النّقد في عالمنا الإسلامي عملة نادرة مالك بن نبي مشروع تجديد حضاري أهملته الجزائر
طالب الإبراهيمي أقال مالك بن نبي من منصبه وأبعده من الجامعة
المدينة المنورة – عبد الناصر
تواصل الشروق اليومي تقديم مفكر العصر مالك بن نبي من خلال شهادات أقرب الناس لهذا الرجل، الذي غادرنا منذ أربعين سنة تاركا كنوزا فكرية غالبيتها لم تر النور بعد، والكثير من الألغاز، والاستفهامات عن سبب عدم تمكن الجزائر من استغلال جهود هذا المفكر، وفي محاولة أخرى لفك هذه الألغاز سألنا صديق الراحل الدكتور عمار طالبي الذي تعرّف على مفكر العصر في أواخر خمسينات القرن الماضي في القاهرة، واستمر تواصلهما لمدة خمس عشرة سنة، إلى أن زاره في بيته في الثلاثين من أكتوبر 1973 وهو يعاني سكرات الموت، فأغمض عينيه عندما توفي، وأبّنه في مقبرة سيدي امحمد، في الوقت الذي قاطع المسؤولون موته كما قاطعوه في حياته، ومن المفارقات الجميلة، أننا قررنا إجراء حوار مع الدكتور عمار طالبي الذي قارب سنه الثمانين في العاصمة فالتقينا به في الطائرة في رحلة الجزائر جدة، حيث كان ضمن المدعوين للمشاركة في تظاهرة المدينة المنورة عاصمة الثقافة الإسلامية فجاء الحوار في الطائرة عن طائر الفكر النادر مالك بن نبي.
حدثنا عن أول لقاء جمعك بالمفكر مالك بن نبي؟
في عام 1958 كنت أدرس في كلية الآداب في جامعة القاهرة في السنة الأولى عندما حدثني زميل في الدراسة يدعى معمري عن المفكر مالك بن نبي، فقرّرت مرافقته إلى بيته في منطقة المعادي بضواحي القاهرة، حيث أجّر مالك بن نبي شقة، وجدت هناك الدكتور أحمد المبارك وهو من الشام وأصله من دلس الجزائرية، أبهرني فكر مالك بن نبي من أول لقاء، حيث وجدته يناقش علميا حديث الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر اختلف، كنت استمع للرجل دون أن أخوض في الكلام، وعلمت أن الدكتور المبارك كان في زيارة مجاملة لبيت مالك بن نبي، وعندما انتقل إلى بيته في مصر الجديدة، صرت أزوره باستمرار، ثم داومت على حضور ندواته الأسبوعية في القاهرة كل يوم جمعة بعد الصلاة، وكان يحضر الندوة قرابة العشرين طالبا وأستاذا من كل بقاع الدنيا من أندونيسيا شرقا إلى المغرب الأقصى.
وهل كان ضمن الحضور العلماء؟
هم يفضلون الزيارات الخاصة ومنهم المفكر محمود شاكر الذي كتب له مقدمة كتابه الظاهرة القرآنية، الأكيد أن مالك بن نبي جعل بيته دائما قاعة لقاءات فكرية سواء في مصر أو في الجزائر، لم أجده يوما خارج مجالات الفكر.
هل كانت محاضراته باللغة العربية؟
نعم وبلغة عربية راقية، أنا كنت أساهم في النشاط الثقافي في جامعة القاهرة، حيث كنت أدرس في قسم الدراسات النفسية والفلسفية، في كلية الآداب التي كان يدرّس فيها كبار دكاترة العالم العربي مثل الراحل زكريا إبراهيم، ودعوت المفكر مالك بن نبي، كان الإجماع على أنه عبقري وسابق لعصره، كان يحلل المشكلات تحليلا علميا، ويحلل الظواهر الاجتماعية كما يحلل المعادلات الكيميائية، ويصوغها بطريقة رياضية على منهجه الخاص، تماما كما فعل في كتاب مشكلة الحضارة، بعد ذلك صرت ملازما له رغم فارق السن بيننا الذي تجاوز الثلاثين عاما، دعوته أيضا لنادي الطلبة وهو ناد مغاربي وألقى فيه محاضرة تحدثت عنها كل مصر وأثارت اهتمام كل الفعاليات، عن الديموقراطية في الإسلام، واعترف كل من استمع إليها أنه لم يسمع تحليلا مثيلا لتحاليل مالك بن نبي.
