الطريق إلى عالم مالك بن نبي الفكري

عدد القراءات :3480

منذ فترة ليست طويلة دخلت الساحة الثقافية الإسلامية الحركية المعاصرة بالخصوص، أسماء فكرية لامعة، ومفاهيم فكرية جديدة، بعد أن ظلت تعاني من التهميش والإقصاء والتغييب، بأساليب مختلفة ووسائل متعددة، وقد كان لذلك أثره السلبي الكبير على بعض نواحي حركة التغيير والإصلاح والتجديد الذي حاولت حركات الإصلاح والتجديد المعاصرة القيام به في أقطار إسلامية مختلفة.
وكان دخول هذه الأسماء والأفكار المهمشة إلى الساحة الثقافية عامة والحركية منها خاصة، إيذانا بتطور نوعي في غاية الأهمية، بالنسبة لعمليات:
* التأصيل الفكري التكاملي: المنفتح على الخبرات المعرفية المختلفة في الثقافة الإسلامية، التي ظلت مستقطبة بحدة، بالخبرة الفقهية المذهبية المنكفئة على نفسها، وبالخبرة الصوفية المستغرقة في الذوقية الذاتية السائلة، وبالخبرة الفكرية والسياسية الإقصائية المستلبة، التي انفصل بعضها عن بعض، ولم يتمكن من مكاملة مجاله مع بقية المجالات المعرفية الأخرى.
فبعض هذه الأسماء والأفكار التي دخلت الساحة الثقافية الإسلامية المعاصرة، لم تكن تعيش أو تعاني من هذه الانفصامية أو الازدواجية المتنافرة، بل كان فكرها منفتحا على كل ما في هذه الخبرات من رشد وحكمة، فأعطت للتأصيل الفكري شموليته وتكامليته وتوازنه المطلوب، باعتبار التأصيل يعني محاولة مطابقة الفكر والسلوك والأداء، مع سن الله في الآفاق والأنفس والهداية والتأييد، وليس سننه في الهداية فقط كما هو شائع في ثقافتنا التراثية أو السلفية عامة، أو سننه في الآفاق أو الأنفس، وحدها كما هو سائد في ثقافتنا المحدثة أو العقلانية كما يحلو لممثليها أن ينعتوا بها أنفسهم.
* والوعي الحضاري: المنفتح على رشد وحكمة الخبرات البشرية في حقولها المعرفية والوظيفية المختلفة، واعتبار ذلك كسبا بشريا مشتركا، وميزانية تسخيرية عامة، من حق، بل قد يكون من واجب كل إنسان أو مجتمع، أن يستثمرها في تلبية حاجاته، وتعزيز قدراته على المواكبة أو المنافسة أو الريادة الحضارية من ناحية، وعلى التواصل التكاملي مع بقية اهتمامات وهموم البشر الآخرين المعاصرين له.
* والتأهيل المنهجي: الذي يمنح تفكير المسلم وسلوكه وأداءه منطقية سننية منسجمة مع سنن الله في الآفاق والأنفس والهداية والتأييد، ولا تصادمها، باعتبار سننية التفكير والسلوك والأداء، أساسا وشرطا ضروريا لأصالته وفعاليته واطراديته.
* والفعالية الإنجازية: التي تمنح أداء الفرد والمجتمع والأمة، قدرات تنفيذية عالية متجددة، على مباشرة أداء مهام تدبير شئون المجتمع، ورفع وتيرة فعالية الدفع الاجتماعي والحضاري للأمة إلى مستوياتها النموذجية التي تمكن الأمة من تحقيق ذاتها، والتكفل بحاجاتها، ومواجهة التحديات والأخطار التي تحيط بها.
* والوعي الوقائي الاستراتيجي: الذي يستشرف الأخطار، ويستبقها بالوقاية المبكرة، ولا يمنحها أية فرصة للكمون أو الاستفحال المرضي المنهك أو القاتل.

مالك بن نبي نموذجا
ومن بين هذه الأسماء اللامعة التي دخلت الساحة الثقافية الإسلامية المعاصرة، وأدخلت معها منظومة مفاهيمية ومنهجية كاملة، الأستاذ ” مالك بن نبي” رحمه الله. الذي ظل فترة طويلة من الزمن يعاني التهميش والإقصاء والتغييب، سواء على مستوى الحركة الإسلامية، أو الحركة التحديثية كما يحلو لأصحابها أن ينعتوا بها أنفسهم.
وكما هي سنة الله دائما، فإن الصواب و الصحيح والحق لا بد أن يظهر، ويكتب له الذيوع والتمكين و الخلود و لو بعد حين، كما قال تعالى: {فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} (الرعد: 17).
فمالك بن نبي بعد هذا التهميش والإقصاء والتغييب، أخذت أفكاره تحتل موقعها الحيوي في الساحة الثقافية الإسلامية المعاصرة، وتعرف طريقها تدريجيا إلى الأجيال الجديدة في العالم الإسلامي، التي تزداد تجاوبا معها، ووعيا بأهميتها الإستراتيجية، وتحمسا إلى تبنيها، ومراجعتها، وتطويرها، بل ومحاولة تجاوزها، والانتفاع بها في تأصيل الوعي الرسالي، وتحسين أداء حركة البناء الحضاري للأمة، و مواجهة تحديات بعض جوانب الانحطاط المعاصر في أبعاده الذاتية والإنسانية.
ونحن نعتبر أن دخول منظومة مالك بن نبي الفكرية إلى الساحة الثقافية الإسلامية المعاصرة، مكسبا استراتيجيا كبيرا لحركة البناء الحضاري للأمة، سيكون له ما بعده على صعيد:
التأصيل الفكري
والوعي الحضاري
والتأهيل المنهجي
والفعالية الإنجازية
والوعي الوقائي

كمقدمات شرطية، وآليات فكرية ومنهجية ضرورية، لإنقاذ جهود التجديد الحضاري للأمة، من الدوامات المهلكة، التي أدخلته فيها مشاريع الأزمة، وسياسات تنمية التخلف، والعقلية المستلبة تراثيا، التي تستأنس بالأموات و تستغرق في خوض المعارك معهم أو ضدهم، أكثر مما تستأنس بالأحياء و تحسن محاورتهم و محاولة استيعابهم، ومساعدتهم على الانخراط في إنجاز مشروع التجديد الحضاري للأمة.

