إلاَّ مالكاً… خواطر في الذكرى السادسة والثلاثين لوفاة مالك بن نبي (1973-2009)
ولقد قلت يوما، وأعيدها اليوم: “إنَّ لكل إنسان مذهب يتمذهب به، وإني أرى المذهبية الفقهية قد انحسرت في الشعائر، فلا أتنكر لها ولا أنفيها، غير أنَّ الفكرَ هو مذهبي، ومالكا وإخوانَه هم أئمتي… بهذا ألقى الله، ولا أبالي…“
إلا مالكا…
*عندما ينقد الناقد ما آل إليه المسلمون في هذا العصر، من ذلَّة ومهانة وتبعية، ثم يحمِّل المسؤولية للعلماء في مقدمة مَن يتحملونها… فإنه لا يلبث أن يتوقف برهة، فيقول: إلاَّ مالكا…
*حين يشكو المحلِّل الانفصامَ الرهيب بين الفكر والفعل، بين العلم والعمل، بين التفسير والتغيير… فإنَّ الحياء يتملَّكه ليُعلنها صريحة بملء فيه: إلاَّ مالكا…
*عندما يلاحظ المثقف جهلَ بعض الممارسين للقراءة بالتراث الإسلامي، وجهل البعض الآخر بالتراث الغربي، ومن ثمَّ يولد حوار الطرشان بين هؤلاء وأولئك… فإنه وبكل جرأة يقف فيصرخ أمام الأشهاد: إلا مالكا…
الأسئلة الثلاثة:
*مَن هو مالك بن نبي؟
*مِن أي طينة هو، هذا الخرِّيت العبقريُّ، الذي بزَّ كلَّ مشتغل بالفكر والحضارة في هذا العصر؟
*هل يُنسب إلى وطن، أو زمن، أو قبيلة، أو لغة، أو ثقافة…؟
ثلاثة أسئلة لا أجد لها جوابا، وإن كنت سأختصر لها فرضيات، أو بالأحرى سأصنع لها أطروحات، وأترك الباحثين ليختبروها، فلينفوها أو ليثبتوها:
الأجوبة الثلاثة:
الأول- مالك بن نبي رجل عدلٌ، بلغ فكرُه مبلغ الرشد، وتحدَّى بنموذجه كلَّ نماذج النهضة بمختلف مسمياتها: الإصلاح، والنهضة، والتغيير… فكان نموذجا لوحده، وعلى حدِّ تعبير العمري: إنَّ ابن نبي هو “البراديم المختلف” الذي لما يكتشف بعد.
وأضيف: إنه صاحب “نموذج الرشد”، و”براديم الرشد” بلا منازع.
الثاني- حين بحثنا عن طينة مالك بن نبي نكون قد نقَّبنا في جذور الرجل الفكرية والثقافية والحضارية، أي عن إمكانية بناء نًسخ من مالك بن نبي، باتباع نفس المسار، أو أكبر منه، بإبداع مسارات جديدة بعد الوعي بتلك الجذور والمنطلقات…
فهل درس ابن نبي في “الكتاتيب”، أم في “المعاهد”، أم في “الجامعات”، أم في “مدراس التجربة والحياة”، أم عند “علماء مختلفين”، أم “في أحضان أسرة مختلفة”؟ أم…؟
ثالثا- هل أخذ ابن نبي العلمَ من “الشرق” أم نهله من “الغرب”؟ ومع كونه قد تعلم هنا وهنالك، فأيًّ نسبة تعود للشرق في فكره؟ وأي نسبة ترجع إلى الغرب؟ أم أنَّ جدلية الشرق والغرب ترتفع عن مثالنا هذا؛ لأنَّ الكثيرين اتبعوا نفس النهج، ولم يبلغوا ذات المبلغ؟
هل كان مالكُنا عشائريا ارتوى عبقرية العشيرة؟ أم وطنيا تمثل عمق الوطن؟
أقول والله أعلم: مالك بن نبي نحلة جوالة، يحطُّ أنى يشاء وكيفما يريد، ويأكل ما لذَّ وطاب، وما قد ينغِّص الذوق ويجرح الحلق؛ لكنه أبدا ـ بعقله النير الراشد ـ يقوم بعملية التحليل والفرز والانتقاء، فيستوعب الطيِّب، ويطرح الخبيث… وهو في هذا لا يتكلف ولا يتصنَّع، بل يتصرَّف بأريحية، وهدوء، واتزان، وروية…
