نظرية الحضارة بين محمد إقبال ومالك بن نبي

عدد القراءات :7723

د. جيلالي بوبكر

الالتقاء بين نظرية الحضارة لدى إقبال وبن نبي

أصل الحضارة.. فكرة دينية

إذا كان الاتفاق طبيعيًّا بين دعاة الإصلاح والتجديد في العالم، وعبر التاريخ، لما يجمعهم، ويجمع شعوبهم، ويجمع أبناء البشرية ككل، فكيف لا يحصل الاتفاق والتماثل في الفكر الإصلاحي بين دعاة الإصلاح من عصر واحد ومجتمع واحـد ودين واحد، فالتماثل قائم وبقوة بين كافة المصلحين ودعاة التجديد في العالم الإسلامي الحديث، كما نجد الاختلاف حالّ هو الآخر في عالم الإصلاح والتجديد لدى المفكرين في المجتمع الإسلامي الحديث، وعندما نقرأ المحاولات الإصلاحية والتجديدية عند محمد عبد الوهاب أو جمال الدين الأفغاني أو محمد عبده أو إقبال أو عبد الحميد ابن باديس أو بن نبي وغيرهم نجد النقاط التي تجمعها أكثر من النقاط التي تفرقها، فهي تلتقي في نقاط كثيرة، حتى هؤلاء الذين بالغوا في التجديد، ونادوا بالتمرد على القديم يلتقون في أكثر من نقطة مع غيرهم من أهل الاعتدال، أو حتى من أهل التشديد على القديم.

وإذا كان محمد إقبال ومالك بن نبي من دعاة الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي الحديث والمعاصر، ولهما مرجعية دينية وفكرية وتاريخية واحدة، فإن ما يجمع بين محاولتهما أكثر مما يفصل ويفرق بينهما، فقد عاشا في عصر واحد، وعاصر كل منهما الآخر، فبين ميلاد إقبال وميلاد بن نبي اثنين وثلاثين سنة، وبين وفاة إقبال ووفاة بن نبي خمس وثلاثين سنة، فشاهد كل منهما نفس الظروف والأحداث والتغيرات الفكرية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العالم المختلف، والعالم الإسلامي جزء منه بصفة خاصة وفي العالم ككل بصفة عامة كما عاشا معا مظاهر ومخلّفات الحضارة الأوروبية الحديثة والفكر الغربي، و قاسا محنة الاستعمار الأوربي للأقطار العربية والإسلامية ولشعوبها. فكان كل منهما شاهدا على العصر الحديث وعلى الحياة في العالم الإسلامي في هذا العصر.

وبما أن كل واحد منهما نشأ في أسرة دينية إسلامية محافظة، لم تستطع الظروف المحيطة بهما وما فيها من تيارات فكرية ومذاهب دينية واتجاهات فلسفية، ودعوات علمية، ومنتجات حضارية برّاقة ومغرية أن تنال من انتمائهما الديني وعقيدتهـما، وحبهما للإسلام وللوطن الإسلامي، إذ أنّ الواحد منهما يزداد تمسكا بدينيه وبعقيدته وبرسالته كلما ازداد اطلاعا على الفكر الغربي أو غيره، وكلما ازداد الاستعمار شراسة في سلب ونهب واغتصاب خيرات الشعوب المستعمرة، وكلما ازداد شراسة في محاولات طمس مقوّمات الأمة الإسلامية بسياسة التبشير المسيحي، ونشر الفكر المادي الإلحادي، وفرض التبعية الحضارية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا على تلك الشعوب المظلومة. نجد أن الواحد منهما يزداد وعيا وفهما للدين وإدراكا للحقيـقة، وإدراكا لواقع العالم الإٍسلامي وهمومه ومشاكله في الدين والاجتمـاع والاقتصاد والسياسة والحضارة بشكل عام، فزاده ذلك ارتباطا، وتثبتا برسالته وحرصا على تبليغها بعيدا عن التردد والتراجع والخوف، وفي ظروف تتربص به الدوائر من كل جهة وجانب.

الضعف الديني:
لقد كشف كل منهما الضعف الديني الذي آل إليه العالم الإسلامي، ولم يبق من الإسلام سوى الاسم، ومن القرآن سوى الرسم، ومن الإيمان سوى اللّفظ، وسعى الاستعمار إلى تزييف تعاليم الإسلام ومبادئه، مستخدما طرقا عديدة وأساليب مختلفة، واستخدم في ذلك أبناء العالم الإسلامي أنفسهم، مستغلا فيهم الجهل، والأمية، والتخلف، فكثر الدّجل، وانتشرت الشعوذة والأباطيل والأساطير والأوثان المختلفة، والفهوَم الخاطئة لأمور الدين والدنيا، ولم يعد المسلمون يعرفون حقيقة دينهم وحقيقة دنياهم، فهم بقوا على المدارس الفقهية الموروثة بعيدا عن محاولات الاجتهاد الجادة والسليمة، وعلى تراث فكري وأدبي تركه الأولون، بعيدا عن محاولات التجديد والإبداع في مجال الفكر والفلسفة والأدب وغيرها، فصاروا في وضع فكري وديني ضعيف يسمح للغير بغزوهم، ويجعل منهم لقمة سائغة في يد أعدائهم، ويقوي فيهم التخلف والتبعية لغيرهم.

الحالة النفسية:

وحال المسلمين في حياتهم النفسية والاجتماعية نجده كحالهم في الحياة الدينية حسب إقبال ومالك. فلم يعرف المسلمون قوة الإرادة والعزيمة، ولا الثقة بالنفس، ولا الشعور بالمسؤولية تجاه الذات والوطن والدين، بل عاشوا خيبة الأمل، والشعور باليأس والقنوط، وكراهية الواقع، لما كانوا يلقوه فيه من بؤس وشقاء وتعاسة وحرمان، بسبب الجـهل والفقر والأمـراض، وسيطرة العادات والتقاليد الفاسدة. ولم يكن للشعوب الإسلامية شيء في الاقتصاد والسياسة وهي تحت الاحتلال، فثرواتها وخيراتها الطبيعية، وطاقاتها البشرية كانت تستغل من قبل الاستعمار، كما كانت خاضعة له سياسيا وعسكريا، وكان الاستعمار يعمل جاهدا على فرض سلطانـه وهيمنته على هذه الشعوب، لضمان استمراره واستغلالها ونهب خيراتها وثرواتها من خلال ضمان أسباب القوة لديه، وأسباب ضعفها وتخلفها. وفعلا ازدادت تخلفا وانحطاطا في كافة ميادين الحياة، وصارت في تبعية حضارية تامة لغيرها. ويصف إقبال وضع المسلم الذي تحول من “المسلم القوي الذي أنشأته الصحراء، وأحكمته رياحها الهوجاء، أضـعفته ريـاح (العجم)، فصار فيها كالناي نحولا ونواحاً!!![…] والذي كان يمضي على الدهر حكمه، ويقف الملوك على بابه, رضي من السعي بالقنوع، ولذّ له الاستجداء والخشوع!!”. ويصف بن نبي العالم الإسلامي وما آل إليه بأنّه “من المحزن حقّا أن العالم الإسلامي ـ إبان هذه الحقبة ـ قد استسلم لرقاد طويل، لم يفطن لساعات التاريخ الفاصلة، ولم يحاول انتهاز فرصتها السانحة، ليتخلص من الاستعمـار”.

الإصلاح والتجديد:
لقد صنعت إقبال الفيلسوف، وبن نبي الفكر، ظروف تاريخية واحدة. استمد كل منهما فلسفته، وفكره، من مصادر واحدة وروافد متماثلة تماما. فكل منهما ابن بيئة إسلامية ومحيط ديني محافظ، ارتبط بالإسلام وفهمه عقيدة وشريعة، وكان حبه لله ولرسوله كبير، لم تؤثر فيه دعوات الإلحاد بل كانت تلك تزيده تمسكا بالإسلام، وحبّا له، ودفاعا عنه، وتزيده تخلقا بأخلاق الإسلام لرفع التحدي والتصدي لدعاة التغريب من أبناء العالم الإسلامي ومن غيرهم. كما اطلع كل منهما على الفكر الإنساني بشكل عام والفكر الإٍسلامي بشكل خاص، ونال عندهما الفكر الإٍسلامي القديم والحديث كل العناية، وكل الاهتمام بالمتابعة والدراسة والتقويم والمراجعة، كما نال الفكر الغربي القديم والحديث نفس العناية والاهتمام، وكان للفكر الغربي والحضارة الغربية بشكل عام الأثر البارز في فلسفة إقبال وفكر بن نبي. لأن الفكر الإصلاحي الحديث لدى المفكرين هو مجرد استجابة لفكر غربي،و حضارة غربية غزت العالم الإسلامي، فكانت أمام قيم دينية وتاريخية موروثة، حملها دعاة الإصلاح، وأصحاب التجديد، في واقع تميز بوجود عالمين اثنين: عالم متخلف مغزو غشّه ليل الاستعمار، فهو يعاني الجهل والفقر والبؤس والحرمان، والعالم الإسلامي جزء منه. وعالم متحضر، غازي، يعيش الحضارة والمدنية والرفاء المادي والتنظيم الاجتماعي، وهو العالم الأوروبي. فكان واقع المسلمين المتميز بالتخلف والانحطاط من جهة وواقع أوروبا المتميز بالتقدم والرقي العلمي والتكنولوجي والاقتصادي من جهة أخرى، لهما الأثر البارز في تكوين فلسفة إقبال وفكر بن نبي.