خصوصيات التجربة الفكرية لمالك بن نبي
فما أنضجه مالك بن نبي من مفاهيم فكرية، وأرساه من منهج تفكير، وطرحه من إشكاليات في فقه التخلف والانحطاط الحضاري من جهة، وفي فقه النهضة والبناء والتجديد الحضاري من جهة أخرى، لم يكن في مجمله من نوع ردود الأفعال المتسمة بالظرفية والجزئية والاستعجالية والسطحية.. بل كان من النوع الاستثنائي في عبقريته، الذي يتجاوز كل هذه الضغوطات والعوائق الموضوعية، إلى استيعاب حركة البناء الحضاري في أبعادها الشاملة؛ التاريخية منها والآنية والمستقبلية.
فمالك بن نبي وبالرغم من ارتباطه الشديد بواقع المجتمع والأمة، وانطلاقه في دراساته وتطلعاته، من همومهما واهتماماتهما، إلا أن ذلك لم يغرقه في الجزئية الإجرائية اليومية، أو التبريرية المخدرة، أو الانتقادية الأيديولوجية المتحيزة، بل ظل اهتمامه منشدا إلى التأصيل الفكري والمنهجي، ومحاولة استخلاص السنن الفاعلة في الظاهرة الحضارية، في حالة قوتها وامتدادها وتألقها، وفي حالة ضعفها وانحسارها وأفولها، ولا يكتفي بالوقوف عند مجرد رصد مساراتها، و تسجيل مآلاتها، بطريقة وصفية تقريرية ساكنة، كما هو شأن الكثير من الدراسات والبحوث الإسلامية القديمة و الحديثة، التي استغرقها المنهج الوصفي التسجيلي على حساب المنهج النقدي التحليلي، والمنطق التبعيضي أو التجزيئي الذري على حساب المنطق التكاملي الشمولي المستخلِص للسنن والقواعد الكلية الناظمة لمفردات حركة الحياة الاجتماعية.
لقد تمكن مالك بن نبي بعبقريته الفذة أن يتجاوز عقبات الظرفية والجزئية، والتبسيطية الفجة والسطحية العائمة، ومنطق الأيديولوجيا والبوليتيك، لينفذ إلى أعماق الظاهرة الحضارية، ويدركها في إطارها الشمولي، وينظر إلى مكوناتها في سياقها التكاملي العضوي، ويستخلص منها القوانين والسنن العامة، التي تحكم حركة نشوئها و توازنها وضعفها واختلالها، ويفحص من خلالها تاريخ الأمة والإنسانية، في تألقهما وتقهقرهما، و يدرس على ضوئها، بعمق وموضوعية، حركة النهضة الإسلامية الحديثة ويقيِّمها، ليصل في نهاية المطاف إلى ملاحظات واستنتاجات دقيقة في غاية الأهمية، ما انفك الواقع الإسلامي يؤكد الكثير منها مع مرور الزمن.

نماذج من تأثير مالك بن نبي في مسار الصحوة الإسلامية المعاصرة
هذا المنهج المتميز في التعاطي مع هموم المجتمع والأمة والإنسان، كانت له أهميته البالغة وتأثيره الكبير في أجيال من النخبة المثقفة في بلاد إسلامية شتى، نود أن نشير هنا إلى ثلاثة نماذج فكرية متميزة منها، من نماذج فكرية كثيرة جدا، تأثرت بفكر مالك بن نبي وتبنت منهجيته العامة في تحليل الظواهر الثقافية والاجتماعية والحضارية وتفسيرها.
وهم الأستاذ جودت سعيد، والشيخ راشد الغنوشي، والدكتور حسن دسوقي، وكيف حدث التحول الفكري في حياتهم، على طريق ” المدرسة المقاصدية السننية التكاملية ” في الفكر الإسلامي، التي يعد مالك بن نبي بحق أحد أهم روادها المعاصرين بعد ابن خلدون.
وقبل أن نشرع في استعراض شهادات هؤلاء المفكرين الثلاثة، ينبغي لنا أن نشير إلى دور أستاذنا الكبير الدكتور عبد السلام الهراس الذي يعتبر جسرا أساسيا إن لم يكن فعلا الجسر الأساس الذي عبر عليه فكر مالك بن نبي نحو أجيال الصحوة ابتداء من منتصف الخمسينات من القرن الماضي، حينما تمكن من اكتشاف مالك بن نبي في القاهرة، ونجح في جمع بعض الطلبة من أقطار عربية وإسلامية مختلفة حوله، فكان ذلك سببا مباشرا لترجمة كتب مالك بن نبي وانتشارها في العالم العربي، ومنها إلى بقية العالم الإسلامي.
كما لا بد أن نشير كذلك باقتضاب، إلى التأثير المباشر لمالك بن نبي في جيل كامل من النخبة الجامعية في الجزائر، وفي مقدمة هؤلاء د. عمار طالبي، ورشيد بن عيسى، ود. سعيد شيبان، وعبد الوهاب حمودة، ود. محمد جاب الله، ود. محمد بوجلخة، ود. عبد اللطيف عبادة، والشيخ محمد السعيد، ود. سعيد مولاي ود.مصطفى براهمي.. وغيرهم كثير، ممن كانت لهم علاقة مباشرة بمالك بن نبي، وحضور مستمر في ندواته الفكرية، وتأثير في أجيال تالية من النخبة الجامعية الجزائرية التي لم تحظ باللقاء والأخذ المباشر من مالك بن نبي.

فالأستاذ جودت سعيد
المفكر الإسلامي السوري الكبير، الذي أثرت كتاباته في قطاعات واسعة من حركة الصحوة الإسلامية المعاصرة، ولا زالت تؤثر، يذكر بأن تحولا فكريا ومنهجيا كبيرا حدث في حياته، عندما وقع في يده كتاب ” شروط النهضة ” لمالك بن نبي، بعد تخرجه من الأزهر، فكان ذلك المحطة الكبرى في مسيرته الفكرية كما يقول: ” أول مرة لم أفهم جيداً ماذا يريد، ولكن أحسست بنموذج جديد للفهم والتحليل. فقرأت وقرأت ودرست. بعد ذلك كنت أقرأ كل كتاب كان يصدر له بتأمل حرفاً حرفاً، سطراً سطراً، أجمع المتماثلات المبعثرة في كتبه من أماكنها وأقربها للنظر، ثم أبعدها وأتأمل فيها. ربما قرأت كتاب الأفريقية الآسيوية أكثر من ثلاثين مرة، وكنت أبدأ عند تدريسه بالفصل الخاص بالأفريسيوية والعالم الإسلامي، وأعظم ما أثر فيَّ فكرة ” القابلية للاستعمار”. هذا المفهوم كبير وينبغي أن يكبر أكثر مما عند مالك.
إنه المفهوم القرآني {ما أصابك من سيئة فمن نفسك}. إن مالكاً شذ عن النغم الذي كنا تعودنا سماعه عند الأفغاني وعبده وحتى إقبال. كم صدمني هذا حين حول نظره عن لوم الأعداء: الاستعمار، الإمبريالية، الصليبية، الصهيونية، الماسونية، وكل الأعداء. حيث لم يكن متدين أو علماني يقف على منبر إلا ويلقي اللوم والتبعية على الآخرين المذكورين كلهم. ولكن ما أشد خفوت الصوت والكلام عن سيئاتنا التي تمكن الآخرين من التلاعب بنا- هذا إن وجد صوت وكلام عن سيئاتنا. هذه فكرة عملاقة.. إنها تغيير في توجيه المسؤولية، وكم كان مفاجئاً لي لما قال : إن العالم الإسلامي حين يلتقي في المؤتمرات يجعل المشكلة الفلسطينية هي المشكلة الأولى للعالم الإسلامي، وهذا خطأ لأن القابلية للاستعمار والتخلف الذي نعيشه هو المرض الحقيقي، وما فلسطين وكشمير وإرتيريا و..و…إلا أعراضاً للمرض الأساسي.
وكم كان مؤلماً لي حين قال: إن القابلية للاستعمار تكونت عندنا قبل أن يخطر في بال الاستعمار أن يستعمرنا. وكم كان المخطط الذي رسمه لمسيرة الفكرة الإسلامية في كتابه ” شروط النهضة ” معبراً، حين جعل المنطلق من غار حراء إلى صفين إلى ابن خلدون ثم إتمام الانحدار إلى الاستعمار والتخلف. وكم كان صادقاً ومفاجئاً حين قال: إن القابلية للاستعمار لم تصنع في باريس ولندن وواشنطن وموسكو، وإنما صنعت وتكونت تحت قباب جوامع العالم الإسلامي ومساجده من بخارى وسمرقند ودهلي وطهران وبغداد ودمشق والقاهرة والقيروان، محور طنجة، جاكرتا.
وكم كان محدقاً بعمق للمشكلات حين قال أيضاً: “إن إنساناً يجهل إضافات القرن العشرين للمعرفة الإنسانية لا يمكن إلا أن يجلب السخرية والتشنيع إلى نفسه “.
وقد بلغ تجاوب الأستاذ جودت سعيد مع أفكار مالك بن نبي ومنهجه التحليلي النقدي التكاملي، أنه كان يدرِّس كتب مالك بن نبي في حلقات لفترات طويلة، كانت تحضرها نخبة متميزة من رجالات ونساء الصحوة.