هل كان يكتب محاضراته أم يرتجلها؟
لم أره في حياتي يقرأ محاضراته من الورقة، كانت متسلسلة ومبنية بشكل بديع، لكنه بالتأكيد يُحضرها في ذهنه، وكان الطلبة يسجلون ما يسمعونه، مرة ألقى محاضرة للطلبة الفلسطينيين انتقد فيها الماركسية، وقال أن القيم الإنسانية هي التي تُنتج القيم الاقتصادية وليس العكس، وهو ما أثار غضب الماركسيين، ووصفوه رغم فكره وتحاليله العلمية بالظلامي.
هناك من يعتبر مالك بن نبي عالما أزهريا؟
مالك بن نبي كان عضوا في مجمّع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، كما كان عضوا في المؤتمر الإسلامي، وهي مؤسسة مصرية لها صبغة عالمية، لكنه لم يدرس في الأزهر، كان همه القضايا الفكرية الإسلامية بالأساس، تاركا الفقه لأهله.
هل كان نشاطه مقتصرا على القاهرة فقط؟
كان يسافر باستمرار إلى سوريا ويلقي محاضراته في جامعة دمشق، كما كان يتوجه إلى السودان والمملكة العربية السعودية والصين، والاتحاد السوفياتي، والتقى مع الكثير من الزعماء من بينهم ماوتسي تونغ، رافقته في بعض الزيارات، وتمكّنه من الكثير من اللغات سهّل تواصله مع كل شعوب العالم.
لكنك قلت أنه كان يهاجم الماركسية، فكيف يلتقي بزعمائها؟
سافرت معه في أواخر ستينات القرن الماضي إلى الإتحاد السوفياتي ومكثنا قرابة الثلاثة أسابيع، كان يقول لي أن الدولة الشيوعية مثل بنايات الورق ستقذفها الرياح في المجهول في القريب العاجل.
يقال أن علاقته بجمال عبد الناصر كانت قوية؟
كان مالك بن نبي محترما من كل المصريين بسبب منهجه العلمي القائم على الأدلة الملموسة والبراهين، خاصة أن نظريته الآفرو آسياوية كانت سابقة لعصره، كان يدعو للحياد الإيجابي، وقدم أفكاره لجمال عبد الناصر الذي تبناها وصارت مثارا للجدل مع كبار العالم غير المنحاز من نهرو غلى تيتو، وكان من المبهورين بأفكاره الرئيس المصري الأسبق أنور السادات عندما ترأس المؤتمر الإسلامي، حيث طبع كتابه الخاص بالفكرة الآفرو آسياوية، وكتب مقدمته.
في غياب الإعلام المرئي، كيف بلغت شهرة مالك بن نبي هذا المدى؟
الحوار الذي أجراه الروائي الراحل إحسان عبد القدوس مع المفكر مالك بن نبي في مجلة روز اليوسف هو الذي شغل المصريين، كانت إجابات مالك ثورة أفكار حقيقية لم يتعوّد عليها المصريون، وعلى ذكر الروائي إحسان عبد القدوس فقد كان أحد أبنائه متزوجا من ابنة الشيخ الغزالي، وأذكر أنني عندما زرت الشيخ الغزالي في القاهرة وجدت ابن الروائي في بيته.
ألم تعترضه مشاكل أبدا في مصر؟
حدثت مشاكل ولكنها كسحابة صيف، كان من أشد المعجبين بمالك بن نبي، وزير مصري يدعى حسين الشافعي، استضافه في رحلة إلى الأقصر حيث الآثار الفرعونية، رافقته إلى غاية محطة القطار في القاهرة وكان رفقة زوجته الثانية السيدة خدوجة حواس، وعندما عاد روى لي مشكلة هزّته وأحزنته، واعتبرها مكيدة ودسيسة بفعل فعل، حيث عندما كان بصدد مغادرة الفندق في منطقة الأقصر السياحية وكان إلى جانبه الكثير من العلماء والمسؤولين والمفكرين، تقدّم منه أحد عمال الفندق وسلّمه فاتورة المستهلكات وكان من ضمنها ثمن زجاجات الخمر، هو وجه أصابع الاتهام لكثير من الأطراف ومنها المخابرات الفرنسية التي كانت تتبعه في كل مكان منذ أن غادر فرنسا واستقر في القاهرة، لكن عموما المصريون احترموا مالك بن نبي، منهم الدكتور محمود الخضري الذي كان يدرّسنا الفلسفة، حيث قلت له مرة أن مالك بن نبي يكرّر أفكاره، فرد بسرعة، قولا وكتابة بأن المفكر بن نبي له أفكار لا تتزلزل ومذهب قائم بذاته.