اجتمعت دوافع الإصلاح والحاجة إلى التجديد لدى الشخصيتين، أمام وضع المسلم المزري دينيا وفكريا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، بسبب التخلف والاستعمار، وأمام روح إسلامية مغزوة وروح غربية غازية، بكل ما تملكه الروح الإٍسلامية من قيم وتراث ومبادئ قوية وسمحة، وما تملكه الروح الغربية وحضارتها من قيم ومنتجات مغرية وبرّاقة، وأمام محاولات إصلاحية داخل العالم الإٍسلامي، بعضها يقلد الغرب ويدعوا إلى الانغماس في جديـده، وبعضها يعرض عن ذلك ويطلب الحياة على القديم. وحده، وبعضها يسعى إلى ضمان التوفـيق والانسجام بين القديم والجديد كل ينقد الآخر ويبحث عما يبرّر موقفه وينشر دعوته.

ولما كانت نفس الدوافع والأسباب دفعت الشخصيتين إلى التمسك بالإٍسلام، والإطلاع على الفكر الإسلامي القديم والحديث، والاتصال بالغرب وبحضارته والإلمام بالفكر الغربي وفلسفاته، والنظر إلى واقع الإنسان المعاصر، المسلم والأوروبي, فهي الظروف التي جعلت كلاّ منهما يفكر في الإصلاح والتجديد، ويقيّم عالم الفكر وعالم الواقع، وينتج فكرا وفلسفة، وهي التي جعلت المحاولتين الإصلاحيتين للفيلسوفين أكثر تشابها وأكثر تماثلا، والنقاط التي تجمعهما أكثر من النقاط التي تفرقهما. فعالم الواقع في نظر المحاولتين مريض يحتاج إلى العلاج، فواقع المسلمين مزري والواقع الأوروبي تسيطر عليه حضارة ذات طابع مادي، وذات فكر إلحادي أفقد الحياة معناها، وأفقد الوجود الإنساني قيمته، وصار المسلم ضالا بسبب تخلّفه وانحطاطه، وصار الأوربي شاردا بسبب طغيان الاتجاه الإلحادي المادي على حياته.

حاول كل من إقبال ومالك تقديم رؤية فلسفية للتاريخ ووضع نظرية إصلاحية تعالج الأوضاع وتقضي على المشاكل، لم تكن تلك الخطة مستمدة مما وصل إليه الغرب الأوروبي من أفكار وعلوم ومناهج في الإصلاح والتجديد. لأن الفكر الغربي في نظرهما قصوره الروحي جعله ينتج حضارة ويصنع إنسانا خاليا من القيم الروحية المثلى، تسيطر عليه الغرائز والشهوات والأنانية، إنسان لا يفكر إلاّ في بهيمتيه، ولا يعطي وزنا إلا للمادة خارج القيم الأخلاقية العليا ـ الشرف والكرامة والـعدل ـ التي لم تعد تهمه، في حياته الفردية أو الاجتماعية، أو في تعامله مع غيره. أمام ضعف الفكر الإصلاحي الحديث في العالم الإسلامي، وأمام قصور الفكر الغربي وقصور الحضارة الغربية عن بلوغ مبتغى الإنسان والحياة ومع وجود الإسلام وقيـّمه وتعاليمه السمحة، قامت الحاجة ـ عند إقبال ومالك ـ إلى الإصلاح والتجديد، وإلى السعي نحو النهضة والحضارة والتقدم.

يقول إقبال في ضرورة قيام المحاولة الإصلاحية، والظروف مناسبة لقيامـها: “أحاول بناء الفلسفة الدينية بناء جديدا، آخذا بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطوّر في نواحيها المختلفة. واللّحظة الراهنة مناسبة كل المناسبة لعمل كهـذا” ويؤيده بن نبي قائلا: “فلما دخلت إلى المدرسة اللاّسلكي… لم تعد تجذبني أحلام الآفاق البعيدة، ولم يستملني مركزا اجتماعي مرموق… وأصبحت أشعر كأنني حُمَّلت جميع أثام مجتمع يبحث عن الخلاص من بؤسه، كأنني بالنسبة لذلك المجتمع كبش فداء، شاعر بثقل ما حملّه من مسؤوليات ومحن وآمال لتحقق له الخـلاص بفضـل دراسته”.

ظاهرة التخلف:
إنّ التخلف حسب إقبال ومالك، ظاهرة أملتها ظروف عديدة، وأسباب كثيرة، بعضها موضوعي وبعضها ذاتي وهي ليست طبيعية في الفرد والمجتمع والأمة والإنسانية جمعا. لما يملك الإنسان من قوة وقدرة على التغيير والتجديد والنهضة والتحضر، فالمجتمع الإسلامي عرف في وقت مضى كل مظاهر الازدهار الثقافي والحضاري، وهو يعيش في العصر الحديث ظلمات الجهل والتخلف، لأنه فقد أسباب النهضة والحضارة، وتقـيد بعوامل الضعف والانحطاط في المجال الفكري والديني والاجتماعي. وسبيل النهضة هو القضاء على أسباب التخلف من خلال مناهج ووسائل ثقافية وفكرية واجتماعية تكفل الوعي السليم والعمل البنّاء في مختلف قطاعات الحياة وفي شعوب أوروبا الحديثة القدوة والعبرة، وفي شعب اليابان المعاصر المثال الحي لذلك.

شروط الحضارة:
فالحضارة من إنتاج الإنسان لا غير، لها شروطها وأسبابها، وهي شروط وأسباب كامنة في الإنسان وفي محيطه، فهي ليست هبة من الطبيعة، أو تنشأ بفعل الصدفة، فهي عالم يبنيـه الإنسان ويشيّده من الطبيعة، ويضاف إليها، وبما أن الإنسان كائن عاقل فيه جانب الروح وجانب المادة، ومتديّن له صلة بالوجود والذات الكلية، فإنّ شروط النهضة والحضارة ترتبط بكل ما يتصل بالإنسان وبحياته ككائن نفساني، عاقل، اجتماعي، روحاني، ككائن له شيء من الدنيا، وله في العالم الآخر. فالحضارة في فلسفة إقبال تعني بناء الإنسان أولا، الذي يبني حياة في عالم الدنيا، ويكون العالم الآخر استمراراً للحياة الدنيا. وشروط بناء الإنسان ذاتية، وفردية، ونفسية، وروحية، بناء لعالم الداخلي للذات وفق معايير روحية، ثم بناء المجتمع والحياة والتاريخ وفق نفس المعايير، وتكون الحياة بِرمتها تخدم المبادئ والغايات التي لأجلها تقوم الحياة، وهي مقررة، وبدقة وبعمق كبيرين في روح الإسلام والنصوص القرآنية. فالحضارة الحقة، أساسها روحي، وطابعها روحي، ومقاصدها وغاياتها روحية، وما الجانب المادي فيها إلاّ لخدمة الجانب الروحي.

الحضارة والمادة:
وينبذ إقبال أي نهضة وكلّ حضارة تعبـد الجانب المادي من الحياة وتستبد بالروح، والإسلام في نظره هو الذي “يكفل له ـ للمسلم ـ آخر الأمر الفوز على مجتمع يحركه تنافـس وحشي، وعلى حضارة فقدت وحدتها الروحية بما انطوت عليه من صراع بين القيم الدينيـة والقيم السياسية” ويكاد يتفق بن نبي على نفس المفهوم والمعنى، فالحضارة عنده هـي: “مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه”.

الفرد الحضاري:
فالانطلاق والنهضة والحضارة كل هذا يتم بالتغير الذي يحصل في ذات الفرد، وفي حياته، وفي مجتمعه وفي العالم, لغرض الوصول إلى السمو الروحي والأخلاقي والفكري، وهذا يشترط معايير أخلاقية فضلي، وهي ذات أصل روحي، وبـلوغ الازدهار الاقتصـادي والانسجام الاجتماعي يشترط مناهج وأدوات متطورة لبلوغ التوازن بين المجال الروحي والمجال المادي، ويشترط هذا التوازن تطور العوامل الروحية والماديـة وتكاملها.

يتفق إقبال وبن نبي اتفاقا تاما، على أن أيّة حركة نهضوية في التاريخ، وأيّة حضارة يشهدها الإنسان في مرحلة تاريخية ما، تكون حاصل فعل التغيير أو التغير الذي يطرأ على الإنسان باعتباره الكائن الوحيد الذي يتحضر، وكتـب له (الله) الاستخلاف فـي الأرض.