راشد الغنوشي
أما الأستاذ راشد الغنوشي المفكر الإسلامي التونسي الجريء، صاحب الأطروحات المتميزة في الفكر والحركة الاجتماعية والسياسية، فيذكر بدوره كيف كان تكوينه الفكري منجذبا نحو الفكر المشرقي عامة والإخواني منه خاصة، ولكنه بعد اكتشافه لمالك بن نبي، واتصاله به، تأثر به كثيرا، وأضاف بذلك بعدا أساسيا لتجربته الفكرية والحركية، يقول: ” .. التقيت بمالك بن نبي، وكنت أمني نفسي بلقائه، بما عرف به من عقلانية وقدرة على التحليل الاجتماعي والتاريخي، وقد قرأت له ما شوقني لمقابلته، ، وكان للقائي به تأثير كبير في نفسي وفي مجموعتنا التي ستنشأ.
وستتكرر رحلتي إلى الجزائر في السنوات الموالية مع جمع من الإخوة ثلاث مرات، لحضور ملتقيات الفكر الإسلامي، وأساسا لحضور ندوات مالك بن نبي التي كان يعقدها في بيته رحمه الله. وقد كان لذلك أثر بالغ على الحركة الإسلامية التونسية، التي ربما تكون قد أفادت من إرث الرجل أوفر من أختها الجزائرية التي ربما تكون قد تمشرقت أكثر من اللازم “.

استدراك بين قوسين
ننبه هنا، تعقيبا على ما أسماه الأستاذ الغنوشي بتمشرق الحركة الإسلامية الجزائرية أكثر من اللازم، وضآلة استفادتها من فكر مالك بن نبي ومنهجه، بالمقارنة مع استفادة الحركة في تونس منه ! إلى أن قوله هذا لا ينطبق في عمومه إلا على المدرسة الإخوانية بشقيها العضوي والفكري، التي استصحبت معها مواقف بعض الشخصيات أو الاتجاهات الإخوانية من مالك بن نبي، كاختلافه مثلا مع سيد قطب حول منهج دراسة إشكالية تخلف الأمة وسبل النهوض بها، كما وردت الإشارة إلى ذلك في كتاب : “فكرة الإفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج” بالنسبة لرأي مالك بن نبي، الذي يؤكد على أهمية فهم واقع التخلف وجذوره وسننه للارتقاء به تدريجيا نحو المثال أو النموذج الحضاري الذي يرسمه الإسلام، وفي كتاب: “معالم في الطريق” بالنسبة لرأي سيد قطب الذي رد فيه على مالك بن نبي، وانطلق في تصوره لأزمة الأمة وحلها، من أولوية فهم المثال أو النموذج أولا وبداية استئناف واقع إسلامي جديد على ضوئه بعد ذلك، بعيدا عن الواقع الجاهلي القائم، الذي تعد أية محاولة لإصلاح داخلي له، ترقيعا لا جدوى منه، ومضيعة للوقت والجهد، بل تمديدا في عمر الجاهلية وتكريسا له.
أما حركة البناء الحضاري الإسلامية في الجزائر فقد نشأت أصلا في أحضان حلقات مالك بن نبي، وعلى الهيكلية الفكرية لنظريته العامة في نشوء الحضارة ومناهج الصراع الفكري وآليات التدافع الاجتماعي المرتبطة بذلك، دون توجيه مباشر منه طبعا، فقد استفادت كثيرا من فكره وخبرته، بحكم ملازمة الكثير من إطاراتها لحلقاته مدة غير يسيرة، بل لقد كان العديد منهم يحرسه وينام عنده في بيته في أواخر حياته، عندما كانت أطراف من الحركة الشيوعية خاصة، بمختلف تلويناتها، تتحرش به وتحرِّش عليه!
فحركة البناء الحضاري التي تعتبر نفسها امتدادا طبيعيا متجددا للحركة الإصلاحية التي نهضت بها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين خاصة، تمكنت من الجمع بين الأطروحتين والاستفادة من الخبرتين معا، ولم تتورط في منطق أو منهجية الاصطفاف التنافري الاهتلاكي وراء أي من الأطروحتين على حدة، فاستفادت كثيرا من التنظير القطبي وذخيرته الفكرية والروحية والتربوية العالية، ومن مجمل الفكر الإخواني المتوازن، وأطَّرت ذلك على الصعيد المنهجي، بفكر مالك بن نبي الواقعي وتنظيره السنني العالي خاصة، وبتجربة الحركة الإصلاحية العلمائية وخبرتها الناضجة بصفة عامة.
وقد كان لهذه المزاوجة وهذه التركيبية التكاملية المتوازنة بين الأطروحتين والخبرتين الهامتين، أثرهما الكبير في توازن تجربة حركة البناء الحضاري، وانسيابها السلس في عمق المجتمع دون أية مشكلات أو صدامات جدية تذكر، سواء على مستوى المجتمع، أو على مستوى الدولة، أو على مستوى الصحوة بصفة عامة، وكانت جل المشكلات أو الصدامات التي واجهتها حركة البناء الحضاري منذ نشأتها، تأتي من خارجها.
لقد ساهمت هذه المزاوجة التركيبية التكاملية بين المدرستين، في تمكين حركة البناء الحضاري من تجاوز الكثير من المضاعفات السلبية التي طرحتها أفكار ومفاهيم جاهلية المجتمع، والمفاصلة الاجتماعية، والولاء والبراء، والعزلة النفسية والفكرية، والتكفير، والاستعلاء، واحتكار الحقيقة، وإعمال فكرة التبديع في كل مستجد في المجتمع.. وما إلى هنالك من المفاهيم المركبة التي كانت رائجة ومؤثرة جدا في مرحلة السبعينات من القرن الماضي، وما تلاها من مراحل بعد ذلك.