وكيف كانت علاقته بالإخوان المسلمين، خاصة أنهم عادوا جمال عبد الناصر، ومالك أطلّ عليهم بفكر علمي جديد؟
كل كتب مالك بن نبي التي طُبع في القاهرة كانت في دار العروبة التابعة للإخوان المسلمين، كانوا يحترمونه ويتداولون مؤلفاته، لكنه خالف السيد قطب في مسألة الحضارة وأثار ثورة فكرية بانتقاده للسيد قطب عندما قال أن الإنسان يمكن أن يكون مسلما وغير متحضّر، وهو قول أحدث تصادما مع فكر السيد قطب، لكننا عموما وقفنا ضد إعدام السيد قطب بقوة، وقدمنا احتجاجا أزعج السلطات الجزائرية والمصرية عندما قرر جمال عبد الناصر إعدام السيد قطب.
أعلم أنه كتب مقدمة كتابك عن آثار وحياة ابن باديس؟
أنا من اقترحت عليه ذلك، حدثني مرة عن مشروع كتاب عن مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، فألححت عليه ليُسرع في إنجازه، لأنني ظننت أنه مهم ولم يسبق لي أن قرأت كتابا يتحدث عن مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، فاستجاب لطلبي، فطبعه في مصر بالفرنسية وتمت ترجمته، وكتب في المقدمة أن عمار طالبي هو من ساهم في ظهور هذا الكتاب، وكتب لي إهداء بخط يده مازلت احتفظ به لحد الآن مخاطبا إياي بالذي يُشرّف وطنه.
وهل ساءت علاقته مع الثوار الجزائريين فعلا؟
مالك بن نبي مجاهد حقيقي، كان يخاطب الجزائريين عبر صوت العرب، للأسف كان يتقاضى عشرين جنيها من الجبهة ولكن انتقاداته لبعض الرجال قطعت عنه المنحة، وتكفل المؤتمر الإسلامي بمبلغ مالي عاش منه حياة مادية بسيطة في القاهرة، تصادمه مع بعض رجالات الثورة كان لأسباب فكرية، أحيانا عظمة الرجال تُحدث لهم المشاكل.
هل حضرت حفل زواجه الثاني من السيدة الجزائرية خدوجة حواس؟
لا لم أكن ضمن الحضور لأن العرس أقيم في ليبيا، كان ضمن الشهود الدكتور محمد فنيش المتواجد حاليا في الولايات المتحدة الأمريكية.
كيف استقبلتم يوم الاستقلال وكنتم في القاهرة؟
كنا مجموعة من الطلبة في حالة من السعادة الجنونية، ثم علمنا بالنزاع الذي اندلع بين الجيش والحكومة المؤقتة، فأيدنا الجيش بقيادة أحمد بن بلة، كنا نتظاهر وتم نقلي إلى المستشفى وعندما غادرته، زرنا الرئيس بن بلة في القصر الجمهوري بالقاهرة.
لكن لماذا تأخّر دخولكم إلى الجزائر؟
الحكومة المؤقتة اتصلت بنا وطلبت عودتنا بسرعة للمساهمة في بناء الدولة الفتية، تم تعييننا في تكوين المعلمين، وكان من بين الذين كوّناهم عباسي مدني، ثم تم تعييني أستاذ عربية في ثانوية باستور ومنها إلى ثانوية بوزريعة، وفي عام 1963 تم تعييني مدرّسا في جامعة العاصمة، كان حينها عميد فرنسي يدعى جان لاسيس، ومدير التعليم العالي هو إبراهيم نافع وهو رجل وطني شريف.
