إشكالية التخلف و المعادلة التنموية عند مالك بن نبي
بادئ ذي بدء يعرف مالك التخلف بأنه:” نتيجة أو حاصل ضروب اللافعالية للفردـ فهو فقدان للفعالية على مستوى مجتمع معين”(1) إذن فالتخلف يعني عند مالك عدم الفاعلية أو غيابها لدى الفرد في المجتمع. ويقرن مالك بين النمو و التخلف كحالتين متناقضتين على المستوى الجماعي و الفعالية وعدم الفعالية كحالتين متناقضتين أيضا على مستوى الفردي.
بقلم: د. عدنان خليل باشا
كيف ينظر مالك إلى التخلف وسماته في العالم الإسلامي؟
بادئ ذي بدء يعرف مالك التخلف بأنه:” نتيجة أو حاصل ضروب اللافعالية للفردـ فهو فقدان للفعالية على مستوى مجتمع معين”(1) إذن فالتخلف يعني عند مالك عدم الفاعلية أو غيابها لدى الفرد في المجتمع. ويقرن مالك بين النمو و التخلف كحالتين متناقضتين على المستوى الجماعي و الفعالية وعدم الفعالية كحالتين متناقضتين أيضا على مستوى الفردي.
وهكذا فإن عدم الفاعلية الفردية تقود في النهاية إلى التخلف على مستوى المجتمع بأكمله وهو ما يصدق أيضا على الفاعلية الفردية التي تقوم المجتمع إلى النمو.
جغرافية التخلف وتاريخه
وللتخلف جغرافيته وتاريخه عند مالك. أما جغرافيته فهي تشمل المساحة التي تنتظم على وجه التقريب نصف الكرة الجنوبي، أما من الناحية التاريخية فهناك شكلان للتخلف:
أ- الشكل الذي يعزى إلى عوامل مرضية كالتقهقر الذي ينتاب الآن، أو انتاب في الماضي تطور المجتمعات التي كانت نامية سابق. كما هي الحال بالنسبة للمجتمع الإسلامي حتى آخر عهد دولة الموحدين.
ب- الشكل الذي يعزى إلى عوامل دائمة ومزمنة من الركود في المجتمعات البدائية(2).
سبب التخلف
وإذا كان التخلف هو عدم الفعالية و له عوامل عرضية مؤقتة وعوامل دائمة ومزمنة فما سببه؟
يرجع مالك التخلف إلى الإنسان المسلم الذي لم يتعلم طريقة استعمال وسائله الأولية: أي التراب و الوقت بصورة فعالة أو إن الإنسان قد نسي ما تعلمه من هذا الاستعمال، بسبب الانفصال الذي حدث للحضارة الإسلامية بين الفكر و الضمير بعد معركة حطين عام 538 هـ.
المعالم الرئيسية للتخلف
أولا: التخلف في الفكر و الثقافة:
يرى مالك أن معالم التخلف الرئيسية وسماته تتمثل في:
1- تحلل العلاقات بين أشخاص المجتمع(3): ذلك أن عوامل الأشخاص و الأفكار و الأشياء لا تعمل متفرقة بل تتوافق في عمل مشترك تأتي صورته طبقا لنماذج إيديولوجية من ( عالم الأفكار) يتم تنفيذها بوسائل من (عالم الأشياء) من أجل غاية يحددها (عالم الأشخاص) يضاف إلى ذلك (شبكة العلاقات الاجتماعية) أو مجموع العلاقات الاجتماعية التي تنظم في إطارها عوامل الأشخاص والأفكار والأشياء(4)، وبتحلل شبكة العلاقات الاجتماعية في مرحلة التخلف، تنقطع العلاقات بين الثقافة وعواملها الأخرى: الأفكار ة الأشياء ويظهر على السطح عدم استخدام أو سوء استخدام الوسائل بالرغم من وجودها وينتج عن تمزق شبكة العلاقات الاجتماعية في المجتمع المسلم ظهور(5):
1- التجزئة في التفكير (Atomism) وما يصاحب ذلك من افتقاد الدقة، وافتقاد العقل التطبيقي بالفصل بين النظر و التطبيق، والانفصام بين القول و العمل، و الشعور بالنقص، والانعزالية، والانتكاس، و الخواء.