الدكتور سيد حسن دسوقي
أما الدكتور سيد حسن دسوقي المفكر الإسلامي المصري المبدع في مجال دراسات الفقه الحضاري، فيذكر بدوره كيف أضاف اكتشافه لفكر مالك بن نبي بعدا أساسيا في تفكيره ورؤيته ومنهجيته، فيقول: ” لم يُقدَّر لي أن أقترب من الأستاذ مالك بن نبي شخصا أو فكرا حتى خريف عام 1968م. في ذلك الوقت كنت أعمل أستاذا مساعدا في إحدى جامعات تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية، وكنت في ندوة في الشرق الأمريكي والتقيت بأخ سوداني أعطاني نسخة من كتاب “شروط النهضة”، ووضعته في الحقيبة حتى أقرأه لاحقا.
وفي الطائرة.. بدأت أنظر في صفحاته، ولكن الرحلة كلها مضت بساعاتها الأربع أو الخمس في صحبة مالك، لا أكاد أرفع بصري عن الكتاب إلا لضرورة. شعرت بأنني أعرف الأستاذ مالكًا من قبل، وبأن هذه الأفكار كأنما تنبع من نفسي بعد أن حركتها كلماته في أعمق الأعماق. والحقيقة أن هناك ديناميكية للقاء الأفكار والأفئدة، وأضرب مثلاً لذلك: إنك إن ذهبت تتحدث عن معاني الإيثار والإنفاق في سبيل الله في مجتمع سيطرت عليه الأنانية واستغرق في ترف مهلك، فإن الأفكار لا تكاد تخدش سطح الأنفس. إن استعداد الأفئدة لتلقي الأفكار يحتاج إلى معاناة قلبية وأسئلة حيرى، وقلق إنساني بالغ، فإذا هبت رياح الأفكار على هذه الأفئدة فإنها سرعان ما تتلاقح وتنبت بسرعة هائلة.
وهذا ما حدث لي في لقائي مع “شروط النهضة”؛ لقد تفاعلت معها تفاعلا قويا، حدد لي كثيرا من المعطيات الثقافية في حياتي المقبلة، وفي هذه الفترة كانت الهيمنة الثقافية في الحركة الإسلامية لفكر أستاذنا سيد قطب رحمه الله، خاصة كتبه الأخيرة، مثل: “معالم في الطريق” و”في ظلال القرآن”، وكان القارئ لهذا الفكر يشحن بطاقة إيمانية هائلة ويجد نفسه مستعدا للتضحية في سبيل عقيدته بكل ما يملك، ولكن السبيل غير واضحة، والرؤية مضببة، وقد ننزلق إلى أهداف أعدائنا دون أن ندري، ونحن نحسب أننا نحسن صنعا. وربما يشارك الاستعمار في هذه اللعبة الخبيثة بتخليق أهداف ثانوية تبدو براقة للناظرين، فتتجه إليها القلوب المشحونة بالرغبة الجهادية العاطفية لتكتشف بعد قليل أنها في دائرة الصفر لم تتقدم خطوة واحدة.
ومن هذه الأهداف البراقة تحويل الشحنة الجهادية إلى قنابل وصواريخ كلامية باسم الرأي والرأي الآخر، وإنشاء مئات المنابر التي يعتليها المتكلمون والمتكلمات في عمليات طحن للكلام المزوق الذي يلهينا عن المعارك الجهادية الحقيقية في المزارع والمصانع ودور التعليم وساحات الجهاد المتعددة “.
وفي اتجاه مقارن وتقييمي، يرى د. دسوقي بأن مالك بن نبي كان علامة بارزة ونقلة ذات وزن كبير في الفكر الإسلامي المعاصر، فيقول وهو يتحدث عن تأثير الإمام حسن البنا في الحركة الإسلامية المعاصرة: ” .. فلا علامة مميزة في الطريق بعد ” تحويلة ” حسن البنا، إلا علامة مالك بن نبي، وهي كانت مكمّلة؛ فالأستاذ مالك – باعتباري قد نشأت بثقافة إخوانية – حينما قرأتُ لأول مرة أحد كتبه، وجدته يضيف أبعاداً أخرى، مثل البعد الاجتماعي؛ فالبنا كان اهتمامه منصباً على الشخصية الإسلامية، والقضايا الإسلامية العامة، والقضايا النهائية كالاستقلال السياسي والاقتصادي.
أما مالك بن نبي فرأى أن هناك جذوراً اجتماعية لكل هذا، وأن التخلف ما هو إلا ظاهرة اجتماعية لابد أن نقاتله في نفوسنا، وكان هو – مالك بن نبي – أول من تحدث مكملاً رسالة حسن البنا، حينما تحدث عن الاستعمار والقابلية له، ورأى أن الذي ينبغي أن يُحارب – بداية – إنما هو القابلية لذلك الاستعمار، قبل الحديث عن الاستعمار نفسه. وضع الأستاذ مالك – أيضاً – المعادلة الشهيرة، وهي أن الإنسان يتفاعل مع الوقت، فكل الأمور تحتاج إلى وقت، كما أنها تحتاج إلى بيئة، والدين في ذلك كله هو العامل المساعد الذي يُشرف على التفاعل ولا يتأثر به. وهو يعني بذلك أن هناك أركاناً ثابتة للإسلام لا تتغير من وقت إلى آخر، فهي ثابتة طوال الوقت، وهو صاغ من ذلك معادلة جميلة: ( الإنسان + التراث + الزمن) / الدين = الحضارة”.
هكذا إذن يبدو تأثير فكر مالك بن نبي في أجيال من الصحوة المعاصرة، وهو ماضي في طريقه إلى التعمق والاتساع والإشعاع، وإن كان ذلك يتحرك ببطء كما يبدو، انسجاما مع منطق وسننية المكابدة التي يخضع لها انتشار وتمكن الأفكار الكبيرة في النفوس والمجتمعات عادة. فالفكر النوعي الأصيل كثيرا ما تغطي عليه الأفكار الاستهلاكية الطافية على سطح الحياة، ولا يتيسر لعامة الناس النفاذ إليه، والإمساك به، إلا عبر صبر ومجالدة يقتضيهما منطق تحصيل كل ما هو نفيس.
بالرغم من التعتيم على فكر مالك بن نبي حينا من الزمن، فإن أصالة هذا الفكر، ورسالية صاحبه المتميزة، تمكنتا من فتح الطريق أمامه ليصل إشعاعه إلى قطاعات معتبرة من أجيال النخبة في المجتمعات الإسلامية، فتتجاوب معه، وتتبناه وتعمل على نشره والاستفادة منه في ترشيد مسيرة حركة نهضة الأمة.