والتغيير له طابعه الخاص، كما له مجالاته. فطابعه روحي في الأصل، ومجاله ذات الإنسان ونفس الفرد، أولا، ثم المحيط الطبيعي والاجتماعي ثانياً، وتلك سنة سنها الله فـي مخلوقاته، ويعبر عنها القرآن في قوله تعالي: “إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم”. يقول إقبال في هذه السّنة: “وفي هذا المنهج من التغيير التقدمي، لا يكون الله في عون المرء على شريطة أن يبدأ هو بتغيير ما في نفسه”. ويؤكد بن نبي ذلك بقوله: “هذه حقيقة علمية يجب أن نتصورها كقانون إنساني وضعه الله عزّ وجل في القرآن، كسنّة من سنن الله التي تسير عليها حياة البشر”. والتغيير في داخل النفس يمس المفاهيم والتصورات والمعاني، ومعنى الإنسان ومعنى الحياة ومعنى الوجود ووجبات وحقوق البشر، كما يمس أنماط وطرق التفكير، ومناهج وأساليب العمل، ويمس القيم التي يؤمن بها الإنسان والمبادئ التي تقوم عليها حياته والغايات التي لأجلها يحيا، هذا التغيير في معطيات الذات الإنسانية، يجرى بعد ذلك في الواقع الاجتماعي والطبيعي، ومتى كان التغيير سليما ومتوازنا كانت الحضارة، ودخل صاحبها التاريخ، ومتى كان التغيير ضعيفا ومختلا فسدت الحياة، وازداد الإنسان انحطاطا وتخلفا. فالتغيير بالنسبة للفرد هو تبدّل في الفكر والثقافة والأخلاق، أما بالنسبة للمجتمع فهو تحوّل في النظام الاجتماعي العام، بعاداته وتقاليده وقوانينه، أما بالنسبة للطبيعة فيتجسد في تسخير ظواهرها وتحويلها من صورة غير نافعة إلى صورة نافعة، بواسطة أدوات ومعارف ومناهج معيـنة، والتغيير في هذه المجالات ككل متحدة، هو تغيير في حياة الإنسان ككل، بدونه لا نهضة ولا حضارة.

يتضح مما سبق أن ما يتفق عليه المفكران أن الحضارة يبلغها الإنسان عندما يصل إلى درجة السمو الروحي والأخلاقي والفكري، هذا السمو الذي يطوّر الحيـاة في مختلف جوانبها، والحضارة بهذا المعنى لا تتكون إلاّ بفعل التغيير الذي يشهده الإنسان في حياته الذاتية الفردية الداخلية أولاً، ثم في خارج هذه الحياة ثانيا. والتغيير بهذا المعنى هو ما يعرف بالتجديد الحضاري، وهذا الأخير له شروطه وميادينه ومراحله وأهدافه ومراميه، ويكون وراء أيـة نهضة تاريخية، ومحرك أيّة دفعة حضارية. ومثال ذلك الحضارة الإسلامية، فكان وراءها التغيير الذي شهده المسلمون الأوائل في أنفسهم وفجّر التغيير الذي شهدته حياتهم، فشهدوا تجديداً لا مثيل له في عصرهم، هذا التجديد التي أنتج حضارة راقية عامرة بالإيمان، وزاخرة بالـعلوم والفنون والصناعات، كان ذلك بفعل الإسلام الذي بنى ذاتا إنسانية إسلامية، دخلت التاريخ من بابه الواسع بعد العزلة، كما بنى مجتمعا إسلاميا قويا عرف الحضارة والمدنية بعد سذاجة وبداوة، وهذا يدلنا إلى أن التغيير السابق على كل صحوة حضارية يستهدف بناء الإنسان، وقولبة ذاته ووجوده الفردي أولا وقبل كل شيء، ثم بناء المجتمع وتحويل الواقع لخدمة مرامي الإنسان وغاياته القريبة والبعيدة.

الدين كعنصر من عناصر النهضة:
ولا نستطيع أن نميز بين فلسفة إقبال ونظرية بن نبي حول دور الدين في بناء الإنسـان والحضارة والتاريخ، فإقبال يعتبر الإنسان المسلم، المتحلي بأخلاق الله هو الإنسان الكامل، لأجله وجد كل شيء، هو إنسان القوة والحضارة والتاريخ، وما سواه زيف وباطل. والحياة في أصلها روحية وفي مصيرها روحية ذلك ما قرره الإسلام، ويبيّن إقبال الدور الذي يلعبه الدين، وتلعبه الفكرة الدينية في تحريك التاريخ، وتشكيل الحضارة من خلال الدور الذي لعبه الإسلام في التاريخ فيقول: “الإسلام بوصفه حركة ثقافية… ونظاما عاطفيا يقول بوحدة الكلمة، يدرك قيمة الفرد، من حيث هو فرد، ويرفض اعتبار قرابة الدم أساسا لوحدة الإنسانية… ولا يتيسر التماس أساس نفساني بحت لوحدة إنسانية إلاّ إذا أدركنا الحياة الإنسانية جميعا روحيا في أصـلها ومنشئها… ولهذا كان أمرا جدّ طبيعي أن يشرف نور الإسلام بين قوم سذج لا يعرفون شيئاً من ثقافات العالم القديم، وتقع بلادهم في رقعة من الأرض تلتقي فيها قارات ثلاث، وتجد الثقافة الجديـدة فـي مـبدأ “التـوحيـد” أساساً لوحدة العالم كله. والإسلام بوصفه دستورا سياسيا ليس إلاّ أداة عمليـة لجعل هـذا المبدأ عاملا حيّا في حياة البشر العقلية والوجـدانية”. ويؤكد بن نبي أفكار إقبال حول دور الدين في بناء الإنسان والتاريخ والحضارة، بأسلوبه، ومعجميته، وفي إطار منهجه، ونظريته التي تعتبر الحضارة حاصل جمع العناصر الثلاثة، وهي الإنسان والتراب والوقت. و لكن هذه العناصر لا تجتمع وتتآلف وتتكامل إلاّ بفعل الدين الذي يركّب فيما بينها. إذ يقول في ذلك: “فدورة الحضارة إذن تتم على هذا المنوال، إذ تبدأ حينما تدخل التاريخ فكرة دينية معينة أو عندما يدخل التاريخ مبدأ أخلاقي معين” (Ethos) على حد قول ”كيسرلنج” كما تنتهي حينما تفقد الروح نهائيا الهيمنة التي كانت لها على الغرائز المكـبوتة والمكبوحة الجماح” ويقول كـذلك: “فالفكرة الدينية تتدخل إما بطريقة مباشرة، وإما بواسطة بديلاتها اللادينية نفسها، في التركيبة المتآلفة لحضارة ما. وفي تشكيل إرادتها”.

العلاقة بين العلم والتاريخ والدين:
لا يختلف إقبال عن بن نبي في نظرته إلى العلم والتاريخ، باعتبار كلاّ منهما مهم وأساسي في الحضارة، فالعلم والتجارب العلمية عند الأول ميدانها الواقع والتجربة الواقـعية وهي وسيلة لبلوغ الحقيقة، أما الدين والتجربة الدينية ميدانها الروح، وهي وسيلة لبلوغ الحقيقة، فهما معا لا يتعارضان بل يتكاملان ولهما نفس الهدف، هو الكشف عن الحقيقة، التي هي في أصلها روحية. وأما التاريخ فهو مصدر من مصادر المعرفة إلى جانب الرياضـة الروحـية والطبيعة. “والتاريخ أو بتعبير القرآن أيام الله، هو ثالث مصادر المعرفة الإنسانية بناء على ما جاء في القرآن” ويشكل العلم بمفهومه الواسع محرك النهضة وصانع الحضارة عند بن نبي، والطابع الذي تتميز به الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة علمي محض. أما التاريخ فهو عنده الإطار الشامل لكل فعل حضاري ولكل حركة نهضة تدخله، فالتاريخ هو الإنسـان والمجتمع والحضارة والتقدم والرقي في الحياة.

التعامل مع الواقع:
قام كل من إقبال وبن نبي بفحص وتمحيص واقعه المعاش، فكرياً واجتماعـياً واقتصادياً ودينياً، وقام بالمراجعة والتقويم للفكر الإصلاحي الذي شهده عصره، وانتهى إلى غياب الرؤية الفلسفية إلى الإنسان والتاريخ والحضارة، وانصبت فكرة الإصلاح والتجديد عنده على مراجعة وتقويم ونقد جوانب عديدة من الفكر الإسلامي القديم، مثل فكر ابن خلدون ونظريته في الدولة، وعلى المحاولات الإصلاحية لزعماء الإصلاح والتجديد في العصر الحديث، مثل دعوة جمال الدين الأفغاني، ودعوة محمد عبده، وغيرهما، خاصة دعاة المسالمة مع الاستعمار والفكر الغربي. قام إقبال بنقد جوانب كثيرة من الفكر الإسلامي وأخرى في الفكر الغربي كما انتقد الحركة الإصلاحية الحديثـة وفي العالم الإسلامي، وكتابه “تجديد التفكير الديني في الإسلام “يدل على ذلك وكان يقتبس من الفكر الغربي ولا يرى في ذلك حرجا، مادام لا يتعارض مع القيم والمبادئ التي يؤمن بها، ولا تتعارض مع الإسلام كما انتقد بشدة الفكر الإلحادي الغربي، وسار في طريقه فيلسوف الحضارة بن نبي.