2- الجمود بسبب الإفلاس الخلقي و الاجتماعي و الفلسفي وما ينجم عن ذلك من سلبية وفتور، و القعود عن الواجب و المطالبة بالحق، و الخنوع و الاستسلام للواقع، و الركون إلى الماضي و التباهي به، وكساد الفكر و كساد الطاقات الاجتماعية، واستنزاف الوسائل الترابية و الزمنية.
3- افتقاد الضباط الذي يربط بين الأشياء ووسائلها، وبين الأشياء وأهدافها كالقول [إن العالم الإسلامي يعيش طبقا لمبتدئ القرآن الكريم بينما هو على الغالب في رأي مالك، مجتمع يتكلم تبعا لمبادئ القرآن الكريم لانتفاء وجود المنطق العملي أي التطبيق الفعلي في سلوكه الإسلامي.
4- دخول المجتمع المسلم أزمة ثقافية عندما تحلل من قيود الضغط الاجتماعي الذي يمنع أي نشوز فردي في السلوك، وتخلى عن مبدأ النقد المتمثل في الحديث النبوي الشريف ” من رأى منكم منكرا فليغيره بيده” فكانت النتيجة:
مظاهر سلبية ثقافية أسماها مالك الصبيانية في التفكير، و التناقض، ورفض الإصلاح، وعدم قبول بالنقد، و الخيانة، و التحريف، و المداهنة، والانتهازية، والوثنية، و الغلو، وتقديس الأشخاص و الأشياء، و التقليد الأعمى ، و اللامسؤولية، و تضخيم الذات، و الخجل من الماضي و التراث، و الرومانسية، وما أسماه مالك بـ ( التقاطب المزدوج) Polarisstion بين ظاهرة الركون إلى الماضي و تباهي التقليديين به من وجهة، وظاهرة خجل التقدميين من التراث و النفور منه من جهة أخرى.
ثانيا: التخلف الاقتصادي:
للتخلف الاقتصادي عند مالك تعريف خاص هو: ( نقص في الوسائل على الصعيد الاقتصادي ينوء حمله الاقتصادي بجانب سلبي جديد من الوجهة النفسية: هو سوء الانتفاع بالوسائل)(6).
وإذا كان التقدم يسرا فإن التخلف عسر. ( فكلمة عسر ليست هنا إلا التعبير الأدبي عن الواقع الاجتماعي الذي يعبر عنه مصطلح (تخلف)(7).
وإذا كان التخلف يمكن تحديده بأرقام متوسط الدخل السنوي فإنه عند مالك أيضا ( الحالة الاجتماعية التي يكون عليها الانسان ما قبل الحضارة، الإنسان الذي يضع مشكلاته في حدود الأشياء)(8) .
يعتقد مالك بأن المسلم كان أداة عمل مستمر إبان الفترة الاستعمارية بسبب عدم وجود ( وعي اقتصادي) أ, تجربة أو خبرة في عالم الاقتصاد الغريب عنه بكل مفاهيمه وبناءه ومصالح، ومن هنا لم يجد المسلم سبيلا لما طنه تنمية اقتصادية إلا بالميل لتقليد ( الحاجات) بدلا من تقليد ( الوسائل) لأنه فقد وعيه الحضاري فأصبح المسلم في:
المرحلة الأولى: مقلد بقدر استطاعته للحاجة التي أفرزتها حياة غيره دون أن يفكر في صنع وسيلة إشباعها.
المرحلة الثانية: بعد تحقيق استقلال بلاده أصبح مقلدا للحاجات الواردة مقلدا للوسائل المستوردة كيفما اتفق له، ولو على حساب سيادة البلاد(9).
ومن هذا التقليد في الأشياء، يصبح المسلم في المجال النظري مقلدا للأخطار التي صاغتها تجارب و خبرات دون غيره دون وقوف وعبرة عند أسباب فشل أو نجاح خطط التنمية التي طبقت على أسس ليبرالية أو مادية، بينما كانت القضية و لا زالت عند مالك قضية تطعيم ثقافي للمجتمع الإسلامي، يمكنه من استعمال إمكاناته الذهنية و الجسمية بشكل تجعل كل فرد فيه ينشط علة أساس معادلة اجتماعية تؤهله لإنجاح أيَ مخطط اقتصادي في الوقت الذي انقسمت فيه النخبة المثقفة في العالم الإسلامي إلى:
1- مجموعة لا تبالي بعقيدتها في انحيازها للماركسية و تلقب نفسها بالتقدمية.