نماذج من التهميش والحرمان
ونقصد بالحرمان هنا، حرمان حركة هذه الاتجاهات خاصة وحركة الصحوة، المساهمين في تأطيرها بصفة عامة، من الاستفادة من الأطروحات الفكرية والمنهجية الهامة التي غذى بها مالك بن نبي الفكر الإسلامي المعاصر. فمحاصرة وتهميش العديد من هذه الاتجاهات لفكره، حرمها من مغذي فكري هام، يفتح أمامها آفاقا جديدة في الوعي الحضاري والخبرة السننية الإنسانية، التي كانت دراسات مالك بن نبي تؤكد عليها كثيرا.
النموذج الأول: وأذكر هنا بالمناسبة وعلى سبيل المثال، أننا عندما كنا طلبة في الجامعة في منتصف السبعينات من القرن الماضي، كانت بعض الاتجاهات الحركية الإسلامية توزع علينا كتاب الأستاذ غازي التوبة ” الفكر الإسلامي المعاصر دراسة وتقويم ” ، وترغبنا في قراءته، لما فيه من محاولة نقدية لمالك بن نبي، والتنفير من فكره بطريقة منهجية ينقصها الكثير من الموضوعية والنظرة التكاملية المطلوبة في مثل هذه الدراسات أو العناوين الكبيرة ! وقد كان لذلك أثره غير المحمود في تأخير استفادة كثير من منتسبي هذه الاتجاهات الحركية الإسلامية من فكر مالك بن نبي ومنهجيته في دراسة وتقييم حركة الاستخلاف البشري وقوانين صيروراته الحضارية، وتكريس انحباسها في دائرة الثقافة الحركية الحزبية المغلقة.
النموذج الثاني: كما أذكر أننا كنا يوما في بيت أحد المعيدين في الجامعة، ودخل علينا معيد جامعي آخر، كان له صيت معتبر في حركة الصحوة، لسعة اطلاعه وتحكمه في اللغة العربية، وأقدميته في حركة الصحوة، وكنا ولا زلنا نقدر له ذلك، ونحرص على الاستفادة منه، فلما جلس وجد على الطاولة كتاب مالك بن نبي ” المسلم في عالم الاقتصاد ” ، وكان حديث الصدور، إذ يعتبر من آخر ما كتب مالك بن نبي، فرفعه ثم رماه على الطاولة وقال لصاحبه المعيد الآخر: أنت كذلك تقرأ هذه الخردة !! دعك منه، لا تضيع وقتك فيه !
النموذج الثالث: كما أذكر كذلك في سياق مضاعفات هذا الحصار لفكر مالك بن نبي والتعتيم عليه عندنا في الجزائر على الأقل. أننا ذهبنا مرة إلى عميد جامعة قسنطينة لنطلب منه المساعدة في تزويد مكتبة مسجد الطلبة ببعض الكتب، وكانت معنا قائمة طويلة، وفيها بعض كتب مالك بن نبي، فسمع بذلك أحد النشطاء الإسلاميين البارزين يومها في الجامعة، والذي سيكون له وزنه المعتبر وجهده المقدر في الساحة السياسية بعد ذلك بسنوات، فالتحق بنا ليحضر معنا مقابلة مدير الجامعة، فلما اطلع على قائمة الكتب المقترحة، لم يرقه اقتراح بعض كتب مالك بن نبي، بل احتج على ذلك، وطلب شطبها لأنها لا تدخل في دائرة الفكر الإسلامي، بل يدخل جلها في دائرة تزييف الوعي الإسلامي وتمويه حقائقه وتمييعها، وتسويق الفكر الجاهلي !؟ وكان موقفه هذا طبعا ترجمة مباشرة لأطروحات الكتاب المذكور أنفا، والذي كان له تأثير غير عادي في تكوين بعض الاتجاهات الحركية الإسلامية في هذه الفترة التأسيسية بالخصوص.
وذكرنا هنا بعض النماذج من داخل حركة الصحوة، ولا نريد أن نثقل هذه المقدمة بنماذج الحصار الذي تعرض له فكر مالك بن نبي خارج الصحوة، لأن الحصار كان معلوما وتقوده بعض الدوائر المختلفة في السلطة، وفي المجتمع العلمي، وفي الساحة الثقافية، وفي ما يسمى بالمجتمع المدني، والتي كانت تجمع بينها جميعا الرؤية المستلبة للنموذج الغربي، وترى في فكر مالك بن نبي فكرا أصوليا سلفيا متلبسا بمظهرية علمية ! أو كما أطلق عليه العروي مرة: الشيخ العصري ! لا لشيء إلا لأنه لم يكن مستقطبا بالمركزية الثقافية والحضارية الغربية أو مستلبا لأي اتجاه من اتجاهاتها، وكان معتزا بالهوية الثقافية والحضارية للأمة الإسلامية، وحريصا على شق طريق مستقلة لها، بل ومجاهدا صلبا من أجل ذلك، كما يؤكد على ذلك في كتاباته دائما، ويجعله شرطا أساسا للنهضة، كما نلمس ذلك على سبيل المثال في هذه الفقرة: ” فلكي نتغلب على مرضنا، ينبغي أن نكتشف طريق الأمة المرشدة، أعني الطريق الذي لم تترسمه أمة قبلها “. ولتحقيق ذلك يتجه اهتمامه إلى العناية بالأجيال القادمة، ويؤكد على ضرورة غرس هذا الطموح وهذه الهوية فيها، فيقول: ” فعلى المربين في البلاد العربية والإسلامية أن يعلموا الشبيبة أن تكتشف طريقا تتصدر فيه موكب الإنسانية، لا أن يعلموها كيف تواكب الروس أو الأمريكيين في طريقهم، أو كيف تتبعهم ” .