إنه عالميٌّ كونيٌّ بشريٌّ: قبل ميلاد العولمة ميلادا قيصريا، وقبل تشكًّل الكونيةِ تشكلا مشوَّها، وقبل صياغة البشرية صياغة ظالمة؟
وأخيرا، بمناسبة الذكرى السادسة والثلاثين لوفاة عالمنا ومبدعنا، نستذكر مذكراته التي طبعت أخيرا، وفيها إضافة فصل “الدفاتر” (les carnets)، و”الكاتب” (l`écrivain)، و”العفن” (pourritures)… والتي من معالمها الزمنية والمعرفية، في آخر أيام حياته:
مقتطفات من مذكراته آخر أيامه
*يوم 04/06/1973
“هذا الصباح، على الساعة 10:52، أتممت مطالعة الأجزاء العشرة من تاريخ الطبري…” (فلنتفكر في دلالة هذا الفعل)
*10/06/1973
*”بعد أن طالعت كتاب “التاريخ المقدس” لدانيال روبس (Daniel Rops)، ها أنا ذا أعيد مطالعته من جديد، ومما ألاحظ بحق أنَّ المسلم يجد صعوبة في قراءة الفكر اليهودي-المسيحي؛ وهذا مظهر من مظاهر الصدام بين ثقافتين، الأولى (الثقافة الإسلامية) التي تعطي للتوحيد المعنى الأكثر نضجا، والثانية (الثقافة اليهودية-المسيحية) التي تعطي صورة لنوع من الشهوانية غير المصقولة”.
*لكنَّ ما يثير الانتباه في مذكرات الرجل الجبل، هو وعيه بمسؤوليته ودورِه الحضاريِّ إلى آخر رمق في حياته، وحتى آخر يوم من أيام حياته، التي لم تكن مُريحة البتَّة، ومع ذلك نطالع نصا يذيب صخور الجمود، ويجمِّد القلوب المائعة والعقول المرسلة، فيقول:
*17/06/1973
“رويدا رويدا، في هذه السنة التي أغلِق بها حلقة 69 عاما من عمري، أتعجَّب أنِّي أجد نوعا من الإحساس بشعور الارتياح؛ فأنا مثل رجل محمَّل بعبء ثقيل، يشكر الله تعالى أن قدَّره على تحمُّله إلى أبعد نقطة ممكنة، ولأطول مدة محتملة؛ غير أنَّه ينتظر ـ مع ذلك ـ الوقتَ الذي يضع فيه الحِمل عن عاتقه. حياتي كانت ثقيلة جدا ووطؤها كان شديدا على النفس؛ ومع اقترابي من سن السبعين آمل نهايةً بيسرٍ وخاتمةً بسكينةٍ. هذه النهايةُ التي أرجو أن تتأخر إلى أبعد مدى ممكن، ما دامت بناتي في حاجة إليَّ…”
الفكر مذهبي، ومالك وإخوانه أئمتي
بهذه الكلمات المشعَّة نورا ونارا، وبهذه المشاعر الملتهبة ثورة وانتصارا، نتذكر مالك بن نبي، داعين الله تعالى أن يتقبل منه جهاده واجتهاده، وأن يدخل كلَّ مبرة من المبرَّات الكثيرة في عالمنا الإسلامي، ممَّا هو ثمرة من ثمرات فكره ونضجه ورشده… أن يدخل كلَّ ذلك في ميزان حسناته، ويثبه عليها أحسن الثواب… ويجزيه بها الفردوس الأعلى.
ولقد قلت يوما، وأعيدها اليوم: “إنَّ لكل إنسان مذهب يتمذهب به، وإني أرى المذهبية الفقهية قد انحسرت في الشعائر، فلا أتنكر لها ولا أنفيها، غير أنَّ الفكرَ هو مذهبي، ومالكا وإخوانَه هم أئمتي…
بهذا ألقى الله، ولا أبالي…“