كلاهما استطاع بمحاولته الفكرية الإصلاحية ونظريته الفلسفية أن يقدم رؤية فلسفية للإنسان والتاريخ والحضارة، وكلاهما له فكر قوي، وفلسفة تميزت بالمتانة والدقة والعمق. ففلسفتهما تلتقيان في الفضاء النظري والمنبت والمبتغى. هذا المبتغى الذي يحدده إقبال بقوله: “فعلى المسلم اليوم أن يقدّر موقفه، وأن يعيد بناء حياته الاجتماعية على ضوء المبادئ النهائية، وأن يستنبط من أهداف الإسلام، التي لم تتكشف بعد إلاّ تكشفا جزئيا، تلك الديمقراطية الروحية التي هي منتهى غاية الإسلام ومقصده”. وهو مبتغى ومقصد بن نبي الذي يقول فيه: “وإنّما لا يجوز لنا أن يظل سيرنا نحو الحضارة فوضويا، يستغله الرجل الواحد، أو يظلله الشيء الواحد، بل ليكن سيرنا علميا، عقليا، حتى نرى أن الحضارة ليست أجزاء مبعثرة ملففة، ولا مظاهر خلاّبة، وليست الشيء الوحيد، بل هي جوهر ينتظم جميع أشيائها وأفكارها وروحها ومظاهرها، وقطب يتجه نحوه تاريخ الإنسانية”.

الاختلاف بين نظرية الحضارة لدى إقبال وبن نبي

الحضارة بين النظرة الفلسفية الصوفية والفكر العلمي المعاصر

إذا كان فكر محمد إقبال قد التقى في أكثر من نقطة مع أفكار مالك بن نبي، ومع رؤيته إلى التاريخ والحضارة، كما رأينا في المقال السابق, وهو أمر طبيعي جـدّا له أسبابه وظروفه الموضوعية، لأن الأمر يتعلق بمحاولتين فكريتين فلسفيتين لمفكرين من عصر واحد، ولهما مشاكل وهموم واحدة، ولهما انتماء ديني وتاريخي واحد، ولهما تطلعات وآمال واحدة.

إلا أنَّ فلسفة إقبال تختلف عن نظرية الحضارة والتجديد الحضاري عند “بن نبي” في أكثر من نقطة، رغم ما يجمع الشخصيتين من روابط تاريخية ودينية متينة، هذه الروابط التي تجلّت وبوضوح في فكر كل منهما، من حيث مرجعيته الفكرية والتاريخية والاجتماعية والعقيدية، ومن حيث المشكلات التي واجهته وعالجها، ومن حيث المبادئ والأسس والمنطلقات التي انطلق منها، ومن حيث العديد من النقاط التي تخص المنهج المتبع في البحث والدراسة، أو في اقتراح الحلول للمشكلات، ومن حيث الأهداف والغايات التي كان يسعى إليها.

تأثير البيئة على فكرهما:
إنَّ التماثل الفكري والتقاطع الفلسفي بين فلسفة “إقبال” وفكر “بن نبي” لم يمنع الاختلاف بينهما في أكثر من مسألة، وفي أكثر من حل، وفي المنهج وأمورٍ أُخرى، وإذا كان فكر المفكر مرتبط بمحيط صاحبه الاجتماعي، حقيقة ثابتة، فإنَّ بيئة “إقبال” الاجتماعية في الهند تختلف بعض الشيء عن محيط “بن نبي” الاجتماعي في شمال إفريقيا، هذا الاختلاف في بعض العادات والتقاليد والأعراف، وعند قراءة حياة إقبال في الهند وسفره إلى الخارج ونقرأ حياة “بن نبي” وتنقلاته من خلال كتابه “مذكرات شاهد للقرن” وهو يروي قصة حياته بشيء من التفصيل والدقة يتضح التمايز بين الشخصيتين الناتج عن التباين الطفيف بين الوسطين الاجتماعيين، وسط إقبال ووسط مالك.

وطبيعي أن إقبال تأثر بالظروف المحيطة به في الهند والباكستان, كما تأثر كغيره بظروف العالم الإسلامي وما تميز به من ضعف وتخلف وانحطاط، وبظروف العالم الأوربي الغربي وما تميز به من تقدم علمي وتكنولوجي وتحضر. و”بن نبي” هو الآخر تأثر بالظروف المحيطة به في الجزائر وفي العالم العربي والإسلامي وبما يجرى خارج الجزائر والعالم الإسلامي، ذلك التأثر انعكس في فكر كل واحد منهما وبان في فلسفته.

لقد تفلسف “إقبال” وتفلسف بعده “بن نبي”، ولكن لكل منهما فلسفته الخاصة به، فلسفة لها طابعها الخاص والمتميز، ولكل منهما فكر طبع بطابع معين:

فلسفة إقبال جاءت في مستوى الفلسفات القديمة، لكنها بمفاهيم ورؤية جديدة مزجت بين قيم الفكر الغربي وقيم الإسلام الذاتية، ومن حيث القوة والعمق، ومن حيث فضاء التفلسف النظري، ومن حيث النـقد والمراجعة والتقويم في الفكر الإنساني القديم، والحديث، ومن حيث الموضوعات وهي: الإنسان، النفس، الوجود، الذات الكلية وغيرها نجد فلسفة إقبال تشبه فلسفة الكندي أو الغزالي. فقد درس الفكر الإنساني عامة بما في ذلك الفكر الإسلامي عبر التاريخ، كما اطلع بعمق على الفكر الغربي، وكان مسلما محبّا لدينيه، راح ينسـق ويّوفق بين محتويات الحضارة الغربية، والفكر الغربي، وبين القيم الدينية والتاريخية في العالم الإسلامي لا على أساس موائمة الإسلام لتلك القيم الجديدة، ولكن على أساس الاستفادة من الحضارة الغربية والفكر الغربي بما يتلاءم مع القيم الذاتية للإسلام التي تتكشف شيئا فشيئا، وكان بهذا العمل في كتابه “تجديد التفكير الديني في الإسلام”، يشبه الغزالي. في كتابه “إحياء علوم الدين”، ويشبه الفارابي والكندي وابن رشد في محاولة التوفيق من الفلسفة اليونانية ورؤية الإسلام إلى الكون. فقط يختلف إقبال عن هؤلاء في كونه أستخدم معجميه هيجل وبرغسون وهوايتد، وغيرهم, أما هؤلاء فاستخدموا معجمية أفلاطون وأرسطو وأفلوطين، وغيرهم من فلاسفة اليونان. والميزة الطاغية في فلسفته التأمل النظري وسعة النظر الفلسفي وعمقه، ورحابه التفكير الميتافيزيقي، “فقارئ” إعادة تركيب الفكر الديني في الإسلام”، لا يتمالك الشعور الطاغي بسعة علمه، وبرحابة تأملاته الميتافيزيقية والدينية.
أما المحاولة الفكرية الإصلاحية التجديدية التي جاء بها “بن نبي”، فتميزت بطابعها العلمي، وهذا أمر طبيعي لأن تكوين صاحبها علمي، فهو خريج كلية الهندسة الكهربائية، وهي محاولة ذات طابع اجتماعي. لم يتفلسف في النّفس والوجود والله، مثلما فعل إقبال، بل ركز على الحضارة من حيث عوامل وشروط قيامها، وأسباب انهيارها، كما ركز على ما يسمح للمجتمع بالازدهار والتطور، وما يمنعه من ذلك، وما يدفعه إلى السقوط في الهاوية. وضع جميع مؤلفاته في سلسلة “مشكلات الحضارة”، وكتابه “شروط النهضة” يتضمن النظرية الجديدة التي جاء بها، وتخص الحضارة من حيث شروطها وأطوارها وعناصرها ومشكلاتها، وجميع الكتابات الأخرى كانت في هذا الاتجاه، على الرغم من أنها ركزت على العالم الإسلامي وظروفه وأحواله ومشاكله، وسبل ولوازم الخروج من أزمته. ولم تكن أفكاره تتميز بالعمق الفلسفي، والتأمل الميتافيزيقي والنقد العميق الذي عرفته فلسفة إقبال، لكن هذا لا يعني أن فكر “بن نبي” كان خاليا من الطابع الفلسفي، والدقة والعمق والنقد، بل فلسفته تمثل رؤية ذات نسقية فلسفية إلى التاريخ والحضارة، والحياة في جوانبها الروحية والاجتماعية والمادية.
يتضح مما سبق أن إقبال فيلسوف، وفلسفته طابعها ميتافيزيقي، وعلى النمط القديم لكنه بمناهج ومقولات جديدة. أما “بن نبي” فيلسوف اختص في الحضـارة وكان شبيها بعالم الاجتماع، لطغيان الأسلوب العلمي على فكره، ولم يمنعه ذلك من تقديم رؤية فلسفية إلى الحضارة والتاريخ والتقدم.