الظلم الذي لحق بالرجل
بالرغم من أصالة وجدية وسننية ما طرحه مالك بن نبي من أفكار في مشروعه الفكري النهضوي الكبير، وبالرغم من الجهاد الرسالي الممتد من أجل ذلك، فإن أفكاره ظلت تعيش التهميش والإقصاء والهدر فترة طويلة من الزمن، وظل هو يعيش ” الغربة الثقافية ” القاسية، فلا فكره قُبِل في مشروع الحركة الإصلاحية أو الصحوة الإسلامية، وأندمج فيها، وعرف طريقه إلى الدراسة والتقييم والتطبيق والاستثمار، ولا هو قُبِلَ من طرف المشروع الحداثي واندمج فيه، وعرف طريقه إلى الدراسة والتقييم والتطبيق والاستثمار كذلك، بل ظل معلقا بينهما ومعرضا عنه من الطرفين، وأحيانا كثيرة مرفوضا من قبلهما ومحاربا ! لأن أطرافا عدة في حركات الإصلاح والصحوة تعتبره مفكرا حداثيا علمانيا أو أقرب إلى العلمانية منه إلى الإسلامية، والحركات الحداثية تعتبره أصوليا سلفيا من دعاة الإسلامية، وتاهت أفكاره وضاع مشروعه التجديدي الكبير بين هذين الموقفين المتطرفين.
وقد كان رحمه الله يشعر بهذا الحيف، ويقاسي آلام غفلة الحركة والمجتمع والأمة عامة، عما وصل إليه من نظريات في فلسفة التاريخ وفقه الاستخلاف الحضاري، وما أنضجه من وعي في شروط النهضة الحضارية، كما يتجلى ذلك في كتاباته العديدة، وفي مساررته لبعض أصدقائه بذلك، كما سمعت ذلك شخصيا مرة من ناشر جزائري كان مقيما بلبنان لفترة طويلة، وهو السيد شريفي صاحب مكتبة النهضة بالجزائر العاصمة، الذي قال بأن مالك بن نبي كان كثيرا ما يشتكي له من بطئ استجابة المجتمع لأفكاره، وأنه – أي الأستاذ شريفي – كثيرا ما كان يقول له على سبيل النكتة والدعابة: ” عندما تموت سينتبه الناس إلى أفكارك ويقبلون على مشروعك النهضوي، ولذلك من الأحسن لك أن تموت.. ” !
وكما هي سنة الله في التمكين للصواب والخير والرشد، فقد أخذت أفكاره طريقها إلى العقول والقلوب تدريجيا، وأقبلت عليها أجيال من المثقفين، ليس في الجزائر أو تونس أو المغرب العربي الكبير فحسب، بل في العالم الإسلامي كله.