2- مجموعة تنحاز مبدئيا لليبرالية لأنها أي مجموعة تتجنب المادية وتنفر من الإلحاد بحافز إسلامها.
في ظل هذا المأزق الفكري و الاقتصادي ينادي مالك بإرساء أسس حضارية لعالم الاقتصاد الإسلامي.
كيف يكون ذلك وما الأسلوب و العنصر الأساسي في تلك الأسس الاقتصادية الحضارية؟
الأسس الحضارية لعالم الاقتصاد
بادئ ذي بدء يرى مالك أن الاقتصاد، أيا كانت نوعيته المذهبية، هو تجسيم لحضارة معناها:
مجموعة الشروط المعنوية و المادية التي تتيح لمجتمع ما أن يقدم جميع الضمانات الاجتماعية لكل فرد يعيش فيه. وهذا التحديد الوظيفي للحضارة يجعل للحضارة جانبين:
1- الجانب الذي يتضمن شروطها المعنوية في صورة (إرادة) تحرك المجتمع نحو تحديد مهماته الاجتماعية و الاضطلاع بها.
2- الجانب الذي يتضمن شروطها المادية في صورة (إمكان)، أي إنه يضع تحت تصرفه المجتمع الوسائل الضرورية للقيام بمهماته، أي بالوظيفة الحضارية.
إذن يستخلص مالك بأن الحارة هي: هذه (الإرادة) وهذا (الإمكان) بحيث يمكن القول: إن الاقتصاد هو الصورة المحسومة لهذه الإرادة و لهذا الإمكان في ميدان خاص هو ميدان الاقتصاد. كما يمكن تقديم متوسط الدخل الفردي السنوي كمجرد تعبير عن الإمكان الحضاري أو على الضمانات الاجتماعية بطريقة الأرقام(10).
لكن ما العلاقة النسبية بين الإدارة الحضارية و الإمكان الحضاري في الظروف الواقعية الموضوعية التي تواجه منذ نقطة الانطلاق؟
لمعرفة ذلك يضرب مالك مثلا تجربتين:
الأولى: انطلاق الأمة العربية في زمان الرسول صلى الله عليه و سلم من نقطة الصفر من حيث (الإمكان)، إذ لم يكن لديها شيء للإضطلاع بمهماتها الجسيمة في المجال الاجتماعي و السياسي و العسكري، ومع ذلك قامت الأمة بهذه المهمات دون إهمال ولا إرجاء حتى يكمل (إمكانها) البسيط بحيث استطاعت تنفيذ كل خططها في كل المجالات كأنما معامل ضرب COEFFICIENT تدخل في فعالية وسائلها البسيطة فجعلها كافية لإنجاز المهمات.
الثانية: ألمانيا المحطمة بعد الحرب العالمية الثانية و هي تعيد بناءها من نقطة الصفر، أي بلا إمكتن يعد بالنسبة إلى ما أنجز فعلا بسبب تدخل معامل مضاعف للإمكان.
فهل المضاعف COEFFICIENT هو الإرادة الحضارية بحيث لو فقد تعطل الإمكان مهما عظم حجمه المادي.
إذن فالعلاقة النسبية بين الإمكان الحضاري و الإرادة الحضارية علاقة سببية تضع الإدارة في رتبة السبب بالنسبة للإمكان، بحيث إذا عدنا لعلام الاقتصاد بهذه الاعتبارات فإننا لا نراه- كما يقول مالك- عالم الكميات و عالم الأرقام إلا في الرتبة الثانية، أي بعدما تبعث فيه الإرادة الحضارية الحركة و الحياة. كما أن الإرادة الحضارية لا تحقق النجاح المضمون للاقتصاد إن افتقر هذا إلى عامل نفسي أو روحي ينهض به على أنه التجسيم لتلك الإرادة الحضارية التي يبعثها الإنسان، فهو –عند مالك- القيمة الاقتصادية الأولى على شرط أنتكون إرادته شرارة مقتبسة من (إرادة حضارية).