المنهج واللغة:
وإذا اختلف فكر إقبال الإصلاحي عن فكر “بن نبي” في طابعه ونمطه، فجاء الأول فلسفيا ميتافيزيقيا عالج أمهات القضايا الفلسفية، وجاء الثاني علميا اجتماعيا عالج قضية التخلف والحضارة كما هما في المجتمع والتاريخ، فطبيعي أن يكون هناك اختلاف بينهما في المنهج واللّغة:

أما منهج إقبال فهو التأمل الفلسفي الميتافيزيقي، القائم على التحليل والنقد والاستنتاج. والمبني على المراجعة والتقويم والهدم، وإعادة البناء. وكان إقبال شاعرا، انتهج أسلوب الشعر لنشر دعوته وتوصيل محاولته الإصلاحية إلى الغير، وكان لشعره صدى واسعا، في البلاد الإسلامية، وغيرها. والطابع النظري الميتافيزيقي طبع طريقة إقبال في التفلسف بطابع النظر العقلي إلى مختلف القضايا، وطبع لغة هذا التفلسف، وهذه المحاولة الفكرية، ولما كان صاحبها قد أخذ من روافد متعددة ومتنوعة، فجاءت مقولاته متعددة ومتنوعة، ففي فكره نجد مقولات الفكر والعلم اليونانيين، ونجد مقولات الفلسفة الإسلامية، ومقولات الفكر الغربي الحديث، هذا التنوع وهذا الثراء قلّما نجه عند واحد من المفكرين المحدثين.
أما منهج “بن نبي” فمطبوع بطابع فكره ونظريته، والموضوعات التي ركّز عليها، وتميز هذا المنهج بارتباطه بالإسلام وبالفكر الإسلامي القديم والحديث، وبالفكر الغربي، كما ارتبط بواقع المسلمين الديني والأخلاقي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والفكري، وقام على التحليل العلمي لحوادث التاريخ والواقع، وعلى الصرامة المنطقية في حصر المشكلات وبحثها وتحديد الحلول والمخارج من هذه المشكلات. كما قام على النقد والتقويم للفكر الإصلاحي القديم والحديث من جهة، ولفلسفة التاريخ عند مفكري الإسلام قديما وعند مفكري الغرب حديثا. وتمكن من الوصول إلى نظرية جديدة في الحضارة، لم يسبق لها مثيل، هذه النظرية يتضمنها كتاب “شروط النهضة” وتتضمن بعض جوانبها كتب أخرى. ولفكر “بن نبي” معجميته التي تتعدد وتتنوع بتعدد وتنوع وغنى وثراء فكره، وهي معجمية مرتبطة بالعلوم الإنسانية ومجالاتها، فهي معجمية علمية، وليست ذات طابع فلسفي محض، أي بالمعنى الكلاسيكي، مثلما هو الحال عند إقبال.
ولما كان فكر إقبال يتميز بالطابع الفلسفي الميتافيزيقي، وبالمنهج الفلسفي النقدي، وباللغة الفلسفية القوية المتينة، نجده روحيا في توجهه وفي مساره، من الانطلاق إلى المبتغى، يعتبر إقبال الحياة في أصلها وفي مسارها وفي منتهاها روحية، وهو ما يقرره الإسلام في النص الديني، وأسمى تجربة في حياة الإنسان تمنحه الحقيقة، وتعرفه بالذات الكلية المطلقة، هي التجربة الصوفية، ومجالها الدين والروح والإصلاح أو التجديد إنما في الحياة الروحية أولا وقبل كل شيء، وليس بإصلاح الأطر والمظاهر، وكل تغيير في حياة الإنسان لا ينبعث من الروح ولا يجري فيها، ولا يرتبط بقيم الدين ومبادئه ولا بالذات الكلية، هو تغيير لا يضمن لأصحابه بلوغ السمو الروحي والفكري الذي هو مبتغى الإسلام ومقصده، وهو قمة التحضر والتمدن. وسبيل بلوغ هذا السمو، وهذه الحضارة هو التجربة الصوفية، والرياضية الدينية، التي تسمو بصاحبها فيبلغ الاتصال، بالذات الإلهية، ليس عن طريق الفناء كما هو الحال في الفلسفة الإشراقية، وإنما عن طريق أن تصير الذات ذاتا، وليس أن ترى الأشياء فقط.

الفكر الإصلاحي:

إنّ الفكر الإصلاحي عند “بن نبي”، وإن كان قد أعطى مكانة كبيرة للفكرة الدينية في نظرية الحضارة، وفي إنشاء العلاقات الاجتماعية، وشبكة العلاقات الاجتماعية، وحمايتها من التفكك والتلف، فلم يتجه الاتجاه الروحاني الصوفي المعروف في فلسفة إقبال. واتجه اتجاها علميا متأثرا بنتائج ومناهج العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية مثل الكيمياء والبيولوجيا ومثل علم النفس وعلم الاقتصاد. كما نحا منحى واقعيا ليس على حساب البعد الأخلاقي أو الديني، فالأخلاق عنده إطار توجيهي ضروري لضمان الانسجام بين شروط ولوازم التحضر، والمحافظة عليها، والدين هو العنصر الرابع المركب بين عناصر الحضارة، فمتى كان الدين كانت الحضارة، ومتى غاب الدين فلا حضارة ولا تجديد حضاري. والواقعية الاجتماعية هي أهم ما تميز به فكر “بن نبي”، الذي اتجه إلى واقع الفرد، البيولوجي الطبيعي، والنفساني والفكري والأخلاقي والديني. حلل هذا الواقع بشكل عام, وركز على واقع المسلم في عالم التخلف وفي عالم التحضر بشكل خاص، وحصر مشاكل هذا الفرد، وشخص أمراضه، وحدد أسباب وسبل وكيفيات الوقاية والعلاج. كما اتجه صوب المجتمع الإنساني بشكل عام والمجتمع الإسلامي بشكل خاص وحلل واقعه الديـني والفكري، والأخلاقي والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، وشخص أمراضه وحصر مشاكله، وقدم له سبيل الخروج من الأزمة وأسلوب الوصول إلى الحضارة، وبلوغ التقدم والازدهار.
أما فكرة الإصلاح والتجديد في فلسفة إقبال فإنها تمثل جزءًا من هذه الفلسفة، فهي تدخل في إطار نظرته ورؤيته إلى الحياة، والإنسان والذات والوجود وغيرها، وليست فكرة مستقلة بذاتها، فهي ارتبطت بفلسفته عامة، نستشفها من نظرته إلى الذات وإلى الوجود، وإلى الحياة، كما نستشفها من نظرته إلى الدين وإلى الإسلام خاصة، وإلى الرياضة الروحية، وغيرها من المسائل التي تدخل في صميم الفلسفة. كما ترتبط كذلك بالدراسة التحليلية النقدية العميقة التي قام بها إقبال للاتجاهات الفلسفية القديمة والحديثة، كالفلسفة اليونانية, ومنها بعض الجوانب في فلسفة سقراط، وأخرى في فلسفة أفلاطون، وأخرى في فلسفة أرسطو. ومثل الفلسفة الإسلامية ومنها بعض الجوانب في التصوف، وفي فلسفة أبي حامد الغزالي، وفي فكر ابن خلدون وغيره. وكذلك انتقد الفكر الفلسفي الغربي وكذلك الحضارة الغربية، وما تميز الإنسان الأوربي المعاصر، صاحب هذا الفكر وهذه الحضارة، ذات المنتجات البراقة والمغرية.
تُظهِر هذه المعطيات أنَّ فلسفة إقبال ذات طابع ديني تميَّزَت بالشمول والعموم في عصر التخصص في البحوث والدراسات العلمـية والفلسفية. وهي تختلف إلى حد ما بطابعها هذا عن فلسفة “بن نبي”، التي تمثل فكرا متميزا قام هو الآخر على المنهج العلمي، وعلى التحليل والنقد، ولواقع الشعوب المتخلفة عامة، وللعالم الإسلامي الذي طال تخلفه، وطالت أزمته. وللفكر الإصلاحي في عصره، ولحضارة أوربا الحديثة وللفكر الغربي الحديث، وانطلاقا من ذلك ظهرت نظرية الحضارة، كرؤية جديدة إلى التاريخ، وكحل لأزمة التخلف والانحطاط في حياة الإنسان، ولم تكن هذه الدراسة ولا هذه الرؤية في مستوى الشمول الذي عرفته فلسفة إقبال، ولا هي فلسفة دينية، هدفها إصلاح الفكر الديني، بل نظرية خاصة بالحضارة، تدخل في إطار فلسفة التاريخ، غايتها حل مشكلات الحضارة وهي مشكلات مرتبطة بحياة الإنسان اليومية في جميع ميادينها، روحيا واجتماعيا وماديـا.