نماذج من أصالة وجدية الأطروحات الفكرية والمنهجية لمالك بن نبي
ويكفي هنا أن نتأمل بعض مفردات المنظومة الفكرية لمالك بن نبي، لندرك مغزى وحقيقة قولنا: بأن دخول إنتاج الرجل الساحة الثقافية الإسلامية المعاصرة، يعد مكسبا استراتيجيا وحيويا كبيرا لحركة البناء الحضاري الجديد للأمة، سيكون له ما بعده – إن شاء الله تعالى – سواء على مستوى الوعي الرسالي، أو على مستوى فعالية الإنجاز الحضاري، أو على مستوى فقه الاستشراف والوقاية الحضارية لمكاسب حركة النهوض الحضاري الإسلامي المعاصر، لما أصله مالك بن نبي من سنن كلية أساسية على كل مستوى من هذه المستويات، وأنضجه من وعي فكري ومنهجي فيها.
* الرأسمال الاجتماعي للأمة هو باستمرار؛ الإنسان والتراب والوقت والفكرة المركبة.
* الدين ظاهرة كونية تحكم فكر الإنسان وحضارته كما تحكم الجاذبية المادة و تتحكم في تطورها.
* البناء الحضاري ناتج تفاعل تكاملي لعالم الأفكار وعالم الأشخاص وعالم الأشياء وعالم العلاقات الاجتماعية.
* وفاعلية الأفكار تخضع لتماسك وحيوية العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع.
* إن قوة التماسك الضرورية للمجتمع الإسلامي موجودة بكل وضوح في الإسلام المتحرك في عقولنا وسلوكنا، والمنبعث في صورة إسلام اجتماعي.
* المسلم لم يتخل عن عقيدته، ولكن عقيدته تجردت من فاعليتها. وليس المهم أن نعلم المسلم عقيدة يملكها، بل المهم أن نرد إلى تلك العقيدة فاعليتها.
* إن أزمة العالم الإسلامي منذ زمن طويل لم تكن أزمة في الوسائل، وإنما في الأفكار الأصيلة. إن أدواءنا القاتلة تكمن في عالم أفكارنا.
* الحضارة هي التي تلد منتجاتها، ولا يمكن بناء حضارة بشراء منتجات حضارية أخرى.
* الحضارة حركة بناء تراكمي متكامل وليست عملا تكديسيا.
* المرحلة الروحية في الحضارة هي أرقى مراحل تطورها ونضجها .
* المرحلة الغرائزية في الحضارة هي أحط مراحل ضعفها وتقهقرها.
* الإنسان هو منبع المشكلة الإسلامية كلها في مجتمع ما بعد الموحدين.
* هناك فروق جوهرية هامة بين إنسان ما قبل الحضارة وإنسان ما بعد الحضارة.
* الرجل والمرأة قطبا الإنسانية، و لا معنى لأحدهما بغير الآخر.
* أي تفكير في مشكلة الإنسان هو في الأساس تفكير في مشكلة الحضارة.
* وأي تفكير في مشكلة الحضارة هو في الأساس تفكير في مشكلة الثقافة.
* وأي تفكير في مشكلة الثقافة هو في الأساس تفكير في مشكلة التربية.
* وأي تفكير في مشكلة التربية هو في الأساس تفكير في مشكلة المنهج.
* كل فراغ إيديولوجي لا تملأه أفكارنا ينتظر أفكارا قد تكون معادية لنا.
* إن ما ينوب المجتمع من مخاطر، ليس من قلة أشيائه بل من فقر أفكاره.
* وغنى المجتمع لا يقاس بكمية ما يملك من أشياء بل بمقدار ما فيه من أفكار.
* الاستقلال السياسي والاقتصادي للمجتمع مرهون بالاستقلال في مجال الأفكار.
* إن الاستعمار هو نكسة في تاريخ الإنسانية، لأنه أينما حل يلوث الإنسان.
* وإن تصفية الإنسان من القابلية للاستعمار تشرط تصفيته في الأرض، ويجب أن تتقدمها.
* الحضارة لا تصنع بالاندفاع في دروب سبق السير فيها، بل بفتح دروب جديدة.
* طريق الأمة المرشدة، يستلزم تعليم الأجيال الإسلامية، كيف تستطيع أن تكتشف طرقا تتصدر بها موكب الإنسانية، والابتعاد بها عن طرق مواكبة أو اتباع الآخرين.
* حركة البناء الحضاري لا يمكنها أن تنجح، إلا إذا كانت قواها جميعا في حركة تكاملية، وهذه الحركة في اتجاه صاعد.
* من ثوابت التاريخ: أن نهضة أي مجتمع لا تتم إلا من خلال نفس الظروف العامة التي تم فيها ميلاده.
* إن مقياس نجاح أو فشل أية حركة تغييرية هو بقدر ما تحافظ على محتواها أو تضيعه في الطريق.
* إن التغيير الاجتماعي الذي لا ينفذ إلى تغيير النفوس، لا قيمة له. وإنها لشرعة السماء: غير نفسك تغير التاريخ.
* السلطة في أي مجتمع ما هي إلا آلة اجتماعية تتغير تبعا للوسط الذي تعيش فيه وتتنوع معه.
* الطريق غير المنهجي هو أطول الطرق في عملية البناء الحضاري.
* إن جهودنا التجديدية فيها حسن النية وليس فيها رائحة منهج.
* المنهج العلمي مصل واقي ضد مرض الثرثرة.
* الروح الجماعية من المقومات الأساسية التي فقدها المجتمع الإسلامي.
* الإقلاع الحضاري مرتبط بمعادلة تقدم الواجبات على الحقوق بل وتفوقها عليها.
* إن التاريخ لا يصنع بانتظار الساعات الخطيرة، و المعجزات الكبيرة، بل يبدأ من مرحلة الواجبات المتواضعة الخاصة بكل يوم، و كل ساعة، و كل دقيقة.
* النقد الذاتي عامل تطهير جوهري للنفس والمجتمع من أسباب الضعف والاختلال، يجب أن ينطلق إلى أبعد مدى في حياتنا، وأي تعطيل له، يعد خدمة للاستعمار والاستبداد.
* الثورة أو السياسة التي لا تستطيع إصلاح أخطائها وتتستر عليها تنتحر.
* إن وقتنا الزاحف نحو التاريخ، لا يجب أن يضيع هباء، كما يهرب الماء من الساقية الخربة.
* إن الشعب الثرثار يصعب عليه أن يسمع الصوت الصامت لخطا الوقت الهارب.
لا نريد أن نسترسل في سرد المزيد من مفردات منظومة مالك بن نبي الفكرية والمنهجية، فهي أوسع مما تتيحه هذه المقدمة، و لكن نضيف فقط بعض المفاهيم المفتاحية، ذات الدلالة العميقة في هذا السياق مثل:
* معاملا الاستعمار والقابلية للاستعمار.
* صراع الفكرة والوثن.
* السياسة والفكرة
* الطاقة الحيوية والأفكار.
* جدلية العالم الثقافي.
* جدلية الفكرة والشيء
* عالم الأشخاص وعالم الأفكار وعالم الأشياء.
* الأفكار المطبوعة والأفكار الموضوعة.
* أصالة الأفكار وفعاليتها.
* البناء والتكديس.
* الأفكار الميتة، والأفكار القاتلة.
* الحرفية في الثقافة.
* الذوق الجمالي والمنطق العملي.
* الفنون الجميلة ومشكلة الزي.
* السياسة والبوليتيك.
* محور طنجة جاكرتا
* المعادلة الاجتماعية و حركة التغيير.
* انتقام الأفكار المخذولة.
* ذهان السهولة والاستحالة
* الرشاد و التيه في حركة التغيير.
* ازدواجية اللغة وانقسام المجتمع.
* الفعالية الاجتماعية ومصداقية النموذج الاجتماعي.
* صلاح الفكرة وصلاحيتها.
* الأفكار واطراد التغيير
* إنسان ما بعد الموحدين
* مجتمع ما بعد الموحدين
فالمتأمل لهذه المفاهيم على ضوء النظرة الشمولية المتكاملة لإنتاج الرجل، يلاحظ أمرين أساسيين في غاية الأهمية:
القيمة الذاتية المتميزة لكل مفهوم من هذه المفاهيم على حدة. سواء على مستوى البنية التعبيرية، أو المضمون الفكري. إذ لو أخذت كل فكرة من هذه الأفكار الكثيرة على حدة، لكانت ذات قيمة فكرية كبيرة، في ميزان فقه السنن الحضارية، والاستفادة منها في تأطير عملية التغيير، وتوجيه حركة البناء، ووقاية منجزاتها الاجتماعية. فكل مفهوم من هذه المفاهيم، يختزن مضمونا فكريا مكثفا وعميقا، ويتضمن بعدا منهجيا مركزا، بالإضافة إلى تميزه من حيث البنية التعبيرية، المتسمة بالدقة و الجدة والأناقة والحيوية.
والأمر الثاني المهم أو الجديد الملفت للانتباه في إنتاج مالك بن نبي، بالإضافة إلى ما سبق، هو “المنهج” الذي أعطى لهذه المفاهيم الفكرية أبعادها الاستراتيجية الحيوية، من خلال عملية التركيب والتأليف بين هذه المفردات، والارتقاء بها إلى مستوى منظومة فكرية متكاملة، أصبحت تشكل إطارا مرجعيا ونموذجا منهجيا في فقه سنن الله في صيرورات الظواهر الحضارية.
دون أن ننسى أمرين أساسيين في خبرة مالك بن نبي وتجربته الغنية كذلك، وهما الشعور الحاد بالمسئولية الرسالية، تجاه الأمة، وتجاه دينها ورسالتها في العالم والكون، وروح المكابدة الرسالية المستميتة، التي جعلته يصمد أمام التحديات والمغريات التي أحاطت به في كل مراحل حياته، وينتصر عليها، ويكفينا هنا أن نتذكر كلماته الأخيرة التي سجلها وهو يتأهب لمفارقة عالم الدنيا واستقبال عالم الآخرة، حيث كتب يقول: ” إنني أشعر أكثر فأكثر، في هذه السنة التاسعة والستين من حياتي بشعور ارتياح. وإني كرجل على ظهره حمل ثقيل، يشكر المولى تعالى أن وفقه على نقل الحمل أبعد وأطول ما يمكن، ولكنه ينتظر وقت وضعه. إنّ حياتي كانت ثقيلة الحمل، وقرب السبعين من عمري فإني أستشف نهايتي بارتياح “.