وبقي بن نبي في مصر رغم أنه طالب بالاستقلال منذ الثلاثينات؟
سلمني مالك بن نبي منشورا بعنوان من أجل مليون شهيد، اطلع عليه الدكتور عبد العزيز خالدي واعتبره مشروع دولة قوية، المنشور كان يدعو الجيش والحكومة المؤقتة لأن يعطيا الكلمة للشعب، وطلب مني تسليمه لأحد الضباط، ومازالت النسخة العربية موجودة عندي وقد نشرته أسبوعية الشروق العربي في التسعينات، إلى أن قرر مالك بن نبي العودة عام 1963 واستقر في العاصمة وليس في مدينته قسنطينة، لم انتظر طويلا، وأقنعت المسؤولين بفتح المجال لمالك بن نبي لأن يلقي محاضرة، وكان الأمين العام في ذلك الوقت المرحوم الهاشمي تيجاني، قمنا بتعليق الملصقات التي تُعلن عن المحاضرة، وعندما حان وقت المحاضرة غاب الهاشمي تيجاني، فطلبت من الشاذلي مكي تقديم ضيف الجامعة، فقال كلمة مختصرة جدا.. مالك بن نبي لا يحتاج إلى تقديم، وكانت الجامعة حينها ملتهبة باليساريين، ثم قرر إقامة ندوته الأسبوعية في بيته، بمعدل محاضرتين إحداهما باللغة العربية وأخرى بالفرنسية وداوم عليها لمدة عشر سنوات.
متى عُيّن مديرا عاما للتعليم العالي؟
حدث هذا عام 1967 ولكنه لم يستمر إلا بضعة أشهر فقط
الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي قال في مذكراته أن مالك بن نبي استقال لأنه لا يجب العمل الإداري وكان يحس انه في سجن، ومنشغلا بالأفكار أكثر؟
هذا غير صحيح، ومالك بن نبي تحدث عن السبب بنفسه، فقد قام بالإشراف على افتتاح المركز الجامعي بقسنطينة عام 1968، حدث الافتتاح خص مدينته ومدينة أجداده، وهو ما اعتبره أحمد طالب الإبراهيمي بالتجاوز الخطير، وقام بإقالته، حيث رأى أن التدشين من مهمة وزير التعليم العالي، وأدى ذلك إلى إصابة مالك بن نبي بالإحباط، كما غضب الدكتور عبد العزيز خالدي من الإبراهيمي، ورفض مرة مصافحته لأنه قام بإقالة مالك بن نبي، وقد اطلع كثيرون على قرار الإقالة الممضى من الدكتور احمد طالب الإبراهيمي بعنوان إنهاء مهمة، ولم يتوقف الأمر عند هذا، بل حرموه من السيارة التي كان يتنقل بها، وحاول حرمانه من مسكنه ولكن عبد العزيز خالدي تدخل بقوة وليس الرئيس الراحل هواري بومدين، وكان خالدي هو الذي اقترح اسم طالب الإبراهيمي بحمل حقيبة وزارية، كرد للاعتبار لعائلة الإبراهيمي التي عانت الويلات في زمن بن بلة، عندما وضع والده تحت الإقامة الجبرية، وزج بابنه في السجن، للأسف أحمد طالب الإبراهيمي عانى التهميش في زمن بن بلة وبن نبي تجرّع من يديه التهميش، والمفكر ذكر ذلك عدة مرات هذه الإقالة وموجودة حكاية الإقالة في كتاب العفن بلسانه الذي قدمه نورالدين بوكروح.
هذا يعني أن مالك بن نبي كان أعداؤه من اتجاهين معاكسين، ابن البشير الإبراهيمي من جمعية العلماء المسلمين، واليساريون؟
الماركسيون كانوا يجهرون بعدائهم لمالك بن نبي، يقاومونه ويبذلون المستحيل لمنع محاضراته، ليفاجئهم بعد ذلك بملتقى الفكر الإسلامي الذي كان من اقتراحه ومن عصارة أفكاره، ثم سماه نايت بلقاسم بملتقى التعريف بالفكر الإسلامي، ثم تبنته الدولة باسمه الشهير ملتقيات الفكر الإسلامي، وكانت على مدار تلك الحقبة أهم تجمع لعلماء العالم الإسلامي في لعالم، وأظنها هي الأهم في التاريخ المعاصر، الماركسيون بلغ بهم عداؤهم لمالك بن نبي، أن وزعوا مناشير لمقاطعة محاضراته كانوا يقولون أنه عدو الاشتراكية، واتهموني أنا أيضا بنفس التهمة.
من كان يحضر محاضراته؟
كثيرون من بينهم رشيد بن عيسى وعبد الوهاب محمد كما حضر عباسي مدني، من كل الأطياف كانوا يشربون من نبعه باستثناء الماركسيين.
