلالها مشكلات الحضارة (Problèmes de civilisation) ويبين أسسها وأسباب انحطاطها وشروط نهضتها.
وقد تبنى الفكر الإصلاحي للشيخ عبد الحميد بن باديس (1889- 1940م) منذ أن تعرف عليه في عام 1928، وعرف منهجه الإصلاحي ، فناصره في البداية بقوة أثناء تواجده بفرنسا لما كان يرى في ذلك المنهج من أسس متينة وكفيلة ببعث الحضارة الإسلامية من جديد. بينما كان معارضا بشدة لأنصار الاندماج (les assimilationnistes) الذي تزعمه ابن جلول وفرحات عباس.
لكن لما انضم الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى جانب الاندماجيين سنة 1936 وغيرهم من الأحزاب السياسية الأخرى في وفد جمع أغلب الأطياف الجزائرية ثم ذهب هذا الوفد إلى باريس لمطالبة الدولة الفرنسية بحقوق جميع الجزائريين ورجع بعد ذلك بخفي حنين، هنالك رأى مالك أن جمعية العلماء قد انحرفت عن منهجها الأصيل الذي علق آماله عليه في انبعاث الحضارة الإسلامية وراح يعاتب الجمعية لأتباعها خطى أصحاب الزردات الانتخابية والوعود السياسية الكاذبة والتروي “بمرض الكلام” من قيل وقال والتغني بالأمجاد. فانقلبت الفكرة في رأي مالك إلى وثن من أوثان البولتيك الخاوية (Idée-Idole)، وانساقت المشيخة الدعوية والإصلاحية نحو الزعامات المتناحرة بين محترف ومتصنع (zaims et zaimillons). إلى جانب هذا النشاط الفكري المكثف كان مالك يبحث في محاولات عديدة عن منصب شغل يسد به حاجيات أسرته لكن دون جدوى، فقرر الدخول إلى الجزائر.
1936-1938: بادر بإنشاء مدرسة تقنية في قسنطينة، لكن الإدارة الاستعمارية رفضت الترخيص له بذلك بعدم الاستجابة لطلبه. فقرر حينها أن يهاجر إلى مصر أو إلى بلاد الحجاز لكنه لم يحصل على التأشيرة ثم فكر في الهجرة إلى ألبانيا غير أن الظروف الاقتصادية البائسة لهذا البلد حالت دون ذلك.
1938: بعد هذه المحاولات اليائسة، جاءه صديق تبسي ودله على منصب كمنشط لمحو الأمية في المركز الثقافي بمرسيليا الذي افتتحه المؤتمر الإسلامي الجزائري آنذاك. فالتحق به مالك وعين مديرا له وأبلى البلاء الحسن في أوساط الجالية المغتربة، سواء في مجال التعليم والدفاع عن حقوقها أو في نشر أفكاره حول النهضة الحضارية.
وجدت أفكار مالك سبيلها في التلاقح والتضارب مع غيرها من القرائح، كما ظهرت شجاعته في الدفاع عن أصالته وقيم دينه الحنيف، وجاء بتحاليل منهجية جمع فيها بين عقلانية ديكارت وعبقرية ابن خلدون ليعالج من خلالها مشكلات الحضارة (Problèmes de civilisation) ويبين أسسها وأسباب انحطاطها وشروط نهضتها.
فأثار ذلك حفيظة الإدارة الفرنسية من جديد، خصوصا بعد دعوة إلى حضور تجمع وجهت له من قبل مؤتمر القوات اليسارية التي تجندت ضد ألمانيا على إثر أزمة كانت جارية في تشيكوسلوفاكيا. فطالب مالك في هذا التجمع بالأخذ بعين الاعتبار بالحقوق المشروعة للمغاربة في مقابل تجنيدهم في الحرب المرتقبة ضد ألمانيا. وعلى إثر هذا الحدث أغلقت الإدارة الفرنسية المركز الثقافي
1939: كانت رياح الحرب العالمية الثانية تلوح في الأفق. في هذه الأجواء أرسل مالك إلى حزب الشعب الجزائري (PPA) الذي كان يتزعمه مصالي الحاج بمذكرة حول الأوضاع الراهنة في الجزائر والآفاق المفتوحة أمام البلاد تحت عنوان: “الحزب الاجتماعي غير السياسي le PAS (Parti Apolitique Social) وكان يرجو نشره في مجلة البرلمان (le Parlement)، لسان حال الحزب. فتقدمت إدارة هذا الأخير بتهنئة مالك على جودة المذكرة لكنها اعتذرت عن عدم نشرها بحجة الإجازة الصيفية لعمال المجلة. ثم ترجمت المقالة إلى العربية وأرسلت إلى حزب الدستور بتونس فلم تنشر أيضا.
1940 – 1948: كما تقدم مالك سنة 1940 بالإضافة إلى تلك الانشغالات بدراسة حول الإسلام واليابان، سلمها إلى السفارة اليابانية بباريس في إطار مسابقة دولية طلبتها هذه الأخيرة في موضوع “الحضارة اليبانية”، وذلك بمناسبة الاحتفال الألفيني لليابان.