مالك بن نبي نقطة التقاء رافدي حركة التجديد المعاصر
ومن هنا تأتي أهمية دراسة تراث مالك بن نبي بالنسبة للمسلم المعاصر، في أي موقع من مواقع المسؤولية الاجتماعية كان، وخاصة الأجيال الجديدة، سواء كانت من دعاة الإسلامية والتأصيل الحضاري، أو من أنصار الحداثة والتناسخ الحضاري.
فمالك بن نبي من خلال هذه المنظومة الفكرية الأصيلة، وهذا النموذج المنهجي المتميز، أرسى أسسا وقواعد متينة لإخراج حركة التجديد الحضاري للأمة من مأزق الازدواجية والتلاغي والإهتلاك، الذي نجم عن العلاقة التنافرية بين جناحي هذه الحركة التجديدية، وخاصة في مرحلة ” الدولة الوطنية “، التي انفرد فيها دعاة الحداثة والعصرنة بأزمَّة الأمور، وأمعنوا في إبعاد وتهميش دعاة التأصيل والعودة إلى الذات، واضطروا بعضهم إلى الدخول في الصف، وبعضهم الآخر إلى الدخول في المواجهات بكافة أشكالها المنهكة بل والمهلكة.
وكانت نتيجة عدم التقاء هذين التيارين الأساسيين في حركة التجديد الحضاري الحديث للأمة، وخيمة العواقب، كما يفصح عن ذلك واقع البلاد الإسلامية؛ في فوضاه الفكرية، وفي اضطرابه الاجتماعي، وتمزقه السياسي، وغثائيته وتبعيته الحضارية المحكمة.
ومن أجل تجاوز هذه الوضعية، والتخلص من الازدواجية المهلكة، وتحقيق التكامل المطلوب بين الأجيال والقوى الفاعلة في الواقع الإسلامي المعاصر، ليس هناك بديل عن إفساح المجال أمام الاتجاه الحضاري في الفكر الإسلامي المعاصر، الذي يعد مالك بن نبي رائده بجدارة، ليجسر العلاقة بين القوى المتنافرة، ويمتص أسباب التنافر والجفوة بينها، ويكامل بين جهودها.
ومن يتأمل فكر مالك بن نبي وحياته، يرى كيف يتجاوز هذا الاتجاه الحضاري إشكالية الازدواجية التنافرية الخطيرة، في الفكر والممارسة، ويحقق التكامل المنشود في جهود البناء، من خلال تأسيس الوعي الحضاري، المبني على الثقافة السننية، التي تجعل الإنسان ينظر إلى الظواهر الحضارية لا على أنها سلسلة من الأحداث يعطينا التاريخ قصتها، بل كظواهر يرشدنا التحليل إلى جوهرها، أي إلى ” قوانينها ” وسنن الله فيها، ولا شك أن من يمتلك ناصية القوانين الاجتماعية، فإنه يمتلك أسرار النهضة الحضارية ويتحكم في شروطها الحاسمة.
والاتجاه الحضاري في الفكر الإسلامي المعاصر الذي يعود الفضل إلى مالك بن نبي في بلورته وتطويره بعد ابن خلدون، متمحور حول تأسيس هذا الوعي الحضاري، وبناء هذه الثقافة السننية التكاملية، التي إذا ما كتب للأجيال الإسلامية الجديدة، أن تستوعبها و تلتقي عليها، وتلتزم بها في تفكيرها، وفي مواجهتها لتحديات البناء الحضاري، ستحدث في حياتها نقلة عميقة وشاملة على طريق الخروج من الدوامات المهلكة، وتجاوز الأفعال المعتلة والمنقوصة والمنهوكة، إلى الأفعال الأصيلة والفعالة والمطردة، التي تراكم وتطور المكاسب والتجارب والخبرات على طريق النهوض والتجديد الحضاري المتكامل للأمة.
وفي هذا السياق، ومن أجل تأسيس هذا الوعي، وبناء هذه الثقافة، يندرج وجود “جمعية مالك بن نبي للدراسات والآفاق الإسلامية” ويدخل جهدها بحول الله تعالى.
وإدراكا منها بالموقع الحيوي لمنظومة مالك بن نبي الفكرية والمنهجية من الاتجاه الحضاري في الفكر الإسلامي المعاصر، تعمل على تيسير طريق الاتصال بعالمه الثقافي الخصب، للأجيال الجديدة، التي ستجد فيه ما يؤسس وعيها الحضاري، و يمدها بالآليات المنهجية التي تضمن لها سلامة الفهم وفعالية الإنجاز، وديمومة حيوية الاندفاع بحركة التغيير والإصلاح والتجديد نحو الأفضل باستمرار.
ومن أجل تحقيق هذا الاتصال الخصب بعالم مالك بن نبي الثقافي، والاستفادة منه وتطويره، تقدم “الجمعية” هذا العمل “الببليوغرافي الأولي” المتواضع، للأجيال الجديدة في العالم الإسلامي، راجية من كل الباحثين والمثقفين وأصدقاء مالك بن نبي وتلامذته، وكل من لديه معلومات عنه، مهما كانت قيمتها، أن يزود بها الجمعية، مساهمة منه في إنجاز هذا المشروع الحيوي الهام.
كما نؤكد كذلك، بأن هذا العمل الذي تقدمه الجمعية اليوم، ما هو في الحقيقة إلا عمل أولي، قصد به كسر حاجز الانتظار، لإدراكنا أن مثل هذا العمل يكتمل وينضج من خلال مساهمات المهتمين بالفكر الحضاري عامة، والواعين بالدور الحيوي المتميز لتراث مالك بن نبي في هذا المجال خاصة.
وعليه فإن “الجمعية” لا تعتبر نفسها معنية وحدها بالمشروع، بل تعتبر ذلك من مسؤوليات كل الذين يعنيهم أمر تجديد الفكر الإسلامي المعاصر، ويؤرقهم وضع الأمة، ويريدون المساهمة في إحداث نقلة نوعية في الوعي والأداء الإسلامي المعاصر، على طريق الأصالة الفكرية والفعالية الإنجازية النموذجية.

وفي خاتمة هذه المقدمة
نود أن نؤكد بأن اهتمامنا بمالك بن نبي، ورغبتنا في المساهمة بالتعريف بفكره ومدرسته في فقه الحضارة والصراع أو التدافع الحضاري، ليس القصد منه التمجيدية أو التبجيلية الفارغة، أو الإمعية البليدة، أو التعصب الجهول له، أو الانحباس عنده، والإصرار على التغاضي عن نواقص تجربته، وإنما الإنصاف له، وتمكين أجيال الأمة من الاستفادة من تجربته، واستكمال حلقات القوة والرشد فيها، وتجاوز حلقات الضعف والقصور فيها، على طريق النهضة الحضارية الإسلامية العالمية الإنسانية الكونية، التي لا تقف عند شخص أو جماعة أو حزب أو طبقة أو قطر أو جيل، ولا تتوقف على أي منها منفردا أو ترتهن به أو له، بل هي مسار بنائي تراكمي تكاملي متواصل، يساهم في تأصيله وتفعيل حركيته ووقاية منجزاته، الجميع
وفي هذه البنائية التراكمية التكاملية الممتدة، يقول رحمه الله: “إن من الواجب ألا توقفنا أخطاؤنا عن السير حثيثا نحو الحضارة الأصيلة.. فإن الحياة تدعونا أن نسير دائما إلى الأمام، وإنما لا يجوز لنا أن يظل سيرنا نحو الحضارة فوضويا، يستغله الرجل الوحيد، أو يضلله الشيء الوحيد، بل ليكن سيرنا علميا عقليا، حتى نرى أن الحضارة ليست أجزاء مبعثرة ملفقة، ولا مظاهر خلابة، وليست الشيء الوحيد، بل هي جوهر ينتظم جميع أشيائها، وقطب يتجه نحوه تاريخ الإنسانية”.
{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} (التوبة: 105).

الشيخ الدكتور الطيب برغوث

المصدر: موقع الشهاب

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.