أصل المشكلة:
تصدى “إقبال” للفكر الغربي الإلحادي، وعمل على إبراز ما فيه من نقص واعوجاج، له أثر سلبي كبير على حياة الأوروبي المعاصر، وأثره سلبي وأكبر على حياة المسلم المعاصر، وتعمق في التحليل والنقد بعد الفهم والاستيعاب، وتجلى ذلك بوضوح في مؤلفه “تجديد التفكير الديني في الإسلام”. وهي محاولة فكرية رفيعة المستوى، وصيحة فيلسوف في وجه حاملي الفكر الغربي الإلحادي في أوربا وفي العالم الإسلامي، من أبناء المجتمع الإسلامي، ودعوة إلى الإصلاح والتجديد وفق ما تمليه السنن الكونية، ووفق القيم الذاتية للإسلام ومبادئه الثابتة وأهدافه القريبة والبعيدة. ويقول الأستاذ محمد البهي في هذه المحاولة: “إنّ إقبال في تجديد التفكير الديني في الإسلام، كان جامعيا في محاولته… في عمله الفكري للخاصة، وفي اعتبار هذا العمل لجيل معين، وهو جيل التفكير الوضعي، أو التفكير المادي الإلحادي”.
أما “بن نبي” فتصدى لظاهرة التخلف في العالم المتخلف عامة، وفي العالم الإسلامي بصفة خاصة، كما تجند لوضع خطة فكرية وفلسفية واستراتيجية لبناء الحضارة, والتمكن من المدنية والتقدم الاجتماعـي. وتمحورت فلسفته ككل على مسألتين، مسألة التخلف والانحطاط، من حيـث أسبابه ودوافعه وسبل القضاء عليها والوقاية منها، ومسألة الحضارة من حيث شروطها وعواملها تكويـنها وازدهارها وعوامل انهيارها وأفولها. والأسلوب الذي سلكه في طرح المشكلات ومعالجـتها ومناقشتها وما تميز به، من مواصفات علمية وموضوعية ومنطقية جعل محاولته موجهة للجميع، وليست للخاصة مثلما هو حال محاولة إعادة تركيب الفكر الديني في الإسلام لـ”إقبال”.
وعليه، فإذا كان “إقبال”، قد كتب للخاصة من أصحاب الفكر الوضعي، المادي الإلحادي، وجاءت فلسفته تتميز بعمق التأمل الفلسفي، ورحابة التفكير الميتافيزيقي، فإن الإصلاح والتجديد في فلسفة “بن نبي” استهدف القضاء على الجهل والجوع والمـرض والاستعمار والقابلية للاستعمار، وغيرها من ظواهر التخلف، التي يعاني منها العالم الإسلامي المعاصر، ويستهدف وضع نظرية في الحضارة والتاريخ تضع حدّا للتخلف, وتفتح الآفـاق والمجال واسعًا لبناء الحضارة وازدهارها واستمرارها، وإن كان يلتقي في فكره هذا، مع فلسفة إقبال في أصولها ومقاصدها.

التعامل مع التاريخ:
ومما يتميز به فكر “إقبال” الإصلاحي، وبالنسبة لروافده أنّه استمد الكثير من المفاهيم والمناهج من الفكر الغربي وتأثر بفكر وأراء المستشرقين، وكان إقبال يناقش كبار الفلاسفة وينقد أفكارهم، وينسق، ويجمع بين هذه الأفكار حتى قال عنه الأستاذ ماجد فخري في كتابه “تاريخ الفلسفة الإسلامية”: “فهو عوضا عن أن يستند إلى التاريخ في التعبير عن النظرة الإسلامية إلى الكون تعبيرا عصريا، جريا على سنة أمير على، يعمد إلى الاقتباس من التراث الفلسفي الغربي دون تحفظ، ولم يكن غرضه من ذلك التدليل على أصالة النظرة الغربية، بل كان بالأحرى اتفاقها مع الرؤيا القرآنية للكون”.
بينما تناول “مالك” ظاهرة التخلف وقضية الحضارة في إطار فلسفة التاريخ، ومن خلال نقد فلسفة التاريخ عند القدماء، ولدى المحدثين، وإن كان قد اقتبس, فليس من جميع الفلسفات بل من فلسفة التاريخ ومعتمدا على ما يخدم نظريته ورؤيته إلى الحضارة والإنسان والتاريخ.
ناتج الفكر:
ارتبط الإصلاح والتجديد في فلسفة “إقبال”، بالإسلام أولا، وبمناهج ونتائج الفكر الغربي الحديث، والحضارة الغربية الحديثة ثانيًا.أي بمحاولة فكرية وفلسفية، بكل ما تحمله النظرة الفلسفية من ميزات ومواصفات، وبكل ما يتطلبه النسق الفلسفي من انسجام، وتكامل في بنـيته، وبين عناصر ومحتويات هذه البنية. وجاء هذا البناء الفلسفي يتضمن بناء الفلسفة الدينية والفكر الديني، بناء جديدًا، يرفض الفكر الديني القائم في حياة المسلمين ولدى المفكرين المسلمين وزعماء الإصلاح، كما يرفض العديد من جوانب الفكر الديني التي ورثها واستقرت في مجاله، وفي الوعي الإسلامي المعاصر، ويرفض جوانب كثيرة في الفكر الغربي، خاصة الفكر الوضعي الإلحادي الذي يرد الحياة إلى أسس وأصول مادية محضة، هذا الرفض جاء بعد عملية النقد، أو الهدم التي قام بها إقبال، ثم بنى فلسفة دينية وفكرا إصلاحيا تميّز كل منهما بالجديد في هيكله ومحتوياته، كما تميز بكونه فكرا فريدا في نوعه من حيث عمق النقد ودقته، وسعة الفهم والاستيعاب، وقوة في طرح المشكلات ومعالجتها، ورحابة التأمل الفلسفي الميتافيزيقي، ومتانة اللغة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، الدقة والعمق في حصر مشكلات الإنسان المسلم المعاصر الذي يعيش التخلف، وتحديد مشكلات الإنسان الأوربي المعاصر الذي يعيش الحضارة والفراغ الروحي، كما تمكن من وضع يده على الكثير من الحلول لتلك المشكلات داعيا إلى بلوغ السمو الحضاري، الروحي والمادي معا.
وتميَّزَت فلسفة “بن نبي” بأنها ليست محاولة لبناء التفكير الديني على منوال محاولة “إقبال”، بل هي محاولة جاءت بالجديد حول ظاهرتي التخلف والتحضر، وعلى ضوء التاريخ، وواقع أوروبا صاحبة الحضارة الحديثة، واقع العالم الإسلامي المتخلف. وتعلق الأمر هنا بتحديد تميز هو الآخر بالموضوعية، والدقة والعمق والعلمـية، والصرامة المنطقية، لمشكلات الإنسان عامة والإنسان المسلم والأوربي خاصة، وهي في أصلها مشكلات حضارة لا غير، ولحلول غاية في الموضوعية، والدقة، ومنسجمة مع ما تتطلبه حياة الفرد، وتقتضيه حاجات المجتمع، وينسجم مع سنن الحياة التي يقرها الإسلام، وشكلت أفكار “بن نبي” ومنهجه وخطته في الإصلاح والتجديد نظرية فلسفية جديدة، قائمة بذاتها، تحدد بدقة وبموضوعية أسباب التخلف وسبل القضاء عليه، وشروط الحضارة وأسباب انهيارها، وفي نظره كل الحضارات والمدنيات التي شهدها تاريخ الإنسانية لا تخرج عن خط نظريته.
بين “الشروط” و”التجديد”:
لقد اختلف “إقبال” في نظرته إلى الإصلاح وإلى طبيعة التجديد، مع نظرة “بن نبي” إلى ذلك، هذا الاختلاف يتبيّن من خلال الفرق والتباين بين محتويات كتاب “إقبال” “تجديد التفكير الديني في الإسلام” ومحتويات مؤلف “بن نبي” “شروط النهضة” سواء من حيث طرح المسائل وتناولها، أو من حيث طبيعة المنهج المتبع، ومواصفاته، أو من حيث طبيعة التجديد الذي أراده كلّ منهما.