وكيف كانت الأجواء في جامعة الجزائر؟
كانت كلها فكر وثقافة، أنا مثلا ساهمت في بعث جمعية القيم الإسلامية، كنا نصدر مجلة القيم باللغتين العربية والفرنسية، كتب في المجلة الكثير من المشاهير منهم عبد اللطيف سلطاني وأحمد طالب الإبراهيمي، والشيخ سحنون وعباسي مدني، وعندما أعلنت مصر قرارها بإعدام سيد قطب، اتصلنا بالسفارة المصرية في الجزائر وطلبنا وقف تنفيذ حكم الإعدام، فاشتكت منا السفارة المصرية للرئيس هواري بومدين الذي أصدر قرارا بتشميع الجمعية، وكما تلاحظ فإن حركتنا في الجامعة كانت مؤثرة ومستقلة عن الدولة أيضا.
ماهو نوع السيارة التي استفاد منها مفكّر القرن من وزارة الجامعات ثم حُرم منها؟
مالك بن نبي لم يكن يقود السيارات، كان سائقا خاصا هو من يتكفل بنقله إلى عمله في الجامعة، كانت السيارة سوداء اللون من نوع بيجو، وكنت أملك سيارة بيجو 403، عندما تلقى قرار إنهاء المهام الذي أصدره أحمد طالب الإبراهيمي، كان في منتهى الغضب، اتصل بي مرّة وطلب مني السفر إلى أي مكان عبر سيارتي حتى ينسى ما تعرّض له، أذكر أننا توجهنا إلى منطقة بوفاريك، وعرّجنا إلى الدويرة، نظرنا إلى الفيلا التي كان مسجونا فيها الرئيس الراحل أحمد بن بلة، وكان صديقا لنا منذ فترة تواجدنا في القاهرة، ثم التقى مالك بن نبي في الدويرة براع مواشي، توقف مالك بن نبي وراح يتحدث إليه بتركيز قوي لمدة طويلة، ثم أخرج من جيبه مالا وقدّمه له، وقال لي لقد تمتعت مع هذا الراعي بحديث مزيج بالثقافة الشعبية الأصيلة.
هل توقف التهميش عند هذه الإقالة في زمن بومدين؟
للأسف لا، فقد قرّر رحمه الله الهروب من الناس بالتوجه إلى البقاع المقدسة لأداء فريضة الحج، وتمكن من خلال وثيقة الموافقة على المغادرة، كان يريد الهروب إلى الله من ظلم عباد الله، ولكنه تفاجأ في مطار الدار البيضاء بالعاصمة بمصالح الأمن تُخبره بأن اسمه مدوّن رفقة الممنوع عنهم السفر، استفسر مالك بن نبي رجال الأمن، وكان غير مصدّق ما يحصل أمامه، وظنّ أن الأمر مجرد خطأ، ولكن رجال الشرطة أخبروه بأنهم ينفذون أوامر السلطة، تأثر مفكّر القرن كما لم يتأثر في حياته، كان يقول أنه لا يفهم ما يدور من حوله، فقد تمت إقالته من دون سبب واضح، والآن يُمنع من الحج؟ تحدث إلى صديقه وزير النقل في ذلك الوقت السيد آيت مسعودان فتدخل، وسافر الراحل إلى الحجاز ولكن ما حدث له أثر فيه كثيرا، رغم تمكنه من أداء فريضة الحج لآخر مرة في حياته.
ولما رجع من الحجاز؟
كان واضحا أن ما تعرض له في المطار قد هزّه، مفكر وعالم بدرجة مالك بن نبي يتم توقيفه في المطار أمام المئات من الحجاج والمسافرين من طرف رجال الشرطة مثل المجرمين، وبينما كنّا نحاول لملمة جرحه أصيب بالمرض وصار الألم يعتصر رأسه، ما أعرفه أنه تعرّض لاعتداء من جار له، فسقط أرضا وتمزق البرنوس الذي دأب على ارتدائه، لكن المرض لا علاقة له بهذا السقوط والاعتداء، سافر إلى باريس للعلاج وزرته في مستشفى العاصمة الفرنسية، ولكن للأسف الأطباء طلبوا منه العودة إلى بيته، فسارع الخطى إلى بناته الثلاث، ما أعلمه أن ورما خبيثا سكن دماغه، والأطباء الفرنسيون قالوا أن حالته ميؤوس منها.
ومن كان يعوده في أيامه الأخيرة؟
لا أعلم، للأسف صادفت زيارة قمت بها رفقة السيد عبد الوهاب حمودة إلى بيته لمعايدته في الثلاثين من أكتوبر 1973 بلوغه سكرات الموت، قلت له تشجّع فأنت أقوى من أي مرض في العالم، كان إلى جانبنا طبيبه مصطفى الخياطي وبناته وزوجته خدوجة حواس المتواجدة حاليا في وضع صحي معقد، نظر إلينا نظرة عميقة وأطلق آخر زفرة فكان عظيما أيضا في موتته، تكفلت بعد تأكدي من موته بإغماض عينيه، وهذا في حدود الحادية عشرة إلا ربع ليلا على بعد دقائق من إطلاق مدفعية الاحتفال في منتصف الليل بالذكرى التاسعة عشرة للثورة التحريرية.