ولم يتسن لمالك استلام الدعوة التي قدمتها إليه سلطات اليابان، نظرا لتصاعد الأزمة في فرنسا. إذ في نفس هذه السنة اقتحمت القوات الألمانية مدينة درو (Dreux) حيث كان مالك يقيم مع زوجته. ففر الموظفون من إدارة البلدية عن بكرة أبيهم وتركوها خاوية على عروشها، وعندها احتجزت القوات الألمانية المهندس بن نبي وأمرته بتسيير مصالح البلدية، وبعد يوم من ذلك عاد الحاكم الفار وعرض خدماته على سلطات الاحتلال فعينته لإدارة البلدية وأعادت تعيين المهندس بن نبي كنائب له. ثم جاء من بعد ذلك موريس فيولات (M. Violette) الذي كان حاكما للجزائر سنة 1925 وهو أحد صناع المشروع المعروف باسم (projet Blum-Violette) وكان كذلك رئيسا سابقا لبلدية درو (Dreux)، فعرض نفسه على السلطات الألمانية فأعادت تعيينه كرئيس للبلدية.
وحينها قال فيولات لبن نبي: ها نحن الآن سويا في نفس الجهة، فرد عليه بن نبي قائلا: أما أنا فقد احتجزتني قوات الاحتلال وأما أنت .. ؟ (أي أنك اخترت بعرض نفسك وأنت إذن: collabo)، فأسرها فيولات في نفسه ليبديها حقدا ومكرا على مالك بعد تحرير فرنسا.
وبدا للسلطات الألمانية مع حكومة فيشي (Vichy) أن تغير فيولات بآخر، فجاء الرئيس الجديد ناقما على سابقيه وأقصى في هذا السياق مالك من البلدية.
بحث مالك بعد ذلك عن أي عمل يسد به رمق أهله في تلك الظروف القاسية، ولربها كانت هذه الفترة من أشد مراحل حياته سيذكرها ويدونها في كتابه “العفن” (Pourritures)، وما وجد من عمل ولمدة قصيرة سوى الحارسة بالليل، ثم لم يجد بعده شيئا. وازدادت وضعيته المالية صعوبة، ذلك لأن الإعانة المتواضعة التي كان يقدمها له أبوه لم تجد طريقا إليه بسبب انقطاع العلاقات بين الجزائر وفرنسا بعد الثامن من شهر نوفمبر 1942.
فاضطر إلى العمل في ألمانيا في صفقة تبادلية كانت تسمح بها سلطات الاحتلال . وفي هذا البلد شرع في تأليف أول كتاب له وهو “الظاهرة القرآنية”، لكن احترق جزء كبير من الكتاب على إثر ضربات جوية لم تبق منه سوى أشلاء لا تكاد تذكر. ثم عاد مالك إلى مدينة درو (Dreux) بعد أن قضى في ألمانيا ثمانية عشر شهرا، ليقع في مؤامرة من تدبير رئيس البلدية السابق فيولات في وقت لاحت فيه تباشير التحرير من الغزو الألماني.
ذلك أن فيولات أراد طمس شهادة مالك على تعامله طوعا من غير إكراه مع سلطات الاحتلال. فأُدخل مالك السجن بنفس المدينة مع زوجته خديجة بتهمة الخيانة ولبث فيه سبعة أشهر من سبتمبر 1944 إلى أفريل 1945 وخرج منه بعد قرار المحكمة بالبراءة من التهمة.
ثم أدخل السجن مرة أخرى في مدينة شارت (Chartes) بنفس التهمة ولبث فيه ستة أشهر من أكتوبر 1945 إلى ماي 1946 ليخرج منه بالبراءة كذلك.
وأعاد مالك في سجنه الأخير كتابة “الظاهرة القرآنية” من جديد معتمدا على ذاكرته وقد طبع الكتاب بالجزائر سنة 1947. وصدر له في نفس السنة “لبيك” وهو عبارة عن رواية يقص فيها ظروف فقير توجه للحج إلى بيت الله الحرام. ثم صدر له سنة 1948 الكتاب الذي ذاع صيته به وهو “شروط النهضة”.
1948 – 1955: تنقل مالك في هذه الفترة بين فرنسا والجزائر مع القيام بأعمال بسيطة هنا وهنالك متى سنحت له الفرصة بذلك، والواقع أنه شرع في هذه الفترة بالتخصص ككاتب يقتات من تسويق كتبه ومقالاته.
فساهم بصفة منتظمة وفعالة في الصحافة المعروفة آنذاك، من بينها: “الجمهورية الجزائرية” (La République Algérienne) لسان حال حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري التابع لفرحات عباس، ومجلة ” الشباب المسلم” (Le Jeune Musulman) التابعة لجمعية العلماء المسلمين التي كان يشرف عليها آنذاك الشيخ البشير الإبراهيمي، وقد تركت مساهماته هذه أثرا بليغا وتواصلت إلى سنة 1956 كما أنها جمعت كلها من بعد وفاته في مُؤلًفين .
هذا وقد صدر لمالك كتابه المحوري في معالجة “مشكلات الحضارة”: “Vocation de l