فالإصلاح دعا إليه إقبال وبمنهج فلسفي يقوم على أسس روحية، مثالية دينية ذاتية فردية، وله أهداف روحية محضة، تشارك في أعداده التجربة الواقعية والتجربة الصوفية الروحية، ففي الطابع الروحي للإصلاح وفرديته يرى إقبال أن الإنسانية “تحتاج اليوم إلى ثلاثة أمور: تأويل الكون تأويلا روحيا، وتحرير روح الفرد، ووضع مبادئ أساسية ذات أهمية عالمـية توجـه تطـور المجتمع الإنساني على أساس روحي”(5). فالإصلاح والتجـديد في فـكر إقبال يلازم النـقد وإعـادة البناء، ويجري في الذات ثم الواقع، ويقوم على أسس فردية روحية دينية. والطريق إليه التجربة العلـمية، ومجالها الواقع، والتجربة الصوفية الدينية، وميدانها الروح، ومبتغاه ومقصده هو مبتغى ومقصد الإسلام، وهو الوصول بالإنسان السمو الروحي والأخلاقي، وبلوغ الديمقراطية الروحية التي لم تصل إليها مثالية أوربا، التي فقدت معنى وجودها، لكونها أنتجت ذاتا ضالة، راحت تفتش عن مكان لها، بين ديمقراطيات خالية من التسامح والتعاون والتكامل والتراحم، وكان كل همها هو استغلال الإنسان للإنسان وصارت تلك المثالية أكبر عائق أمام الإنسان في سعيه نحو الرقي والسمو في الأخلاق والحضارة.
أما الإصلاح الذي دعا إليه “بن نبي” فله طابعه الخاص، وإن كان يلتقي مع المحاولة الإصلاحية عند إقبال في عدة نقاط, إلا أنه قام بتحليل واقعه وتحليل واقع الأمم المتحضرة في عصره، وانتقدهما بطريقة علمية، كما حلل وانتقد الحياة الفكرية في العالم الإسلامي المتخلف، وفي أوربا الحضارة. وركز على استيعاب ونقد الفكر الإصلاحي الحديث والمعاصر في العالم الإسلامي، وفلسفة التاريخ في أوربا من خلال رؤية سبنجلر، ومنظور كيسرلنج، ونظرية توينبي، وفيكو وغيرهم. انبثقت عن هذه الدراسة النقدية التي قام بها “بن نبي” نظريته في الحضارة، وفي التجديد الحضاري، هذه النظرية التي تؤكد على البعد الروحي الديني للحضارة، لكون الفكرة الدينية تؤلف بين عناصرها، وتوجد الانسجام بين شروطها ولوازمها، كما تضمن لها البـقاء والاستمرار والازدهار. ولا حضارة في غياب العدة الدائمة وتمثل عناصر الحضارة الثلاثة، الإنسان والتراب والوقت، وهي ذات طبيعة اجتماعية تاريخية بالدرجة الأولى، وتوفر الفكرة الدينية والعدة الدائمة، يقتضي فعل التغيير الذي يجرى في داخل نفس الإنسان، وفي أعماق ذاته، ثم يجرى في المحيط الذي يعيش فيه، وهي سنة سنّها الله لتسير عليها الحياة، ويقررها القرآن في قوله تعالي:” إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..
خلاصة القول:
يتضح مما سبق أن محاولة إقبال الإصلاحية، هي عبارة عن مشروع فلسفي فكري، لبناء الفلسفة الدينية بناءً جديدًا. ارتبط هذا المشروع بمشروع رؤية فلسفية شاملة، ومنظور فكري شامل، جامع لجوانب حياة الإنسان، قامت فيه استراتيجية الإصلاح والتجديد على النقد وما يلزمه وعلى إعادة البناء وما تتطلبه عملية البناء، هذا من الناحية المنهجية.

أما من الناحية العلمية، فقامت على التغيير التسخير، وعلى الفردية الذاتية الخالصة والمنهج العلمي والأسلوب الصوفي معًا، وعلى أسس روحية ومبادئ وقيم سامية مقررة في مصادر الإسلام الأصلية تمثل مقاصـده ومبتغياته.

ويتضح لنا أن فكرة الإصلاح والتجديد لدى “بن نبي” ارتبطت هي الأخرى بمشروع رؤية فلسفية إلى التاريخ وإلى الحضارة وإلى الإنسان، و لم يكن ذلك النقد الفلسفي أو التأمل الميتافيزيقي واردا في منهج “بن نبي”, فمشروع رؤيته الفلسفية إلى التاريخ، ومشروع خطته في الإصلاح، ومشروع نظرية الحضارة والتجديد الحضاري عنده، كل هذا قام على أسس فكرية ارتبطت بالفكر الإسلامي والفكر الغربي، وعلى أسس روحية دينية ارتبطت بالإسلام وبقيمه ومثله العليا في الدين والدنيا، وعلى أسس علمية ومنطقية، وعلى معايير واقعية، فردية واجتماعية، هذه الأسس تنسجم مع ما تتطلبه الطبيعة البشرية في الحياة والوجود.

إنّ الفكر الإصلاحي عند محمد إقبال، أو عند مالك بن نبي، أو عند غيرهما من المصلحين في الفكر الديني الإسلامي، وفي المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، هو من نوع واحد، فالنقاط والروابط التي تجمع هذه الأصناف أكثر بكثير من النقاط التي تفرّق بينها. فهي أشكال من التفكير، تعددت وتنوعت حسب تعدد أصحابها، وتنوعت حسب البيئات التي ظهرت فيها، وحسب كافة الظروف المحيطة بها. إذ لا ينفصل البتة الفكر الإصلاحي عن الواقع الذي ينمو فيه، إلى أن يكبر ويتبلور، فيأخذ مكانه في الحركة الإصلاحية القائمة. هذا ما يقال عن الحركة الإصلاحية الحديثة والمعاصرة في العالم الإسلامي، وعن فلسفة محمد إقبال ونظرية مالك بن نبي في الحضارة، باعتبار هذان النمطان من الفكر الإصلاحي جزء من الحركة الإصلاحية الإسلامية في العصر الحديث.

واقع المسلمين بين الأمس واليوم:

ارتبطت فكرة الإصلاح والتجديد عند إقبال ومالك بتاريخ المسلمين وواقعهم في العصر الحديث، حيث شهد المسلمون قديما حضارة راقية في جميع مجالات الحياة، ففي مجال الفكر سجل لها التاريخ ازدهارا كبيرا لا نظير له في الفلسفة والعلوم والفنون والآداب، فهي استوعبت علوم وفلسفات القدماء وزادت عليها، كما سجل لها قوة كبيرة في التنظيم السياسي والاجتماعـي والعسكري، وقوة أكبر في الحياة الاقتصادية، ناهيك عن التطور الروحي والسمو الأخلاقي، الذي يتحلى في تمسك المسلمين بتعاليم وقيم ومبادئ وأخلاق دينهم.

أما واقع المسلمين في العصر الحديث فهو نموذج في الضعف والتخلف والانحطاط في جميع المجالات، ففي الحياة الثقافـية والفكرية بقي المسلمون على فكر وثقافة عهدهم القديم، فلم يعرفوا الإبداع والتجديد في ذلك. أما الحياة الاجتماعية فميزاتها التشتت والتمزق في شبكة العلاقات الاجتماعية، ناهيك عن الفـقر والجهل والأمراض وانحلال الأخلاق وتفسخها، فعلاً إنتاج ولا وسائل إنتاج في الحياة الاقتصادية تسمح ببناء اقتصاد يفي بالحاجات الضرورية، وببنائه على معايير علمية تضمن النماء والازدهار داخل المجتمع، الأمر الذي سهل المهمة على دعاة ومنفذي الاستعمار للاستيلاء على كافة الأقطار الإسلامية، واستغلال شعوبها ونهب ثرواتها، والسعي الحثيث لطمس قيم وعناصر هويتها من لغة ودين وقيم أخرى.

كل هذا كان يجري في وقت كانت فيه أوروبا الغرب تشهد نهضة حضارية، علمية وتكنولوجية، وتعرف فكرا جديدا في الأخلاق والسياسة والاجتماع، وفلسفة طبعها العصر بطابعه. وتسربت مظاهر الحضارة الغربية وانتشرت منتجاتها البرّاقة والمغرية، وتسرب الفكر الغربي ذا الطابع الوضعي التجريبي، والمادي الإلحادي إلى حياة المسلمين من خلال الغزو والاستعمار، بواسطة الغزاة وأبناء المجتمع الإسلامي أنفسهم، فزاد ذلك في توتر الوضع العام واختلاله في حياة الإسلام والمسلمين. هذا حال الواقع في المجتمع الإسلامي، وفي العالم في العصر الحديث، هذا الواقع الذي انطلق منه المصلحون المسلمون في هذا العصـر، وكانت حركة إقبال الفكرية، كما كانت محاولة مالك بن نبي الإصلاحية تستهدف بحـث ودراسة هذا الواقع، وحصر مشاكله وهمومه، وتعيين سبل ووسائل إزالة محنته، وتوجيهه نحو النهضة والتقدم والحضارة.

وكانت المصادر والروافد التي نهل منها إقبال في التأسيس لفلسفته وتكوينها، ونهل منها مالك بن نبي في بناء فكره، ونظرية الحضارة والتجديد الحضاري عنده، واحدة، مع قليل من التباين بين أوضاع المسلمين في الهند وهي غير دينية بل اجتماعية وفكرية وبين أوضاعهم خارج بلاد الهند وفي شمال إفريقيا، حيث ولد وعاش مالك بن نبي.

مصادر الفكر الإصلاحي:

تمثلت مصادر الفكر الإصلاحي عند إقبال ومالك في الديانة الإسلامية في مصادرها الأصلية، القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والاجتهاد، وفي الفكر الإسلامي القديم والحديث، وفي الفكر الغربي والحضارة الأوروبية، وما تميزت به هذه الحضارة من تطور علمي وتكنولوجي، وتطور الاتجاه التجريبي المادي مع ذلـك. وكانت هذه المصادر مرتبطة أساسا بواقعين متباينين، واقع أوربي غربي متطور ومتحضـر ومزدهر، وواقع إسلامي متخلف ومتدهور وسيئ.