من المفروض أن المناسبة تمنحه جنازة كبيرة ورسمية؟
لقد حرموه حتى من جنازة الكبار، قمنا بنقل جثمانه إلى الجامعة، مكانه الحقيقي حيث ذرف الطلبة الدموع على وفاته وصلّينا عليه بجامعة الجزائر، وتم تشييع جثمانه بمقبرة سيدي محمد، وتكفلت بقراءة تأبينيته، وهي التأبينية التي نشرتها مجلة الثقافة.
لا تقل لي أن المسؤولين قاطعوا جنازة رجل دخل السجون الفرنسية منذ الثلاثينات وكان أول من نادى بالاستقلال الكامل؟
يصمت مطولا.. للأسف لم يحضر جنازته غير رجل الحزب الأفلاني المرحوم قايد أحمد، في جنازته شممنا حقيقة التهميش الذي تعرض له مفكر بقيمة مالك بن نبي.
دعنا نُعرج إلى حقيقة علاقته بابن مدينته قسنطينة عبد الحميد بن باديس، فقد عاشا في مدينة واحدة وفي فترة واحدة وقضية واحدة ولم يلتقيا إلا مرة واحدة؟
المفكر لا يعادي أحدا، ورأي المفكر مالك بن نبي في الشيخ بن باديس واضح جدا في المقدمة التي كتبها في مؤلفي الخاص بحياة وآثار العلامة بن باديس، فقد قال أنه لم يفهم الرسالة الباديسية في بادئ الأمر، ربما لأنه كان شابا، واعترف بأنه كان يقرأ افتتاحية الشيخ عبد الحميد بن باديس باستمرار في صحيفة الشهاب، وكان يجد فيها متنفسا وداعما للنهضة، لأن ما قام به الشيخ بن باديس كان زمن قطف ثماره بعيد المدى، مع الإشارة إلى أن الرجلين العظيمين التقيا مرتين المرة الأولى في قسنطينة في مكتب الشيخ بن باديس والمرة الثانية في الفندق الكبير في باريس.
هل عرضوا عليه وزارة ورفضها؟
لا أعتقد، هم أقالوه من منصب أقل من ذلك، ولكن علاقة المفكر برجالات الحل والربط في الجزائر، لم تنقطع حيث جمعته علاقة طيبة بشريف بلقاسم وأيضا بالرئيس الراحل هواري بومدين.
ولكنه كان يسافر إلى الخارج لإلقاء المحاضرات؟
حتى هذه لم تكن يسيرة، أذكر أنه دُعي لإلقاء محاضرة في العاصمة الاندونيسية جاكارتا، ولكن الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي منعه، وتدخل مرة أخرى الدكتور عبد العزيز خالدي للسماح له بالسفر، لحسن الحظ أن الرجل مٌبجّل في كل الأمصار، ومؤخرا قدمت جامعة الإمام مالك بالمملكة العربية السعودية رسالة دكتوراه عن المفكر مالك بن نبي.
هل توجد طرائف حدثت بحضورك وأضحكت مالك بن نبي، وهل بكى في حياته؟
صدقني مالك بن نبي إنسان جاد، مهتم بقضايا أمته ومهموم بها، صحيح أنه كان يضحك بين الفينة والأخرى ولكنه نادرا ما يبتسم، أما أن يبكي، فذاك ما استبعده رغم ما تعرّض له في حياته، خاصة في سنواته الأخيرة، أذكر أنه بعد إقالته من منصبة كمدير للتعليم العالي ودخوله في حالة نفسية خليط بالإحباط، طلب منا أن نجد له منطقة يستريح فيها بعيدا عن الناس، فاقترح عليه صديقه عبد الوهاب حمودة التوجه إلى قرية قنزات في منطقة القبائل، ومكث هناك قرابة الشهر يشم الهواء العليل، ولكنه تعرّض للسقوط في أحد المنحدرات الجبلية، فعاد إلى بيته مصابا وربما كانت تلك آخر رحلة استجمامية في حياته.
الشروق اليومي 2013/03/19