وهكذا فإن الحل الاقتصادي لتنمية اقتصادية ناجحة في العالم الإسلامي تقوم على تعبئة الإنسان و التراب و الوقت في مشروع تحركهم إرادة حضارية لا تحجم أمام الصعوبات، ولا بأخذها الغرور في شبه تعال على الوسائل اليسيرة التي في حوزة المسلمين، ولا ينتظر العمل بها حقنة من العملة الصعبة و لا أي مشروع من نوع مارشال. وذلك أن قضية العالم الإسلامي ليست قضية إمكانات مالية، فالمعجزة التنموية لا تتوقف على حقنة مالية لأن اليابان في نهضته التنموية لم يتلق أية حقنة من نوع ( مشروع مارشال)، ولا تتوقف أيضا على العرَق- كما قال بذلك روزنبرج صاحب كتاب (الدم و الذهب) في عهد هتلر عندما ربط التفوق الألماني بالدم الألماني- لأن الشعب الياباني ليس من عرق آري إطلاقا، بل إن الأمر يكمن في رأي مالك في الإرادة الحضارية التي مكنت بلدا كاليابان من التحول إلى دولة صناعية عملاق دون معجزة مالية أو انتساب للعرَق الآري.
ولذا يرى مالك بأن العالم الإسلامي ليس بيده أ يغير أوضاعه الاقتصادية إلا بقدر ما يطبق خطة تنمية تفتق أبعاده النفسية. ويجب أن تعتمد النهضة الاقتصادية على الجانب التربوي الذي يجعل من الإنسان القيمة الاقتصادية الأولى كوسيلة تتحقق بها خطة التنمية، وكنقطة تلاق تلتقي عندها كل الخطوط الرئيسية في البرامج المعروضة الإنجاز(11) .
وفي هذه الحالة يكون تخطيط الاقتصاد طبقا لإدارة حضارية تفترض شبكة توزيع شاملة تشمل كل السكان منذ اللحظة الأولى، عندئذ يمكن رسم شروط الحيوية الاقتصادية بوصفها حركة التفاعل بين المنتجين و المستهلكين عبر عملية التوزيع التي تحدد هدف الإنتاج من ناحية، ورقعة الاستهلاك من ناحية أخرى(12) في صورة مسلمتين:
الأولى: لقمة العيش حق لكل فم.
الثانية: العمل واجب على كل ساعد.
وإذا كانت المسلمة الأولى يرفضها الاختيار لمبدأ معين يلتزمه المجتمع و يسجله في دستوره كأساس، فإن المسلمة الثانية ليست اختيارية بل هي ضرورة تفرضها المسلمة الأولى كشرط لاستمرار التفاعل بين الإنتاج و الاستهلاك تفاعلا جدليا يمكن صياغته في صورة منطقية إذ فيل: لا إنتاج من دون استهلاك و لا استهلاك من دون انتاج. و لا يمكن التوفيق بين الإنتاج و الاستهلاك إذا لم يتم استيعاب كافة الشروط النفسية و التقنية الضرورية لتحقيق عملية الانطلاق أو الإقلاع الاقتصادي DECOLLAGE في البلاد التي تعاني/ منذ أمد، الكساد في الطاقات الاجتماعية.
تلك لمحات سريعة لإشكالية التخلف و التنمية عند مالك بن نبي بحسب ما يتسع له المقام هنا.
الهوامش:
– مشكلات الأفكار، ص 84.
2- مالك بن نبي ، أفاق جزائرية، ص 83.
3- عبد الله العويسي، مالك بن نبي حياته وفكره .
4- مالك بن نبي، ميلاد مجتمع ص 24.
5-أنظر عبد الله العويسي، المرجع السابق الصفحات 537-544.
6- مالك بن نبي، المسلم في العالم الاقتصادي ص 39
7- مالك بن نبي، تأملات ص 48
8- نفس المرجع ص 58.
9- مالك بن نبي، المسلم في عالم الاقتصاد ص 7.
10- المرجع السابق ص 63.
11- المرجع السابق ص 73.
12- مالك بن نبي، المرجع السابق، ص 81