وجاء فكر إقبال ومالك ليقتبس من المصادر المذكور، ويبدع ويجدد، للنهوض بالعالم الإسلامي من حالة التخلف، ودفعه نحو التقدم والتحضر، على الأقل لبلوغ الركب الحضاري في عصره، وإلاّ ازداد تخلفا، وازدادت الأمم المتحضرة تحضرا وازدهارا. فكانت تلك هي أهداف فلسفة إقبال وفكر مالك وأمال كل منهما، حيث قاما بدراسة الواقع الإسلامي وأوضاع الحضارة الغربية والفكر الغربي، وانطلقا من الإسلام وقيّمه ومبادئه، وضعا منهج الإصلاح وسبل التجديد في الحياة الثقافية الفكرية والروحية، وفي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. لغرض الوصول إلى نهضة حقيقية تنقذ العالم الإسلامي من الضياع، وتضعه في سكة الأمم المتقدمة، بما يتزود به من قيم وأفكار ومعارف وآليات منهجية وعملية مضبوطة ومحددة في محاولة إقبال الفكرية الفلسفية، وفي نظرية مالك في الحضارة والتجديد الحضاري، وهما معاً تنتميان إلى نفس الفضاء النظري، هو فضاء الفكر الإصلاحي في العالم الإسلامي الحديث والمعاصر.

الاختلاف.. في الجوهر أم التفاصيل؟

على الرغم من التماثل الكبير بين محاولة إقبال وفكر مالك، واجتماعهما في الأصـول والأهداف، وانتمائهما إلى فضاء فكر واحد، هو فضاء الفكر الإصلاحي في جانبه النظري، فهما مختلفان في أكثر من نقطة، لكن هذا الاختلاف ليس في الجوهر، ولا يصل إلى مستوى التعارض وإلى درجة التناقض، فهو تباين في طبيعة المنهج الذي أفرز المحاولتين، واختلاف في الرؤية إلى المشاكل والحلول، وإلى طبيعة الإصلاح والتجديد ومنهجه. بالنسبة للأسلوب الذي اتبعه إقبال في دراسته وبحثه لواقع المسلم المعاصر وواقع الأوربي المعاصر, أو للفكر الإسلامي القديم والحديث وللفكر الإنساني عامة أو للفكر الغربي الحديث والحضارة الأوربية، والذي تضمّنه كتابه: “تجديد التفكير الديني في الإسلام” تميّز بعمق الفكر الفلسفي في الطرح والتناول والنقد، كما تميز بسعة ورحابه التأمل الميتافيزيقي، وبالتنسيق الكبير بين أنماط التفكير قديما وحديثا، وتميز بالاقتباس من الفكر الغربي، وجاءت فلسفته على نمط الأقدمين في موضوعاتها وعمقها نسقيتها، وإن ارتبطت بإعادة بناء فلسفة الفكر الديني الإسلامي.

منهج إقبال ومالك:

أما الأسلوب الذي اتّبعه مالك ونجده في كتاباته ومؤلفاته، تميّز بطابعه العلمي الواقعي الاجتماعي حيث قام على تحليل القضايا الفكرية والظواهر الاجتماعية ونقدها، اعتمادا على معايير دينيه وعلميه وتاريخيه وعملية، هذه لم تكن في مستوى فلسفة إقبال، من حيث العمق الفلسفي والتأمل الميتافيزيقي بل ارتبطت بصفة مباشرة بواقع المسلمين المتخلف وبواقع الغرب المتحضر وبسبل وسائل وأدوات مباشرة تقضي على التخلف سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع، في الجانب الروحي والفكري أو في جانب الاجتماعي والاقتصادي، والطابع الذي تميزت به دراسة مالك بن نبي التحليلية النقدية لواقع المسلمين ولحياتهم أو للفكر الإنساني القديم والحديث عامة والفكر الإسلامي بصفة خاصة، تميزت به منهج وأسلوب إصلاح والتجديد في نظره، فكانت الواقعية، والعلمية والبراغماتية في إطار القيم الخلقية الفضلى ومبادئ الإسلام السمحة هي ما تميز به هذا المنهج وهذا الأسـلوب، وهو الطابع الذي تميزت به نظرة مالك إلى مشاكل وهموم وقضايا العالم الإسلامي، وإلى طبيعة الحلول في نظرية الحضارة، وهي نظرية عامة، أو في معالجته لقضايا جزئية كقضية المفهومية أو الأفكار في الجزائر، وإن كانت هذه القضايا مرتبطة بفكره الإصلاحي ونظريته في التجديد الحضاري بشكل عام.

أما طبيعة منهج الإصلاح وأسلوبه في فلسفة إقبال ارتبط بمحاولته نقد وإعادة بناء لفكر الديني في الإسلام، فالإصلاح عنده مرتبط أساسا بتغيير الذات، من خلال تغيير التصورات والفهوم، والمطالب والرغبات والمشاعر وغيرها. فتتحدد المـبادئ والمنطـلقات، وتتـحدد المناهـج والسبل، وتتحدد الأهداف والغايات القريبة والبعيدة كل هذا يجرى ضمن رؤية فلسفية شاملة واستراتيجية عامة أساسها روحي ومسارها روحي وغاياتها روحية، تتمثل في بلوغ السمو الروحي المطلوب، والديمقراطية الروحية، التي هي مقصـد الإسلام ومبتغاه. ونظرة إقبال إلى مشاكل الإنسان المعاصر عامة والإنسان المسلم خاصة، وطرحه لهذه المشاكل ومعالجته لها كل هذا كان بطريقة فلسفية، تقوم على النقد العميق والتحليل الواسع والتأمل الميتافيزيقي، وما زاده في عمق الأفكار وسعة التحليل وقوة النقد، هو اطلاعه الواسع على الثقافات القديمة، وعلى الإسلام وعلى الفكر الحديث والمعاصر. لذا نجده يدرس ويحلل ويناقش أفكار غيره، ثم يستنتج ويعرض مواقفه اتجاه هذه الأفكار، والحلول للمشكلات، فجاء أسلوبه فلسفيا متميزا عن أساليب ومناهج غيره، في عصر يؤمن أصحابه بفكر ذي طابع تجريبي مادي يعترض على أسلوب القدماء في التفلسف.

إذا كانت هناك جملة من النقاط تجمع فلسفة إقبال بفلسفة مالك بن نبي، وتربط بين النظرتين في الإصلاح والتجديد، توجد كذلك جملة من النقاط التي تفصل بين الفلسفتين وتميز بين النظرتين، فلا نقاط الالتقاء تجعل منهما أمرا واحدا، ولا نقاط الاختلاف تفصل بينهما تماما، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد المحاولتين من أصول واحدة، وانتماء ديني وتاريخي واحد، ومن طبيعة واحدة، ولأجل أهداف وغايات واحدة. فهما معا يمثلان فكرا فلسفيا، كانت الساحة الفكرية والثقافية والاجتماعية في أمس الحاجة إليه، وكل من الفلسفتين تمثل نظرية ذات أصول وأبعاد فلسفية، علمية، فكرية، ودينية، جاءت كمحاولة جدّية وجديدة لها أسبابها وظروفها لتغيير الفـكر والواقع في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية في العالم الاجتماعي المعاصر، وهي محاولة لم يعتبرها صاحبها خاصة بالعالم الإسلامي أو بالعالم المتخلف، فهي لا تقتصر على زمن معين أو وطن بعينه أو شعب بمفرده بل هي نظرية عامة موجهة للإنسانية جمعاء، هذا بالنسبة لإستراتيجية النقد وإعادة البناء في فلسفة إقبال، أو بالنسبة لنظرية الحضارة والتجديد الحضاري عند مالك بن نبي. وذلك على الرغم من ارتباط كل منهما بالإسلام وبواقع المسلمين وبظروف الإنسان في العصر الحديث وبأوضاعه المختلفة.

لكن الإسلام رسالة عالمية ذات مبادئ وتعاليم ثابتة، وذات قيم ذاتية متطورة حسب تطور أحوال وظروف الإنسان عبر الزمن، ومشاكل وهموم الإنسان واحدة، وآفاقه وتطلعاته وأماله واحدة، مما يجعل النظرتين ذاتا طابع عام، لا تقتصران على فرد ما أو جماعة ما أو زمن ما. وكل واحدة منهما تمثل رؤية فلسفية إلى الإنسان والحياة والتاريـخ والحضارة. وهي رؤية لم يعرفها الفكر الفلسفي والإصلاحي في العالم الإسلامي المعاصر، إلاّ مع القليل من المفكرين أمثال إقبال ومالك.

إن الارتباط القوي والصلة المتينة بين نظرية الإصلاح عند محمد إقبال وبين نظرية الإصلاح عند مالك بن نبي على الرغم من التباين بينهما في بعض النقاط وهي قليلة، يجعل القارئ لهما والباحث فيهما يعتبر فلسفة إقبال المرجعية الفكرية، والأرضية الفلسفية الميتافيزيقية، والإطار النظري لفكرة الإصلاح والتجديد عند مالك بن نبي، التي هي بدورها تعتبر المحاولة الفكرية العملية والعلمية الواقعية لفكرة وفلسفة إقبال في الإصلاح والتجديد. ولقد ذكر فيلسوف الحضارة مالك بن نبي الفيلسوف الشاعر والمفكر المصلح محمد إقبال في كتابه ” شروط النهضة”، وأشاد بمحاولته الفكرية الإصلاحية الفذة، التي خرجت عن المألوف، لما لها من دقة وعمق قي النـظر وقوة في تشخيص العطب، وسلامة وصدق في التصور وذاك ما كان مالك بن نبي يسعى إليه.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.